Category Archives: ما بعد التجربة

مذكرات فكرية

                                        عندما كنت جندية
                                         فاليري زيناتي
                                               ترجمة                       
                                        صلاح النصراوي
ج2 ف4
                                       فرويد جاء لنجدتي

مررت بثلاث نقاط تفتيش مختلفة حيث دققوا في كل منهما بأوراقي.وضعوني في غرفة كبيرة أشبه بغرفة الإنتظار في عيادة طبيب باريسي من أن تكون مكتباً في الجيش.أفتح كتاباً، ولكن كل ما في ذهني حقيقة هو من يكون “تال رونين”، أم هو” رونين تال”؟ كلاهما أسم شخص، أهيأ نفسي للأسوء وللأفضل.
الأسوء:أن يبلغني بأني طردت من الدورة.كفاية يعني كفاية.درجة متدنية يتبعها بإجراء غير مفهوم يكفي لكي ينزلني إلى عمل في السكرتاريا، أو في المطبخ.
الأفضل:”رونان تال” هو المسؤول عن العمليات السرية ويريد أن يكلفني بمهمة خاصة.
ميلي الدائم للواقعية يجعلني أختار الأسوء.الأحلام التي أداعبها ليل نهار تهمس لي أن كل الأماني شرعية.
تفتح باب ويدخل رجل إلى الغرفة.متوسط الطول، نحيف، بشرته داكنة، شعره مصفف، في حوالي الأربعين من عمره، جذاب جداً (لن أصفه بأكثر من هذا، وأظن أني أوضحت بما فيه الكفاية بأني وجدت “رونين تال” ذلك لطيف الشكل.) هناك ملاحظة واحدة مثيرة للإهتمام وهي أنه في الدور السادس من المقر لا يرتدي بزته العسكرية.
يمد يده ويشير إلى مكتب أنيق.هناك مقعدان دواران من الجلد بمسندين أمام طاولة ويواجهان بعضهما.أنوار تل أبيب تتوهج من خلال شباك واسع.
“أهلاً وسهلاً، أنا العقيد “رونان تال”، أدير الوحدة النفسية للجيش.هل لديك أية فكرة لماذا أنت هنا؟”
“لدي فكرة ما.”
“إخبريني عن تلك النوبة-مالذي شعرت وفكرت به؟”
إستغرقت في وصف طويل، بادئة بالعقوبة التي فرضت علي:حرماني من الإجازة لأسبوعين.شعرت بالإختناق حين نطقت “تامار” بالكلمات التي وصلت إلى حد:لن تستقلي بعد الأن الحافلة رقم 370 في طريقك إلى البيت، لن تنامي بعد في غرفتك، والتي هي ليست سكناً جامعياً ً ولكن غرفة عادية تلصقين على جدرانها بوسترات وبطاقات بريدية لأماكن لم تزوريها ولكنك تتمني أن تفعلي ذلك يوماً ما، لن تأكلي بعد الآن في صحون عادية (مقارنة بمرجل غوليفر)،لن تذهبي للنادي مع أصدقائك، لن تذهبي إلى الشاطئ، لن تتحدثي إلى “راحيل” لساعات لكي تتابع كل منا حياة الأخرى،(علماً أن ذلك لن يحصل ولكنه مجرد أمل)، لن تذهبي لكي تقابلي “جين- ديفيد”.”
بعد أن لفظت باسم “جين-ديفيد” أشحت بنظري إلى الارض:يبدو أني قلت الكثير:ماعلاقة كل ذلك به؟لكنه يبدو مهتماً بكل شيء لأنه عاد ليسأل:”ماهو شعورك تجاه الجيش؟”
أتنهد.
“لا….بأس.”
“يبدو أنك مترددة.”
“لا، بل لأن الجواب يبدو معقداً.”
“لدي متسع كاف من الوقت.”
“ليس لدي.”
يرفع حاجبه بتعجب.
“علي أن أعود إلى القاعدة في غضون ساعتين.”أحاول أن أوضح بأن أذكره بأننا في الجيش ولسنا نحاول التعرف إلى بعضنا البعض في بار ما في إيرلندا.
يتجاهل ملاحظتي بإشارة من يده اليمنى، وكأنه يقول:”كفي عن ذلك، تلك هي لعبتي.”
يبدو مصمماً، أستمر.
“حسناً، سأتكلم بصراحة.أنا أشعر بأني في حالة جيدة، وأيضاً لست كذلك.أدرك بأن هذا ليس جواباً جيداً ولكنها الحقيقة المطلقة.أنا فخورة بأني أرتدي البزة لأنها تمثل التاريخ الذي دروسه لي، لأنها بزة الأبطال، لأني قضيت سنوات مراهقتي وأنا أحاول أن أتخيل مع صديقاتي أي نوع من الجنديات سنكون.أنا أدرك، مثلي مثل الآخرين، بأني حين أكون في الجيش فأني سأكون جزءاًً من هذا البلد.أنا سعيدة جداً كوني سأخدم بالخدمة السرية، أشعر بأني ذات فائدة، أنا سعيدة بالدروس التي أتلقاها.لكن في نفس الوقت فان النظام قاس جداً، مما يدفع بي إلى الإحباط.أدرك أن الإنضباط شيء أساسي، ولكني أظن أنهم لو سمحوا لنا بالمزيد من الوقت والحرية، لو لم نجبر على ترتيب أسرتنا مرة وثانية وثالثة، كدليل على الإنضباط، فأننا سنكون جنديات جيدات أيضاً، وكذلك أكثر سعادة بالحياة.”
ثم أضفت.”حسناً، لاعلم لي بالآخريات…ولكن بقدر تعلق الأمر بي فأني سأكون كذلك.”
العقيد الذي يرأس الوحدة النفسية بالجيش غرق في تفكير عميق بشأن ماقلته.
“ما معنى أن تكوني أمرأة بالنسبة لك؟” يسألني فجأة.
لا أرى رابطاً بين الأثنين، ولكني لا أتجرأ على السؤال.
اذا كانت غايته هي دفعي لأن أخلع ملابسي فقد ظل الطريق.تركني السؤال أضحك.
“أن تكوني أمرأة معناه أن تعيشي حياتك بكثافة أكثر من الرجل لأن لدينا تجارب طبيعية قوية أكثر منهم.إنها الرغبة بتغير العالم، وهو ما وتركنا على جانب واحد لآلاف عديدة من السنين.كما أننا أيضاً مكملين للرجال.”
بدا وكأنه أعجب بإجابتي.أستمر بإستجوابه المبتسر، قافزاً من موضوع إلى آخر، من والدي إلى ذوقي في الموسيقى، من مالذي يجعلني أضحك (بالطريقة التي يكون فيها الأطفال وكبار السن سذج وماكرين)، إلى مالذي يجعلني أبكي (يأس الآخرين، الشعور باللاجدوى، فقدان الحب، الكتب والأفلام التي تنتهي نهايات حزينة).من مالذي يخيفني (النار، الشعور بالضعف أمام الألم، العنف، الا أكون معشوقة من رجل أحبه)، إلى مالذي يثير إشمئزازي( الظلم، أي نوع من الظلم) من خصالي الحميدة (العناد، الإخلاص، قلة الصبر) إلى رذائلي (الإفراط باللإعتزاز بالنفس، نوع من حب الذات، ومرة ثانية قلة صبري)، من مالشيء الذي يمكن أن أموت من أجله (لا أظن أني مستعدة أن أموت في الثامنة عشر من عمري) إلى ما الشيء الذي يدفعني لأن أعيش (أحلامي، رغبتي بان تتحقق، كتب لم أقرأها بعد، كتب أريد أن أكتبها، مشاعري التي عشتها ومشاعر أرجو أن أعيشها، أوقات الغروب، حياتي كما أرغب ان أعيشها.)
كلي رغبة بأن أظل في هذا المكتب، لا احد أبدى مثل ذلك الإهتمام بي منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، لكن كل الأشياء الجميلة لابد أن يكون لها نهاية.
“حسناً، “فاليري”، ستعودين إلى ثكنتك وستكملين دورتك حتى النهاية.هناك ضابط طبيب نفسي في القاعدة، هي جيدة جداً، يمكنك الذهاب لرؤيتها لتبادل الحديث بين الحين والآخر اذا ما رغبتي بذلك.ذلك سيكون مفيداً لك لتتأقلمي مع أشياء قد تكون ثقيلة الوطأة عليك.أسمها “شلوميت درور”(هل هذا يعني شيئا ف”شلوميت” هي مؤنث “شالوم” والتي تعني سلام، كما أن “درور” تعني حرية.)
أنهض وأمد يدي:حتى لو كان أقدم مني لكن وجدت أن من السخف أن اؤدي التحية العسكرية لشخص يعرف الآن عني كل ماهو أساسي.
مصافحته قوية ولكن ودية.
“حظاً سعيدا”، يقول قبل أن يتردد قليلاً ويضيف، سترين أن الأمور ستتحسن، أنا متأكد من ذلك.”
أبتسم، أشعر بخفة، ها أنا قد نفضت عن كاهلي نصف طن من القلق في مكتبه ولا يبدو أنه قد تأثر بذلك.
في القاعدة، أسأل “تامار” إن كان بإستطاعتي أن أرى الملازم “شلوميت درور”.لا يتحرك لها جفن لكنها تقول أنها ستبلغني بأقرب وقت ممكن.أركز على جلسة أستمع فيها إلى سرب من طائرات “بلو سكاي” وهي تتدرب على القتال ضد سرب من طائرات “بلاك بيرد.”
ذلك المساء، ناولتني “تامار” استمارة ( 524ب): رقم 3810159 لديها موعد مع النقيب “شلوميت” الساعة 10:30 غداً صباحاً.
من المفروض أن نكون ساعتها نؤدي الواجب في المطبخ-هذا يعني أنني سأتخلص من بعضها.تلك بعض المكاسب التي حصلت عليها.
يقع مكتب “شلوميت درور” الصغير في بناية مسبقة التجهيز مميزة عن باقي البنايات في القاعدة بسبب الجيرانيوم الذي يتدلى من شبابيكها.وصلت مبكرة بحوالي دقيقتين.في تمام العاشرة والنصف تفتح أمرأة نحيفة، في حوالي الأربعين من عمرها، بشعر أشقر مجعد الباب.من منا كان أكثر صدمة.ربما هي.مرات عديدة شاهدتني أقرأ منذ اليوم الأول لوصولي.تشير إلي بيدها.خلال أكثر من شهرين من وجودي في الجيش هذه هي الشخص الثاني الذي يفعل ذلك لي.أجد ذلك مريحاً جداً في هذا العالم الذي يكون فيه رفع اليد إلى الصدغ هو النظام السائد.
“أهلاً، أنا “شلوميت درور”.”
“فاليري زيناتي”، تقول الورقة إننا يجب أن نلتقي.”
تريني رسوماً غريبة تحتوي على خطوط سوداء عريضة عديدة تكون شكلاً على أن أفسره.بعد ذلك أقول لها مالذي آتى بي إلى هنا، تلك النوبة التي ليس هناك من هو على إستعداد لكي يسميها.تفتح إضبارة وتقول لي أنها أعراض شيئ يسمى ب (ف.ش.س) أي ما معناه فتاة، شابة، ساخنة.
أفكر بالأسم ملياً ومن ثم أقول بشيء من السخط” أنه أسم ينطوي على مهانة.”
توافقني الرأي لكنها أبدت حرصاً على أن تشرح لي الأمر.
“إنه مزيج من شلل تشنجي، وفي حالتك صداع نصفي عنيف، وهي أعراض تصيب الفتيات اكثر من الصبيان.”
أشعر برضاً معقول من شرحها.
“تعرفين”، تقول بلطف،”أحيانا يقول جسدنا أشياء لا يمكننا أن نسميها.”
ما أن سمعت ذلك حتى بدأت أرتجف، ثم أنهمرت بالبكاء.
الدورة على وشك الإنتهاء.بعد أسبوعين من النوبة دعونا إلى أمسية ثقافية، إلى مسرحية تجريبية، قام بتمثيل أدوارها الجنود، لم أفهمها مطلقاً .الجيش هو في الواقع النسخة الخاكية من المجتمع:هناك جنود طباخون، جنود سائقون، جنود مغنون، جنود صحفيون، جنود مشغلون للهاتف، وحتى أيضاً جنود معلمين للإبتدائية يرسلون إلى مدارس في “المدن النامية.”
مؤخراً إكتشفنا أن هناك ثلاثة مواقع محتملة لإرسالنا نهاية الدورة.قاعدتان في الشمال والجنوب تعرفان بأنهما قواعد “مغلقة”، (يعني أن الجنود يقضون أسبوعين على التوالي ثم يأخذون خمسة أيام إجازة) وقاعدة واحدة بالقرب من القدس تسمى “مفتوحة” وذلك يعني أن بإستطاعتك الخروج طالما أنت لست بواجب الحراسة، أو أي نوع آخر من الواجب.جعلوني أفهم بأن من الممكن أن يرسلوني إلى الجنوب، طالما أن والدي يسكنان هناك.أهتز من وقع الفكرة، لألف سبب وسبب، وهي حريتي، و”جين-ديفيد”.
لأول مرة في حياتي أقرر أن أجري حساباتي بعقل بارد وأن ألجأ إلى “شلوميت درور” التي أراها مرتان بالأسبوع هرباً من الروتين الجهنمي، ولأن من المفيد إلي أن أتكلم إلى شخص يصغي حقًاًً.كما أني موقنة بأن كل شيء يقال عندها يتم تسجيله بدقة وينقل إلى السلطات اذا ما استدعت الحاجة.فهم لا يطيقون خطر وجود محبطين، أو عصابين أو أي شخص يمكن أن يحمل أعراضاً هستيرية.لذلك فأني أدبج حديثي عادة بعبارات مثل” اذا ماكنت في قاعدة مغلقة، كنت سأختنق”.”أذا ماكنت في قاعدة مفتوحة لما كنت عانيت هكذا.”
أشعر بخجل من المرأة التي تمنحني كل ذلك التعضيد الدائم، التي تعتقد أنه أمر حسن الا يشبه الأنسان شخصاً آخر أن ليس هناك ما يعيب الشخص اذا ما كان يحلق إلى السماء أو إلى الغيوم أو أنه يريد أن يقرأ بدلاً من أن يبتلع طعاماً دون شهية.لكني أشعر وكأن نجاتي تعتمد على هذه الوظيفة التعيسة، كما أعتقد جازمة بأن الشخص الوحيد القادر على أن يخلصني ليست من النوع الذي يسهل خداعه.
حين كنت في البيت المرة الماضية كانت هناك رسالة مرسلة من باريس.”جين-ديفيد” كتب ليقول أنه في فرنسا لقضاء أعياد الكرسماس ورأس السنة الميلادية وأنه سيذهب للتزحلق على الثلج.يقول بشيء يثير الغرابة “دائماً ما أفكر بجندية صغيرة تعتقد أنها ضعيفة، لكني أرى أنها قوية.” ينهي الرسالة: “إبتسامة أخرى”. ج.د.
بعد قرائتي لها مرات عديدة، أحفظ الرسالة عن ظهر قلب، ومع ذلك أقرأها مئات المرات بينما أستمع إلى الأغاني التي يحبها “جين-ديفيد”.
مثلما أفعل في مثل هذا الوقت من كل عام، أشعر بحنين إلى عروض المحلات في الكرسماس.كيف لنا أن نعيش حياة مختلفة فوق كوكب واحد؟نحتفل في مكان ولكن لا نفعل ذلك في مكان آخر.شاهدت رأس السنة بينما كنت اؤدي واجب الحراسة الليلية أشرب قهوة كريهة بكوب كارتوني.”ايميك”، الوحيدة التي تدخن في مجموعتنا، كانت رفقيتي بنوبة الحراسة، صنعت العاباً نارية بأن رمت سيكارتها على جذع شجرة، وتمنت كل منا للاخرى سنة طيبة.
أركز كل طاقاتي الذهنية في الدروس التي أصبحت أكثر كثافة، في حين اقضي الوقت المتبقي وحدي.مرة أخرى البنات ينظرن إلي بريبة.منذ النوبة التي أصابتني لم يفهموني إطلاقاًً من الواضح ان الجيش وقوانينه هي ما يهمهم، يرضعون من منطق الواجب منذ أن كانوا في أحضان والديهم، (والديهم دون إستثناء، أما ضباط دائمون، أو إحتياط).والدي أمضى خدمته بالجيش الفرنسي وهو يحرس دار سينما والتي ساهمت مساهمة كبيرة في ثقافته السينمائية.لايمكن هزيمته بشأن أي فلم ظهر خلال الفترة بين 1960و1962، لكن حين يكلمني عن الجيش الفرنسي (عالم ذكوري من النكات القبيحة)، فأنني لاجد أية علاقة بينه وبين التجربة التي أمر بها.على الناحية الآخرى، فأمي لم تلبس البزة أو تلمس سلاحاً ابداً، وهو شيء طبيعي في أي مكان آخر في العالم.
11يناير، الساعة 11مساءً.
أدينا يمين الخدمة السرية اليوم.أقيم الإحتفال داخل القاعدة-بالقرب من المتحف الصغير الذي أقيم لتخليد “يوناتان ناتنياهو”، بطل وحدة النخبة، الذي مات في عملية “عنتيبة”.العلاقة بين المكانين شيء يثير الإعجاب.كانت أمي هناك، تبدو فخورة، مع “يوليا”، “رافي”، “إيلان” و”فريدي” (الذي لم أكن قد قابلته منذ إطلاق سراحه).يبدو أنه فقد شيء من وزنه، لكن السجن لم ينجح في إطفاء البريق الذي في عينيه، أو تغير صوته.غنا لي أغنية من “ايريك اينشتاين” مليئة بالأمل وحب الحياة.كنت على وشك أن أبكي، كنت بغاية السعادة.كان شيئاً رائعاً أن أراهم مرة أخرى، من خلالهم رأيت ذاتي التي أعرفها،(سعيدة ومحبوبة)، في هذا المكان الذي شعرت بأني سأقضيه وحيدة للأبد.بالنسبة للدورة التي كنت قد منحت نفسي رفاهية أن تكون الأولى التي التحقت بها فأنهم منحوني شعارها ذي اللونيين الأخضر والأبيض، ومن المهم، المهم أنهم عينوني في القاعدة القريبة من القدس، شكرًا لك يا “شلوميت”.
****
                                      عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                      صلاح النصراوي
ج2 ف3

                           
                                   خوف لا يبوح بإسمه
 أمضيت عطلة نهاية الأسبوع بين قاعة الدراسة وغرفة الحراسة وكابينة الهاتف.حين عادت البنات وجدنني مرهقة جداًً.ولكني إجتزت الإمتحان، أنا متأكدة من ذلك، ووجه “تامار” يؤكد ذلك صباح هذا الأثنين.:تناولني الورقة مع إيماءة من رأسها.
92، ليست بالنتيجة السيئة.ولكن ستكون أفضل لو عدتي إلى درجاتك القديمة.”
“رومي”  تبرطم، غير مقتنعة.”بالكاد، خاصة وأنها عملت ليومين على ذلك.”
هناك شيء من الشعور بالغلبة في لهجتها، مالذي تتوقعه؟هل كانت تتوقع مني أن أفشل؟كان بودي أن أسألها، ولكن ذلك سيكون مجازفة، لا يمكنك أن تتحاذق مع من هو أقدم منك، ذلك عيب، لانه يعني الا وجود للمصارحة وللعلاقات.علي أن أبلع أسئلتي وأن أنظر للمستقبل.هناك رقم واحد، 100، علي أن أحققه مهما كان الأمر، في كل مرة بدءاً من الأن.أغرق نفسي بجنون بدراسة مقارنة بين الطائرتين المقاتلتين “اف-5” و”اف-1“.
كانت وجبة العشاء مكونة من أفخاذ الدجاج وهي أكثر الوجبات رفاهية تقدم بالجيش-لكني لم أكن جائعة.الآن نعود إلى القاعات، وأنا أشعر بسخونة شديدة.أسرع إلى مقعدي، أحاول أن أسحب نفساً قوياً ولكني أشعر بأن الأمر لايجدي.الدم يتدفق إلى رأسي ولا يعود إلى أسفل.أشعر بالإختناق.أخلع نظارتي وأحاول أن أقاتل هذا الشيء المجهول، غير أن الأمر يزداد سوءاًً .أريد أن أطلب المساعدة، وجهي مصاب بالشلل، لا يمكنني أن أحرك شفاهي، أشعر بوخزات الإبر في وجهي، أسمع احداهن تقول، “أنظروا، “فاليري” لا تبدو في حالة جيدة.”
“فاليري، “فاليري”، هل بإمكانك أن تتكلمي؟”
لا، لا أستطيع الكلام، أقول لهم بعيني أني مرعوبة، أني خائفة بأني سأموت في غضون الدقائق القادمة، وعليهم إنقاذي.
احداهن تركض إلى جانبي، “إسرعن نادين على “تامار” و”رومي”.
أتوقف عن الحركة، خوفاً من أن تشتد تلك الملزمة التي تحطم رأسي وقلبي.تظهر كل من “تامار” و”رومي” أمامي.تحاولان مساعدتي بأن أخطو بعض الخطوات، لكني مشلولة بلا حراك.ما يقلقني أكثر:ذلك الرعب الذي ارتسم على وجه “رومي” والجدية التي على وجه “تامار”.
أوضع على سدية.مستوصف.ممرضة بصوت خفيض تقيس لي ضغط الدم، “أين تشعرين بالألم؟”
أشير إلى رأسي، وأحاول أن أنطق بضع كلمات.
“أشعر بأني معصورة.كأني عبرت المحيط في زورق تضرب به الأمواج.”
تبقى ساكنة:تريد تفاصيل دقيقة، شيئ واضح.
“لكن مالذي حدث بالضبط؟”
“شعرت بسخونة جسمي…”
أسقط ميتة.كل شيء يبدأ من جديد، الألم يوقظ بعض أجزاء جسمي ثم يرتفع إلى قمة رأسي،  ويزداد في كل لحظة ويمليء جمجمتي التي تكاد تنفجر.أنا قنبلة.أبكي من غير أية دموع.أمسك برأسي بين يدي وأنوح، أنه يعود، أنه يعود.لا، أرجوك أعملي شيئاً ما، ساعديني!لا، لا.انه مؤلم، أنه مؤلم جداً.
أشعر بالرعب، والممرضة أكثر رعباً مني.
“افي”، “افي” تعال إلى هنا بسرعة.”
يظهر جندي، وينظر إلى كلينا ليحاول أن يتبين من هي الأكثر رعباً من الأخرى، ويقرر بحصافة أنها أنا، فيضغط على يدي لكي يطمئنني، بينما يستخدم يده الاخرى في ضرب رقم على الهاتف.
“إسعاف، بسرعة.نحتاج لأخذ جندي إلى المستشفى”.
الجندي هو أنا، وأنا أتألم مثلما لم أتألم من قبل، وأكتشف للغرابة أن بإمكانك أن تعاني من ألام مبرحة، ومع ذلك يمكنك أن تكون صافي الذهن.ترى كل شيء، تسمع كل شيء، ولذلك تخاف.
تنطلق الإسعاف بسرعة خاطفة، وصوت الصفارة يشق طبلات أذني.أذوي من الألم، وأبكي وأموء.مالذي حدث لي؟هل سأموت دون أن أرى الناس الذين أحبهم.
مستشفى “ياشيلوف”.تراجع الألم إلى مخبأه ثانية.أخذاً كل قوتي معه.أبحث عنه، أراقبه.عدم وجوده هنا يقلقني.أين سيظهر في المرة القادمة؟وإلى أي درجة من عدم التحمل سيمضي بي.
يقيسون ضغط الدم ثانية.يعملون رسماً للقلب ويأخذون عينة من الدم.يتحدثون إلي برفق، كأنما يتحدثون إلى طفلة، مرهقة جداً لكي أفهم.يعطوني قرصاً ويضعوني في غرفة مجاورة مع رجل عجوز، بسحنة سمراء وعيون شاحبة.لا أدري لماذا ولكني أشعر بألم فضيع لدى نظري إليه.تلك كانت آخر ما خطر بعقلي قبل أن أغط في سبات عميق.
حين أستيقظ تقول لي ممرضة بأني أحسن حالاً الآن، وأني سأتمكن من العودة إلى القاعدة اليوم.الرجل الذي في الجوار لم يعد موجوداً هناك.أسأل عن أخباره ولكنها لا تجيب.أحاول أن أعرف مالذي جرى له ولكنها لا زلت لا تتكلم، أو بالكاد.
“ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب.”
لابد أن هناك من أدى القسم على الكتمان أيضاً قبل سنين.
يعطونني أوراق الخروج مع قرصين من الدواء علي أن أخذهما في حالة صدمة أخرى.أقلب بالغلاف:”فاليوم”.كنت أعتقد أنه من المخدرات، ولم أظن أن مستشفى يمكن أن توصفه لك.
الممرضة-الجندية من القاعدة، تنتظرني.تنظر إلي وكأنها مرعوبة مني.تتخلص مني:ما فائدة أن تحاول أن تجعل الآخرين يلملمون شتاتهم اذا كنت أنت متخاذلاً؟
“لدى سعار”، أقول لها (لكي أمنحها سبباً وجيها لكي ترتجف).أعطوني مهدء ولكن مفعوله سيختفي بعد ربع ساعة.”
عيناها تتسعان في تعبير عن رعب تام.تصر بأن تجلس في مقدمة سيارة الإسعاف إلى جانب السائق، تاركة إياي في الخلف.ذلك بالضبط ما أريده، أريد أن أكون لوحدي لكي أفكر، ولكن مهما حاولت فأن الآلية الموجودة في عقلي معطلة بشكل واضح.
“رونيت”، الأسم الذي ناداها به الحارس عندما إجتزنا بوابة القاعدة-تأخذني بسرعة إلى غرفتي، وتهرب، وهي تتمتم” ستأتي مدربتك لتراكي.حاولي أن ترتاحي.”
أنتظر بلهفة قدوم “تامار”.لعلها تستطيع أن توضح لي بعض الأمور.غير أن “رومي” هي التي تأتي سائرة على رؤس أصابعها، وتبدو غريبة الأطوار.تشرح لي، بكل ما تظهره من تردد، بأنها لا تعرف على وجه التحديد مالذي حدث لي.
“ربما هو نوع من الصدمة العصبية لأنك كنت متوترة ومرهقة.بالطبع بإمكانك أن ترتاحي هنا في القاعدة اليوم، وسنرى أن كنت ستعودين للدروس غداًً …”
“أظن بأن أصحاب السلطة لن يمدوا بعطفهم علي لكي يمنحوني إجازة حتى أتمكن من الذهاب إلى البيت لعدة أيام.”
قلت ذلك مع إبتسامة صغيرة.أخمن بأن حالتي تسمح لي بأن أقول ما أشاء دون خشية.بإمكاني أن اقول لـ”رومي” الأن بأنها قبيحة، متملقة وغبية وبأن من العار أنها تحمل أسم شخص عرفته يوماً وأحببته، تنظر إلي بعطف، وتقول لي بأن على أن ارتاح.
الحرية هي نوع من الجنون تعني بأن بإمكانك أن تقول بالضبط ما تفكر به دون أية مجازفة.
“ستأتي البنات لرؤيتك قريباً.كن قلقات بشأنك”، تقول ذلك بنبرة تأنيب في صوتها:لايمكنها أن تخفي ذلك الشعور ضدي.بقدر ما يتعلق الأمر بها، فأنا مجرد بنت تحاول أن تلفت الإنتباه، ولكي أوفر عن نفسي المزيد، أغمض عيني.في كل كتاب قرأته، وفي كل فلم شاهدته، ذلك ما يفعله الناس حين يكونون مرضى، يريدون أن يتركوا لوحدهم، لأنهم لا يتحملون تعابير التعاطف من الناس الأصحاء الذين حولهم.يبدو أن “رومي” ذهبت إلى السينما في حياتها ( والتي أعتقد أنها كانت متوسطة الحال) لأنها انسحبت مباشرة، أشعر بإرتياح أن حديثنا أنتهى هناك.
جاءت البنات إلى الغرفة، واحدة تلو الأخرى.كن في منتهى الجدية.
“كنا مرعوبات جداً” قالت “هيدي”.
“توافقها “نوا”، “نعم، كنت ، كنت …..”
“شاحبة” تكمل “راحيل، وهي تحدق بي بشكل غريب.
“مالذي قالوه لك في المستشفى؟” تسأل “ايميك”، بشكل عملي.
“لا شيء.”
أبدأ بالشعور بالذنب.كيف يمكن لزلزال الا يكون شيئاً؟اذا لم يكن بإستطاعتك أن تجد اسماًً ً طبياً لما مررت به، ففي الواقع كأن شيئا لم يحدث.
“نوا” تنظر إلى الآخريات بعجل.
“حان وقت العشاء”، تقول، “هل تريدين أن نأتي لك بشيء؟”
“لا شكراً، لست بجائعة.”
الشيء الوحيد الذي يمكنني عمله، وأريد أن أعمله، هو أن أنام، أنام وأتوقف عن الوجود.ان أتوقف عن رؤية ذلك الخوف الذي أصحبت فجأة أراه فيهم جميعاً .
لم اسمع “تامار” تدخل الغرفة، تركت رسالة على بطانيتي:
خذي قسطاً من الراحة، غداً يوم آخر.
قررت أن أعود إلى دروسي بسرعة.اذا ما خسرت يوماً آخر فأني سوف أسجل رقماً قياساًً ً في الدورة بعدم الدقة، حين أحصل على درجة تحت الخمسين، وذلك سيجعلني مريضة طيلة حياتي.
بدأنا الدروس بالإستماع إلى موجات الراديو من خلال سماعات كبيرة فوق رؤسنا.هناك شريط علينا أن نفك رموزه، نكتب فوق قسائم كتب في أعلاها “سري للغاية”.الشريط حول طيارين أردنيين يقومون بالتدريب والحوار الدائر بديع.
صياد-1، انطلق.
حسناً.
صياد-2، انطلق.
حسناً.
هناك أربعة منهم، الجميع أقلعوا.
يقومون بتغير التردد.
صياد-1 إلى صياد-2،3، 4، هل تسمعونني؟
بكل وضوح.
حسناً لنرتفع إلى خمسة آلاف قدم.
خمسة آلاف قدم، حسناً.  
يقومون بتنظيم أنفسهم في تشكيل قتالي.قائد السرب يدير العملية بكل إقتدار المخرج المسرحي، يضع كل طائرة في مكانها كأنها فوق رقعة شطرنج.صياد-3يلعب دور الهدف.صياد-2عليه أن يقودها إلى إرتفاع سبعة آلاف قدم في حين أن صياد-4 يقوم بحركة لولبية كي يأخذ موضعاً في خط النيران.
صياد-1 إلى صياد-4، هل ترى الهدف.
ثعلب-1.
جيد، إرمي.
ينتهي التمرين.القتال الجوي ينتهي عادة خلال دقيقتين.صياد-4يغني بالعربية، من الواضح أنه سعيد بنفسه.
جميعنا نبتسم.ما تعلمناه من التكتيكات المستخدمة في القتال يعني ان بإمكاننا أن نرى الطائرات.شيء أشبه بالسحر.شيء مثير للنشوة أن تكون في موضع حلم كثيرون أن يكونوا فيه يوماً ما:ذبابة على الحائط بإمكانها أن ترى وأن تسمع كل شيء دون أن يراها أحد.قريباً، خلال أسابيع قليلة، سوف نمضي كل أيامنا مع صياد-1وأصدقائه.حتى الآن أكاد لا أصدق أنهم “أعداؤنا.”
نهاية اليوم، تناولني “تامار” ورقة إستدعاء إلى المقر العام في اليوم التالي.علي اللقاء هناك مع ضابط، أسمه “رونين تال”، عند الساعة الخامسة والنصف مساءاً.المقر العام في تل أبيب ولدي أربع ساعات إجازة.مهما تكن نتائج هذا الإجتماع الذي يقلقني، الا أن لدي إجازة ممتعة.
****
                                    عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                      صلاح النصراوي
ج2 ف2
                                      هزيمة أولى
مضى شهر على الدورة:إنها أشبه بمدرسة شديدة الصرامة.ندرس من الساعة الثامنة صباحاً حتى منتصف الليل، مع فرص للإستراحة، بينما نواصل واجباتنا في الحمامات، المطبخ، إضافة للساعتين اللتين نقضيهما في الحراسة لملء الفراغ…
قررت الا أكل مع الآخريات في المقصف.أخذ جبناً بالتوست مع قطعة شيكولاتة عند الظهيرة كل يوم، بينما أظل أراقب السماء التي تبقى زرقاء وسط هذا العالم الخاكي اللون.تحيا المقاومة!النتيجة:إزددت حوالي كيلوين وصديقاتي ينظرن إلي بشيئ من الحيرة، لكني أنهيت كتاباً، كما أني أكتب، أكتب عن الموت، عن الفراغ، عن السعادة التي تدوم لدقائق فقط، عن “جين-ديفيد” (رسائل لم أرسلها إليه).أعرف أنه لا ينتظر أي شيء مني، وأنه بالتأكيد لا يرغب بأن يعلم بأني أحبه أو أنه يراودني في أحلامي-والتي لاتزال تأتيني دائماً.كنت رأيت ذلك الملازم عدة مرات وهو يراقبني عن بعد منذ اليوم الأول.أطلقت عليه أسم “مكعب ج”، أي الجاسوس الذي يتجسس على الجواسيس.
نحن عشرة.تسعة من الضواحي الشمالية لتل أبيب:الأب سفير والأم محامية، الأب مدير تنفيذي للمعهد الإستراتيجي في “رامات-غان”، الأم صحفية، الأب عقيد، الأم تعمل في وزارة الدفاع، نحن نملك بيتاً من خمسة، ثمانية… عشرة غرف نوم، نحن نذهب إلى القاعدة بسيارة فارهة أهديت لنا بعيد ميلادنا الثامن عشر.
البنت العاشرة من بئر سبع.مدينة بعيدة جداً، أكثر من 120 كليو متراً، لم يطئها أحد، ولا أحد يمكنه التفكير بأن يذهب إلى ذلك المكب.البنت من بئر سبع تأتي إلى القاعدة بالحافلة، وأحياناً بالإشارة إلى السيارات المارة بالطريق.أبوها تقني في الصناعات العسكرية، أمها مساعدة صيدلانية لدى الصيدلية المحلية.البنت من بئر سبع لم تجتاز إمتحان السياقة، تضع السماعة على أذنيها طيلة الليل، ولا تهتم بالأكل في المقصف.عندما تكون مجموعتها بالواجب، أو حين يقمن بترتيب الغرفة الصغيرة إستعداداً للتفتيش فأنها تلتقط الكتاب وتطلب منهن أن يقمن بالشيء نفسه.”يمنحونا ساعة فقط، نتراكض مثل الذباب الأزرق، هذا ليس جيداً، علينا إعادة الأمر ثانية.لماذا نهدر طاقتنا لكي نقوم بكل شيء على وجه التمام اذا كان الضباط لا يرضون بأي شيء؟” تحدق البنات فيها بريبة، يعتقدن أنها لا تتصرف تماماً مثل جندي حقيقي، ولكنها فرنسية، وحتى الآن فأن ذلك كان كفيلاً بنجاتها من غضبهم.
في البداية ظننت بأني غلطة، بأني وضعت هنا بشكل خاطئ، أو لمجرد تكملة للعدد.الواضح أني أجبت إجابات جيدة في إختبار الحالة النفسية الذي أديته قبل التحاقي بالجيش.ما زاد الطين بلة، أني قمة شجيرة طماطة الكرز.احد الجنود (ذكر)، من دورة اخرى، قال لي أن تلك هي التسمية التي يطلقونها علينا، لأن معظمنا أقل من متر وخمسين سنتيمراً طولاً، ووزننا حوالي 60 كليوغراما.أشعر بإهانة من أن يربطوني بتلك التسمية.فطولي هو متر وأثنين وستين سنتيمتراً ووزني 55 كليوغراماً.وعلى إفتراض أني لست بعود الفاصوليا، لكن كان بالإمكان عدم مقارنتي بتلك الطماطة المدورة، والتي لا تترك لي أي أمل بالنسبة لمنظري.
في اليوم الأول للدورة تقول لنا العريف “تامار” بوقار “لقد تم إختياركن من بين آلاف المرشحات لكي تكن ضمن الخدمة السرية في الجيش.العمل الذي ستقمن به يومياً والمهمات التي ستتدربن على تنفيذها يقوم بها ضباط محترفون في جيوش أخرى في العالم.أمن البلد سيكون بين أيديكن.أية هفوة صغيرة من قبلكن قد تضع السكان في خطر.هل تعرفن أن حرب “يوم الغفران” إندلعت وسط صمت تام لأجهزة الإتصال؟فالطائرات المصرية إنطلقت ولم تكن الإتصالات فيما بينها سوى سلسلة بسيطة من الإشارات.هل تعرفن كم كلف ذلك البلد؟
نتذكر أكثر حروب إسرائيل دموية بصمت وإحترام.
“سيتم تعينكن” تقول “تامار” في وحدتين”، الإنصات والتحليل.سيتعين عليكن العمل بما لم تألفن به طيلة حياتكن، كي تهضمن خلال ثلاثة أشهر معلومات بحجم ما تفعلن خلال سنة في المدرسة.ليس من حقكن أن تكن سيئات، أو حتى متوسطات المستوى.يجب أن تكن ممتازات.الخطأ أو الإستسلام مفهمومان لا مكان لهما في عقولكن.من الصعب الدخول إلى الخدمة السرية، ولكن باب الخروج مفتوح أربعا وعشرين ساعة في اليوم.من المحرم عليكن الحديث مع أي أحد بشأن ما تتعلموه هناك.حتى أبويكما، أصدقائكم، أو حتى الجنود في دورات أخرى في هذه القاعدة.كل وحدة هي مستقلة بذاتها ويجب أن تبقى كذلك.في نهاية الدورة ستؤدين القسم إلى “أمان”، السرية هي وضعكن الطبيعي من الآن فصاعداً.
نبدأ العمل مباشرة:نحفظ خرائط عن ظهر قلب، في ليلة واحدة، مع مئات الأماكن التي عليها.علينا أن نعرف كل مدينة، قرية،نجع، تل، جبل، وأي أسم لمكان في البلدان المجاورة.وكذلك القواعد، محطات الرادار، الأسماء الشفرية للوحدات، الذبذبات المستخدمة، الأسراب، والطيارين.في غضون شهر تعلمت عن جغرافية الأردن، سوريا، العراق مئات المرات أكثر مما تعلمته عن أسرائيل.من المتوقع أن يتم تعيننا للإنصات على الطائرات.بفضل هدية صغيرة خلفها البريطانيون قبل عقود قليلة يتحدث الطيارون الأردنيون بالانكليزية.
هناك إختبار كل يوم لما تعلمناه في اليوم السابق.وكل يوم خميس هناك إمتحان للبرنامج الأسبوعي.هناك توتر دائم.لم أكن أتوقع أن بإمكاني أن أتذكر كل تلك المواد.كل يوم أشعر بأني وصلت إلى كامل طاقتي، ليس في عقلي المثقل أي مجال لأي معلومة بسيطة.حتى ولا إلى سطر واحد في أغنية ساذجة مثل:الشمس تشرق ببهاء/سألاقيك هذا المساء/يا طفلتي، أحمليني بين ذراعيك/أموت عشقاً بمفاتنك.أشعر بأني حين أترك هذا المكان سينتابني مرض النسيان، عدا كل ما يتعلق بجيران إسرائيل.
لكن لا.العقل لا يزال ماضياً بالتسجيل، مستمراً.تأتيه الإمدادات، وبين الفينة والآخرى يتم توسيع الذاكرة بقرص صلب جديد، وفي المساءات أجد نفسي أحلم بالبتراء، “الايتش فور”، “الايتش فايف”، الجيزة، عمان، بغداد، مدن وقواعد لم يتسنى لي مشاهدتها، ولن أذهب إليها، بسبب الحدود التي تفصل بين عدوين، ولكني أستطيع أن اؤشر عليها فوق الخارطة وعيناي مغمضتان.
90، 100، 98، 99، تأتي درجاتي، ممتازة أو تكاد.”تامار” و”رومي” يبتسمان كل مرة يناولاني أوراقي.أشعر بانه لن يمر وقت طويل حتى يسلماني جائزة بإعتباري الأمل المشرق للخدمات السرية.
يمنحوننا إجازة كل أسبوعين، لحد الأن ذهبت مرة واحدة، ولم أقابل “راحيل” التي تم تعينها سكرتيرة للكتيبة في مرتفعات الجولان بالقرب من الحدود مع سوريا.نكتب لبعضنا البعض تقريباًً كل يوم، أكتب لـ”فريدي” أيضاً فهو في حالة كآبة شديدة في السجن.”يوليا” تعمل في مكاتب عسكرية في بئر سبع وتذهب إلى بيتها كل مساء.تقول أنها تشعر وكأنها لا تزال في المدرسة، عدا انهم يدفعون لها مرتبا نهاية كل شهر.تبدو رائعة وتقول أنها تصرع الجنود قتلى.ليس لدى أي مشكلة في أن أصدقها.هي فعلاً رائعة الجمال.كنت سعيدة بان أراها ولكن وجدت من الصعوبة أن أبقي عيوني مفتوحة.
اليوم هو الخميس.لا أطيق الإنتظار ليوم الغد.”راحيل” ستكون هناك، وكذلك أختي التي لم أرها منذ شهرين.نخطط لكي نمضي كل عطلة نهاية الاسبوع في حفلات.”يوليا” حصلت على تذاكر لفلم “ترويض النمرة”.كما فكرنا أيضاً بأن نذهب إلى الشاطئ لكي نستثمر آخر أيام الشمس قبل حلول الشتاء، والذي عادة ما يطل بدرجات تقارب العشرين مئوية مع حلول ديسمبر.أعتقد أن بإمكاني أن أذهب أيضاً لكي أرى “جين-ديفيد”.مقارنة مع كم المعلومات التي بإمكاني أن أتلقاها خلال أربع عشرين ساعة، فمن المفروض أن بإمكاني أيضاً أن أحيا حياة شهر في غضون يومين.
الساعة السادسة مساء.”تامار” و”رومي” تأتيان إلى الصف لكي تعيدا أوراق إختبار هذا الصباح؟كانت حول قوة الجيش الأردني وتحليل بشأن معركة جوية خلال حرب الأيام الستة، وبدا أنه أكثر صعوبة من الإمتحان الذي سبقه.”نوا”، “هيدي”، “إينات” ذات الشعر الأحمر، “إينات” الشقراء، “راحيل”، “هيلا”، “إيماك”، “تسيلا”، “ميراف”، وأنا، نركض جميعاً بإتجاه معلميتينا.تبدوان مثل قائدين أدركا للتو أن جنودهما خدعوهم.
تمنيت الا يكون سوء الحظ قد أصابني ورحت أستعيد في ذاكرتي الدرجات التي حصلت عليها منذ بداية الدورة.على أسوء تقدير يمكن أن أحصل على 85 وهي أقل درجة يمكن أن يتسامحوا بها.دون ذلك سيمطرونك بالعقوبات، واجبات إضافية، المزيد من الإختبارات، الحبس مرة أو مرتين خلال أيام الإجازة.
تنفست البنات الصعداء وهن يستلمن أوراقهن واحدة تلو الاخرى.تقف “تامار” أمامي وعلى وجهها تعبير صارم.”نتيجتك سيئة، لقد خيبتي أملنا”، تتفوه ببرود.”نحن نشعر بخيبة أمل كبيرة”، تضيف “رومي”.
(لقد كنت على خطأ، ما كان ينبغي لي أن أدعوهما “لورين وهاردي”، بل “ديبونت وديبوند”، من كتب تان تان.)
80“، تقول “تامار” بصوت لا حياة فيه.
“؟80“، تتساءل “رومي”، وكأن “تامار” كلمتني باللغة الصربية-الكرواتية وإحتجت إلى مترجم.
“الأمر جدي، جدي تماماً، تقول “تامار”.”بإمكانك أن تفلتي من هذا الفشل مرة ولكن ليس مرتين.”
“لقد فكرنا بعقوبة”، تقول “رومي” متظاهرة بأسف لا يخلو من النفاق.”لن يكون لك أية إجازة هذا الأسبوع وستقومين بواجب الحراسة ثلاث مرات.وفي ما تبقى من الوقت يمكنك أن تأتي إلى هنا للمراجعة.وسيجرى لك إمتحان آخر يوم الأحد.”
كانت تلك أقسى عقوبة تم فرضها منذ بداية الدورة.تسعة أزواج من العيون بحلقت بوجهي.”هيدي” “إينات”، ذات الشعر الأحمر، “راحيل” و”هيلا” بدين مصدومات، ولكن لست أدري إن كن متعاطفات، أم أنهن يفكرن فقط بما قد يحدث لهن يوماً ما.”نوا” “إينات” الشقراء، “ايميك” ، “تسيلا” و “ميراف” بدين راضيات.أحدق بزاوية الطاولة، أعيد على نفسي”لايجب أن أبكي، لايجب أن أبكي.”يندفع الدم إلى رأسي، الدموع تنحبس في عيني، جاهزة لكي تنقذف.اذا ما ارتجف فكي، فتلك هي العلامة، لن أستطيع أن أحبس دموعي.لذلك أعصر فكي بين إبهامي وسبابتي وأبحث بيأس عن جملة من كتاب، بيت من الشعر، سطر من أغنية، لكي أهرب من تلك اللحظة التي لم أتهم خلالها وأدان، بل وجدت كذلك مذنبة.كل ما كان بإمكاني أن أجده هو أسماء القواعد، الأسماء الشفرية، بالعربية أو الانكليزية، كلها تتراقص وتدور أمام عيني بسرعة هائلة أصابتني بدوار.أحمل على نفسي، أبحث بعزيمة، وكأن الأمر هو مسألة حياة أو موت، الملم أجزاء وجه “جين-ديفيد” بعيني، في ومضة ضوء تعمي، وأسمع كورالاً يغني لي:
“الهي، امنحهم الراحة الأبدية ودع النور الأزلي، يشرق عليهم.يا الله تباركت دعواتهم إليك في صهيون.في القدس نضحي من أجلك، أسمع دعواتي إليك من يأتي إليه الفانون.يارب إمنحهم الراحة ودع نورك الأزلي يشرق عليهم.”
تراتيل “موزات”:بإمكاني أن أسمعها وكأن المئات من العازفين والكورال قد هبطوا في قاعدتنا كي يعزفوها لي خصيصاً .لقد نجوت، كما أني تمكنت من إراحة فكي، وأن أنظر إلى عيون معلمتي الأثنتين.
“لا عليكما”، اتمتم مع نفسي.”طبعاً، سأدرس طيلة عطلة نهاية الأسبوع وسأعوض عن ذلك يوم الأحد.”
تبدو “تامار” حائرة، في حين تبدو على محيا “رومي” علائم سعادة.قلبي يكاد يستسلم خلال ثلاثين ثانية، ولكني مصممة على الصمود هذا المساء، لوقت متأخر هذا المساء، حتى أتمكن من سماع التراتيل حقيقة.وأخيراً أبكي.
أتصل بالبيت.أحاول أن أبدو سعيدة.”لن تصدقوا هذا.سيمر شهر دون أن تروني، أو أن تغسلوا بزتي العسكرية، سيكون الأمر أشبه بعطلة صيفية للوالدين.”أمي كانت كما هي.إقترحت أن تكلم قائد القاعدة لكي تخبره بأن من العار حبس إبنتها التي حصلت على أفضل الدرجات في الدورة لحد الآن، وأننا لا نحكم من قبل هتلر أو ستالين، وأنني، موضوعياً، لم أرتكب جريمة، وأن درجاتي جيدة.
“أنه أمر يحدث للجميع”، أقول محاولة أن أهدئها،”ليس الأمر بالمأساة.لقد كنت في إجازة منذ أسبوعين.هناك أسبوعان آخران وسأكون معكم، سيمضي الوقت سريعاً.تظاهري بأني ذهبت إلى زيارة عبر الولايات المتحدة بسيارة جيب، أنا سأفكر بذلك أيضاًً.”
أتصل بـ”يوليا” التي تبذل جهداً لمواساتي.أقول لها أن تخبر “راحيل” بأني سأتصل بها عند الساعة السادسة صباحاً في الغد.
لم أتصل بـ”جين-ديفيد”.ما كان بإستطاعتي أن أتكلم معه.هناك جمل كثيرة انحشرت في بلعومي.كان لابد أن أكون قادرة على إخباره بأني أحببته، وأني وددت أن يكتب لي وأن يأتي ويزورني.ربما كان عطوفاً جداً معي، مواسياً.ولكنه لم يكن يحبني.لدي من القوة الكثير لكي أواجه الصمت أكثر من أن أواجه العطف.
العطف شيء تحمله البنات اللواتي يشاركني غرفتي بوفرة-حتى اللائي بدون سعيدات قبل قليل.”هيدي” عرضت علي أن تترك لي مخزونها من البسكويت.”نوفا” أعطتني شريطها المفضل.”هيلا” احتظنتني بقوة وقالت بصوتها الكارتوني (الذي جعلنا في الأيام الأولى ننفجر من الضحك)”هذا ليس عدلاً فجميعنا حثلنا على 80 بالمائة.ونحن لم نعاقب بهذه الثريكة.”
“بالضبط، لأنها هي الأفضل” تتلعثم، “راحيل”، الأكثر هدوءاً، الأكثر عمقاً وتأنياً منا جميعاً.
“سيكون السكن بكامله لك، كأنك مقيمة بجناح في “الهلتن.”، تقول “إيانيت”، ذات الشعر الأحمر بطريقة غنائية.
“وهل تعرفين أن الطاهي يتفوق حتى على نفسه أثناء عطلة نهاية الأسبوع”، تقول “إيانيت” الشقراء بخبث.
أنظر إليهن كأني أكتشفتهن للمرة الأولى.أشعر بقليل من الخجل، أدرك أني أعتبرتهن منذ البداية مجرد بنات مدلالات.صحيح، أن الحياة أفسدتهن، ولديهن كل الأشياء التي لن تكون لدي في العشرين سنة القادمة.الا أن ذلك لا يجعلهن عديمات الخيال، وأن كن لن يتمكن من فهم ما بي، على الأقل اليوم.
قررت أن أقوم ببعض الجهد وأن أقوم بمشاركتهم الطعام في المقصف في المرة القادمة.لدي كل الوقت لأكون وحدي في عطلة نهاية الأسبوع هذه.
  ومع ذلك، فلم يكن من بد أن أشعر ببعض الضيق وأنا أراهن يغادرن بحقائب مليئة بالملابس المتسخة.مارقة، خروف أسود، طفيلية، كلها كلمات مشينة جالت في خاطري.وما هو أسؤ (ليس بإمكاني أن أسر بذلك الا إلى “راحيل”)، الخشية من أن أستبعد من الدورة اذا ما إرتكبت نفس الغلطة ثانية.الرعب اجتاح بدني كله:الجميع يرتعب من ذلك، أثناء كل دورة في الجيش.في الحقيقة، باللغة العبرية، تقول أنت “تسقط” بالدورة، تماماً مثلما تقول تسقط بمعنى تموت.قررت أن أمضي قدماً، أصك أسناني، وأن أدرس بكل ما أوتيت، مثلما قلت أمس.سوف أدفن ألم الا أرى الناس الذين أحتاجهم أكثر من أي شيء في الدنيا.لا أعرف أن كان سيعجبني الأمر، ولكني أعرف بأني فخورة بأني أنتقيت لكي أكون في الخدمة السرية.لذلك علي أن أبقى مهما كان الأمر.
 ***
       

“منذ عدة سنوات قمت بترجمة رواية الكاتبة الفرنسية الاسرائيلية فاليري زيناتي “عندما كنت جندية” بعد ان قرأتها بالانكليزية واثارت انتباهي شكلاً وموضوعاً.ورغم ادراكي للمواقف المعارضة لترجمة الادب الاسرائيلي الى العربية الا اني كنت، ولا ازال، اعتقد ان الاعتراضات بشأن نقل ذلك الادب الى لغتنا لا تتسم بالحكمة ولا بالموضوعية وهي تدخل اما في خانة الجهل والغباء او في خانة المزايدات المبتذلة التي عانت منها القضية الفلسطينة على مر تاريخها المرير.تقدمت الى احد الناشرين البارزين في القاهره بالترجمة لطبعها الا انه لم يتكلف حتى بالرد وعذرته لاني كنت متيقنا من خشيته من السهام التي قد تطاله، ولم اكرر التجربة.ثم جاءت الثورات العربية واخذت من مشاغلنا بها ومن حياتنا ما أخذت حتى نسيت تلك الترجمة وخشيت ان تختفي من ملفات الحاسوب او يطوي نسختها الورقية الغبار.وها انا اقدمها هنا على مدونتي متسلسلة، متحملا كل مسؤولية ادبية وسياسية واخلاقية عن ذلك.لقد عشت حياتي كلها لصيقا بقضية فلسطين ومأساة شعبها وفترات طويلة قريبا من فصائلها المناضلة ومن قيادتها التاريخية واخالي اجزم ان من ضيع فلسطين والحق بشعبها تلك الكارثة هي الحماقة التي اعمت اجيالا من العرب عن معرفة الاسرائيلي وكيف يفكر ويعمل وهي المقاربة التي كان ينبغي ان تصدم كل عربي منذ ان قال موشي ديان ان العرب لا يقرأون..

                                  عندما كنت جندية
                                    فاليري زيناتي
                                          ترجمة                       
                                   صلاح النصراوي


الجزء الثاني
الفصل الاول 
                                القدس، حبي 
أشر جندي ضجر إلى بناية مغبرة بيده وأخبرني بأن أنتظر.
“كم؟” سألته.
“إنتظري فقط.” أجاب، بمنطق تام. “على أي حال، ليس لديك شيء آخر تفعلينه.”
أضع كيس متعلقاتي على الأرض وأجلس متكئة عليه.أخذ كتاباً من حقيبتي وابدأ بالقراءة، وكأني لم اقرأ شيئاً منذ فترة طويلة.ما أعنية هو أني لم أعد “فاليري”، بل أصبحت شخصية في الكتاب.
أتوقف عن القراءة لأني أشعر بأن أحداً ما يراقبني.كيف بإمكاننا أن نستشعر تلك الأشياء.ربما أننا معتادون على لامبالاة الآخرين مما يجعل أية إشارة إهتمام تصل إلى رؤسنا بشكل مباشر دون أي إعاقة في الطريق.
أتطلع إلى الأعلى، ملازم نحيفة في حدود الأربعين ذات شعر أشقر، تنظر إلي بإستغراب.أتساءل، ربما هي قائدتي، أقفز على قدمي، وأفكر في ما اذا كان على أن أقف في حالة إنتباه.ومن العجيب أن ذلك ما أربكها، وكأنها أرتكبت خطأ ما، فتبتسم لي وتمضي.أقبع هناك أفكر.رغم بزتها العسكرية ورتبتها الا أنها بدت غير متلائمة مع المكان.بدل رد فعلها وطريقة إعتذارها لجندية مبتدئة غريبة جداًً.فتحت كتابي ثانية ولكن ظلاً خيم علي.
“فاليري”؟ رقم 3810159؟”
كانت هناك رقيبة-امرأة قصيرة، نحيقة بشعر طويل وبوجه قبيح نوعاً ما هي التي سألتني السؤال بصوت لايخلو من اللطف.
“نعم.”
“أهلاً بك في قاعدتنا.إتبعيني.”
سحبت كيس أغراضي إلى غرفة قميئة.عريف تجلس إلى طاولة وهي تدخن مع ان عينيها نصف مغمضتين.طويلة، قصة شعر رجالية أنيقة، عينان لوزيتان، قوية البنية مع شعور بالثقة واضح.
“أهلاً، أنا “تامار” قائدة الدورة وهذه هي “رومي” نائبتي.
“لوريل وهاردي”، أفكر بينما أودي التحية لهن.
“هناك عشر منكن في هذه الدورة.الآخريات أمرن بأن يأتين صباح يوم غد.أنت طلب منك القدوم اليوم لأنك تسكنين في مكان بعيد.على أي حال، عليك أن تكوني خارج هذه البناية في تمام الساعة الثامنة غداً صباحاًًًًً .تقدمين نفسك إلى المشجب لأخذ سلاحك قبل أي شيء أخر.سأعطيك أمر الإستلام، ورخصة بمغادرة القاعدة.أراك صباح الغد.”
ياللهول!ماهذا الإحساس وهذا التعقيد في طريقة القائها.ظننت أن القبيحة ببساطة لا يمكن أن تكون لطيفة في حين أن الجميلة لابد أن تكون كذلك.سهل جد مثل هذا التنبؤ.لدي ثلاثة أشهر لكي أتعمق بالغلاف الخارجي لكل من “لوريل وهاردي”…دفعتني الفكرة للإبتسام.
رمقتني العريف “تامار” بنظرة إستغراب لكنها لم تنطق بكلمة.أديت التحية وخرجت.
بحسبة سريعة فان القاعدة قريبة من تل أبيب وعلى بعد 120كليومتراً من بئر سبع.على الناحية الأخرى القدس على بعد 60كيلومتراً.اذا ما أستيقظت مبكرة صباح الغد فبإمكاني أن أكون هنا في الموعد المحدد.
آن آوان المدينة المقدسة.ليس من أجل الصلاة، ليس من أجل البكاء، لا من أجل التظاهر، ولا لكي أتنفس من عبق الهواء الذي تنفس منه داود والمسيح ومحمد، ليس من أجل شراء مجوهرات السياح الكريهة من السوق في البلدة القديمة.القدس لانها المكان الذي يقطن فيه من أحب، كما أن هناك صوت رفيع يهمس في أذني انه هذا هو الوقت، الآن أو لا للابد.
حرة:اشعر بحرية لم أشعر بها من قبل في هذه الحافلة الممتلئة والتي تشق طريقها.ها نحن تجاوزنا المكان الذي يدعى “شعار هاغي”، العرب يسمونه باب الواد.كلا الأسمين يحملان نفس المعنى، بوابة النبع.هنا وقعت أكثر المعارك دموية في حرب الإستقلال عام 1948.العربات العسكرية تركت حيث توقفت على جانبي الطريق الشديد الإنحدار لكي تذكر الماريين بتلك الحقبة من التاريخ.هذه المرة لم أنم، كنت أفور بالأمل وبالأسئلة:لن يكون هناك، سوف يكون هناك، لن يكون لوحده، سوف يقول أن أحداً ما معه هناك، سوف يصطنع أعذاراً لكي لا يراني، سوف يشعر بالزهو حين يراني وقد ارتسم الحب على محياي، وسوف يضحك مني، سوف يأخذني بالأحضان، لن يفهم لماذا أنا هنا فجأة.سوف أخبره الحقيقة، ولكن اية حقيقة؟
أمرر أصابعي فوق سبطانة البندقية.بندقية “عوزي”، تلك التي يسلمونها للفتيات وللجنود المستجدين، ولكن “جين-ديفيد” لا يحتاج لأن يعرف كل ذلك.أريد أن أثير فيه الإعجاب، أن أبعث فيه السعادة، أن أغويه.أريد أن أغلب تلك البنت التي إنتزعته مني.هي فرنسية خالصة لم تؤدي الخدمة العسكرية أبداً، وتلك نقاط لاتحسب لها.بطريقة ما فأني أتعكز على الجيش لكي يساعدني أن أسترد حبي الأول.
في اللحظة الراهنة نحن الأن فوق قمة تلة، ولكن اذا ما أخذنا حجم التلال من حولنا فاننا نتحدث عن جبال.منذ وقت قصير مضى رمى فلسطيني بنفسه فوق سائق حافلة تسير على هذا الخط (400)، دافعاً بها تهوى إلى السفح.النتيجة:16قتلى مع شعور فضيع بالخوف خيم على البلاد كلها.دفع الحادث شركة “أغيد” لكي تصرف مئات الالاف من الشيكلات كي تحصن الحافلات بشبكات لحماية السائقين.تم بناء نصب تذكاري لاولئك الذين قتلوا في الحادث.نحن نسير بسرعة فائقة لذلك ليس بإستطاعتي قراءة أسمائهم.
نهبط من التل ثم نعود إلى قمة تل آخر.من أي إتجاه تحاول أن تدخل إلى القدس فأن الطريق يبدو طويلاً ومرهقاًً .
عند مركز المدينة المخصص للمشاة، الساعة الخامسة، تبدو المقاهي مكتظة بالناس، ولكن متى لم تكن كذلك؟اتصلت منذ خمسة دقائق فرد جهاز التسجيل فأغلقت التلفون.بعد ساعتين وثلاثة محاولات رد أخيراً .
“هالو”،(لايزال بنبرته الإسرائيلية الثقيلة.)
“جين-ديفيد، هذه أنا التي تكلمك.”
“أهلاً ايتها الجندية.هل لديك أخبار من الجبهة؟”
“ليس هناك جبهة، أيها المدني الجاهل.وعلى أي حال، فأن من الواضح أن الأخبار السرية للغاية هي الآن عناوين في كل الصحف.شغل التفزيون لكي تعرف عماذا يتكلمون.”
“من أين تتحدثين؟”
“من مقهى في شارع “بن يهودا”.”
تنتابه عبرة، أنا متأكدة أنه يختنق، أخيراً يتوقف.
“فــــي القد….؟”يتلعثم أما من فرط الرعب أو المفاجأة، ليس بإمكاني أن أخمن أي منهما.
“القدس، أو أورشليم اذا مارغبت، وفي كلتا الحالتين ليس بعيداً عن المكان الذي تسكنه، اذا ما كنت أتذكر بشكل جيد.لدي إجازة حتى صباح الغد، ليس لدي وقت لكي أذهب إلى البيت، فقررت المجيء إلى هنا.”
“هل تريد…..؟”
“أن أراك، نعم وربما المبيت لديك”، أقول وبهمس أضيف،”ان كان لديك متسع من المكان…”
“سوف نجد حلاً، اذا ما بدا الأمر سيئاً، الحمام ليس مريحاً بالكامل.سوف أذهب لأشتري شيئا لإطعامك.تعالي خلال ساعة.اذا كنت تحملين الكثير من الأمتعة خذي الحالفة رقم 9وانزلي عند الموقف الثاني عند شارع “عزرا”.هناك طريق فرعي إلى اليسار، شارع برلين.أنا في رقم 14 الدور الأرضي، بخدمتك.”
“شكرا لك، أراك قريباً.”
أغمض عيني، منتشية، متوترة، مرعوبة، متعجلة، مشتاقة، قلقة.حمداً أن هناك الكثير من المفردات التي يمكن التعبير بها عن مشاعري في تلك اللحظة.
16أكتوبر، الساعة السادسة وعشر دقائق صباحاً.
في الحافلة الأولى المتوجهة إلى تل أبيب.
فتح لي الباب وبرقت عيناه، مفاجأة البزة العسكرية.فتح ذراعية وكأنه يستسلم بسعادة.قبلته.اردت أن أبقى بين ذراعيه لساعات.ضيفني قهوة.أخبرته عن الدورة، بالغت بالأمر، فان لم يكن يحبني، فعلى الأقل بإمكانه أن يعجب بي!تناولنا الأكل في شقته.شيء جدير بزوجين أن يفعلاه،أن يأكلا سوية.لم أتجرأ أن اقول ذلك.
بين الحين والآخر كان يلمحني بتلك النظرات الغريبة.مستعدة أن أمنحه عشرين عاماً من عمري لكي أعرف مالذي يفكر فيه عني، وما هي مشاعره.
تكلمنا، صمتنا.وضع شريط إبتهالات” فوغيه” التي يحبها.قلت له أنها تجعلني حزينة. في حين أن “موزارت” يبعث بي إحساس بالسلام ويدفعني للغناء.نحو منتصف الليل سألته أين سأنام.
تضاهر بأنه يفكر، ثم سألني،” أين تحبين أن تنامي.”
لو كان بإمكاني لخنقته وقضيت بقية حياتي في عذاب الضمير لقتله.كل ذلك لمجرد سرير.اذا كان ذلك ما اقصده.
حملت شجاعتي كلها بين يدي الأثنتين.
“هناك شيء يدعى حق الجندي بالنوم.سأنام في سريرك، واذا ما رغبت فأني سأترك لك مكاناً صغيراً .”
وهكذا إنطلقنا.نحو السرير.أطفال.(نلمع كالذهب)، مرتدين قمصاننا.مشدودين تماماً، حذرين الا نلمس أحدنا الآخر.
مال نحوي لكي يقول تصبحين على خير.قبل جبيني، أنفي، عيني.قبلت جبينه، أنفه، عينيه.عانقنا أحدنا الآخر بشدة طيلة الليل.نخبط وجيهنا، ناعسين، عفيفين، مثل طفلين يحبان أحدها الآخر سراً، كان ذلك أقوى من أية علاقة غرامية، أكثر جمالاً من كل لحظات حياتي اذا ما جمعت سوية.
نظرت إليه طويلاً قبل أن أغادر هذا الصباح.فتح عينيه وقال:”إعتني بنفسك.تعالي لرؤيتي.”
أغلقت الباب بهدؤ وفكرت لو أني مت غداً فلن أبالي.لقد حظيت بما أردته من الحياة.
****

                                      عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف10

                                            رمي
يصعب علي ان أعود لأصبح 3810159بعد كل تلك المتعة خلال عطلة نهاية الأسبوع.أنا على إستعداد الأن أن أمنح عشرة أيام من عمري مقابل بضعة أيام من الحرية.أن أكون مع “راحيل”، وأواسيها، ولماذا أكذب، أن أخذ الحافلة التالية إلى القدس.لكن لا شيء من ذلك ممكن.سأكون هنا حتى الجمعة وبعدها سأكون ضمن رعية عدد آخر من الضباط والرقباء.هناك يد خفية اختارت مكان خدمتي وقررت حياتي.هل هذا هو ما يعني أن تكون ناضجاً.درس الرمي الأخير سيكون ظهر هذا اليوم- قبل اليوم الكبير غداً-حين سنرمي طلقات حية للمرة الأولى.تدريب مكثف هذا الصباح:ساعتان من الجري حول القاعدة، تسلق الحيطان، الزحف بين الشبكات، كل ذلك ربما بهدف إعدادنا ليوم الحساب.بعد ذلك إجتماع كل القوة مع “أنبار كاتز”(تبدو الآن أكثر إثارة) حيث تعطينا الإرشادات التالية:“ايتها الجنديات، في ميدان الرمي من الضروري جداً إتباع الأوامر حرفياً.هنا لن يعد الأمر يتعلق بالأقدمية، بل هي مسألة حياة أو موت.الإهمال، عدم الإنتباه، والأخطاء البسيطة قد تؤدي إلى كوارث لايمكن معالجتها.يجب أن تضعوا في رؤسكن إنكن لسن مسؤلات عن انفسكن فحسب بل عن الآخرين أيضاً.هناك شيء مفزع في نبرات صوتها، جدية تقول:”انتبهوا هذه ليست لعبة.”أنتن لا تقمن بالتمثيل في فلم من تلك الأفلام التي تحوز على الأوسكار، أو حتى فلم من الدرجة الثانية.حين نطقت كلمتي حياة وموت، فأنهما تأخذان معنين متماثلين بطريقة خاصة، فالكلمتان تتعلقان الآن بطلقة صغيرة من عيار 9 ملم.ها هي الإثارة التي شعرنا بها منذ دقائق تختفي.ذلك بالضبط ما كانت تسعى إليه.نصعد إلى لوريات نقل الجنود، شبيهة تماماً بتلك التي نرى فيها الجنود ينقلون إلى الحدود مع لبنان.يسود الصمت.من المستحيل الكلام، على أي حال، لأننا القينا، دون أي إعتبار، في لجة هزات لاتتوقف.نحن في خطر التعرض للموت حتى قبل أن نرمي طلقاتنا الأولى.ميدان الرمي:تراب، حصى، أهداف مصنوعة من الكارتون مرسوم عليها صور بشرية، بحجم الأنسان.سنقوم بالرمي كل عشرة منا مرة واحدة-كل سرية مقسمة الى مجموعتين.الجنديات اللواتي لا يقمن بالرمي يقفن في منطقة أمنة.أي واحدة تتحرك من غير رخصة ستعاقب بالحبس شهراً.ألمح “اينايا” والتي تلوح لي مشجعة من بعيد.كانت هي من بين المجموعة الأولى التي بدأت الرمي، وها هي تعود بإبتسامة.أجلس بعيدة شيئاً ما عن الآخريات.الشمس حارقة والبدلة المضادة للرصاص التي أرتديها تجعلني أتصبب عرقاً.أسمع طلقات الرصاص ولكني لا أرى الفتيات اللواتي يطلقنها.أستعيد التعليمات التي أعطيت لنا بشأن إطلاق النار على “المشتبه به” بأننا نطلق لنقتل.أصغي إلى تلك الكلمات فتصبح التعليق للتقرير الذي شاهدته على التلفزيون يوم السبت الماضي عن الأراضي، مثله مثل التقرير الذي شاهدته قبل أسبوعين.حسناً تقريباً مثله، الصور كانت متشابهه،(حجر ينطلق من مقلاع، إطارات سيارات تحترق، إطلاقات نارية) ولكن ليس نفس الرجال الذين يسقطون موتى.الجنديات لايرسلن للقتال في الأراضي.الجنديات لايرسلن للقتال أبداً.مالذي يمكن أن أفهمه من درس الرمي هذا اليوم، حتى ولو كان أهداف من قطع كارتون، لايسعني النظر إليها؟تمتزج الدموع الآن بحبات العرق العذبة التي تنزل من جبيني.احداهن تضع يدها على كتفي.”كينيريت” تبتسم.
“هل أنت على مايرام؟”
“لا، لست كذلك.”“
هل أنت خائفة من الرمي؟”
“ليس الأمر أني خائفة، أنا أفكر فقط بتبعات ذلك.”
تجلس إلى جانبي.“أية تبعات؟”
“إنه أمر معقد، كنت أفكر مالذي علي أن أفعل لو أن على أن أطلق النار، على شخص بلحمه ودمه.كما أني أتساءل في أي جانب أنا، كنت أتمنى أو ان بإمكاني أن اتفادى هذا المعسكر أو ذاك.”
“مالذي تعنيه بمعسكر؟”
“أنت تعرفين مالذي أعنيه”، أتمتم “الحجر، أم البندقية.”
 تأخذ نفساً عميقاً، وتقول،” لقد سألت نفسي نفس السؤال عندما قمت بالرماية في المرة الأولى، هنا بالضبط، قبل عدة أشهر.الإنتفاضة ساعدتني على معرفة الجواب.هل تعرفين مالذي تعنيه كلمة تسحال؟”
“نعم أعرف ذلك، أنها الحروف الأولية لجيش الدفاع الإسرائيلي.”
“بالضبط.ذلك ما عليك أن تتذكريه:جيش الدفاع.ليس عليك أن تستخدمي سلاحك ضد شخص، الا اذا كان ذلك الشخص يهدد حياتك.عليك الدفاع عن نفسك، لحماية نفسك ولحماية الآخرين.”
“ولكن لماذا يجب أن يكون هناك عدو يريد قتلي؟”
“لا تختبأي خلف تلك النظرة الماكرة.بالتأكيد فأنك في اللحظة التي ترتدين فيها البزة العسكرية لم تعودي فيها شخصاً عادياً، بقدر ما يتعلق الأمر بالآخرين.أنت تمثلين الجيش الإسرائيلي، الجيش الذي يواجه الفلسطينيين كل يوم…مهما كانت مشاعرك وقناعاتك.تلك هي الحقيقة، ولكن لا ينبغي أن تمنعك من التفكير.”
”لا أزال حائرة.“
“لا تقلقي، كل شيء سيكون على مايرام.”
بدؤوا الآن بالنداء على أرقام من السرية (د).نقف في خط مستقيم وراء صف من أكياس الرمل، مع بنادقنا المدلاة من الكتف إلى الخصر.يمنحوننا واقيات الأذن لحماية طبلات الأذن من دوي الإطلاقات.تقف “أنبار كاتز” على رأس الصف إلى يميني.
“ايتها الجنديات، من الآن ستنفذن أوامري حرفياً ومباشرة…انزعن الحامل من البندقية.”
نعمل ما أمرنا به، ضربات القلب تتسارع.
“وضع الإنبطاح، خذ.”
“ركبن المخازن، صوبن البندقية بإتجاه الهدف.لاتضعن الأصبع على الزناد.”
“صوبن نحو الهدف، انزعن مسمار الأمان، إقفلن على الهدف وفق خط النار.الآن إستعدن، لكن عليكن الإنتظار للأوامر ببدء الرمي لكل من الطلقات الخمس.”
“إنتباه …، إستعداد، إرمي.”
هناك برهة من التردد بعد صدور أمرها، ثم بعض الإطلاقات الخافتة (اذا كانت تلك الإطلاقات الصارخة تعتبر خافتة) يتردد صداها.أركز، أشد بندقيتي إلى كتفي وفكي لكي أتجنب أي جرح يمكن أن يسببه إرتداد البندقية.ثم أرمي.
“إرمي.”إطلاقة ثانية.لايسعك التفكير بأي شيء آخر عندما ترمي، إنها الشيء الوحيد الذي تفكر فيه.
“إرمي.” إطلاقة ثالثة، لابد أنها كانت قريبة من قلب الهدف.
“إرمي.”، إطلاقة رابعة.
أعتقد أن تهديفي أصبح أفضل من السابق.
“إرمي.”
تتساقط ظروف الإطلاقات على الأرض تحت أنفي.إطلاقة خامسة، وأخيرة.إنتهينا.
“دعن السبطانة بإتجاه الهدف.إنزعن المخزن.تأكدن من خلوه من الإطلاقات.اعدن مسمار الأمان.لاتتحركن.“
“الرقيب “كينيريت.”
“نعم سيدتي.
”فتشي صفوف السرية، عدي الظروف وتأكدي من خلو المخزن من الطلقات.”
لم أحرك جفناً.متسمرة وأنظر إلى الامام، ولكني متأكدة أن “كينيريت” أبتسمت وهي تلم الظروف المتساقطة مني.
“جنديات، أرضاً سلاحً.الرقيبة “كينيريت” تأكدي من الأهداف.”
“كينيريت” تنادي بالنتائج.صوبت طلقتان إلى قلب الهدف، باقي الطلقات إلى جانبه مباشرة.من الواضح أن تلك نتيجة جيدة لأول مرة وعلى مسافة خمسة وعشرين متراً.
11 أكتوبر، الساعة 6مساءً.
موسم الرمي أمس:أنا ممزقة بين أن أفتخر وبين أن أندهش.الواجبات تبدوا مختلفة هذه الليلة.واجبات حقيقية، أنا سأقوم بحراسة موقع إستراتيجي، المشجب، منذ منتصف الليل.كلمة السر اللية، بدر.بعض الناس ليس بإمكانهم الا أن يكونوا شاعريين.
12 أكتوبر، الساعة 2والنصف فجراً.
كان الأمر غريباً.اللية تبدو حالكة الظلام أكثر من المعتاد، وأكثر غموضاً، وخوفًا.كانت بصحبتي فتاة من خيمة أخرى يبدو أنها تخاف بسهولة، لم يكن الأمر صعباً أن تنتقل عدوى الخوف إلي.كان أي حفيف لأوراق الشجر، أو طنين بعوضة أكثر مما هو معتاد يجعلها تشك أن أحداً هناك.الأمر أشبه عندما تكون شاباً ويتركونك تقضي الليلة في البيت وحدك.
لبرهة كان الصوت فعلاً مقلقاً.بدا وكأن أحداً كان يتسلل قريباً منا.بدأنا بعبارات التحذير المعروفة، مرعوبتين بصدى صوتينا.لم أكن متأكدة أن كان علي أن أرمي في الهواء.أضأت مصباحي فأضاء كتلة من الخشب قريبة منا.كانت عائلة من الفئران تلعب بسعادة بين العيدان.صرخنا بقرف.لم نزل في حالة خوف حين جاءت الحارسات البديلات.
جاءت “كينيريت” لترانا، مازحتنا بلطف.
اليوم سنؤدي القسم.ننام متأخرات:منبه الساعة على الساعة السادسة صباحاً.
الساعة العاشرة صباحاً.
شيء غير عادي.نستبدل بدلات القتال ببدلات الإحتفال.تتجمع الكتيبة في ساحة الإستعراض.هناك صف طويل من الضباط من بينهم قائد القاعدة (الذي لمن نره ابداً).يلقي خطاباً من منصة، وخلفه كانت هناك حروف من نار تلتهب.تقول “أقسم”.
قال لنا إننا الآن جنديات حقيقيات، وإن الجيش والوطن يعتمدان علينا، إن كل واحدة منا بأهمية الآخرى، مهما كانت المهمة التي سنكلف بها.نمر به واحدة بعد الآخرى و”أنبار كاتز” تعطي كل واحدة منا كتاباً مقدساً وبندقية.نضع يدنا اليمنى على الكتاب المقدس واليسرى على البندقية،وبوقار نؤدي القسم:
“أقسم أن أكون مخلصاً لجيش الدفاع ولدولة اسرائيل.أقسم بأن أخدم بلادي وأن ألتزم بقوانينها.أقسم بأن أحترم الحياة وأن أحميها.”
بعد ذلك، وسط إنفعالنا بحروف النار تلك والتي لاتزال متوقدة نغني النشيد الوطني، هاتفيكا-الأمل.
نسلمهم معداتنا ومن ثم يقيمون لنا حفلة صغيرة نضحك ونبكي خلالها كثيراً.من الصعب أن يمضي كل منا في طريق بعد تلك الفترة التي قضيناها سوية.
أعلم، من غير أن أفاجئ بأني عينت في الخدمة السرية.علي أن أتقدم بنفسي إلى القاعدة يوم الأحد الساعة الحادية عشر، وعلي الا أخبر أحداً أين تكون القاعدة، سواء عن طريق الكلام، أو كتابة.سوف أمضي ثلاثة أشهر في التدريب هناك.تم تكليف “إينات” في وحدة رادار.كانت محبطة الا أن الجميع قالوا لها أنه عمل ممتع.هم يحسدوني لأن في كلمة “الخدمة السرية” شيء من الغموض والإثارة.سوف نرى فيما اذا كان ذلك صحيحاً حين نكون هناك.
ربما سأذهب إلى القدس هذا الأسبوع، ومن الممكن أن أمارس الحب مع “جين- ديفيد”، لكن لن تكون هناك علاقة بيننا.من الواضح أننا في وحدتنا الجديدة سنمنح إجازة كل ثلاثة أسابيع مرة.هو لم يخلق لكي يكون زوجة بحار (من سؤ الحظ ليس بالإمكان الحديث عن زوج جندية!)
أشعر وكأني امضيت مائة عام في هذه القاعدة.إنها بالكاد أربعة أسابيع.بقي لي ثلاثة وعشرون شهراً في البزة العسكرية، في قواعد أخرى، مع أناس آخرين.
ربما ذلك هو معنى أن تكوني ناضجة، أن تعتادي أن تعيشي حياتك، أن تغادري مسكنك والناس وأن تبدأي حياتك في مكان آخر.
****