“منذ عدة سنوات قمت بترجمة رواية الكاتبة الفرنسية الاسرائيلية فاليري زيناتي “عندما كنت جندية” بعد ان قرأتها بالانكليزية واثارت انتباهي شكلاً وموضوعاً.ورغم ادراكي للمواقف المعارضة لترجمة الادب الاسرائيلي الى العربية الا اني كنت، ولا ازال، اعتقد ان الاعتراضات بشأن نقل ذلك الادب الى لغتنا لا تتسم بالحكمة ولا بالموضوعية وهي تدخل اما في خانة الجهل والغباء او في خانة المزايدات المبتذلة التي عانت منها القضية الفلسطينة على مر تاريخها المرير.تقدمت الى احد الناشرين البارزين في القاهره بالترجمة لطبعها الا انه لم يتكلف حتى بالرد وعذرته لاني كنت متيقنا من خشيته من السهام التي قد تطاله، ولم اكرر التجربة.ثم جاءت الثورات العربية واخذت من مشاغلنا بها ومن حياتنا ما أخذت حتى نسيت تلك الترجمة وخشيت ان تختفي من ملفات الحاسوب او يطوي نسختها الورقية الغبار.وها انا اقدمها هنا على مدونتي متسلسلة، متحملا كل مسؤولية ادبية وسياسية واخلاقية عن ذلك.لقد عشت حياتي كلها لصيقا بقضية فلسطين ومأساة شعبها وفترات طويلة قريبا من فصائلها المناضلة ومن قيادتها التاريخية واخالي اجزم ان من ضيع فلسطين والحق بشعبها تلك الكارثة هي الحماقة التي اعمت اجيالا من العرب عن معرفة الاسرائيلي وكيف يفكر ويعمل وهي المقاربة التي كان ينبغي ان تصدم كل عربي منذ ان قال موشي ديان ان العرب لا يقرأون..

                                  عندما كنت جندية
                                    فاليري زيناتي
                                          ترجمة                       
                                   صلاح النصراوي


الجزء الثاني
الفصل الاول 
                                القدس، حبي 
أشر جندي ضجر إلى بناية مغبرة بيده وأخبرني بأن أنتظر.
“كم؟” سألته.
“إنتظري فقط.” أجاب، بمنطق تام. “على أي حال، ليس لديك شيء آخر تفعلينه.”
أضع كيس متعلقاتي على الأرض وأجلس متكئة عليه.أخذ كتاباً من حقيبتي وابدأ بالقراءة، وكأني لم اقرأ شيئاً منذ فترة طويلة.ما أعنية هو أني لم أعد “فاليري”، بل أصبحت شخصية في الكتاب.
أتوقف عن القراءة لأني أشعر بأن أحداً ما يراقبني.كيف بإمكاننا أن نستشعر تلك الأشياء.ربما أننا معتادون على لامبالاة الآخرين مما يجعل أية إشارة إهتمام تصل إلى رؤسنا بشكل مباشر دون أي إعاقة في الطريق.
أتطلع إلى الأعلى، ملازم نحيفة في حدود الأربعين ذات شعر أشقر، تنظر إلي بإستغراب.أتساءل، ربما هي قائدتي، أقفز على قدمي، وأفكر في ما اذا كان على أن أقف في حالة إنتباه.ومن العجيب أن ذلك ما أربكها، وكأنها أرتكبت خطأ ما، فتبتسم لي وتمضي.أقبع هناك أفكر.رغم بزتها العسكرية ورتبتها الا أنها بدت غير متلائمة مع المكان.بدل رد فعلها وطريقة إعتذارها لجندية مبتدئة غريبة جداًً.فتحت كتابي ثانية ولكن ظلاً خيم علي.
“فاليري”؟ رقم 3810159؟”
كانت هناك رقيبة-امرأة قصيرة، نحيقة بشعر طويل وبوجه قبيح نوعاً ما هي التي سألتني السؤال بصوت لايخلو من اللطف.
“نعم.”
“أهلاً بك في قاعدتنا.إتبعيني.”
سحبت كيس أغراضي إلى غرفة قميئة.عريف تجلس إلى طاولة وهي تدخن مع ان عينيها نصف مغمضتين.طويلة، قصة شعر رجالية أنيقة، عينان لوزيتان، قوية البنية مع شعور بالثقة واضح.
“أهلاً، أنا “تامار” قائدة الدورة وهذه هي “رومي” نائبتي.
“لوريل وهاردي”، أفكر بينما أودي التحية لهن.
“هناك عشر منكن في هذه الدورة.الآخريات أمرن بأن يأتين صباح يوم غد.أنت طلب منك القدوم اليوم لأنك تسكنين في مكان بعيد.على أي حال، عليك أن تكوني خارج هذه البناية في تمام الساعة الثامنة غداً صباحاًًًًً .تقدمين نفسك إلى المشجب لأخذ سلاحك قبل أي شيء أخر.سأعطيك أمر الإستلام، ورخصة بمغادرة القاعدة.أراك صباح الغد.”
ياللهول!ماهذا الإحساس وهذا التعقيد في طريقة القائها.ظننت أن القبيحة ببساطة لا يمكن أن تكون لطيفة في حين أن الجميلة لابد أن تكون كذلك.سهل جد مثل هذا التنبؤ.لدي ثلاثة أشهر لكي أتعمق بالغلاف الخارجي لكل من “لوريل وهاردي”…دفعتني الفكرة للإبتسام.
رمقتني العريف “تامار” بنظرة إستغراب لكنها لم تنطق بكلمة.أديت التحية وخرجت.
بحسبة سريعة فان القاعدة قريبة من تل أبيب وعلى بعد 120كليومتراً من بئر سبع.على الناحية الأخرى القدس على بعد 60كيلومتراً.اذا ما أستيقظت مبكرة صباح الغد فبإمكاني أن أكون هنا في الموعد المحدد.
آن آوان المدينة المقدسة.ليس من أجل الصلاة، ليس من أجل البكاء، لا من أجل التظاهر، ولا لكي أتنفس من عبق الهواء الذي تنفس منه داود والمسيح ومحمد، ليس من أجل شراء مجوهرات السياح الكريهة من السوق في البلدة القديمة.القدس لانها المكان الذي يقطن فيه من أحب، كما أن هناك صوت رفيع يهمس في أذني انه هذا هو الوقت، الآن أو لا للابد.
حرة:اشعر بحرية لم أشعر بها من قبل في هذه الحافلة الممتلئة والتي تشق طريقها.ها نحن تجاوزنا المكان الذي يدعى “شعار هاغي”، العرب يسمونه باب الواد.كلا الأسمين يحملان نفس المعنى، بوابة النبع.هنا وقعت أكثر المعارك دموية في حرب الإستقلال عام 1948.العربات العسكرية تركت حيث توقفت على جانبي الطريق الشديد الإنحدار لكي تذكر الماريين بتلك الحقبة من التاريخ.هذه المرة لم أنم، كنت أفور بالأمل وبالأسئلة:لن يكون هناك، سوف يكون هناك، لن يكون لوحده، سوف يقول أن أحداً ما معه هناك، سوف يصطنع أعذاراً لكي لا يراني، سوف يشعر بالزهو حين يراني وقد ارتسم الحب على محياي، وسوف يضحك مني، سوف يأخذني بالأحضان، لن يفهم لماذا أنا هنا فجأة.سوف أخبره الحقيقة، ولكن اية حقيقة؟
أمرر أصابعي فوق سبطانة البندقية.بندقية “عوزي”، تلك التي يسلمونها للفتيات وللجنود المستجدين، ولكن “جين-ديفيد” لا يحتاج لأن يعرف كل ذلك.أريد أن أثير فيه الإعجاب، أن أبعث فيه السعادة، أن أغويه.أريد أن أغلب تلك البنت التي إنتزعته مني.هي فرنسية خالصة لم تؤدي الخدمة العسكرية أبداً، وتلك نقاط لاتحسب لها.بطريقة ما فأني أتعكز على الجيش لكي يساعدني أن أسترد حبي الأول.
في اللحظة الراهنة نحن الأن فوق قمة تلة، ولكن اذا ما أخذنا حجم التلال من حولنا فاننا نتحدث عن جبال.منذ وقت قصير مضى رمى فلسطيني بنفسه فوق سائق حافلة تسير على هذا الخط (400)، دافعاً بها تهوى إلى السفح.النتيجة:16قتلى مع شعور فضيع بالخوف خيم على البلاد كلها.دفع الحادث شركة “أغيد” لكي تصرف مئات الالاف من الشيكلات كي تحصن الحافلات بشبكات لحماية السائقين.تم بناء نصب تذكاري لاولئك الذين قتلوا في الحادث.نحن نسير بسرعة فائقة لذلك ليس بإستطاعتي قراءة أسمائهم.
نهبط من التل ثم نعود إلى قمة تل آخر.من أي إتجاه تحاول أن تدخل إلى القدس فأن الطريق يبدو طويلاً ومرهقاًً .
عند مركز المدينة المخصص للمشاة، الساعة الخامسة، تبدو المقاهي مكتظة بالناس، ولكن متى لم تكن كذلك؟اتصلت منذ خمسة دقائق فرد جهاز التسجيل فأغلقت التلفون.بعد ساعتين وثلاثة محاولات رد أخيراً .
“هالو”،(لايزال بنبرته الإسرائيلية الثقيلة.)
“جين-ديفيد، هذه أنا التي تكلمك.”
“أهلاً ايتها الجندية.هل لديك أخبار من الجبهة؟”
“ليس هناك جبهة، أيها المدني الجاهل.وعلى أي حال، فأن من الواضح أن الأخبار السرية للغاية هي الآن عناوين في كل الصحف.شغل التفزيون لكي تعرف عماذا يتكلمون.”
“من أين تتحدثين؟”
“من مقهى في شارع “بن يهودا”.”
تنتابه عبرة، أنا متأكدة أنه يختنق، أخيراً يتوقف.
“فــــي القد….؟”يتلعثم أما من فرط الرعب أو المفاجأة، ليس بإمكاني أن أخمن أي منهما.
“القدس، أو أورشليم اذا مارغبت، وفي كلتا الحالتين ليس بعيداً عن المكان الذي تسكنه، اذا ما كنت أتذكر بشكل جيد.لدي إجازة حتى صباح الغد، ليس لدي وقت لكي أذهب إلى البيت، فقررت المجيء إلى هنا.”
“هل تريد…..؟”
“أن أراك، نعم وربما المبيت لديك”، أقول وبهمس أضيف،”ان كان لديك متسع من المكان…”
“سوف نجد حلاً، اذا ما بدا الأمر سيئاً، الحمام ليس مريحاً بالكامل.سوف أذهب لأشتري شيئا لإطعامك.تعالي خلال ساعة.اذا كنت تحملين الكثير من الأمتعة خذي الحالفة رقم 9وانزلي عند الموقف الثاني عند شارع “عزرا”.هناك طريق فرعي إلى اليسار، شارع برلين.أنا في رقم 14 الدور الأرضي، بخدمتك.”
“شكرا لك، أراك قريباً.”
أغمض عيني، منتشية، متوترة، مرعوبة، متعجلة، مشتاقة، قلقة.حمداً أن هناك الكثير من المفردات التي يمكن التعبير بها عن مشاعري في تلك اللحظة.
16أكتوبر، الساعة السادسة وعشر دقائق صباحاً.
في الحافلة الأولى المتوجهة إلى تل أبيب.
فتح لي الباب وبرقت عيناه، مفاجأة البزة العسكرية.فتح ذراعية وكأنه يستسلم بسعادة.قبلته.اردت أن أبقى بين ذراعيه لساعات.ضيفني قهوة.أخبرته عن الدورة، بالغت بالأمر، فان لم يكن يحبني، فعلى الأقل بإمكانه أن يعجب بي!تناولنا الأكل في شقته.شيء جدير بزوجين أن يفعلاه،أن يأكلا سوية.لم أتجرأ أن اقول ذلك.
بين الحين والآخر كان يلمحني بتلك النظرات الغريبة.مستعدة أن أمنحه عشرين عاماً من عمري لكي أعرف مالذي يفكر فيه عني، وما هي مشاعره.
تكلمنا، صمتنا.وضع شريط إبتهالات” فوغيه” التي يحبها.قلت له أنها تجعلني حزينة. في حين أن “موزارت” يبعث بي إحساس بالسلام ويدفعني للغناء.نحو منتصف الليل سألته أين سأنام.
تضاهر بأنه يفكر، ثم سألني،” أين تحبين أن تنامي.”
لو كان بإمكاني لخنقته وقضيت بقية حياتي في عذاب الضمير لقتله.كل ذلك لمجرد سرير.اذا كان ذلك ما اقصده.
حملت شجاعتي كلها بين يدي الأثنتين.
“هناك شيء يدعى حق الجندي بالنوم.سأنام في سريرك، واذا ما رغبت فأني سأترك لك مكاناً صغيراً .”
وهكذا إنطلقنا.نحو السرير.أطفال.(نلمع كالذهب)، مرتدين قمصاننا.مشدودين تماماً، حذرين الا نلمس أحدنا الآخر.
مال نحوي لكي يقول تصبحين على خير.قبل جبيني، أنفي، عيني.قبلت جبينه، أنفه، عينيه.عانقنا أحدنا الآخر بشدة طيلة الليل.نخبط وجيهنا، ناعسين، عفيفين، مثل طفلين يحبان أحدها الآخر سراً، كان ذلك أقوى من أية علاقة غرامية، أكثر جمالاً من كل لحظات حياتي اذا ما جمعت سوية.
نظرت إليه طويلاً قبل أن أغادر هذا الصباح.فتح عينيه وقال:”إعتني بنفسك.تعالي لرؤيتي.”
أغلقت الباب بهدؤ وفكرت لو أني مت غداً فلن أبالي.لقد حظيت بما أردته من الحياة.
****

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *