عندما كنت جندية
                                         فاليري زيناتي
                                               ترجمة                       
                                        صلاح النصراوي
ج2 ف4
                                       فرويد جاء لنجدتي

مررت بثلاث نقاط تفتيش مختلفة حيث دققوا في كل منهما بأوراقي.وضعوني في غرفة كبيرة أشبه بغرفة الإنتظار في عيادة طبيب باريسي من أن تكون مكتباً في الجيش.أفتح كتاباً، ولكن كل ما في ذهني حقيقة هو من يكون “تال رونين”، أم هو” رونين تال”؟ كلاهما أسم شخص، أهيأ نفسي للأسوء وللأفضل.
الأسوء:أن يبلغني بأني طردت من الدورة.كفاية يعني كفاية.درجة متدنية يتبعها بإجراء غير مفهوم يكفي لكي ينزلني إلى عمل في السكرتاريا، أو في المطبخ.
الأفضل:”رونان تال” هو المسؤول عن العمليات السرية ويريد أن يكلفني بمهمة خاصة.
ميلي الدائم للواقعية يجعلني أختار الأسوء.الأحلام التي أداعبها ليل نهار تهمس لي أن كل الأماني شرعية.
تفتح باب ويدخل رجل إلى الغرفة.متوسط الطول، نحيف، بشرته داكنة، شعره مصفف، في حوالي الأربعين من عمره، جذاب جداً (لن أصفه بأكثر من هذا، وأظن أني أوضحت بما فيه الكفاية بأني وجدت “رونين تال” ذلك لطيف الشكل.) هناك ملاحظة واحدة مثيرة للإهتمام وهي أنه في الدور السادس من المقر لا يرتدي بزته العسكرية.
يمد يده ويشير إلى مكتب أنيق.هناك مقعدان دواران من الجلد بمسندين أمام طاولة ويواجهان بعضهما.أنوار تل أبيب تتوهج من خلال شباك واسع.
“أهلاً وسهلاً، أنا العقيد “رونان تال”، أدير الوحدة النفسية للجيش.هل لديك أية فكرة لماذا أنت هنا؟”
“لدي فكرة ما.”
“إخبريني عن تلك النوبة-مالذي شعرت وفكرت به؟”
إستغرقت في وصف طويل، بادئة بالعقوبة التي فرضت علي:حرماني من الإجازة لأسبوعين.شعرت بالإختناق حين نطقت “تامار” بالكلمات التي وصلت إلى حد:لن تستقلي بعد الأن الحافلة رقم 370 في طريقك إلى البيت، لن تنامي بعد في غرفتك، والتي هي ليست سكناً جامعياً ً ولكن غرفة عادية تلصقين على جدرانها بوسترات وبطاقات بريدية لأماكن لم تزوريها ولكنك تتمني أن تفعلي ذلك يوماً ما، لن تأكلي بعد الآن في صحون عادية (مقارنة بمرجل غوليفر)،لن تذهبي للنادي مع أصدقائك، لن تذهبي إلى الشاطئ، لن تتحدثي إلى “راحيل” لساعات لكي تتابع كل منا حياة الأخرى،(علماً أن ذلك لن يحصل ولكنه مجرد أمل)، لن تذهبي لكي تقابلي “جين- ديفيد”.”
بعد أن لفظت باسم “جين-ديفيد” أشحت بنظري إلى الارض:يبدو أني قلت الكثير:ماعلاقة كل ذلك به؟لكنه يبدو مهتماً بكل شيء لأنه عاد ليسأل:”ماهو شعورك تجاه الجيش؟”
أتنهد.
“لا….بأس.”
“يبدو أنك مترددة.”
“لا، بل لأن الجواب يبدو معقداً.”
“لدي متسع كاف من الوقت.”
“ليس لدي.”
يرفع حاجبه بتعجب.
“علي أن أعود إلى القاعدة في غضون ساعتين.”أحاول أن أوضح بأن أذكره بأننا في الجيش ولسنا نحاول التعرف إلى بعضنا البعض في بار ما في إيرلندا.
يتجاهل ملاحظتي بإشارة من يده اليمنى، وكأنه يقول:”كفي عن ذلك، تلك هي لعبتي.”
يبدو مصمماً، أستمر.
“حسناً، سأتكلم بصراحة.أنا أشعر بأني في حالة جيدة، وأيضاً لست كذلك.أدرك بأن هذا ليس جواباً جيداً ولكنها الحقيقة المطلقة.أنا فخورة بأني أرتدي البزة لأنها تمثل التاريخ الذي دروسه لي، لأنها بزة الأبطال، لأني قضيت سنوات مراهقتي وأنا أحاول أن أتخيل مع صديقاتي أي نوع من الجنديات سنكون.أنا أدرك، مثلي مثل الآخرين، بأني حين أكون في الجيش فأني سأكون جزءاًً من هذا البلد.أنا سعيدة جداً كوني سأخدم بالخدمة السرية، أشعر بأني ذات فائدة، أنا سعيدة بالدروس التي أتلقاها.لكن في نفس الوقت فان النظام قاس جداً، مما يدفع بي إلى الإحباط.أدرك أن الإنضباط شيء أساسي، ولكني أظن أنهم لو سمحوا لنا بالمزيد من الوقت والحرية، لو لم نجبر على ترتيب أسرتنا مرة وثانية وثالثة، كدليل على الإنضباط، فأننا سنكون جنديات جيدات أيضاً، وكذلك أكثر سعادة بالحياة.”
ثم أضفت.”حسناً، لاعلم لي بالآخريات…ولكن بقدر تعلق الأمر بي فأني سأكون كذلك.”
العقيد الذي يرأس الوحدة النفسية بالجيش غرق في تفكير عميق بشأن ماقلته.
“ما معنى أن تكوني أمرأة بالنسبة لك؟” يسألني فجأة.
لا أرى رابطاً بين الأثنين، ولكني لا أتجرأ على السؤال.
اذا كانت غايته هي دفعي لأن أخلع ملابسي فقد ظل الطريق.تركني السؤال أضحك.
“أن تكوني أمرأة معناه أن تعيشي حياتك بكثافة أكثر من الرجل لأن لدينا تجارب طبيعية قوية أكثر منهم.إنها الرغبة بتغير العالم، وهو ما وتركنا على جانب واحد لآلاف عديدة من السنين.كما أننا أيضاً مكملين للرجال.”
بدا وكأنه أعجب بإجابتي.أستمر بإستجوابه المبتسر، قافزاً من موضوع إلى آخر، من والدي إلى ذوقي في الموسيقى، من مالذي يجعلني أضحك (بالطريقة التي يكون فيها الأطفال وكبار السن سذج وماكرين)، إلى مالذي يجعلني أبكي (يأس الآخرين، الشعور باللاجدوى، فقدان الحب، الكتب والأفلام التي تنتهي نهايات حزينة).من مالذي يخيفني (النار، الشعور بالضعف أمام الألم، العنف، الا أكون معشوقة من رجل أحبه)، إلى مالذي يثير إشمئزازي( الظلم، أي نوع من الظلم) من خصالي الحميدة (العناد، الإخلاص، قلة الصبر) إلى رذائلي (الإفراط باللإعتزاز بالنفس، نوع من حب الذات، ومرة ثانية قلة صبري)، من مالشيء الذي يمكن أن أموت من أجله (لا أظن أني مستعدة أن أموت في الثامنة عشر من عمري) إلى ما الشيء الذي يدفعني لأن أعيش (أحلامي، رغبتي بان تتحقق، كتب لم أقرأها بعد، كتب أريد أن أكتبها، مشاعري التي عشتها ومشاعر أرجو أن أعيشها، أوقات الغروب، حياتي كما أرغب ان أعيشها.)
كلي رغبة بأن أظل في هذا المكتب، لا احد أبدى مثل ذلك الإهتمام بي منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، لكن كل الأشياء الجميلة لابد أن يكون لها نهاية.
“حسناً، “فاليري”، ستعودين إلى ثكنتك وستكملين دورتك حتى النهاية.هناك ضابط طبيب نفسي في القاعدة، هي جيدة جداً، يمكنك الذهاب لرؤيتها لتبادل الحديث بين الحين والآخر اذا ما رغبتي بذلك.ذلك سيكون مفيداً لك لتتأقلمي مع أشياء قد تكون ثقيلة الوطأة عليك.أسمها “شلوميت درور”(هل هذا يعني شيئا ف”شلوميت” هي مؤنث “شالوم” والتي تعني سلام، كما أن “درور” تعني حرية.)
أنهض وأمد يدي:حتى لو كان أقدم مني لكن وجدت أن من السخف أن اؤدي التحية العسكرية لشخص يعرف الآن عني كل ماهو أساسي.
مصافحته قوية ولكن ودية.
“حظاً سعيدا”، يقول قبل أن يتردد قليلاً ويضيف، سترين أن الأمور ستتحسن، أنا متأكد من ذلك.”
أبتسم، أشعر بخفة، ها أنا قد نفضت عن كاهلي نصف طن من القلق في مكتبه ولا يبدو أنه قد تأثر بذلك.
في القاعدة، أسأل “تامار” إن كان بإستطاعتي أن أرى الملازم “شلوميت درور”.لا يتحرك لها جفن لكنها تقول أنها ستبلغني بأقرب وقت ممكن.أركز على جلسة أستمع فيها إلى سرب من طائرات “بلو سكاي” وهي تتدرب على القتال ضد سرب من طائرات “بلاك بيرد.”
ذلك المساء، ناولتني “تامار” استمارة ( 524ب): رقم 3810159 لديها موعد مع النقيب “شلوميت” الساعة 10:30 غداً صباحاً.
من المفروض أن نكون ساعتها نؤدي الواجب في المطبخ-هذا يعني أنني سأتخلص من بعضها.تلك بعض المكاسب التي حصلت عليها.
يقع مكتب “شلوميت درور” الصغير في بناية مسبقة التجهيز مميزة عن باقي البنايات في القاعدة بسبب الجيرانيوم الذي يتدلى من شبابيكها.وصلت مبكرة بحوالي دقيقتين.في تمام العاشرة والنصف تفتح أمرأة نحيفة، في حوالي الأربعين من عمرها، بشعر أشقر مجعد الباب.من منا كان أكثر صدمة.ربما هي.مرات عديدة شاهدتني أقرأ منذ اليوم الأول لوصولي.تشير إلي بيدها.خلال أكثر من شهرين من وجودي في الجيش هذه هي الشخص الثاني الذي يفعل ذلك لي.أجد ذلك مريحاً جداً في هذا العالم الذي يكون فيه رفع اليد إلى الصدغ هو النظام السائد.
“أهلاً، أنا “شلوميت درور”.”
“فاليري زيناتي”، تقول الورقة إننا يجب أن نلتقي.”
تريني رسوماً غريبة تحتوي على خطوط سوداء عريضة عديدة تكون شكلاً على أن أفسره.بعد ذلك أقول لها مالذي آتى بي إلى هنا، تلك النوبة التي ليس هناك من هو على إستعداد لكي يسميها.تفتح إضبارة وتقول لي أنها أعراض شيئ يسمى ب (ف.ش.س) أي ما معناه فتاة، شابة، ساخنة.
أفكر بالأسم ملياً ومن ثم أقول بشيء من السخط” أنه أسم ينطوي على مهانة.”
توافقني الرأي لكنها أبدت حرصاً على أن تشرح لي الأمر.
“إنه مزيج من شلل تشنجي، وفي حالتك صداع نصفي عنيف، وهي أعراض تصيب الفتيات اكثر من الصبيان.”
أشعر برضاً معقول من شرحها.
“تعرفين”، تقول بلطف،”أحيانا يقول جسدنا أشياء لا يمكننا أن نسميها.”
ما أن سمعت ذلك حتى بدأت أرتجف، ثم أنهمرت بالبكاء.
الدورة على وشك الإنتهاء.بعد أسبوعين من النوبة دعونا إلى أمسية ثقافية، إلى مسرحية تجريبية، قام بتمثيل أدوارها الجنود، لم أفهمها مطلقاً .الجيش هو في الواقع النسخة الخاكية من المجتمع:هناك جنود طباخون، جنود سائقون، جنود مغنون، جنود صحفيون، جنود مشغلون للهاتف، وحتى أيضاً جنود معلمين للإبتدائية يرسلون إلى مدارس في “المدن النامية.”
مؤخراً إكتشفنا أن هناك ثلاثة مواقع محتملة لإرسالنا نهاية الدورة.قاعدتان في الشمال والجنوب تعرفان بأنهما قواعد “مغلقة”، (يعني أن الجنود يقضون أسبوعين على التوالي ثم يأخذون خمسة أيام إجازة) وقاعدة واحدة بالقرب من القدس تسمى “مفتوحة” وذلك يعني أن بإستطاعتك الخروج طالما أنت لست بواجب الحراسة، أو أي نوع آخر من الواجب.جعلوني أفهم بأن من الممكن أن يرسلوني إلى الجنوب، طالما أن والدي يسكنان هناك.أهتز من وقع الفكرة، لألف سبب وسبب، وهي حريتي، و”جين-ديفيد”.
لأول مرة في حياتي أقرر أن أجري حساباتي بعقل بارد وأن ألجأ إلى “شلوميت درور” التي أراها مرتان بالأسبوع هرباً من الروتين الجهنمي، ولأن من المفيد إلي أن أتكلم إلى شخص يصغي حقًاًً.كما أني موقنة بأن كل شيء يقال عندها يتم تسجيله بدقة وينقل إلى السلطات اذا ما استدعت الحاجة.فهم لا يطيقون خطر وجود محبطين، أو عصابين أو أي شخص يمكن أن يحمل أعراضاً هستيرية.لذلك فأني أدبج حديثي عادة بعبارات مثل” اذا ماكنت في قاعدة مغلقة، كنت سأختنق”.”أذا ماكنت في قاعدة مفتوحة لما كنت عانيت هكذا.”
أشعر بخجل من المرأة التي تمنحني كل ذلك التعضيد الدائم، التي تعتقد أنه أمر حسن الا يشبه الأنسان شخصاً آخر أن ليس هناك ما يعيب الشخص اذا ما كان يحلق إلى السماء أو إلى الغيوم أو أنه يريد أن يقرأ بدلاً من أن يبتلع طعاماً دون شهية.لكني أشعر وكأن نجاتي تعتمد على هذه الوظيفة التعيسة، كما أعتقد جازمة بأن الشخص الوحيد القادر على أن يخلصني ليست من النوع الذي يسهل خداعه.
حين كنت في البيت المرة الماضية كانت هناك رسالة مرسلة من باريس.”جين-ديفيد” كتب ليقول أنه في فرنسا لقضاء أعياد الكرسماس ورأس السنة الميلادية وأنه سيذهب للتزحلق على الثلج.يقول بشيء يثير الغرابة “دائماً ما أفكر بجندية صغيرة تعتقد أنها ضعيفة، لكني أرى أنها قوية.” ينهي الرسالة: “إبتسامة أخرى”. ج.د.
بعد قرائتي لها مرات عديدة، أحفظ الرسالة عن ظهر قلب، ومع ذلك أقرأها مئات المرات بينما أستمع إلى الأغاني التي يحبها “جين-ديفيد”.
مثلما أفعل في مثل هذا الوقت من كل عام، أشعر بحنين إلى عروض المحلات في الكرسماس.كيف لنا أن نعيش حياة مختلفة فوق كوكب واحد؟نحتفل في مكان ولكن لا نفعل ذلك في مكان آخر.شاهدت رأس السنة بينما كنت اؤدي واجب الحراسة الليلية أشرب قهوة كريهة بكوب كارتوني.”ايميك”، الوحيدة التي تدخن في مجموعتنا، كانت رفقيتي بنوبة الحراسة، صنعت العاباً نارية بأن رمت سيكارتها على جذع شجرة، وتمنت كل منا للاخرى سنة طيبة.
أركز كل طاقاتي الذهنية في الدروس التي أصبحت أكثر كثافة، في حين اقضي الوقت المتبقي وحدي.مرة أخرى البنات ينظرن إلي بريبة.منذ النوبة التي أصابتني لم يفهموني إطلاقاًً من الواضح ان الجيش وقوانينه هي ما يهمهم، يرضعون من منطق الواجب منذ أن كانوا في أحضان والديهم، (والديهم دون إستثناء، أما ضباط دائمون، أو إحتياط).والدي أمضى خدمته بالجيش الفرنسي وهو يحرس دار سينما والتي ساهمت مساهمة كبيرة في ثقافته السينمائية.لايمكن هزيمته بشأن أي فلم ظهر خلال الفترة بين 1960و1962، لكن حين يكلمني عن الجيش الفرنسي (عالم ذكوري من النكات القبيحة)، فأنني لاجد أية علاقة بينه وبين التجربة التي أمر بها.على الناحية الآخرى، فأمي لم تلبس البزة أو تلمس سلاحاً ابداً، وهو شيء طبيعي في أي مكان آخر في العالم.
11يناير، الساعة 11مساءً.
أدينا يمين الخدمة السرية اليوم.أقيم الإحتفال داخل القاعدة-بالقرب من المتحف الصغير الذي أقيم لتخليد “يوناتان ناتنياهو”، بطل وحدة النخبة، الذي مات في عملية “عنتيبة”.العلاقة بين المكانين شيء يثير الإعجاب.كانت أمي هناك، تبدو فخورة، مع “يوليا”، “رافي”، “إيلان” و”فريدي” (الذي لم أكن قد قابلته منذ إطلاق سراحه).يبدو أنه فقد شيء من وزنه، لكن السجن لم ينجح في إطفاء البريق الذي في عينيه، أو تغير صوته.غنا لي أغنية من “ايريك اينشتاين” مليئة بالأمل وحب الحياة.كنت على وشك أن أبكي، كنت بغاية السعادة.كان شيئاً رائعاً أن أراهم مرة أخرى، من خلالهم رأيت ذاتي التي أعرفها،(سعيدة ومحبوبة)، في هذا المكان الذي شعرت بأني سأقضيه وحيدة للأبد.بالنسبة للدورة التي كنت قد منحت نفسي رفاهية أن تكون الأولى التي التحقت بها فأنهم منحوني شعارها ذي اللونيين الأخضر والأبيض، ومن المهم، المهم أنهم عينوني في القاعدة القريبة من القدس، شكرًا لك يا “شلوميت”.
****

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *