عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج2 ف3
خوف لا يبوح بإسمه
أمضيت عطلة نهاية الأسبوع بين قاعة الدراسة وغرفة الحراسة وكابينة الهاتف.حين عادت البنات وجدنني مرهقة جداًً.ولكني إجتزت الإمتحان، أنا متأكدة من ذلك، ووجه “تامار” يؤكد ذلك صباح هذا الأثنين.:تناولني الورقة مع إيماءة من رأسها.
“92، ليست بالنتيجة السيئة.ولكن ستكون أفضل لو عدتي إلى درجاتك القديمة.”
“رومي” تبرطم، غير مقتنعة.”بالكاد، خاصة وأنها عملت ليومين على ذلك.”
هناك شيء من الشعور بالغلبة في لهجتها، مالذي تتوقعه؟هل كانت تتوقع مني أن أفشل؟كان بودي أن أسألها، ولكن ذلك سيكون مجازفة، لا يمكنك أن تتحاذق مع من هو أقدم منك، ذلك عيب، لانه يعني الا وجود للمصارحة وللعلاقات.علي أن أبلع أسئلتي وأن أنظر للمستقبل.هناك رقم واحد، 100، علي أن أحققه مهما كان الأمر، في كل مرة بدءاً من الأن.أغرق نفسي بجنون بدراسة مقارنة بين الطائرتين المقاتلتين “اف-5” و”اف-1“.
كانت وجبة العشاء مكونة من أفخاذ الدجاج وهي أكثر الوجبات رفاهية تقدم بالجيش-لكني لم أكن جائعة.الآن نعود إلى القاعات، وأنا أشعر بسخونة شديدة.أسرع إلى مقعدي، أحاول أن أسحب نفساً قوياً ولكني أشعر بأن الأمر لايجدي.الدم يتدفق إلى رأسي ولا يعود إلى أسفل.أشعر بالإختناق.أخلع نظارتي وأحاول أن أقاتل هذا الشيء المجهول، غير أن الأمر يزداد سوءاًً .أريد أن أطلب المساعدة، وجهي مصاب بالشلل، لا يمكنني أن أحرك شفاهي، أشعر بوخزات الإبر في وجهي، أسمع احداهن تقول، “أنظروا، “فاليري” لا تبدو في حالة جيدة.”
“فاليري، “فاليري”، هل بإمكانك أن تتكلمي؟”
لا، لا أستطيع الكلام، أقول لهم بعيني أني مرعوبة، أني خائفة بأني سأموت في غضون الدقائق القادمة، وعليهم إنقاذي.
احداهن تركض إلى جانبي، “إسرعن نادين على “تامار” و”رومي”.
أتوقف عن الحركة، خوفاً من أن تشتد تلك الملزمة التي تحطم رأسي وقلبي.تظهر كل من “تامار” و”رومي” أمامي.تحاولان مساعدتي بأن أخطو بعض الخطوات، لكني مشلولة بلا حراك.ما يقلقني أكثر:ذلك الرعب الذي ارتسم على وجه “رومي” والجدية التي على وجه “تامار”.
أوضع على سدية.مستوصف.ممرضة بصوت خفيض تقيس لي ضغط الدم، “أين تشعرين بالألم؟”
أشير إلى رأسي، وأحاول أن أنطق بضع كلمات.
“أشعر بأني معصورة.كأني عبرت المحيط في زورق تضرب به الأمواج.”
تبقى ساكنة:تريد تفاصيل دقيقة، شيئ واضح.
“لكن مالذي حدث بالضبط؟”
“شعرت بسخونة جسمي…”
أسقط ميتة.كل شيء يبدأ من جديد، الألم يوقظ بعض أجزاء جسمي ثم يرتفع إلى قمة رأسي، ويزداد في كل لحظة ويمليء جمجمتي التي تكاد تنفجر.أنا قنبلة.أبكي من غير أية دموع.أمسك برأسي بين يدي وأنوح، أنه يعود، أنه يعود.لا، أرجوك أعملي شيئاً ما، ساعديني!لا، لا.انه مؤلم، أنه مؤلم جداً.
أشعر بالرعب، والممرضة أكثر رعباً مني.
“افي”، “افي” تعال إلى هنا بسرعة.”
يظهر جندي، وينظر إلى كلينا ليحاول أن يتبين من هي الأكثر رعباً من الأخرى، ويقرر بحصافة أنها أنا، فيضغط على يدي لكي يطمئنني، بينما يستخدم يده الاخرى في ضرب رقم على الهاتف.
“إسعاف، بسرعة.نحتاج لأخذ جندي إلى المستشفى”.
الجندي هو أنا، وأنا أتألم مثلما لم أتألم من قبل، وأكتشف للغرابة أن بإمكانك أن تعاني من ألام مبرحة، ومع ذلك يمكنك أن تكون صافي الذهن.ترى كل شيء، تسمع كل شيء، ولذلك تخاف.
تنطلق الإسعاف بسرعة خاطفة، وصوت الصفارة يشق طبلات أذني.أذوي من الألم، وأبكي وأموء.مالذي حدث لي؟هل سأموت دون أن أرى الناس الذين أحبهم.
مستشفى “ياشيلوف”.تراجع الألم إلى مخبأه ثانية.أخذاً كل قوتي معه.أبحث عنه، أراقبه.عدم وجوده هنا يقلقني.أين سيظهر في المرة القادمة؟وإلى أي درجة من عدم التحمل سيمضي بي.
يقيسون ضغط الدم ثانية.يعملون رسماً للقلب ويأخذون عينة من الدم.يتحدثون إلي برفق، كأنما يتحدثون إلى طفلة، مرهقة جداً لكي أفهم.يعطوني قرصاً ويضعوني في غرفة مجاورة مع رجل عجوز، بسحنة سمراء وعيون شاحبة.لا أدري لماذا ولكني أشعر بألم فضيع لدى نظري إليه.تلك كانت آخر ما خطر بعقلي قبل أن أغط في سبات عميق.
حين أستيقظ تقول لي ممرضة بأني أحسن حالاً الآن، وأني سأتمكن من العودة إلى القاعدة اليوم.الرجل الذي في الجوار لم يعد موجوداً هناك.أسأل عن أخباره ولكنها لا تجيب.أحاول أن أعرف مالذي جرى له ولكنها لا زلت لا تتكلم، أو بالكاد.
“ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب.”
لابد أن هناك من أدى القسم على الكتمان أيضاً قبل سنين.
يعطونني أوراق الخروج مع قرصين من الدواء علي أن أخذهما في حالة صدمة أخرى.أقلب بالغلاف:”فاليوم”.كنت أعتقد أنه من المخدرات، ولم أظن أن مستشفى يمكن أن توصفه لك.
الممرضة-الجندية من القاعدة، تنتظرني.تنظر إلي وكأنها مرعوبة مني.تتخلص مني:ما فائدة أن تحاول أن تجعل الآخرين يلملمون شتاتهم اذا كنت أنت متخاذلاً؟
“لدى سعار”، أقول لها (لكي أمنحها سبباً وجيها لكي ترتجف).أعطوني مهدء ولكن مفعوله سيختفي بعد ربع ساعة.”
عيناها تتسعان في تعبير عن رعب تام.تصر بأن تجلس في مقدمة سيارة الإسعاف إلى جانب السائق، تاركة إياي في الخلف.ذلك بالضبط ما أريده، أريد أن أكون لوحدي لكي أفكر، ولكن مهما حاولت فأن الآلية الموجودة في عقلي معطلة بشكل واضح.
“رونيت”، الأسم الذي ناداها به الحارس عندما إجتزنا بوابة القاعدة-تأخذني بسرعة إلى غرفتي، وتهرب، وهي تتمتم” ستأتي مدربتك لتراكي.حاولي أن ترتاحي.”
أنتظر بلهفة قدوم “تامار”.لعلها تستطيع أن توضح لي بعض الأمور.غير أن “رومي” هي التي تأتي سائرة على رؤس أصابعها، وتبدو غريبة الأطوار.تشرح لي، بكل ما تظهره من تردد، بأنها لا تعرف على وجه التحديد مالذي حدث لي.
“ربما هو نوع من الصدمة العصبية لأنك كنت متوترة ومرهقة.بالطبع بإمكانك أن ترتاحي هنا في القاعدة اليوم، وسنرى أن كنت ستعودين للدروس غداًً …”
“أظن بأن أصحاب السلطة لن يمدوا بعطفهم علي لكي يمنحوني إجازة حتى أتمكن من الذهاب إلى البيت لعدة أيام.”
قلت ذلك مع إبتسامة صغيرة.أخمن بأن حالتي تسمح لي بأن أقول ما أشاء دون خشية.بإمكاني أن اقول لـ”رومي” الأن بأنها قبيحة، متملقة وغبية وبأن من العار أنها تحمل أسم شخص عرفته يوماً وأحببته، تنظر إلي بعطف، وتقول لي بأن على أن ارتاح.
الحرية هي نوع من الجنون تعني بأن بإمكانك أن تقول بالضبط ما تفكر به دون أية مجازفة.
“ستأتي البنات لرؤيتك قريباً.كن قلقات بشأنك”، تقول ذلك بنبرة تأنيب في صوتها:لايمكنها أن تخفي ذلك الشعور ضدي.بقدر ما يتعلق الأمر بها، فأنا مجرد بنت تحاول أن تلفت الإنتباه، ولكي أوفر عن نفسي المزيد، أغمض عيني.في كل كتاب قرأته، وفي كل فلم شاهدته، ذلك ما يفعله الناس حين يكونون مرضى، يريدون أن يتركوا لوحدهم، لأنهم لا يتحملون تعابير التعاطف من الناس الأصحاء الذين حولهم.يبدو أن “رومي” ذهبت إلى السينما في حياتها ( والتي أعتقد أنها كانت متوسطة الحال) لأنها انسحبت مباشرة، أشعر بإرتياح أن حديثنا أنتهى هناك.
جاءت البنات إلى الغرفة، واحدة تلو الأخرى.كن في منتهى الجدية.
“كنا مرعوبات جداً” قالت “هيدي”.
“توافقها “نوا”، “نعم، كنت ، كنت …..”
“شاحبة” تكمل “راحيل، وهي تحدق بي بشكل غريب.
“مالذي قالوه لك في المستشفى؟” تسأل “ايميك”، بشكل عملي.
“لا شيء.”
أبدأ بالشعور بالذنب.كيف يمكن لزلزال الا يكون شيئاً؟اذا لم يكن بإستطاعتك أن تجد اسماًً ً طبياً لما مررت به، ففي الواقع كأن شيئا لم يحدث.
“نوا” تنظر إلى الآخريات بعجل.
“حان وقت العشاء”، تقول، “هل تريدين أن نأتي لك بشيء؟”
“لا شكراً، لست بجائعة.”
الشيء الوحيد الذي يمكنني عمله، وأريد أن أعمله، هو أن أنام، أنام وأتوقف عن الوجود.ان أتوقف عن رؤية ذلك الخوف الذي أصحبت فجأة أراه فيهم جميعاً .
لم اسمع “تامار” تدخل الغرفة، تركت رسالة على بطانيتي:
خذي قسطاً من الراحة، غداً يوم آخر.
قررت أن أعود إلى دروسي بسرعة.اذا ما خسرت يوماً آخر فأني سوف أسجل رقماً قياساًً ً في الدورة بعدم الدقة، حين أحصل على درجة تحت الخمسين، وذلك سيجعلني مريضة طيلة حياتي.
بدأنا الدروس بالإستماع إلى موجات الراديو من خلال سماعات كبيرة فوق رؤسنا.هناك شريط علينا أن نفك رموزه، نكتب فوق قسائم كتب في أعلاها “سري للغاية”.الشريط حول طيارين أردنيين يقومون بالتدريب والحوار الدائر بديع.
صياد-1، انطلق.
حسناً.
صياد-2، انطلق.
حسناً.
هناك أربعة منهم، الجميع أقلعوا.
يقومون بتغير التردد.
صياد-1 إلى صياد-2،3، 4، هل تسمعونني؟
بكل وضوح.
حسناً لنرتفع إلى خمسة آلاف قدم.
خمسة آلاف قدم، حسناً.
يقومون بتنظيم أنفسهم في تشكيل قتالي.قائد السرب يدير العملية بكل إقتدار المخرج المسرحي، يضع كل طائرة في مكانها كأنها فوق رقعة شطرنج.صياد-3يلعب دور الهدف.صياد-2عليه أن يقودها إلى إرتفاع سبعة آلاف قدم في حين أن صياد-4 يقوم بحركة لولبية كي يأخذ موضعاً في خط النيران.
صياد-1 إلى صياد-4، هل ترى الهدف.
ثعلب-1.
جيد، إرمي.
ينتهي التمرين.القتال الجوي ينتهي عادة خلال دقيقتين.صياد-4يغني بالعربية، من الواضح أنه سعيد بنفسه.
جميعنا نبتسم.ما تعلمناه من التكتيكات المستخدمة في القتال يعني ان بإمكاننا أن نرى الطائرات.شيء أشبه بالسحر.شيء مثير للنشوة أن تكون في موضع حلم كثيرون أن يكونوا فيه يوماً ما:ذبابة على الحائط بإمكانها أن ترى وأن تسمع كل شيء دون أن يراها أحد.قريباً، خلال أسابيع قليلة، سوف نمضي كل أيامنا مع صياد-1وأصدقائه.حتى الآن أكاد لا أصدق أنهم “أعداؤنا.”
نهاية اليوم، تناولني “تامار” ورقة إستدعاء إلى المقر العام في اليوم التالي.علي اللقاء هناك مع ضابط، أسمه “رونين تال”، عند الساعة الخامسة والنصف مساءاً.المقر العام في تل أبيب ولدي أربع ساعات إجازة.مهما تكن نتائج هذا الإجتماع الذي يقلقني، الا أن لدي إجازة ممتعة.
****