عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف9
                                 حيث لا يموت أحد من الضجر
أشعر أنني أخذت بالتعود على حافلات شركة “أيغيد” الحمراء التي تقطع بخطوطها الطرق عبر البلاد بطولها وعرضها.أصبح لدي روتيني الخاص، أطلب مقعداً إلى جوار الشباك، إن أمكن، أضع سماعة الموسيقى في أذني، أنظر إلى الريف، أخضر قياساً بالنقب.إنه الريف الذي يغنون له في الأغاني التي تتحدث عن إسرائيل الجميلة، أرض الطلائع الأجداد:عمال أقوياء، أصحاء ذوي نظرات مملوئة بالثقة والعزيمة، لكن بملابس رثة (لكنهم لايهتمون بتوافه الأمور، التي لا يأخذ بالهم منها الآخرون).ما يميز شخصياتهم، أنهم يحبون الغناء الجماعي،في المساءات، حول المواقد في المخيمات، غالباً أغنيات ثورية روسية تم ترجمتها إلى العبرية.
في كل مرة كنت أغطس في مقعدي، أسند ركبتي على المقعد الأمامي، وأغمض عيني.
يقولون أن السفر بالسيارة يدفع الأطفال إلى النوم ….وكذلك  الجنود.
أصحو وسط الصحراء، كما المرة الأخيرة.أدرك من خلال مصنع إلى اليسار بأني سأكون في بئر سبع في غضون ربع ساعة.كأن تلك البناية المتهالكة القاتمة هبطت هناك لكي تكون علامة طريق للمسافرين.كم من المرات خلال السنتين القادمتين سيقول لي ذلك المصنع بأني أعود الى بيتي؟
أشعر بالراحة، أو بالأحرى كأني خارج نفسي،غريبة.نصفي في القاعدة ونصفي الآخر في البيت.وان القسمين لن يعودا واحداً مرة ثانية، أنا متأكدة من ذلك.لاشيء بإمكانه أن يوحد بين هذين العالمين وأن علي أن أرتب حالي كي أتعايش مع حياة مزدوجة… دون أن أصاب بالشيزوفرينيا.
مرة قرأت بأن المساجين، بعد أن يقضوا عقوبتهم لا يستطيعون أن يتمتعوا بحريتهم المستعادة.لا يعرفون مالذي يفعلون بها، يرتعدون منها، يغرقون فيها ثم يصابون بالكأبة.ذلك حين يرجعون إلى إرتكاب الجريمة ويعودون للسجن.
أختي “سونيا” ليست في البيت، وأنا بدأت افتقدها.والدي يقيمون عرضاً لإظهار كم أنهم سعداء بعودتي بعد أسبوعين من الغياب، لكنهم يبدون غريبي الأطوار نوعاً ما، تائهين.ينظرون إلي وكأني قد كبرت ثلاثون عاماً بين عشية وضحاها.هل تغيرت إلى ذلك الحد؟هل هي أنا، من داخلي، أم أن الأمر يتعلق بسحر البزة العسكرية؟
أنت لا تتكلم مع جندي بنفس الطريقة التي تتكلم بها مع مراهق.لا أحد يأمرهم بأن يرتبوا غرفهم، أو أن يخفضوا صوت الموسيقى، أو يتوقفوا عن الكلام بالتلفون.بعد الآن لن أسمع تلك الكلمات التي رافقت حياتي مع والدي حتى أسابيع قليلة ماضية.
أشعر بأنه تغير قاسي.
الجندية إنسانة ناضجة لديها مسؤوليات أكثر من الوالدين.فهي تحمل على عاتقها مسؤوليات الأمن القومي،ذلك ماقالته الرقيبة “كينيريت” لنا ذات ليلة.
أتصل ب”راحيل” و”يوليا”، لا أطيق الإنتظار لرؤيتهما والحديث اليهما، حتى لو كانتا لاتفهمان شيئاً.
أراهما في غاية الحماس.العد العكسي لهما قد بدأ:تم إستدعائهما للخدمة يوم 17أكتوبر.من المحتمل جداً أن تكونا في نفس القاعدة مثل الآخريات وحتى في نفس السرية.أية آلية غامضة للحظ تلك التي في الجيش، والتي قررت إرسالي للخدمة لوحدي في حين أنها جعلت أعز صديقاتي يذهبن سوية؟
اليوم، ربما بسبب أن يومهن المصيري قد أزف، فأنهن يبدين إهتماماً أكثر بكل شيء أقوله.ولتعديل التوازن في علاقاتنا فقد جاء دوري لكي أكون غير مبالية، خبيرة، وأيضاً متكلفة رغماً عني.أنا أسبقهم قليلاً في عالم الجيش.مثلما كنت العام الماضي الأسبق في أن أمضي ليلة مع شاب، ولأشهر بقيت أمتلك خبرة لم يمكن بوسعهن أن تدركاها.
تغادر “يوليا” لأنها تريد أن تأخذ حماماً عميقاً بالفقاعات.تلك هي نقطة ضعفها الكبرى.قبل سنتين قرر كلانا أن نكتب مائة حلم أو رغبة أو خطة نبغي أن نحققها في حياتنا.عندما أتذكر ذلك أضحك.مائة، ياله من رقم طفولي.واحد من أحلام “يوليا” كان أن تأخذ حماماً بالشمبانيا.من الجائز أنها أخذت الفكرة من مقالة حول “مادونا” أو “اليزابث تايلر”، فهي تعتاش على تلك الوجبات التي توفرها لها مجلات المشاهير.
أنا قلت أني أريد أن ألتقي برجل حياتي وأن يكون لنا طفلين.أريد أن أكتب كتاباً، أسافر إلى إيطاليا واسبانيا ونيويورك وكذلك إلى “أوسشيفتز”.اما رغبتي الخامسة والعشرين فكانت ان ابقى صديقة “يوليا” لعشرين عاماً.
خمسة وعشرون، تلك هي الفترة التي بإستطاعتنا أن نتخليها، وحتى ذلك، فليس بالأمر اليسير.
قررنا أن نؤشر على كل حلم كلما تحقق واحد منها، وأن نسجل إحصائية:عدد الأحلام التي تتحق في كل عام نؤشرها على لوحة حتى يتسنى لنا بلمحة أن نعرف السنوات الجيدة من السنوات الرديئة، ونسبة تحقق الأحلام لكل منا خلال خمس سنوات، خمسة عشر، وخمسة وعشرين.
صمت “راحيل” يمزقني ويأخذني بعيداً عن أحلام اليقظة.هناك شيء ما.
“هل أنت على ما يرام؟”
“لابأس” ترد.أوتار حنجرتها مشدودة.
“حسناً، ذلك يعني أنك لست كذلك”، أقول بلطف، وهي لاترد.
“ماذا هناك؟هل أنت خائفة من الجيش؟لا تقلقي.في اللحظة التي ستكونين فيها هناك، لن يكون هناك لديك وقت حتى لكي تفكري.ستشعرين بنفسك كأنك روبوت، ليس بإمكانك أن تفعلي أي شيء بخصوص ذلك، لكنه ليس بالأمر السيء.ثم قد تكونين مع “يوليا”…”
تعض شفتيها وتشيح بنظرتها إلى الجهة الأخرى.أشعر بأني لم أنجح.أحياناً أرمي بنفسي في أحزان الآخرين وأريد أن اعزيهم بأسرع ما يمكني، ربما أسرع من اللازم.أعانقها.
“راحيل”، مالأمر؟”
تظل صامتة بعناد.أعرف أنها تريد أن تتكلم، والا كان بإمكانها أن تجد طريقة لكي تخبأ مشاعرها.”راحيلنا”، إنها سيدة الاخفاء.لكني أحبها أكثر حين تكشف عن ضعفها.
لحظة إيحاء خاطفة.
“إنه “فريدي”؟”
يجيئني الجواب مخنوقاً، “نعم”.
يا للعنة إنه يهجرها لكي يعود إلى “أنبار” زوجته السابقة التي يتحدث عنها وفي نبرات صوته الكثير من الإعجاب….التي يتحدث عنها كثيراً.نقطة.
أن يفعل ذلك لـ”راحيل” وهي تتهيأ لخدمتها العسكرية (صوت ما لئيم يهمس في أذني:وما المشكلة؟ لقد رماك “جين-ديفيد” في منتصف إمتحانات البكلوريا، لكنك تمكنت من إجتيازها، ألم تفعلي ذلك؟”لا ليس الأمر كذلك،لا أريد التفكير بأنهم جميعاً أوغاد.”جين-ديفيد” ليس وغداً، فأنا لازلت أحبه.كما أن “فريدي” صديقي).
“متى؟ أسئلها، مباشرة، لكي أجعلها تثق بي أخيراً.”
“غداً مساءً.
“غداً مساءً؟” (لا أفهم، أنه يعلمها بموعد فراقهما.شيء مقرف.لم أكن أعلم أنه…يحسب حساباته هكذا.)
“نعم غداً في المساء.إنه لا يرغب بأن تمضي الأمور هكذا.ليس بوسعه الإستمرار بهذه الطريقة.الشرطة العسكرية تبحث عنه بجد هذه المرة.إنه يختبئ عند “رافي” منذ أسبوعين، والدي رفضا أن يستقبلاه عندنا.لذلك قرر أن يسلم نفسه، أن يمضي العقوبة وأن يعود للجيش.
لم أجرأ أن أقول لها أنه شيء مختلف تماماً.على أي حال تنفجر بالبكاء وأخذها بين ذراعي.أقول لها أنني هنا، أننا كلنا هنا، وبأننا جميعاً نحبها، وأن ذلك كان سيحدث آجلاً أم عاجلاً، وأنها كانت تعرف منذ شهر بأنه يوماً ما سيقدم على التخلي عن حريته المسروقة.وبعده أحاول طمأنتها بأنه لن يعاني-وأنه اذا ما أخذنا الأمور على علاتها- فلا أري أي فرق بين قاعدة عسكرية عادية وبين السجن.لابد أن يكون هناك أشجار “يوكالبتوس” أيضاًَ، والواجب في  المراحيض، المطبخ، الخيام، وأكياس النوم.أسكرها بكلمات التعزية، أشعر بأني أقرب إليها حين أدرك أنها تحتاجني.
نبقى هناك فوق العشب لفترة طويلة، نتكلم بطريقة لم أظن أنها ممكنة.
ونحن نودع بعضنا البعض، أسأل، “هل لديكم أية خطط لهذا المساء؟”
“سنذهب لمشاهدة فلم “البرتقالة الآلية” لـ”ستانلي كيبرك”، “إيلان” يقول أنه فلم نخبة.
“أي ساعة ستغادرون؟”
“كوني مستعدة عند الساعة التاسعة؟”
“حسناً، أحبك، أنت تعرفين ذلك؟”
أقبلها، وأعود لكي أتناول أول وجبة تستحق هذه التسمية.
 العودة إلى أصدقائي تجعلني في مزاج جيد.”فريدي” ثرثار جداً، أهمس في أذنه ان “راحيل” أخبرتني عن الغد.سنكون هناك من أجلك ومن أجلها.
تعبير جدي يلتمع في عينيه ويعصر يدي.يبدو أن الجميع يتكلمون أكثر مما هو معتاد، ينهمكون في أحاديث عن أشياء غير محددة.ربما يحاولون تفادي التفكير بالمحتوم، من المؤكد أنهم يحاولون تفادي الإشارة إلى ما سيحدث غداً.في السينما أجلس بين “إيلان” و”راحيل” وهي تجلس إلى جوار “فريدي”.الإثنان صامتان ولكن ملتحمان ببعضهما أكثر من المعتاد.هي تبدو ضئيلة إلى جانب جسمه الضخم.
فجأة أشعر بالحزن:بالأقل هما يحبان بعضهما بعضاً.سينفصلان لفترة وجيزة.
أستدير نحو “إيلان” الذي يلعب دور الأخ الأكبر لنا البنات، خاصة في الأوقات الصعبة.
“كم طول الفلم؟”
“ساعتان وسبعة عشر دقيقة بالتمام.”عيناه تلمعان.كان ينتظر رؤية “البرتقالة الآلية” منذ وقت طويل، لكنه ممنوع لمن هم دون السادسة عشر، كما أنه لايعرض بشكل دائم.
أتثائب.الإعلانات لاتتوقف.تطفئ الأضواء.تسري رجفة في القاعة المملوئة بأشخاص معدل أعمارهم بالعشرين.البعض يطلب ممن يجلس أمامه أن يخفض رأسه.آخرون يطلبون بنفاذ صبر أن يصمتوا.أشعر بتوتر غير طبيعي.لم يسبق لي أن شاهدت أي من أفلام “ستانلي كيبريك” فلمي المفضل هو “الطفل” لـ”شارلي شابلن” وكذلك فلمه “الدكتاتور العظيم”.
هناك مشهد قريب لشخص ما أعور محاطة بأهداب صناعية، ويلبس قبعة كبيرة.تدور الكاميرا وتكشف رجلين متشابهين ونساء عاريات مستخدمات كطاولات.دمى منفوخة.تبدأ شكوكي بذوق “إيلان”.
الرجال الثلاثة في مرآب السيارات، يوبخان رجلاً مسناً بعنف شديد.”إيلان” يميل إلي ويقول.”شيء عظيم، أنهم يتكلمون بالروسية الدارجة.”
لا أكترث اطلاقا للروسية وأشعر، حقاً، حقاً، بالإنزعاج.ليس هذا تماما ما كنت أتوقعه من الإجازة، عنف، حتى لو كان ذلك يحدث بعيداً.
أكتاف “إيلان” قريبة جداً، جداً.لقد استيقظت الساعة الثالثة والخامسة والأربعين هذا الصباح، وليس لدي مشكلة أن أغمض عيني لو وضعت رأسي في مكان ما.
نصف نائمة أسمع “أغني في المطر” على خلفية صراخ، لكنه ليس “جين كيلي” من يغني.أنا أشاهد كابوساً،لابد أني مرهقة جداً.
هناك أمسيات لاتحتاج فيها إلى أفلام النخبة.
أستيقظ في الليل لكي أغزو الثلاجة، لكن طعم الأكل يبدو غريباً، لأنه بارد.حقيقة لا أفهم هذا الشعور:أنا لست جائعة ولكن لدي شعور بأني أحتاج أن املئ معدتي دون أي شعور بالمتعة، بسرعة، كأن هناك فجوة بحاجة لأن تمتلئ.
أمضيت بعض من النهار مع “راحيل”.لم نتكلم كثيراً، نضع بعض أشرطة الموسيقى ونغني سوية.أقول لها بأن الأغاني تتحدث عن الحياة أفضل منا.ماجدوى محاولة أن نكون أفضل منها؟
هي و”فريدي” اتفقا أن يتقابلا عند السادسة مساءً  ليمضيا وقتاً قصيراً قبل أن نتوجه معهما إلى قسم الشرطة العسكرية.الظلام حل مبكراً.أسأل “راحيل” أن كانت ترغب بأن ترافقني لكي نذهب لمشاهدة مغيب الشمس.
مشهد بناية مدرستنا (مدرستنا القديمة) المستطيلة، الداكنة تطل كالظل فوق الصحراء.إلى اليسار القرص الذهبي يهبط ببطئ، كأنه يغرق في الصحراء.السماء تغير لونها في كل لحظة.مشهد في منتهى الروعة، يسلب الألباب.نقف متماسكتان، توحدنا كل حالات الغروب التي راقبناها سوية من قبل، وبالسؤال الذي لم تسأله أي منا:متى سيكون الغروب القادم؟
مع تضارب مواعيد إجازاتنا فقد لا نرى بعضنا بعضاً لفترة طويلة.
“سنتكب لبعضنا البعض”، تهمس “راحيل”.
“نعم”، أرد “ولكن من سيراقب الغروب حين لن نكون هنا.”
في البيت تستقبلني أمي بدمعة وسط عينيها.”احزري من تكلم في الهاتف؟”، تسألني كمن يخالجه شعور بالإنتصار.
“لا ادري.”لست في وارد من يلعب لعبة التخمين.تنظر الي بشيء من الإحباط ولكنها لا تزال تحمل تعابير طفل في محل الحلويات، تعابير شخص يحمل سراً رائعاً.
“جين-ديفيد.”
“ماذا؟”
“في الحقيقة، يجب أن تقولي من وليس ماذا.”جين-ديفيد” اتصل منذ عشر دقائق يريد التكلم معك.”
أغمض عيني وأدع السعادة تغرقني.وأبتسم كما لم أبتسم منذ وقت طويل.
“يقول أن بإمكانك أن تجديه حتى الساعة السابعة”، تقول أمي وهي لاتزال تبدو سعيدة.
أهجم على الهاتف في حين تغادر أمي الصالة وهي تمشي على أطراف أصابعها.قلبي يدق بقوة:مالذي سأقوله له؟لماذ يتصل بعد أربعة أشهر من إنفصالنا.
يدق الهاتف مرة:يداي ترتجفان.فجأة أشعر بأني مرعوبة لأني سعيدة جداً وبأني في غضون لحظات سأسقط من علو شاهق.
يدق ثانية.اذا لم يرد بالدقة الرابعة فسأغلق الهاتف.
يدق للمرة الثالثة.
“هلو؟”
إنه صوته، العلامة المسجلة، نبرة السخرية المعتادة التي أعتقد أن بإمكاني إكتشافها (لكن ربما أكون على خطأ).
“انا فاليري.”(صوتي يتقطع، أجاهد أن أبدو طبيعية)
“يا للمفاجأة”، يقولها بالعبرية ولكنه يلحن قليلاً.
“لا يجب أن تنطقها بهذا الشكل.”أقول له متحصنة بتفوقي الأكيد عليه باللغة التي يسعى لتعلمها منذ أشهر قليلة.”وعلى أي حال فأنها ليست مفاجأة فأنت الذي أتصل لمكالمتي.
“نعم، نعم، أنت على حق”، يقولها بصوت أجش والتي يظن أنها لكنة اسرائيلية.يبدو كمن يهرج، هناك واحد من تفسيرين، أما أنه تغير، أو أنه لايعرف ماذا يقول.ليس الأمر بحسن.
“كيف حالك؟”
أشعر برغبة بصفعه على وجهه، لذلك أرد عليه بحماس لا يتناسب مع طريقته.
“على أحسن مايرام.أقضي أروع عطلة هناك في الشمال.أصحو عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً كل يوم لكي أتأكد بأن كل شيء يسير على ما يرام.إنه منتجع بأربع نجوم، فيه كل ما لذ وطاب، الرمل تحت قدميك، الحمامات جنبك ودرجة الحرارة التي تهبط إلى عشر درجات في الليل.هل تريد العنوان؟”
أواجه بصمت مطبق من الجانب الآخر.إدرك بأني لم أكلمه بمثل هذه الحرية من قبل، دون أن أفكر بكل كلمة أقولها، دون أن أبغي أن أبدو متذاكية، أهم من أي شيء آخر.ينتابني شعور بأني حققت نصراً ما.(لكن أي نوع من الألعاب تلك التي نلعبها؟)
صوته يصبح أكثر رقة.”إسمعي كنت أفكر بك حقاً.أظن بأن … لا ، لا أظن.أود أن تخبريني.هل بإمكانك أن تمري بالقدس أثناء إجازتك؟”
أمر بالقدس!ألمح عينيه الضاحكتين مرة ثانية، يديه، أقبله، حتى ولو فقط على وجنتيه.كان بودي أن أقول له نعم أنا قادمة، الأن-من المفارقة أني سأذهب إلى القدس لأسباب عسكرية-(شيء غريب لأنه لا يمكن أن يكون على علم بذلك.) أشعر بأن لدي جناحين وأن ليس هناك ما يمكن أن يوقفني.
لكن؟
“فريدي” سيسلم نفسه هذا المساء و”راحيل” تحتاجني.
لذلك أقول نعم، بإمكاني المرور بالقدس، ربما بعد أسبوع حين أنتهي من الدورة ولكن قبل بداية أي شيء آخر، دورة أخرى، أو قاعدة أخرى، ربما.تحدثا لدقائق قليلة أخرى، شعرت بإرتياح وأنهيت المكالمة مع أمل بان أبعث له بإشارة حياة قريباً جداً.
تطحن رأسي الأسئلة.أرن لـ”يوليا” وأنقل إليها الأخبار، وأسمع عبر الهاتف صراخ السعادة.”أنا في طريقي إليك” تقول، بل ها هي في غرفتي، تجبرني على إعادة المكالمة كلمة كلمة، تسأل عن نبرات صوته، وصوتي حين كنت أتكلم معه…هي خبيرة تحليل علاقتنا، تقرأ كل الأشياء عن القضايا التي تهتم بها، فهي راكمت لديها معلومات من خلال المسلسلات التلفزيونية التي تشاهدها.
بعد ساعة من الزمن تعلن حكمها.
هو يريد أن يراكي بالبزة العسكرية.تلك رغبة معروفة لدى الأمريكان والأوربيين.عليك أن تذهبي لكي تري بشكل مباشر كم من النقاط كسبتي.ولكن لا تصنعي آمالاً كبيرة، فقد يكون الأمر مجرد …”
تلك جملة كان من الأفضل لو أنها احتفظت بها لنفسها.
يكلمني “إيلان”.
“سنلتقي جميعاً بعد عشرة دقائق خارج بيت “راحيل”.”
ألبس بزتي العسكرية آملة بأن يسهل وجود جندية بين المرافقين مصير صديقنا.
هناك خمسة عشر واحداً منا، انقسمنا في ثلاث سيارات.”رافي” يدخل بجدال مع “راحيل”:هو لا يريدها أن تقود السيارة (لا يقول في الحالة التي هي عليها ولكن ذلك ما كان يعنيه)، ولكنها مصرة على الا تدع أحداً يقوم بذلك.أومأ لـ”رافي” بشكل خفي، فيتوقف عن محاولة إقناعها.
يضع “فريدي” أغنية حزينة عن وفاة “جون لينين”.
تنذرف دموع فوق خدودي.أعتقد أن “راحيل” تقود السيارة والدموع في عينيها كذلك.
يقع قسم الشرطة العسكرية في نهاية شارع مترب، في مكان أشبه بمنطقة عازلة.جندي الحراسة على البوابة يلقي نظرة مستغربة على المجموعة.ربما هو يفكر في ما اذا كان عليه أن يطلق طلقة في الهواء.نقف على بعد أمتار قليلة، متراصين بشيء من العصبية.يتقدم “فريدي” بخطوات إلى الأمام مع “راحيل” التي تستند إليه.
“أنا هارب من الجيش”، يقول بصوت ينطوي على الجد، “جئت أسلم نفسي.”
لا يبدي الجندي أي عاطفة.
“سلمني أوراقك”، يأمره، “ثم إتبعني.”
نحيد بنظراتنا بعيداً لكيلا نرى مشهد الفراق.أحدهم يتلعثم بكلمات”، إلى اللقاء “فريدي”، ثم ننظم جميعاً “إلى اللقاء “فريدي”.نراك قريباً.”
لا يكترث الجندي بالنظر نحونا.يختفي “فريدي” دون النظر إلى الخلف بينما نقف نحن دون حراك.لا شيء آخر يمكن أن نفعله، ولكن مع ذلك لا  يمكننا المغادرة بسرعة.
الصمت لا يطاق.
يتوهج وجه “راحيل” باللون الأحمر وكأنها على وشك الإنفجار.أمضي نحوها وأهمس.”تعالي إلى السيارة.”
في طريق العودة استذكر تلك القطعة عن نيوزيلاندا التي قرأتها لنا “كينيريت”، أقول لنفسي إننا مجرد بنات في الثامنة عشر، وكما نقول بالعبرية، إنه شيء أكبر منا.
***

Al-Maliki in Washington 
Facing political uncertainty and a fierce Sunni rebellion at home, Iraqi prime minister Nuri Al-Maliki is seeking help in Washington
Salah Nasrawi, Thursday 31 Oct 2013
US president Barack Obama and Iraqi prime minister Nuri al-Maliki will meet in Washington on Friday as the beleaguered Iraqi nation faces existential challenges amid surging sectarian bloodshed and an ever-worsening political crisis.

The meeting will also test US commitments toward Iraq nearly three years after the last American soldier withdrew from the country and whether the Obama administration is ready to take concrete steps to avert the catastrophic disintegration of the violence-battered country.
Al-Maliki is visiting Washington as the Al-Qaeda terror group wages a fierce battle against the country’s security forces and Shia-led government in an attempt to secure a safe haven for its fighters around Baghdad similar to the one that exists in neighbouring Syria.
Before his arrival in Washington, al-Maliki voiced concerns that the violence in Iraq was turning into “genocide” and urged concerted international efforts to combat terrorism. He has also accused unnamed neighbouring countries of fuelling the Sunni insurgency.
Iraq’s envoy to Washington, Lukman Faily, who belongs to al-Maliki’s Dawa Party, has been lobbying for weeks “for the approval and quick delivery of military sales” to Iraq and for “increasing the depth and width” of Iraqi-US cooperation.
However, Al-Maliki’s meeting with Obama comes amidst a rising spiral of sectarian violence in Iraq, which has killed more than 6,000 people this year alone, including hundreds in October.
Most of the attacks are believed to be being carried out by Al-Qaeda’s affiliate in the country, the Islamic State of Iraq and Syria, a spill-over from the civil war in Iraq’s western neighbour, which now operates on both sides of the border.
The violence underlines the fragility of al-Maliki’s coalition government and how badly the security situation in the country has worsened since the withdrawal of US forces in December 2011.
Since then, al-Maliki’s government has failed to build up effective armed forces, and in a sign of the serious deterioration in security Al-Qaeda has been gaining footholds and imposing territorial control in many of the country’s Sunni provinces, especially in the vast desert area along the Syrian border.
Given the commitment of the United States to the Strategic Framework Agreement (SFA) it concluded with Iraq before its withdrawal in order to help Baghdad fight terrorism, al-Maliki hopes that Washington will assist his government in curbing the violence.
Baghdad has been seeking Washington’s help for its fledgling security forces to fight the Sunni insurgents. In August, al-Maliki sent two high-level delegations to Washington to plead for weapons and intelligence cooperation.
According to various media reports, Iraq is seeking a military and security package from the US that would include Apache helicopters and the prospect of sending US intelligence officers to Iraq to help the security services target Al-Qaeda operatives in the country.
Press reports have also suggested that Iraq is also asking the United States to send drones that could be used in counter-terrorism operations, including the fight against Al-Qaeda.
Washington has already agreed to sell Iraq US$4.7 billion worth of military equipment, including F-16 fighters and an integrated air-defence system that includes radar, missiles, guidance systems, training and support.
In August, US secretary of state John Kerry said that the United States would help Baghdad deal with the spill-over from the Syrian conflict and in combating Al-Qaeda in Iraq, but there has thus far been no sign that Washington has shipped the requested military capabilities.
In contrast to the positive expectations floated by al-Maliki’s aides, US officials have been tight-lipped about US weapons supplies or military cooperation with Iraq.
A White House statement said the Obama-Maliki meeting on 1 November will “highlight the importance of the US-Iraq relationship,” but it was short on details about the discussions.
Observers are expecting few breakthroughs on new weapons sales to Iraq during the visit, and some have suggested that Washington will attach certain conditions to the deal, if one is made.
On 3 October the US magazine Foreign Policy quoted US experts on Iraqi counterterrorism as saying that “there are any number of reasons why the US might be reluctant to engage” in Iraq.
As for the hot-button issue of sending unmanned planes to engage Al-Qaeda in Iraq, US officials have been leaking reports that Washington is not about to open a new front in its global drone campaign, which has already drawn world-wide condemnation.
The question arises of why al-Maliki has been so keen to travel to Washington at a time of political crisis and spiralling violence if the Obama administration is in no mood to commit itself to any direct involvement on the ground in Iraq or even to al-Maliki’s shopping list of weapons.
The trip comes during the run-up to the parliamentary elections scheduled in Iraq in the spring, in which al-Maliki intends to run for a third term in office despite increasing opposition to his candidacy and the series of setbacks his government has suffered since his re-election in 2010.
For many observers, this is not a coincidence, and Iraq’s Machiavellian prime minister, who persuaded the United States to back him to retain the premiership despite his failure to win the 2010 elections, seems to have timed his visit to Washington to use the event in support of his re-election.
In 2006, the Bush administration publicly declared its support for al-Maliki, defending him against Iraqi and US critics who accused him, among other things, of lacking political experience and the ability to forge consensus, being a conservative, too close to Iran, and having a sectarian agenda.
Al-Maliki’s government is now teetering, being blamed for incompetence, the ruthless monopoly of power, and a failure to stop the country’s unrelenting descent into chaos.
This month, al-Maliki drew wide criticism after he boasted in a televised interview that his son, who has no security portfolio, is fulfilling police duties under his instructions.
Last Thursday, a small group of protesters in the holy city of Karbala, which hosts the shrine of the Imam Hussein, the Shias’ most revered religious figure, shouted pro-Saddam Hussein slogans, an unprecedented expression of anger since the fall of the former Iraqi dictator in 2003.
Karbala is also the home town of the Iraqi prime minister and of several of his Shia ministers, which makes the chants a personal insult to al-Maliki.
At the heart of Al-Maliki’s troubles has been the deep-rooted Sunni resentment against their potential marginalisation, this increasingly turning violent and triggering fears of the collapse of Iraq’s fragile political system.
Al-Maliki bears the blame for his failure to comply with a partnership agreement, under which his coalition government was formed, to allow the Sunnis to govern Iraq jointly with the Shias and the Kurds.
Even many Shias detest his autocracy, and lately two of his main Shia rivals, Muqtada al-Sadr and Ammar al-Hakim, have reportedly started acting to boost their own groups’ status ahead of the parliamentary elections next year.
On Monday, al-Sadr, leader of the Sadrists Group which has 40 seats in the 325-seat parliament, criticised al-Maliki’s “greedy” bid for a third term in office.
Now the Kurds are also objecting to a new election law that al-Maliki’s bloc has proposed, considering it to be unfair as it does not give the Kurds their deserved share of seats in the federal parliament.
President of the Kurdistan Regional Government Masoud Barzani has warned that the Kurdish Region will boycott next year’s elections if a new and more favourable elections law is not enacted.
A Kurdish boycott of the national elections would be disastrous and would plunge the country into further turmoil.
It is highly unlikely that al-Maliki will use his meeting with Obama to discuss the apparently irresolvable dilemmas confronting Iraq and its steady decent into chaos precisely because he himself is part of the problem.
Obama should also be using his encounter with al-Maliki to reinforce the US commitments toward Iraq consistent with the SFA, which mandates helping Iraq to enhance its security and stability and strengthen its democratic institutions.
Obama should bring up the fundamental issues that have underpinned the protracted government crisis with al-Maliki, including the failure of the security forces and his own responsibility for the sectarian polarisation and exclusion of the Sunnis in the country that has been behind the recent spiral of violence.
Obama should make it clear to al-Maliki that he views making credible progress on national reconciliation and the inclusion of all Iraqis in an inclusive, democratically elected government to be an essential part of any cooperation with his government, including military supplies and assistance.
Moreover, Obama needs to take concrete measures against al-Maliki’s government for its rampant corruption, mismanagement of Iraq’s huge oil resources, and violations of human rights as catalysts to instability in Iraq.
The United States bears a special responsibility for Iraq’s dilemmas, first through its invasion of the country in 2003 and second in helping al-Maliki assume power in the first place.
The least it can now do is to send al-Maliki a clear message that there will be no cooperation with him as long as he maintains his greed for power and continues his policy of monopoly and exclusion.
This story was first published in Ahram Weekly.

                                       عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف8
                               “ذبابة على الحائط في نيوزيلندا” 
                                     “بقلم ايدي ليونسن”
أحياناً تنتابني الحيرة عما يمكن أن تكون الحياة عليه في نيوزيلندا.السفر عبر جزر المحيط الهادئ، العيش في بلد من الصعوبة أن تجده على الخارطة، أنمو في بيت ذو سقف أحمر، وأسير في ممرات خضراء وسط الريف، أحيا في بيت أشاده الأجداد، أكون حفيداً لجد ما في الشيخوخة، أدرس التاريخ مائتي ساعة في كتاب صغير، بالي،، أترع النبيذ من البراميل التي في السرداب.سرداب لا يستخدم كملجأ.
أن أكون نيوزلندياً وبإمكاني أن اضع خططا لخمس سنوات، أهتم بشؤون فريق كرة القدم المحلي، ربما أطلب وظيفة في الجيش، بإعتبار أن ليس هناك خدمة إجبارية.أكون حراً من الجيش على أمل أن أعيش حياة فيها إثارة، أقرأ جريدة نيوزلندية ولا أهتم بمعرفة مالذي يجري في الأرض المقدسة، لماذا يحارب الناس من أجل كل شبر من الأرض في حين أن العالم مكان كبير وأن الحياة واسعة.الإعتقاد أن كل البشر سواسية.
أن تكون نيوزلندياً وأن تعرف بأن المدافع تطلق فقط في مناسبة عيد ميلاد الملكة، وأن الطلقة هي قطار سريع في اليابان، وأن كيس النوم هو شيء تستخدمه عندما تخيم، وأن الأرملة هي أمرأة كبيرة السن.وحينما يخبرها الجيران بأن أبنها سقط في المعركة فانها ستسأل عما اذا كان قد أذى نفسه.
أنا لا ألومك، يا إلاهي، لأنك اخترت أمتنا من أجل هذا.أنا أقبل بحكمك، بحب وإعتزاز.لايمكنني أن أبدل القدس بويلنغتن، او حياتي هنا بحياة راغدة، في أي مكان آخر في العالم.هذه هي أرضي.
ولكن هل حقاً أن الناس في نيوزيلندا يموتون من الضجر؟
                               ولدت في السويد
ولدت في السويد،
بشعر ذهبي مع أطفال لا يلعبون لعبة الحرب.
أبرياء لا يسألون أن كان الله موجوداً.
لانهم لا يحتاجونه.
أما أنا فهنا،
على أرض لمام،
حولها التاريخ إلى عقد من التوترات،
تعقيدات لا نهاية لها.
فتية في ريعان شبابهم،
هناك أبطال في كل يوم،
هم لا يسألون أيضاً اذا كان الله موجوداً،
لأنهم يخشون الإجابة.
أتت لترانا،
مكان قيل لها أنه الوطن،
التقينا بالعطلات الصيفية،
حلمنا أن كل شيء ممكن.
بعد شهرين، بعد أن شاهدت كل شيء،
بعد أن أحبت،
بعد أن امتلأت ببلادي، عادت إلى هناك،
إلى موطنها الرائع الذي يعيش في سلام.
أحياناً، تخبرني في رسائلها كم تحبني،
وتطلب مني أن أكون معها، إلى الأبد.
لديها بيت بجانب البحر،
هناك في السويد، مثلما في حكايات الأطفال.
شخصياً، أعتقد أنها محقة.
لكن في احدى الليالي الممطرة، بقيت مستيقضاً لساعات،
كتبت لها أني أحبك،
لم يكن بمقدوري أن أشرح لها ولا لنفسي،
إني مدين لشخص ما بثلاث سنوات من عمري،
أو العمر كله.
لا يمكن للمسادا أن تسقط ثانية.
 عندما قرأت “كينيريت” تعويذتها الشهيرة، “لا يمكن للمسادا أن تسقط ثانية” بصوتها الرقيق، غرقنا جميعاً بالدموع، كنا على إستعداد لكي نأخذ السلاح وأن نفنى في ذات اللحظة في حماية وطننا الصغير.الوطن حيث هناك أرامل في الثلاثين، حيث لم تصمت المدافع، وحين يقول جار لجاره أن أبنه سقط، فمعنى ذلك أنه سقط في الحرب.وفي جو الصمت المثير كانت كل واحدة منا تشعر أنها جزء من سلسلة أحداث التاريخ الثقيلة، سلسلة الموت، ولكن أيضاً الأمل.كلنا عدا واحدة، “دانيلا” (من الخيمة الأخرى) قالت من غير أي تردد “إن تلك سخافة مطلقة.أنها دعاية.”
اندهشت “كينيريت” في حين أن الفتيات الآخريات كدن أن يرمين بأنفسهن عليها.”أنت لا تعرفين مالذي تقولينه.إنه بلدنا.تاريخنا.ليس من حقك أن تقولي ذلك.”
ظلت “دانيلا” هادئة، إلا أنها ردت، “أنتن تبتلعن أي شيء يقدم إليكن.يحدثوكن عن هذا البلد المثالي وأنتن تصدقن ذلك بسذاجة.هذه الكلمات المعسولة قد تصلح لكي تقال في فلم على التلفزيون يوم الإستقلال.إنها جيدة لإقناع الحشود بأننا على أجمل ما يكون، اليس كذلك؟ “بلد رحيم، حساس، مسالم، ولذلك، وياللاسف، نحن مجبرون أن ندافع عن أنفسنا.”
“ولكن تلك هي الحقيقة.”تحتج “فيريد”
“أية حقيقة، الحقيقة التي تريدين الإقتناع بها حتى لا تسألي نفسك أي سؤال بشأن البزة التي نرتديها، مالذي تعنيه للفلسطينيين، مثلاً.”
مرت لحظات من الصمت.لا أظن أن أحداً قد توقع مثل ذلك.كانت “كينيريت” تستمع  إلى النقاش ولكنها لم تتدخل.العواطف سادت ثانية.
“هذا ليس صحيحاً، لا علاقة لذلك بتاتاً.نحن لدينا تاريخ مميز جداً.لقد أضطهد اليهود في كل زمان ومكان والطلائع الصهيونية ضحت لكي نستطيع أن ننعم نحن هنا بالسلام.”
“لذلك علاقة كبيرة.” تقاطع دانيلا.”طالما أن لدينا تلك الصورة الرومانسية غير القابلة للخطأ عن أنفسنا، سوف نستمر بإضطهاد شعب حتى دون أن ندرك ذلك.”
“لكنهم هم الذين…”
ظل النقاش الفلسطيني متعثراً.حالما انتهوا من مناقشة كل النقاط، تمسكت “دانيلا” بموقفها بينما رمى “المعسكر الوطني” بعض الأشياء في وجهها، موتى الهولكوست، وأولئك الذي سقطوا في حرب الإستقلال، في حرب الأيام الستة، في حرب يوم الغفران، والحرب في لبنان.ومن بين الموتى كان هناك جدة، خال، أب، أخ، ابن عم، صديق…
لم أنبس ببنت شفة.لم يكن لدي قريب احترقت جثته.كما أني لم أكن أظن أن كلام “دانيلا” كله خاطئاً، ولكن من الضروري أن تقولي الأشياء بطريقة أخرى حين تحاولين شرحها دون أن تجرحي أحداً، أو تستفزي تلك الدموع، دون أن تخضعي كل شيء للمساءلة.
أو أن عليك أن تيأسي ثم ترمي بزتك وتهربي من الموقع.
5 أكتوبر، 8:30 مساءاً.
قمنا بركضة الخمسة عشر كيلومتراً اليوم…أنا استطعت أن أركض سبعة كيلومترات منها.إنه ضغط الأيام القليلة الماضية، أن نعيش في هذا الكون فترة طويلة، أن نكون محكومين بالتفكير لمدة نصف ساعة فقط (عندما أكتب).لابد أن يكون الأمر كذلك.أثناء قيامي بالركض، تذرعت بنوع من الحجج من تلك التي نبتدعها في المدرسة الابتدائية عادة، احدى عدسات نظارتي واهية الأحكام.في منتصف الركضة وبشكل غير لافت أخفيتها في جيبي، ناديت على “كينيريت” وأخبرتها بأني لم أعد أري جيداً.لم تحاول أن تخلق أية مشكلة لي، أعطتني ورقة سماح وأمرت سيارة الجيب التي ترافقنا بأن تعيدني إلى القاعدة، حيث بإمكاني بسهولة أن أنتقل إلى الحضيرا.
أربعة ساعات لوحدي، أربعة ساعات من الحرية التامة.لا يمكنني أن أخفي سعادتي.في الحضيرا التي لم يسبق أن زرتها، أعدت العدسة مكانها وجلست على أول مقهى وجدته أمامي.أدير ناظري بدهشة، أناس من مختلف الأعمار، يرتدون ملابس بالأبيض والأسود وكل الألوان الأخرى، أطفال رضع في عرباتهم، أولاد يتراكضون، هؤلاء ظللت أراقبهم بفضول شديد:لم أشاهد أطفالاً منذ زمن طويل.لا نأبى بالأطفال في الشوراع عادة، ولكني أعيش الأن في عالم حيث أرى رجالاً ونساءً بين الثامنة عشر والخمسين، لكن لا أثر للأطفال فيه.أدرك أني أفتقد ذلك، أو بالأحرى أن عدم وجودهم من حولي هو شيء لا يبدو طبيعياً.
أخاطب نفسي، أعيش في عالم محرم على من هو دون الثامنة عشر.
لم أعمل شيئاً طيلة ساعات ثلاث.لم أكتب شيئاً، حتى أني لم أكلم أهلي أو “راحيل” أو “يوليا”.ارتويت من أصوات المدينة، ومن البيوت الصغيرة المتباينة الطراز (ليست جاهزة البناء) ومن الناس.
تنفست من عبق الحرية المسروقة.
6أكتوبر، الساعة 9:20مساءً.
كنا قد خمنا، ولكن الأن تم التأكد من المعلومات من مصدر موثوق، سوف يسمحون لنا بالخروج نهاية هذا الأسبوع.
 ***

                                      عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف7

                                  ممنوع لمن دون الثامنة عشر
25 سبتمبر، الساعة 9:30 مساءاً
عدت إلى القاعدة في وقت متأخر.بررت بأني أعيش في الجنوب وأن على أن أقطع مسافة 200كيلو متراً وأن أغير المحطات عدة مراتكتشفت أن في يوم الأحد يتحول البلد كله إلى معسكر كبير يتسابق فيه الجنود في مختلف الإتجاهات، يتقافزون نحو الحافلات.
أصغت الملازم “أنبار كاتز” لي ثم قالتحسناً، سوف نرى اذا كان هناك أي مبرر للعقوبة.”
الفتيات نظرن إلي بتعاطف واضحبدو عديمة الحيلة.
كنت سعيدة برؤية “إينات” ثانيةخبرتني عن عطلة نهاية الأسبوع الذي قضته هنا.لقد صادقت نصف الذين في القاعدة، لكنها تقول إنني الأفضل؛ إنها رائعة.كما أني عدت (لكن بقليل من الحماسة) إلى صحبة اللحم البقري المشوي مع المعكرونة اللزجة.الدنيا برد وتم منحنا أكياس نوم.
علينا الإستيقاظ الساعة 3:45صباحاً.
أنا سعيدة بالعودة.(مازوكية)
28 سبتمبر، الساعة 9:15 مساءاًً.
علينا التعامل مع ما لايقل عن 236 حالة في اليوم، جميعها وفق جدول متقن، دون وقت لجر الأنفاس.لا يمكنك تصور نفسك شيء آخر سوى أنك جندي.هناك “فاليري” جديدة، لا وقت لديها للتفكير خلال ساعات النهار وبالتأكيد فهي تخلت تماماً عن فكرة أن تقرأ كتاباً خلال الأسابيع الآتيةشعر أني أقوم بإتصال مع “فاليري” الأخرى خلال الليل حين أضع السماعات في أذني وأنام.
لم يعاقبوني بسبب تأخرى عن الوصول، ولا أظن أنهم سيفعلون ذلك.
واجباتي كانت في المطبخ.مثل قزمة بجانب الجبابرة، قدور الطهو التي يبلغ قطرها متر، ملاعق كبيرة.نكسر المئات من البيض حين نصنع الأومليت.لبرهة أشعر وكأني في مطبخ الغول أحاول أن أطهو له وجبة بكل تأني وبخوف وتفاني حتى أتفادي إبتلاعي حية.
كان علي أن أغسل مئات الأطباق.أمي لا يمكن أن تصدق ذلك.(أفعل ما يفعله الآخرونستيقظ في الساعة الثانية لكي اجري إتصالاً تلفونياً بالبيت.هناك فقط خمسة فتيات ينتظرن دورهنمي قالت إنها كانت مستيقظة لأنها كانت تشعر بالعطش، أشعر بالإمتنان للكذبة.)
اليوم وزع أحد الضباط المسؤولين عن الإنتدابات أوراقاً تتضمن قائمة بالخيارات المتوفرة لنا.
لدي الخيار بين:
الإستخبارات
مدربة جنود قتال
ضابط (في أية وحدة، ماذا أفعل، من يدري..)
ميكانيكي دبابات
مدير المصادر البشرية
الخيار الثاني مغري، وكذلك الرابعنهما مثيران لانهما دوران معلومان وواضحان وأنا في ما يبدو أعشق قيادة الجنود.لكن الأقدار تأتي بما تشاء.لقد أديت إختبارات عديدة في مجال الإستخبارات قبل إلتحاقي.لقد خلقوا عندي هذا الإنطباع بأن بإمكاني أن أختار، أنا بإمكاني أن أخلق الإنطباع بأني أصدق ذلك، لأيام قليلة فقط.
تلقينا الدرس الأول في إستخدام السلاح.تعلمنا كيف نفكك ونركب البندقية في خلال ثلاث دقائق فقط.لماذا يجب علينا أن نتعلم كيف نفكك البندقية؟لكي ننظفها في الواقع.ننظفها بهذا السائل الأسود الكثيف الذي يبدو برائحة المطاط وقطعة قماش يطلقون عليه اسماً غريباً، “فلانيلايت”.منظرنا مثير للفخر، ننحني جميعاً تحت الشمس مفككين بنادقنا إلى قطع.
كان لدينا درس التاريخ العسكري كذلك، مع عرض لفلم عاطفي جداً حول حرب الإستقلال.نقيب في الثالثة والعشرين من عمره، كان يقاتل في معركة مذهلة شمال القدس.(لا أدري لماذا قلت مذهلة) ففي الواقع من كان مذهلاً هو النقيب.في نهاية الفلم الوثائقي يشرحون لنا الأهمية الإستراتيجية لما شاهدناه ويخبرونا بأن النقيب يموت ولكن ليس ضمن مشاهد الفلم، نشعر بالحزن بطبيعة الحال.
يطلبون منا التبرع بالدم للجنود الجرحى، ليس الأمر إجباريًا ولكني أتقدم للتبرعنا متأكدة جداً أن ذلك بسبب الفلم.لايريدون مني دماً لان ضغطي منخفض جداً.
غداً سنقوم بالجري مع معداتنا.
29 سبتمبر، الساعة 8 مساءاً.
مرهقة.لكني أكتشف مصادر للمقاومة الجسدية لم أتوقع أبداً أني أمتلكها، كأن هناك احداً يدفعني طيلة الوقت، يأمرني بالوقوف في اللحظة التي أكاد أن أسقط فيها.هذا الصباح، الرياضة أولاً، ثم إستعداد تام لتفتيش كامل.بعبارة أخرى، إن التفتيش سيجري من قبل الملازم “أنبار كاتز” بذاتها وليس من قبل الرقيب “كينيريت”.لماذا هذا التشريف.نحن لانعرف.ربما لملء الجدول الزمني.
كانت محنة نوعاً ما.كان علينا أن نكرر كل ما نقوم به أربع مرات.المرة الأولى لأن ثمة غبار كان لا يزال عالقاً باحدى البطانيات.كان علينا ان ننفض كل البطانيات مرة أخرى.في المرة الثانية بدت من احدى الفتيات والتي ليست من خيمتنا ضحكة، حين كانت لا تزال واقفة بالإنتنباه في الصف.وفي الثالثة نست “فيرد”، البنت التي في خيمتنا فرشاة أسنانها على سريرها.فرشاتها على السرير!نستغرب من هذا الخطأ.نحذرها بأننا سنحلق لها شعرها ان أخطأت ثانية، مما يجعلها تنزوي وتبكي.اما الرابعة، فقد كانت بسبب أن الخيمة لم يتم كنسها بشكل جيد حيث بالإمكان رؤية طبعات الأقدام على الأرضية.
بعد ذلك جاء دور الركض.كل شيء، البدلة المضادة للرصاص، رشاشة عوزي، مشطي عتاد وقنينة ماء كبيرةضافة إلى ثلاثة لترات من صفائح الماء (والتي تزن كلها ثلاثة كيلوغرامات) والتي نحملها بالتناوب.نركض حول حقل للذرة بجوار القاعدة.للدقائق الأولى ظل يراودنا شعور في منتهي الروعة، كأننا فتيات رامبو.بعد ذلك تتحول المجموعة إلى طابور يجري بالوحل.تبدوا الفتيات ذوات الجسم الرياضي في المقدمة في هيئة جيدة ويتميز سيرهن بالخفة رغم المعدات والفتيات المترهلات، الضعيفات، الكسولات اللواتي في المؤخرة.شخصياً كنت في الوسط بينهما.لست خفيفة وبهية، بل يتصبب عرقي وينقطع نفسي اما ملامح وجهي فتبدو ممزقة بين التوتر وبين رغبتي الشديدة الا اكون من بين من سيكن في المؤخرة.
أكثر المراحل صعوبة ليست الحصول على حمام بعد العودة.نحن نستحم في المساء عادة.سيكون من سوء الحظ لو ظهرت روائح نافرة.
عصر اليوم كان لدينا درس في الرماية بوضع الإنبطاح.في كل مرة أحمل سلاحي أشعر وكأني شخصان في الوقت ذاتهنه أمر مزعج.حين أملأ الخزان أقوم بتدفئة الطلقات بيدي.طلقات الـ”عوزي” من عيار 9 مليميتر.الطلقات مدورة من الأعلى وهي قصيرة مقارنة بطلقات ذات عيار 7,7 مليمتير التي تستخدم في رشاشة “ام16التي هي أطول، مدببة ومخيفة.لم أكن أدرك أن للطلقات شخصيات.
شيئ جميل أنهي به مذكرات اليوم.لقد بدأنا نتعلم كيفية السير بتشكيلات طوابير الإستعراض.
والآن مسك الختامشعر بأن هناك قليل مما هو ذي قيمة تبقى في رأسي، حتى أني لم أعد أستطيع التفكير.بدأت أشعر باني أفتقد فرصة أن أختلي بنفسي.
سنبقى داخل القاعدة خلال عطلة نهاية الأسبوع هذهتصلت بأمي التي أخبرتني بأني إجتزت إمتحان البكلوريا بدرجة( أ-).إنها أقل قليلاً من(أ) وذلك بسبب الرياضيات،(أو بالأحرى بسبب “جين ديفيد”).لكن ذلك يبدو من زمن مضى..ماذا تعني البكلوريا في هذا المكان.
اليوم قصير ويوم غد لن يكون هناك الكثير لنعمله سوى عمل المطبخ والحراسة.في الجيش يحترمون يوم الراحة أيضاً.وعلى القول أني يجب أن أحترم ذلك أيضاً، والآننه وقت النوم.
السبت 1أكتوبر، الساعة 4:30بعد الظهر.
اليوم هو يوم غريب.هناك إحساس بأنك جندية ولكن دون أي عمل تؤديه، أنت فقط موجودة في القاعدة، دون متعة، دون إرهاق، دون إحباط حياناً) في الأيام الماضية قدموا لنا طعاماً خاصاً: دجاج بلا عظام، بطاطس مقلية( لكنها، ويجب الإقرار بذلك كانت جيدة جداً) ونبيذ دبس السكر.نستمتع بالوقت ونقوم بالتجوال في القاعدة.
أمشي بإستقامة في طريق من أمام خيمتنا ينتهي إلى غابة صغيرة من أشجار “اليوكالبتوس”. أفكر مع نفسي، “اليوكالبتوس” شجرة فريدة، إنها كبيرة جداً ولكنها غير غشومة، ربما لأنها مرتفعة جداً.كما أن لها أسما جاداً، وليس اسماً شائعاً مثل باقي الأشجار والنباتات.روائحها تذكرني بالبرد في طفولتيمي كانت تضع بضعة قطرات من زيت “اليوكالبتوس” فوق وسادتي لكي يساعدني في التنفس.وأعرف أن الطلائع هم الذين زرعوها هنا بداية القرن العشرين، لكي يجففوا المستنقعات والقضاء على موجات الملاريا.هل تم زرع أشجار “اليوكالبتوس” في معسكرات الجيش الإسرائيلي من أجل خصائصها الإستشفائيةعتقد أن السبب يعود إلى أن طولها الفارع يشكل غطاءً يحجب العيون المتلصلصة عن الأسرار العسكريةنحن مثلاً.
خلف أشجار “اليوكالبتوس” هناك الأسلاك الشائكةدهش قليلاً لرؤيتها، لم أتوقعها، ليس هنا وأنا هائمة وسط الذكريات.بالنسبة لي أن مجرد الكلمتين “أسلاك شائكةتعني إمكانية أن يتمزق جلدكقترب منها بحذر.هناك حقل تم حرثه قريباً، على بعد أقل من نصف متر من السياج.من بعيد هناك طريق لا يمكنني رؤيته بشكل جيد لأن الأرض ليست مستوية.هناك سيارات تسير، أناس يمضون في طريقهم إلى ساحل البحر للنزهة، إنه يوم جميل.بإمكاني أن أتخيلهم، أن أضمهم جميعاً، مثل ذاكرة مثقلة تحاول أن تتذكر شيئاً كان له وجود، ولكنه لم يعد هناك.
عندما عدت إلى الخيمة قالت الفتيات أني أبدو غريبة.لم تكن لدي الرغبة بأن أشرح لهم.لحسن الحظ فان لدى أكثرهن من الطاقة والحيوية مايؤهلن أن يتعاملن مع أي شيء.غنينا، ثم قضينا وقتاً مستمتعات بتأليف الشعارات.فالقاعدة، يمكني القول، مليئة بلوحات الإعلان التي تحمل شعارات مثل:
أيها الجنود قودوا سياراتكم بحذر.من الأفضل أن تأتوا متأخرين خمسة دقائق في هذا العالم من أن تأتوا مبكرين خمسة عقود في العالم الآخر.
أيها الجنود تأكدوا من أن قيافتكم نظيفة دائماً.الجندي الأنيق هو جندي كفؤ في القتال.
أيها الجنود، أدوا التحية لمن هو أعلى منكم رتبةحترام الكبير الخطوة الأولى للنظام.
إنفجروا بالضحك حين قلت أنها مثل الحكم الفلسفية الصينية.”غاليتبدأت بالزعيق:”جنود، جنود، جنود،! أين الجنود؟ليس هناك غير الفتياتين الجنود؟ذلك ما أتيت من أجله.”
وهكذا، إخترعنا الشعار التالي:
أيتها الجنديات، جدن جنود أحلامكن، فالحب سيعطيكن بعض الراحة.
هكذا، السخرية تمنحنا بعض الراحة.
 تأتيكينيريتلتقضي بعض الوقت معنا.حالما نراها نقفز لكي نشكل تشكيلاً رباعياً ونقف بحالة الإنتباه.تبتسم وتقول:”لا أيتها البنات أنه يوم الراحة، جئت لكي أرى كيف تسير الأمور معكن.”
تجلس معنا.”غاليت” و”ريكي” و”سيفان” (الأكثر ثرثرة، أو ربما الأكثر ثقة) يبدأن بسؤالها.
من أين أنت؟
من كيبوتز في الجليل.”
“أي واحد؟
كفار بلوم
“يالك من محظوظة.هل تذهبين للتجذيف؟
لا، ليس كل يوم، ولكن كثيراً.”
هل أنت هنا منذ فترة طويلة؟
كم عمرك؟
أشعر وكأني عدت إلى أيام المدرسة عندما كنا نريد أن نعرف كل شيء عن معلمنا (هل هو متزوج، أعزب؟،هل لديه أطفال؟،هل لديه منزل، أم شقة؟هل لديه كلب؟بيانو؟
لاتدعنا كينيريتنغرقها بالأسئلة.”على مهلكننا جئت هنا لكي أتعرف عليكن.هل لي أن أسئلكن نفس الأسئلة؟
لم نجد الأمر مسلياً أن نتحدث عن أنفسنا فلذلك حاولنا أن نحول الحديث إلى الجيش، إلى ما سوف نقوم به خلال الأسابيع القادمة.
متى سنقوم بالرمي الحقيقي من بنادقنا؟
ماهي أبعد مسافة علينا أن نركضها؟
هل هناك شبان في القاعدة، عدا ذلك الطباخ السمين؟
متى سنعرف أي وحدات سيتم إرسالنا اليها؟
“كنيريت” تجيب عن بعض الأسئلة ولكن ليس كلها.لابأس فنحن كنا نتسامر كأصدقاء يمضون عطلتهم سوية، كما لابأس من أنها لم تكن سوى في التاسعة عشر على أبعد تقدير.(بالإمكان أن تكوني رقيباً في الشهر الرابع من الخدمة العسكرية.وتمضين ثمانية عشر شهراً في تلك الرتبة قبل أن تصبحي عريفاً، الحسبة بسيطة.) هي معلمتنا ولابد أنهم أعطوها أوامر محددة بما يمكن أن نعرفه عنها.
تنهض:”استمتعوا بما تبقى من وقتكم الحر.غداً عودة إلى الروتين.”
 2 أكتوبر، الساعة 9:15 مساءاً.
ركضنا خمسة كيلومترات هذا الصباح.من الواضح أن الركضة الأخيرة ستكون خمسة عشر كيلومتراً.ربما سأكون قد مت قبل ذلك، أو نقلت إلى جهاز إنعاش، أزفر..أزفر..
أيضاً، درس الرماية، عندما ترمين من وضع الإنبطاح تضعين خدك على مقبض البندقية، وتكون الحركة رشيقة جداً.بعد ذلك وضع الرماية الآلية وتكون واقفة والبندقية على فخذك.
لماذا علي أن اخفي الحقيقةنا مأخوذة ببندقتي الرشاشةنها أدات الموت ونحن نرى أنها سهلة الحركة.لانفكر للحظة بأننا سنستخدمها يوماً ما، ولكنها في الوقت ذاته الدليل الأكيد بأننا جنديات حقيقيات، على قدم المساواة مع الشبان.كم أكون فخورة حين أفكر بذلك.
أجري لنا أمتحان لإختبار مقدرتنا في القيادةنه تمرين يقوم به كل واحد منا بأن يشرح ماذ تعني الخدمة العسكرية للسرية، وبعد ذلك عليك التعامل مع اللواتي الذين لا يتقبلن المنطق العسكريعتقد أن أدائي لم يكن سيئاً.
وفي الختام:درس في الإسعافات الأولية مع عرض فلم واقعي عن الجروح التي يمكن أن تتعرض لها من طلقات تقليدية، طلقات متفجرة، قذيفة هاون، حروق مختلفة وأسلحة كيمياوية وبايولوجية.بعد ذلك يشرحون لنا كيفية أخذ الحقن، مضادات العناصر الكيمياوية، عمل الرباطات وتعلم كلمات المواساة التي نستخدمها.يؤكدون لنا أن الجندي الإسرائيلي لا يترك ميتاً أو جريحاً في أرض العدو حتى ولو على حساب حياة الآخرين.
غداً سأكون رئيسة السرية.
 4 أكتوبر، الساعة 9 مساءاً
ليلة أمس وبعد العشاء كان لنا حديث ممتع مع “كينريت”.الموضوع:ماهي الرابطة التي تشدنا إلى إسرائيل، هذا البلد الذي لم يبدأ إلا عام 1948 والمليء باليهود من كل أنحاء العالم.البعض يقول أنها أرض الأجداد، ابراهيم، اسحق، يعقوب وداود.أخرون يشعرون أن الإبادة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية برهنت على أنه كان يجب أن يكون هناك دولة يهودية تكون مأوى لهم اذا ما هددوا ثانية.القليل من الفتيات اللواتي كان لهن رأي معقول إلى حد ما قلن انهن ولدن هنا وأن الإنسان عادة ما يكون ملتصقاً ببلده الأم.بعد ذلك تقرأ “كينيريت” نصين أدونهما هنا.                                   
                                      عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                     صلاح النصراوي
ج1 ف6
                                       إلى الأمام سر
شيء مزعج أن يوقظك شخص ما، لا تكاد تعرفه في منتصف الليل (حتى لو كان الصباح في عرف الجيش يبدأ الساعة الرابعة صباحاً).حالما تخرج من الفراش تحس بالبرد.مع أننا في سبتمبر.لم أشعر قبلاً بالبرد في مثل هذا الوقت في إسرائيل.أرى بعض فتحات التهوية العملاقة والتي تبدو مسؤولة عن تبريد قواعد الجيش، لتعليمنا كيف أن الحياة جدية هنا.
من الواضح أن الجميع أقل ثرثرة من مساء الأمس، نرتدي بزاتنا العسكرية.لو كنت أبدو مثل الآخريات فمن الأفضل أن أبتعد عن المرآة:وجه منتفخ، بشرة شاحبة، عينان متورمتان.
تبدو “سيفان”، التي تشعر أنها قد بدأت بالإضطلاع بدفة القيادة، قلقة بعض الشيء من أن بعض الفتيات يرتدين البلوزات أو الانوراك.
“هل تعتقدن انه مسموح لنا بذلك؟” تسأل بصوت خفيض.
الأشياء المتجمدة من البرد يهززن بأكتافهن.
“علينا الإستيقاظ الساعة الرابعة والنصف، لكن لا احد قال لنا أن علينا أن نتجمد من البرد.اذا تفوهت بأي شيئ فسنخلعها، هذا كل ما في الأمر.”
وهكذا، وضعت البلوزة والانوراك الرجالي ماركة “مشيلن”.أي عارضة أزياء كانت ستبدو كالفيل في تلك الملابس.لكنها لا تؤدي الخدمة العسكرية، وليس بإمكانها أن تشعر بالإحباط الذي يولده البرد حين تكون الملابس سيئة، وحين تكون جندية.
حول المغاسل تتجمع كتلة من لابسات الخاكي.المح رأساً صغيراً أشعثاُ وأضع يداي على عينها.تبصق “إينات” معجون الأسنان من فمها.
“هل نمت جيداً؟”تسألني.
“لا تسأليني أسئلة يمكن أن تزعج أناساً في منتصف الليل.”
“في أي خيمة أنت؟”
“رقم 13، وأنت؟”
“رقم 27.حاولي أن تأتي الليلة قبل أن يطفؤا الأنوار.علي أن أذهب فلم أرتب فراشي بعد.”
وأنا أيضاً.أعود إلى الخيمة مع الفتيات حيث يدور نقاش ساخن.كيف نرتب فراشنا؟البعض يدعي إستناداً إلى مصادر مطلعة (أباء، اخوان، أصدقاء) بأنه يجب طوي الأغطية والبطانيات، آخريات يقلن يجب شد كل شيء بعناية، لكن احدى الفتيات تقترح برومانسية أن نشد الغطاء أسفل السرير مثلما يفعلون في الفنادق.رئيسة المجموعة تفقد صبرها، إنها الرابعة والنصف.
“أياً كان ما سنفعله فلن يكون صحيحاً”، تقول “كينيريت”، “أي شيء محدد.دعونا فقط نتأكد أنها مرتبة.وبسرعة”
في تمام الساعة الرابعة والدقيقة الثامنة والخمسين نكون في حالة التشكيل الرباعي.تقف “سيفان” في الصف الأول، متوترة جداً.تظهر العريف “كينيريت” في تمام الساعة الخامسة وببرود تعطي أوامرها.
“سرية (د)، إنتباه.”
نرفع أذرعتنا اليمين إلى مستوى الجبين.الفتاة التي إلى يساري تطلق صرخة خافتة وتمسح عينيها.الواضح أن الحركة التي قامت بها لم تكن صائبة.أعض على شفتي كي أكبح ضحكة.
“الجندية “سيفان”، قدمي التقرير.”
تتقدم “سيفان” ثلاث خطوات إلى أمام، تؤدي التحية وتقول (بصوت كان من المفترض أن يكون حازماً.”عشرون جندية في السرية، سيدتي.”
“أي سرية؟”
“سرية (د)، سيدتي.”
“عليك أن تقولي ذلك بوضوح.أبقوا في الإنتباه.سأقوم بتفتيش خيامكم.”
تمضي دقيقتان.تعود دون أن تبدي أية ملاحظات.
“سرية (د) نصف إستدارة لليسار.يسار .. يمين، يسار .. يمين… يسار.. يمين.”
نصل إلى الميدان الذي كنا قد تجمعنا فيه ليلة البارحة.كل الكتيبة متجمعة هناك، لكن الملازم “أنبار كاتز” ليست هناك.”
احدى العريفات تبدأ بالكلام.
“سنبدأ يومنا ببعض تمارين الإحماء.الفطور عند الساعة السادسة.الرجاء نزع الأنوراك والتجمع في صف واحد.
نخلع الأنوراك ونرتجف.ومن ثم بأوامر من العريف نبدأ الجري.
20سبتمبر، الساعة التاسعة والنصف مساءً.
لم يعد هناك وقت للتفكير.كل دقيقة هي موضع حساب، كل ما نقوم به هو بموجب أوامر، لم ننعم بدقيقة من الراحة منذ الصباح.من غير المتصور القيام بمبادرة من أي نوع.تعلمنا كيف نطوي أغطية الأسرة والبطانيات بشكل صحيح (60سم×40سم).قبل أي شيء لا بد من نفض البطانيات بقوة بحيث تنطلق غيمة من الغبار.أعتقد أنهم ينقعونها في حمام من الغبار قبل كل موسم.محظوظات أولئك اللواتي لديهن ربو، إذ أنهن معفيات من ذلك.إبتداء من الغد سيكون هناك تفتيش، مرة واحدة على الأقل يومياً.هناك قائمة الواجبات التي علينا إنجازها، المطبخ، الحمامات، واجبات الحراسة الليلية.لأننا لم نتعلم الرماية بعد وليس لدينا أسلحة فستكون الحراسة خارج خيمتنا فقط.ليس هناك من جدوى لهذه لأن هناك من يؤمن حراسة القاعدة.ولكن يبدو لي أن كلمتي “مفيدة” و”منطقية” لا معنى لهما هنا.نحن نتبع الدروس ونواجه حياة صعبة، لا غير.
ومع ذلك فأنا أشعر أني بوضع جيد.الفتيات مرحات، نضحك حالما نختلي بأنفسنا (وهي مرات نادرة).لا واحدة منا تعرف الأخرى من قبل.إنها أرض بكر.نمر بأول تجربة كبنات ناضجات (على ما يبدو).ذلك ما يساعد على سرعة الألفة.
 21 سبتمبر، منتصف الليل
من المفترض أن أكون نائمة.ولكني أنهيت لتوي واجب الحراسة.إنه أمر مضحك.علينا أن نسأل كلمة السر-اليوم كانت الكلمة “قهوة من غير سكر”- من كل من يأتي إلى الخيمة.أنا جندية الكتيبة.لو كان لدي شراب سحري لسقيته للطباخين.صدقاً، وجبات الطعام مقززة.انضممت إلى نادي آكلات اللبن الزبادي.إنه مفيد للرشاقة، لكن قلة النوم وعدم الراحة يجعلك تشعرين بالجوع.من حسن الحظ أن لدى كل منا كميات من البسكويت، جمعناها سوية.
22سبتمبر، الساعة الحادية عشر والربع مساءاً.
أكتب على ضوء النور الذي يشع من ساعتي.بعض الفتيات يشخرن.و”كارين” تمصمص إبهامها.
اليوم إستلمنا بندقية.إنه شيء مرعب.سنمضي سبع سنين في السجن لو فقدناها، أو لو سرقت منا.لابد من أن نبقيها معنا طوال الوقت، أو نقفلها بالسرير.(ماذا اذا سرق أحدهم السرير.)حتى الآن تعلمنا التحذيرات المعروفة.اذا ما اقترب أحد منا ونحن في نوبة الحراسة علينا أن نسأله عن كلمة السر.إن لم يجب علينا أن نقول “قف” بصوت واضح ومرتفع، وبعد ذلك نقول “قف والا سأطلق النار.قف والا سأطلق النار.” مرتين.اذا إستمر بالتقدم:أطلق لتقتل.
أطلق لتقتل.
إنهما مجرد كلمتان، ولكن حين ترتبطان سوية فأنهما تبدوان مثل إنفجار.لامفر من ذلك.
كفاية.الآن أستطيع النوم.
سبتمبر 23.الساعة التاسعة مساء.
سوف نخرج.هابيتا! هابيتا! تلك الكلمة الرائعة التي تعني الذهاب إلى البيت.ننتظر الحافلة التي ستأخذنا إلى محطة الحافلات الرئيسية في الخضيرا.من هناك سنكون أحراراً في الذهاب إلى البيت.أحراراً بكل معنى الكلمة حتى منتصف نهار الأحد.
إنتظرنا ساعتين لحين وصول الحافلة.سلمونا ورقة الإجازة للسماح بمغادرة القاعدة.(ليس بإمكاني الإنتظار أكثر لأستلم ورقتي ومن ثم أقوم بالإتصالات الهاتفية، لكي أغازل، أبكي، أرى أصدقائي، أرتب شعري، أقرأ، أكتب، أضع مساحيق التجميل، أتزوج، ولا أعرف ربما أشياء أخرى.)
محاولة الحصول على توصيلة مجانية على الطريق غير مسموح بها.الطرق عبر البلاد مليئة بالجنود يحملون أسلحتهم، رافعين إبهامهم إلى أعلى.مالذي يفعلونه؟هل هي تمارين الجمناستيك، يتنفسون الدخان الخارج من عوادم السيارات؟
“هذا كل ما في الأمر.تمنع التوصيلات المجانية.
من الضروري كذلك عدم الثرثرة بأسم قاعدتنا، أسماء الضباط، والضباط الصف، زملائنا الجنود، كم عددنا وماهو الرقم العسكري لكل منا.
“لكن جميع من في البلد يعرف بأمر هذه القاعدة”، تجرأت احدى الفتيات على القول “نصف السكان مروا من هنا.”
“ومع ذلك ففي الجيش يجب أن تمتنعن عن الكلام.في الجيش كل شيء مصنف بأنه مخصوص، وأي شيء ليس مخصوصاً فهو سري.”
“وما الذي هو غير سري؟”
“سري للغاية.”
لدى العرفاء أجوبة عن كل شيء، جاهزة دائماً.هم سادة قواعد اللعبة والتي تتطلب منا وقتاً طويلاً لإدراكها.
سنتان؟
“على الجميع أن يعود للقاعدة يوم الأحد.ستكون حافلة بإنتظاركن في محطة الحافلات في الخضيرا في تمام الساعة الحادية عشرة لنقلكن.في منتصف النهار ستكونن أمام الخيمة.عطلة سعيدة.”
بعض الفتيات سيكونن معي في الحافلة لبعض الوقت حتى تل أبيب.نرفع بفخر هوياتنا الجديدة (مسموح للجنود ركوب حافلات النقل العام مجاناً).ننتظر رد فعل ما من السائق، إبتسامة، تحية.لكنه يبدو مبتئساً ولا أبالياً لمجموعتا الخاكية الصغيرة.لكن على الجانب الآخر، ترتسم على وجوه الركاب تعبيرات محببة…منبعها نظراتهم إلينا.الناس في الشارع يقدسوننا.
في الحافلة التي تقطع النقب إلى بئر سبع:أضع السماعات في أذني.وحدي وحرة.خلال ساعة سأعود إلى عائلتي.لحد الآن لدي شعور بالحرية اللامحدودة.ربما يعود ذلك للموسيقى ولمنظر الريف الذي تخلفه الحافلة المنطلقة إلى أمام.أعتقد أني بدأت إكتشاف أن الحرية هي الحركة.وأخذ نفساً عميقاً.
بحدود الساعة الرابعة عصراً أصل إلى مدينتي، التي يخيم عليها السكون.تتهيأ للسابات.أنه مساء الجمعة ويوم الراحة على وشك أن يبدأ.ينتابني شيء من الشعور بالغرابة وأنا أسير هنا بالبزة العسكرية.أشعر كأني في حفلة تنكرية.كل واحد سينظر إلي ويبتسم، أو يضحك.إنهم يعرفون “فاليري”، وليس الجندي المكلف رقم 3810159.
لكن ليس هناك أحد.حين أقرع الباب تتلقاني صيحات الفرح.لم يكن لدي وقت لأخبر والدي بقدومي.أمي تحتظني، وأبي يحاول أن يأخذ نصيبه مني.
“كنت متأكدة من مجيئك هذا الأسبوع.قلت ذلك لأبيك.عملت لك كل الأشياء التي تحبينها.”
   “دعينا نلقي نظرة عليك، تبدين جميلة، البزة تليق بك.”
“ضعي القبعة على رأسك.ياللروعة، أنت جندية حقاً.”
أضع قبعتي.وأيضاً اؤدي التحية.”تمام.أنا جندية، ذلك مذهل.”والآن بما أني في المنزل، مع والدي،لا يبدو بإمكاني أن أحزر مالذي يعنيه هذا بعد الآن.ليس هناك الكثير الذي تغير، فانا في أجواء مألوفة، كل ما هنالك أني ابتعدت لأربعة أيام.أشعر ببعض عدم الإرتياح، وليس بإمكاني أدراك السبب، ولكني أخفي ذلك عنهم.
أنا الآن رحالة عادت لتوها من أرض لم يسعها إكتشفاها.هم يمطروني بأسئلتهم.
“أين نمت؟” تسألني أمي بقلق.
“في خيمة.”
“يالله، هل لديك ما يكفي من البطانيات؟”
“طبعاً لدينا، وعلى أي حال، أنت تعرفين، حين تكونين مرهقة فأنك لا تشعرين بالبرد.”
“ماذا عن الأكل؟” يسألني أبي.
“مقزز.”
ينزعج.ربما من جوابي الصريح أو من الواقع ذاته.أستغل الوقفة لوهلة لكي أسألهم عن شقيقتي.يتأسفون أنها لم تستطيع الحصول على إجازة هذا الأسبوع.بالتأكيد سوف تكون هنا في عطلة نهاية الأسبوع القادم.أقول بيني وبين نفسي، على هذا المنوال فلن أراها لعام كامل.أحاول أن أخبرهم عن كل شيء بالتفصيل، لكني أنسى بعض الأشياء، فأعود ثانية ألى اليوم الأول.إلى اللحظة التي تركتهم فيها.
لايبدو الأمر يسيراً، فأنا أتحدث عن عالم غريب.يحاول والدي أن يجد شبهاً مع أيام خدمته العسكرية خلال حرب الإستقلال الجزائرية.أمي تحاول أن تنهره.
 “لقد حكيت لنا تلك الحكايات مئات المرات، تلك أخبار قديمة.وعلى أي حال، ليس الأمر كذلك  معها، فهي جندية فتاة.”
أصغي إلى الإعتزاز الذي في صوتها، في حقيقة كوني فتاة وجندية.شيء مريح.
بعد أن بقيت هناك لوقت معقول، أتسلل إلى الخارج وأعدهم بأني سأكون معهم على العشاء.الإتجاه إلى “راحيل” و”يوليا”.
من نافل القول أنني لم أخلع بزتي.
تتلقياني بإندهاش يثير في البهجة.
“أنظروا إلى تلك الجندية الجميلة.”
“البزة تليق بك حقاً، حقاً.”تقول “يوليا”.”دائماً ما أقول أن الخاكي يليق بالسمراوات.”
“إنه يناسب الشعر المحمر أيضاً”، أرد بلهجة (تصالحية مماثلة)، أو هكذا أظن.
“ضعي القبعة، هيا نأخذ صورة.”
تأتي “راحيل” بكاميرتها.كليك.ثم تجرب “يوليا” إرتداء القبعة، وتلجأ إلى تلك الطلة الجامدة، كأنها تنحدر من سلالة “مارلين مونرو”.عجزت دائماً عن أن أعرف كيف بإمكنها أن تتخذ تلك الوقفة.المرة الأولى التي حاولت أن أقلدها أمام المرآة بدوت متصلبة القامة تماماً مثل كلب “دوبرمان” لم ينم منذ عشرة أيام.
وتحت الحاح أسئلتهم بدأت أخبرهم بكل شيء.وصفت اليوم الأول بالتفصيل.حدثتهم عن “إينات”.(التي لم يبدين أي إهتمام بها) وعن الملازم “أنبار كاتز” تلك التي من فرط جمالها فأننا نطيع أوامرها بشكل أعمى.(“ذلك سخف”، تقول “يوليا”.”أنتن تطيعونها لأنها ملازمة.”) أخبرهن عن الخيمة، عن البطانيات اللواتي غطسن في التراب، الشعور وكأننا في مخيم العطلة حين نحصل على بضع دقائق من الحرية، عن الروتين اليومي، وعن كل الأشياء في الأوقات الباقية.المسير في الوقت المحدد، الركض، ترتيب الأسرة، تعلم المبادئ الأولية، والتي سرعان ما يأتي غيرها…
أرى أن إهتمامهما يفتر.لذلك اسألهما، وماذا فعلتما أنتن خلال الأيام الأربعة التي مرت؟”
ذهبنا إلى السينما كما ذهبنا إلى البحر يوماً.تسوقتا في تل أبيب.في احدى الليالي ذهبنا مع المجموعة إلى بار جديد في المدينة يدعى “اورغازما”.(منذ مدة واصحاب البارات بدؤا يتنافسون بإطلاق أسماء مثيرة، قبل فترة رأينا “القيامة الآن”، “المطر القرمزي”، “الحطام”، “الملعون”، “دراكيولا”…)
لم يفعلوا الشيء الكثير، تسكعوا سوية.
يمضي كل منا في طريق على أن نلتقي مساءً مثل كل مساء جمعة.”
عدت سريعاً إلى البيت.إستغربت أمي من عودتي المبكرة، لكنها لم تنبس ببنت شفة.بينما كنت أنتظر العشاء سجلت بعض الملاحظات في مذكراتي، لكن ما كان بوسعي أن أقرر في ما اذا كان هناك “معسكر” للمذنبين، “يوليا”؟ “راحيل” ؟أنا؟ من منا لم يعد يفهم الآخر؟من منا لا يشعر أنه بحاجة إلى أن يستمع للتفاصيل الصغيرة التي لاتعنيه؟مالذي حدث في أربعة أيام، بحيث ذابت تدريجياً تلك اللهفة لرؤية احدانا الأخرى حين إلتقينا ثانية.
لم يكن بوسعي فهم تلك الحالة الغريبة.كنت حزينة ولكن ليس إلى الدرجة التي أبكي بها.أو حتى أن أتحدث عنها لأي أحد.
صحيفة نهاية الأسبوع، مع كل ملاحقها كانت فوق الطاولة.قرأت عمود “يوناتان جيفين”، لا يسعنى أن تفوتني مهما كان الأمر.هو يساري لايحيد مثلما هو مدمر لا يفتر.ينتقد الحكومة وإحتلال الأراضي الفلسطينية وللقدرة الإسرائيلية الأسطورية على الجدل دون سماع ولو كلمة واحدة مما يقوله الآخرون.هو في لندن ويكتب عن الصورة التي عليها إسرائيل من هناك.دولة صغيرة لا يتوقف الآخرون عن الكلام حولها.منحتني مقالته الفرصة لكي أتنفس قليلاً بحرية.تصفحت الجريدة أبحث عن شيء آخر.لكني لم أكن مهتمة بأي شيء مما يدور في العالم.
شغلت التلفزيون.كانت الأخبار قد بدأت لتوها.إضطرابات في الأراضي، في جنين.أعمال عنف، إطارات سيارات تحترق، منجامات وحجارة، وأعمال عنف مضادة من جانب قواتنا، إطلاق رصاص مطاطي.جرح خمس عشرة فلسطينياً.ثلاثة جرحى إسرائيليين.لا موتى اليوم كي نحصي ونقارن بين الطرفين، كي نعزز الكراهية، أو السجال ضد الطرف الآخر.
الحافلة التي استقليتها من الحضيرا لكي أصل الى تل أبيب تمر على بعد كيلومترات من جنين.ربما في تلك النقطة كنت أنا و”تامار”، و”شلوميت” و”غاليت” نغني.ربما كانت أغنية “شلومو أرتزي” ،” أرض جديدة.”
   ذهبنا الليلة إلى البار وكنت سعيدة أن التقي بالاولاد، وخاصة “فريدي”؟كلمني عن القاعدة وكأنه كان هناك بيننا.جعلني ذلك اشعر بالانتماء ثانية.وانا بملابسي المدنية شعرت وكأن شيئاً لم يتغير، وكأنه مساء جمعة آخر وليس مجرد 42 ساعة منحت لجندية في السرية (د) في الكتيبة 3.
كنت متعبة وكان لايزال أمامي الكثير من الشراب علي أن أعبه، الا أنني تركته وذهبت مباشرة إلى الفراش ونمت طويلاً.استيقظت، شنيت غارة على الثلاجة:شيء من الدجاج، كرات اللحم التي تصلبت بسبب البرد، قليل من الكيك المحلى بالعسل والذي تصنعه أمي أفضل من أي أحد آخر.
تلك هي المرة الأولى التي أهجم فيها بتلك الطريقة، تاركة باب الثلاجة موارباً وضؤها متقداً، مثل حرامي.
قضيت السبت بين لعب التنس مع أمي ونقاشات فارغة أخرى مع “راحيل” و”يوليا”، وفلم رائع على التلفزيون.
بقيت أقول لنفسي ينبغي أن أستغل كل وقت الإجازة، اذ لا أدري متى سأكون هنا ثانية.لكني لا أعرف مالذي يمكن أن أفعله.ماذا هناك غير ما هو معتاد في السبت (عطلة عامة) في بئر سبع، مدينة هادئة (هادئة جداً) في عمق الصحراء.
فجأة أحس بأني أفتقد “جين-ديفيد” تماماً مثل اليوم الأول بعد مغادرته.أضرب رقمه في تل أبيب.بعد عشر رنات يرفع التلفون، ويرد بصوت ناعس، هالو.
أقفل السماعة.
لا يسعني الإنتظار كثيراً للعودة إلى القاعدة، إلى زميلاتي الجنديات الضاحكات اللواتي لا يعرفن مشكلاتي.لا أطيق الإنتظار، أن أكون الأولى في التدريب الذي وعدونا به.
أردت أن أعرف مالذي سيأتي لاحقاً.لأن تلك هي التي ستكون عليها حياتي منذ الآن.اما بئر سبع، بيتي، صديقاتي، قلبي المحطم، الذي أجره ورائي مثل بطانية الصغار، فسأركن كل ذلك لبعض الوقت.
***