صفوة القول (21)
                                                           
                                                           مختارات من اراء وقضايا

سجالات الثقافة العراقية بين ذهنية الاحتراب ونداء وطن محاصر
صلاح النصراوي

الحياة في 25 مايو 2000

يحتدم السجال منذ فترة بشأن واقع الثقافة العراقية المعاصرة، التي تعاني شأنها شأن الحال العراقية برمتها، من ضنك حصارات بعضها ناتج من حصاد تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية خائبة ومريرة وصلت الى حدود التدمير الذاتي، وبعضها عن عملية التدمير المنظم متعددة الأبعاد التي فرضتها أسوار الفصل العنصري المحيطة بالعراق تحت راية عقوبات الأمم المتحدة وبعضها الآخر ناتج من حصار المنافي الضيقة والنائية.
 هذا السجال يستعر الآن بين طرفين أفرزتهما تلكم الحصارات، احدهما يدعي تمثيله للثقافة العراقية، مستمداً دعواه من صموده داخل تلك الأسوار وأمام افرازات الصراع ببعديه الداخلي والخارجي، وانخراطه في معركة الوجود المادي والثقافي على أرض الوطن، بينما يعلن الطرف الآخر من منافيه البعيدة عن مشروعيته التي صاغتها معاناة مغامرة البحث الدائم عن الحرية ومقاومة سياسات القمع والاكراه وتشبثه في دوره الرائد وحقه في المشاركة الفاعلة في تجديد واعادة تأسيس الثقافة العراقية على أساس مشروع وطني ونهضوي.
 وكما هي العادة المدمرة التي رسختها التجارب السياسية الخائبة وذهنية الاحتراب القبلي والانتقام التي افرزتها فان المناظرات القائمة حول راهن ومستقبل الثقافة العراقية امتدت لكي يكيل طرف من اصحابها الى آخر الاتهامات التي راوحت بين الخيانة والجبن والصمت ازاء المعاناة الوطنية والوصاية كما يراها بعض مثقفي الداخل الذين عبروا عن آرائهم في هذا الحوار، وبين الاتهامات بالخيانة أيضاً والعمل الاستخباراتي وممالأة السلطة والتدجيل والتطبيل وحرق البخور لها على حساب الضمير الاخلاقي والالتزام بقضايا الوطن الكبرى والمصيرية، كما أعلن عنها بعض مثقفي المنفى.
هناك بالتأكيد أبعاد كثيرة مغفلة في هذا الحوار الدائر على صفحات الجرائد العراقية والعربية. فالواقع العراقي بقدر ما هو كارثي، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإنه أيضاً ملتبس ومضطرب، ذلك أن الدلالات المتوافرة لا تشير الى إمكان تغير ايجابي كبير يمكن أن يحصل قريباً لينتشل الوطن العراقي من محنته ويزيل من أمامه عوائق النهوض من رماد الحصارات ويعيد وضعه على سكة التقدم الإنساني.
 هذا الواقع يضع على كاهل المثقفين العراقيين مهمة أخرى غير تلك التي يضطلع بها “سياسيوهم” وهي القيام بدورهم الطليعي الاخلاقي والوطني في التحريض على البدء بعملية إعادة اكتشاف للذات هدفها ان تفضي الى عملية اعادة البناء لا الاندفاع العشوائي مجدداً نحو ممارسة اللعبة المدمرة التي اصابت الوطن بالمحن وأورثت ابناءه هذا الكم الهائل من المعاناة والحسرة والحيرة والكبت.
لذلك فإن المطلوب هو البحث من خلال الحوار الرصين عن أجوبة تتعلق بأزمة الثقافة العراقية بشقيها الداخلي والمنفى بعيداً عن ذلك الطابع المتوحش الذي تفرضه السياسات الفجة وأساليبها سواء منها تلك التي تلجأ الى العنف المادي والمعنوي لكتم الاصوات الاخرى أو تلك الضاربة في الغضب والتجريح واللعنة. إن أولى المسلمات هذا المسعى هو ضرورة الكف عن النظرات الأحادية ودعاوى احتكار الحقيقة والتخوين التي الحقت اشد الضرر بالثقافة العراقية والايمان بأن أي ثقافة وطنية هي بالتالي نتاج المشاركة والتفاعل بين الافكار، التي هي بدورها نتاج انصهار انماط من القيم والمعتقدات والتفسيرات العقلية والرموز الثقافية والاجتماعية، او ما يمكن اختزاله بالخبرة التاريخية التي يختزنها أي مجتمع أو خلفية قومية ودينية وطائفية متنوعة، وفي حال الواقع العراقي فإن أكثر ما ألحق الضرر بالثقافة هو النكران المتعسف لوجود هذا التنوع داخل الثقافة الواحدة وبخاصة ذلك الذي مارسته مراكز القوى السياسية والايديولوجية.
ثانياً، ان ما أصاب المجتع العراقي نتيجة التشوهات النبوية التي الحقتها الحصارات هو تعميق تناقضاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما سيجعل بالحاجة الى اعادة دمج الافراد بالمجتع، وهي مهمة لن تنهض بها الا ثقافة وطنية تضع على عاتقها مهمة بناء تصورات للمستقبل تقوم على تضميد جروح الماضي وإزالة ندوبه والسمو على احقاده وضغائنه، إن مثل هذه الوظيفة لا بد ان تنطوي بصورة ضمنية على ضرورات حفز إبداء الندم كواجب اخلاقي، من قبل كل أولئك الذين تسببوا بهذه المعاناة الانسانية، كمقدمة لعملية مصالحة وطنية شاملة تقوم على مرتكزين، تحقيق العدالة والتسامح.
ثالثاً، ان المهمات المناطة بالثقافة العراقية تتجاوز المفهوم الذي ظل سائداً لدى أطراف الصراع السياسي كونها ساحة للجدل الحزبي المتعارض وأداة للتعبئة الجماهيرية، فعلى رغم ان النشاط الثقافي، في بعض أوجهه، وهو عمل سياسي إلا أن ذلك يجب ألا ينحط به، كما حصل دائماً لكي يجعل من الثقافة ميداناً آخر للصراع السياسي ويغرقها، كما يحصل الآن، في جدل الداخل – الخارج والوطني – الخائن، وغيرها من الثنائيات التي لا تخلط السياسي بالثقافي فقط، وانما تؤسس لاستمرارية التناقضات التي ينبغي دفنها مع ولادة عراق جديد.
رابعاً، ينبغي السعي منذ الآن الى النظر في اعتماد أدوات ثقافية جديدة واخراج الثقافة من أدراج المؤسسات الرسمية والحزبية التي حبست بها طويلاً ومن دائرة المزايدات ودفعها للهواء الطلق حيث تتوافر القدرة على الاكتشاف بعيداً من يقين وقوانين المؤسسات الخالية من اجواء الحرية والغفران والتسامح. وفي هذا الإطار فإن الاجيال الشابة من العراقيين وبخاصة الذين استطاعوا ان يتجاوزوا محن المنافي، اضافوا رصيداً قيماً للثقافة العراقية من خلال امكان مزجهم الخلاّق بين تراثهم الثقافي ومكتسباتهم الجديدة من النظام العقلي الذي نهلوا منه في منافيهم والذي سيمكنهم، حين تتوافر لهم الفرصة، من المساهمة، ليس فقط في عملية اعادة البناء المؤملة، ولكن في جذب ودفع روح التحديث والنهضة.
عموماً فإن السجال الجاري هو أحد مؤشرات استمرار أزمة الثقافة العراقية التي هي دورها انعكاس للأزمة الوطنية الشاملة ما يعني ان معترك العمل الأشمل سيظل هو العمل على إحداث التغيير من خلال استنباط حلول وتصورات للإصلاح وإعادة البناء، وهي مهمة ينبغي ألا تترك للسياسيين وحدهم، كما لا ينبغي احتكارها من قبل فريق واحد أو جماعة معينة، بل ينبغي ان تتم من خلال حوار مفتوح وجهد تعددي ومناقشات جادة.
 لقد مضى الى غير رجعة عهد احتكار الحقيقة واحتكار الوطن وأن الثقافة هي وحدها الميدان الأسمى لتبادل الأفكار واحتضان الابداع ودعم الابتكار الخلاّق وبناء الرصيد المعنوي لاعادة إعمار الوطن العراقي وفتح السبيل أمامه للانضمام الى قافلة الحضارة العالمية الماضية نحو المستقبل. إن على عاتق المثقفين العراقيين مهمة صعبة وهي تهيئة أنفسهم للمشاركة الايجابية في إعداد استراتيجية للنهوض من خراب الحصارات الى عصر جديد سيولد من مخاض الألم والضغائن والحرمان.
قد تدمغ مثل هذه الدعاوى أصحابها بالرومانسية أو بالحلم أو حتى بالسذاجة. ولكن التجربة التاريخية اثبتت مرة بعد أخرى أن العقل الواعي، الذي هو جوهر كل الثقافات الحية هو وحده الكفيل بدراسة منعطفات التاريخ الكبرى وفهم ظواهرها ومن ثم اختراق مساحات الصمت والتبشير بالحلول الصائبة لها. وفي الحال العراقية الراهنة فإن أكثر مستلزمات الوعي هو الشفافية وضرورة تملك الملكة النقدية التي تحتاجها عملية المساءلة والتصحيح التي يتطلبها الكشف عن المنعطف الآتي قبل ان يبدأ العراقيون نحته في صوان الزمن القاسي.
 إن من الخير للمثقفين العراقيين أن يبدأوا حواراً يمتد من المنافي البعيدة ومن تخوم الوطن حتى قلبه، غايته تفحص السبل التي تقودهم الى تبوء عملية الكشف هذه وتحفز الجدل العام بشأن الخيارات الممكنة، من أن يتركوا المعترك مرة أخرى للأدعياء الذين يملأونه بالضجيج، أو لأولئك المتربصين الذين يتوقعون دائماً ان يكونوا في المقدمة، ولا بأس من أن تكون البداية البحث عن جواب للسؤال الذي من المؤكد أن تثيره هذه المساهمة: وهل هذا ممكن في وضعنا الذي يتصف بمزيج من العبث واللاجدوى واليأس والانتظار.
*
Iraqi Shia dilemma in Syria
Talk about the involvement of Iraq’s Shias in Syria could be inflated, but their strategy in the country’s war-torn neighbour also seems to be in doubt, writes Salah Nasrawi

Reports that Iraq’s Shias are joining Lebanese Hizbullah fighters and Iranian advisors in the war in Syria to support President Bashar Al-Assad’s regime are mounting amid increasing concerns that the conflict in Syria is turning into a regional sectarian struggle between Sunni and Shia Muslims.
The news came as the crisis in Syria has been escalating and driving western powers and regional Sunni heavyweights more decisively into the civil war in Syria by arming and training the mostly Sunni rebels who are waging a struggle to topple Al-Assad’s Alawite regime.
Yet, the scope of the Iraqi Shias’ involvement in the Syrian quagmire remains a mystery amid accusations of exaggerated reports and signs that the Baghdad Shia-led government is lacking a coherent and a well-defined strategy to deal with the conflict in the neighbouring country.
Since the uprising against Al-Assad began, the Iraqi Shia-led government has been uneasy about dangers that the Syrian crisis might spill over into Iraq. Baghdad has been worried about the prospect of the opposition in Syria winning a victory over Al-Assad’s regime could widen the sectarian divide in a nation still dealing with its own confessional strife.
The Baghdad government has repeatedly said that it remains neutral in the conflict and has urged a peaceful solution to the uprising. This policy has seemed to be designed to prevent the growing instability in Syria adding to concerns over Iraq’s own volatile situation.
But the increasing reports about Iraqi Shias flocking to Syria to fight Al-Assad has raised questions on whether the Iraqi Shia-led government is being gradually drawn into the conflict, contradicting its policy of neutrality.
In recent weeks, various press reports have suggested that Iraqi Shias are joining the government side in the war in Syria in increasing numbers. They say that Iraqi Shia volunteers are receiving weapons and supplies from the Syrian and Iranian governments, and that Iran has organised travel for Iraqi Shias willing to fight in Syria on the government side.
According to the reports, three main hardline Shia groups, the Mahdi Army, the Asaib Ahl Al-Haq and the Kataaib Hizbullah, are all sending volunteers to Syria, some by road from the Shia holy city of Najaf and others via Baghdad airport.
Estimates put the number of Iraqi Shia fighters in Syria from 600 to more than 1,000, with around 50 fighters crossing the border every week.
Iraqi Shia Prime Minister Nuri Al-Maliki told Al-Arabiya satellite news channel on Sunday that his government did not sanction the movement of Iraqis and weapons supplies to the Al-Assad regime.
On Monday, Syria’s foreign minister Walid Al-Muallim also denied movements of Iraqi Shias into Syria, although he acknowledged the Lebanese Hizbullah’s participation in the fight against the rebels.
Iraq’s Kurdish Foreign Minister Hoshyar Zebari said the numbers of Iraqi Shia fighters in Syria were inflated.
Last week, a key Iraqi Shia minister warned that thousands of Shias from Iraq would take up arms against Sunni extremists if Shia shrines in Syria came under attack.
Hadi Al-Amiri, also head of a small Shia movement, said in an interview with a Western news agency that it would be impossible for Iraqi Shias to “sit idly by” while the United States and its western and Arab allies were arming and financing the  mainly Sunni Syrian rebels.
Al-Amiri seemed to be speaking the minds of many Iraqi Shias who have criticised Western and Arab countries for increasing their weapons delivery and training of the rebels, while deeming the sending of Iraqi men to fight Al-Assad to be unacceptable.
Indeed, just as the Western media was rushing to publish reports about Iraqi Shias flocking to Syria to fight on Al-Assad’s side, the news about Syrian rebels receiving arms supplies was also particularly abundant.  
Syrian opposition groups have been receiving weapons from some Arab countries, namely Qatar and Saudi Arabia, with the assent of the Americans and other Western powers.
Recent studies have also shown that thousands of Sunni jihadists, mostly affiliated with the extremist Jabhat Al-Nusra Front, are taking part in the fight against the Al-Assad regime.
On Saturday, the Friends of Syria Group, which includes the US, Britain, France and Germany, as well as Saudi Arabia, Turkey, Egypt and Jordan, announced that it would provide urgent support to rebels fighting Al-Assad.
Qatar’s Prime Minister and Foreign Minister Sheikh Hamad bin Jassim bin Jaber Al-Thani, who hosted the meeting in Doha, interpreted the decision as “providing arms” to the rebels.
The New York Times unveiled last week that Qatar had been busy shuttling arms stockpiles to the rebels in Syria from Libya. It said that Qatari C-17 cargo aircraft had made shipments from Libyan airports to the US built Al-Udeid Air Base in Qatar, before the cargos were flown to Turkey to be delivered to the rebels inside Syria.
The British Daily Telegraph also reported that Saudi Arabia had been providing the militants in Syria with heavy weapons, including anti-tank missiles which have already been used to destructive effect and may have held up a promised regime assault on Aleppo, Syria’s second-largest city.
On Friday, the Los Angeles Times reported that CIA operatives and US special operations troops had been secretly training Syrian rebels with anti-tank and anti-aircraft weapons since late last year, saying that the US had increased its assistance to the rebellion.
The covert US training at bases in Jordan and Turkey began months before US President Barack Obama approved plans to begin directly arming the opposition to Al-Assad.
Iraq’s critics seem to be outdoing themselves, since their intervention in Syria is now far-reaching and decisive and entails strategic goals such as influencing events and reshaping the map of the entire Middle East.  
This leads to the inevitable question of whether the Iraqi Shias have a strategy on the complex situation in Syria, or whether they are following haphazard and uncontrolled reactions, as they increasingly feel threatened by the prospect of a rebel victory in Syria.
It is important to remember that Iraq’s Shias are no fans of Al-Assad, who they accuse of helping to fuel Iraq’s civil war by permitting weapons and fighters to stream across the border following the removal of the former Saddam Hussein regime.
Also, and contrary to common misconceptions, Twelver Shias, the followers of the mainstream Shia branch in Iraq and Iran, do not recognise the Alawites as their co-religionists, and some even believe they are heretics.  
Most Iraqi Shias have no love for the Baath Party that ruled Iraq during the Saddam era, and they associate it with Al-Assad’s ruling Syrian Baath Party.
It is equally necessary to underline that while Iraqi Shias could be seen as aligned with Iran to face up to perceived threats by Sunni Arabs, they can hardly be accused of being Iran’s stooges or even of seeing eye-to-eye with Iran on all issues.
If mutual interests or political bonds between the Iraqi Shias and the Syrian regime are excluded, a major reason for the Iraqi Shias aiding the Al-Assad regime remains their fear that a collapse of Syria would fragment Iraq along sectarian lines, possibly bringing to power extremist Sunni rule hostile to Baghdad.
In the light of this, the Iraqi Shia strategy vis-à-vis Syria over much of the past two years has sought less to be directly involved in Syria’s civil war than to fend off its sectarian spill-over.
Unlike the Lebanese Hizbullah group, which has a powerful and well-trained military machine, as well as obligations to fight alongside the Al-Assad regime, the Iraqi Shias are short of the military capabilities required to influence events in Syria and they are less motivated to take such risks.
The Iraqi Shias in Syria are mostly unorganised small groups of volunteers inspired by fiery sectarian rhetoric or driven to defend Shia holy shrines in Syria, some of which have already been vandalised by extremist Sunni rebels.
As for the Iraqi Shia-led government, it does not seem inclined to become heavily involved in Syria, a move that would exacerbate sectarian tensions in Iraq and complicate its relationships with the United States and other western and regional powers that are leading efforts to topple the Al-Assad regime.
While the war in Syria remains a critical issue for the Iraqi Shias, as it continues to sharpen sectarian divides, their dilemma remains the lack of options to forge a creative vision and a workable strategy that could help them to deal with the inevitable end of the Al-Assad regime.
صفوة القول (20)
مختارات من اراء وقضايا

من النفط مقابل الغذاء الى النفط مقابل العراق
صلاح النصراوي
جريدة الحياة 19 ديسمبر 1999
 تفرض أحداث الحاضر احياناً ضرورة العودة الى أحداث الماضي لمحاولة إجلاء غموضها وفك طلاسمها، سواء من خلال تفكيكها الى عناصرها التاريخية أو من خلال ربط المقدمات بالنتائج، أو حتى من خلال قوة المثال الذي يطرحه الماضي على الحاضر والذي طالما يجعلنا نردد في أوقات وحالات المقارنة هذه مقولة ما أشبه اليوم بالبارحة.
لعل من الأمثلة الحية التي نعيشها وتجد لها شبيهاً في التاريخ هي المحاولات التي بذلت طوال عام في مجلس الأمن لإصدار قرار في شأن تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق والتي اصطدمت تباين وجهات النظر بين الدول دائمة العضوية ليس في شأن موضوع نزع اسلحة العراق غير التقليدية ونظام الرقابة المقترح عليها، كما هو معلن، بل بسبب آخر مختلف تماماً يتمثل في نيات هذه الدول ومخططاتها في شأن استثمار الثروة النفطية العراقية الهائلة، التي باتت “جوهر” و “لب” عملية الصراع في المنطقة.
في ربيع العام 1920 كان مستقبل العراق حُسم وفقاً للمخططات البريطانية التي حددت استناداً الى نص المادة 22 من معاهدة السلام في فرساي، على أساس خضوع العراق للانتداب البريطاني. ففي 25 نيسان ابريل 1920 اصدر مجلس التحالف الأعلى قرار فرض الانتداب إثر سلسلة من الاجتماعات عقدها في منتجع سان ريمو الايطالي بحضور ممثلي الدول الرئيسية في التحالف عدا الولايات المتحدة التي هالها أن ترى في ما بعد أن حلفاءها البريطانيين والفرنسيين ضربوا بعرض الحائط مبادئ اتفاق “فرساي” الذي نص على اتباع سياسة الباب المفتوح أمام المصالح الاقتصادية للدول المتحالفة في الاراضي تحت الانتداب حين أقروا لأنفسهم امتيازات وحقوقاً هائلة في المصالح النفطية، مستبعدين تماماً الولايات المتحدة التي كانت وقفت معهم للتو في الحرب التي خرجوا منها منتصرين.
فماذا فعلت الولايات المتحدة حينذاك؟ في 12 آيار مايو 1920 أي بعد أقل من ثلاثة اسابيع على اتفاق “سان ريمو” كتب السفير الاميركي في لندن جون ديفز الى وزارة الخارجية البريطانية رسالة شديدة اللهجة محتجاً على ما دعاه ب “الاتفاق التعيس” الذي اعطى فوائد كبيرة للمصالح النفطية البريطانية والفرنسية على حساب المصالح النفطية الاميركية، كما اتهم بريطانيا بمحاولة فرض “هيمنتها المطلقة” على الموارد النفطية في المنطقة التي وصفها بأنها سـتكون “مصدراً للتوتر والخلافات” بين الطرفين.
لم تقبل بريطانيا بالتنديدات الاميركية، وكتب وزير خارجيتها اللورد كيرزن رداً نفى فيه الشكوك التي اثارها السفير الاميركي ووصفها بأنها حساسية غير مفهومة. كما ذكّر الولايات المتحدة بأنها تسيطر على حوالي 80 في المئة من مصادر النفط في العالم، في حين ان ما في حوزة الشركات البريطانية من مصادر للنفط لا يتجاوز 5،4 في المئة. كما ذكّر الخطاب بالمحاولات المستميتة للولايات المتحدة لمنع بريطانيا من استثمار امتياز نفطي في هايتي كانت حصلت عليه العام 1913، وصادقت عليه حكومة هايتي قبل الاحتلال الاميركي للجزيرة. وهو أمر تكرر، على حد تعبير اللورد كرزن، في كوستاريكا، وبعد ذلك، كما عبّر في رسالة لاحقة، في الفيليبين التي كان صدر فيها تشريع في 31 آب اغسطس عام 1920، يشترط أن تحصر كل الاراضي التي تحتوي على النفط والزيوت المعدنية الاخرى بمواطني الولايات المتحدة او الفيليبين.
استمرت هذه المجادلات عبر رسائل متبادلة بين اللورد كيرزن ووزير الخارجية الاميركية بينبرغ كولــبي ووصفت حينذاك بأنها إحدى أهم المواجهات الديبلوماسية التي حدثت بين القوتين الجبارتين في مطلع هذا القرن، إن لم تكن أهم مجابهة في دنيا الاستـــعمار الاقتصادي حصلت في التاريخ الحـــديث. حاولت الولايات المتحدة عبر الصراع ان تؤكد نيتها بأن تضع نفسها في موقع الشريك الاساسي للقوى الاستعمارية التقليدية في ذلك الوقت وبخاصة بالنسبة الى موادر النفط التي أخذت تحل محل الفحم كوسيلة رئيسية للطاقة. ولعل ما سهل للولايات المتحدة الظفر بعد ذلك بحصة مهمة في امتيازات النفط العراقية هو ارتباط الصراع بمشكلة ولاية الموصل التي لم تكن حسمت حينئذ بسبب استمرار ادعاء تركيا تبعيتها لها وحاجة كل من بريطانيا، بلد الانتداب، والعراق البلد المنتدب، للتأييد الاميركي، داخل عصبة الأمم لتمرير صك الانتداب وحل مشكلة الموصل بعيداً عن الاطماع التركية.
نتيجة كل ذلك كانت اتفاقاً وقعته الحكومة العراقية تحت الانتداب وشركة النفط التركية صاحبة امتياز نفط العراق في 14 آذار مارس 1925، والذي حصلت بموجبه الولايات المتحدة على حصة مساوية لحصص بريطانيا وفرنسا وهولندا في شركة “نفط التركية” التي تحولت بعد ذلك لتصبح “شركة نفط العراق المحدودة” التي منحت امتيازاً للتنقيب في كل الاراضي العرقاية لمدة 75 عاماً، إذ انجزت الولاذات المتحدة اتفاقات التراضي بينهما كان صراعاً آخر أخذ ينفتح للتو على مصراعيه مع اول برميل تدفق في منطقة حقوق بابا كركر في كركوك يوم 13 تشرين الاول اكتوبر 1927، إذ بدأت الانظار تتركز على هذه البعة من الارض باعتبارها اصبحت من ذلكح التاريخ بؤرة الصراع الدولي من أجل الطاقة شريان الحياة وعصب الاقتصاد الحيوي.
لو انتقلنا الآن أكثر من سبعين عاماً الى الأمام لرأينا صورة أخرى لكنها ليست مختلفة تماماً في جوهرها عن صورة الصراع الذي جرى مطلع هذا القرن حول نفط العراق، ولو ألقينا نظرة فاحصة الى مكونات هذه الصورة لاتضح لنا بعض تفاصيلها على الشكل الآتي: يتكون احتياط النفط العراقي المؤكد من نحو 200 بليون برميل، بينما كانت تقديرات احتياط منطقة ولاية الموصل عند بداية الاستثمار نحو أربعة بلايين برميل فقط، وهو فرق يوضح الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها النفط العراقي على خارطة الاستثمار الدولي. من بين تفاصيل الصورة الأخرى نرى كيف ان الولايات المتحدة تقف في الموقف نفسه، الذي كانت تقف فيه بريطانيا بداية هذا القرن، كقوة مهيمنة متحكمة بينما تقف كل من فرنسا وروسيا والصين كقوى متطلعة للمشاركة في استثمارات النفط التي لا تخفي الولايات المتحدة حرصها على فرض سيطرتها عليها واحتكارها. ولكي تكتمل المقارنة، فلا بد من توضيح أن كلاً من فرنسا وروسيا والصين وقعت فعلاً عدداً من اتفاقات الاستثمار المهمة مع العراق وتنتظر للبدء في تنفيذها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ العام 1990، وهو قرار الذي لا تزال ترفضه بشدة الولايات المتحدة الامـــيركية وتماطل فيه من أجــل تأخــــير تنفيذه.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ذلك هو: هل يعيد التاريخ نفسه وتتكرر تجربة سان ريمو وما تلاها في ضوء المشاورات التي جرت لتبني القرار الجديد لمجلس الامن في شأن العقوبات المفروضة على العراق ونظام جديد لمراقبة التسلح؟ هناك من المعطيات ما يشير إلى أن الصعوبات التي مرّت بها جهود إقرار القرار الجديد ليست فقط تبايناً في وجهات النظر بين الدول المعنية حول الموقف من نظام الرقابة على التسلح العراقي بمقدار ما هو تباين في النظرة الى مستقبل العراق ككل والاقتناع المتزايد لدى معظم الأطراف بأن الأوان حان لحسمه من خلال صيغة توافق عامة، أو بعبارة أوضح صفقة مع الولايات المتحدة باعتبارها أكثر الأطراف اهتماماً بالوضع العراقي، وأصراراً على تحديد مستقبلة.
لقد كُشف النقاب فعلاً عما سمي بـ “صفقة الشيشان مقابل العراق” بين واشنطن وموسكو والتي بموجبها تغض الولايات المتحدة النظر عن الهجوم الروسي الشامل على الشيشان مقابل تأييد روسيا للقرار الجديد. لكن واقع الحال يشير إلى أن الصفقة المرجوة، في نظر روســيا، تتجاوز قضية الشيشان لتشمل مستقبل الاستثمارات النفطـــية الروسية بموجب العقود التي وقعتها شركة “لوك اويل” الروسية مع العراق وتغطي حقول غرب القرنة الجبارة جنوبي العراق، واذا كانت هذه اجزاء الصــفقة التي تخـــص روســــيا فماذا عن شركتي “الف اكيتان” و”توتال” الفرنسيتين والامتيازات التي حصلتا عليها في حقول “مجنون” و”نهر عمر” وأيضاً شركة النفط الوطنية الصينية والامتيازات التي نالتها في حقلي “الحلفاية” و”الاهدب”… ان مجموع الاحتياطي الذي تسعى هذه الشركات التابعة للدول الثلاث للهيمنة عليه، بموجب الاتفاقات التي وقعتها مع العراق، يبلغ 50 بليون برميل بينما تبلغ الطاقة الانتاجية المتوقعة للحقول 1،2 بليون برميل يومياً، وهي أرقام يمكنن ان توضح حجم الصراع المنتظر الذي لن يكون أقل شراسة من ذلك الذي جرى بين بريطانيا والولايات المتحدة بسبب اشتراطات اتفاقية “سان ريمو“.
لقد وافقت حكومة ياسين الهاشمي حينها على اتفاقية الامتيازات رغم الاعتراضات الشعبية واستقالة اثنين من أبرز اعضائها، رشيد عالي الكيلاني ومحمد رضا الشبيبي بسبب ما قيل من حاجة العراق حينئذ لدعم الحلفاء في قضية الموصل التي كان الصراع من أجلها مع تركيا دخل في مرحلة حاسمة. السؤال الآن هل سيجد العراق نفسه مضطراً الى قبول الصفقة النفطية التي طبخت على نار النقاشات الجارية في مجلس الأمن وخارجه كما حصل عام 1925؟.. الجواب عن ذلك سيكشف اذا كان التاريخ سيعيد نفسه فعلاً، وإذا كان العراقيون تعلموا من دروسه وعبره. ما هو مطروح هذه المرة ليس “النفط مقابل الغذاء” بل “النفط مقابل العراق كله”؟
صفوة القول (19)
مختارات من اراء وقضايا

هل تشعل تفجيرات نيويورك وواشنطن صراع الحضارات بين أميركا والعرب ؟ 
 صلاح النصراوي
مجلة الوسط 19 سبتمبر 2001
في صباح اليوم التالي للتفجيرات التي أطاحت بمركز التجارة الدولي في نيويورك ودمرت اجزاء كبيرة من مبنى البنتاغون خرجت جريدة “كرستشين ساينس مونيتر” الاميركية المعروفة عادة بالجدية والرصانة في اسلوب تناولها للأحداث، بتقرير عن الهجمات الارهابية مع مانشيت بارز “خبراء الارهاب يقولون وحده ابن لادن يمتلك الامكانات للقيام بهجمات مثل هذه“.
إلا ان صحيفة “بوسطن هيرالد” الصادرة في اليوم نفسه تجاوزت التخمينات والتوقعات وجاءت بما يفيد بأن اجهزة الشرطة في ولاية ماساشوتيس تمكنت من تحديد هوية خمسة من العرب الذين يشتبه بأن لهم ضلعاً في عمليات التفجير مستدلين في ذلك على عثورهم على سيارة مستأجرة مهجورة في مطار لوغان حيث انطلقت واحدة من الطائرات الانتحارية وبداخل السيارة كراسة تدريب على الطيران باللغة العربية، وكما أفادت الصحيفة فإن التحقيقات الأولية تشير الى أن مستأجري السيارة الذين يحملون جوازات سفر من دولة الامارات العربية المتحدة استقلوا الطائرة الانتحارية التي كانت متوجهة من بوسطن الى لوس انجليس وان احدهم هو طيار محترف.
لكن الرأي العام الاميركي الذي لم يكن قد استمع بعد الى الرواية الرسمية عمن يقف وراء حوادث التفجير، حينئذ، لم يكن بحاجة الى تقارير صحافية ومانشيتات مثيرة مثل تلك لكي يجري تعبئته في حملة الكراهية والتحريض ضد العدو الوحيد المحتمل قيامه بتلك العمليات الارهابية، إذ ان شاشات التلفزيون الاميركية كانت طيلة الليلة السابقة قد امتلأت بمعلقين ومحللين وخبراء في شؤون الشرق الاوسط والاستخبارات وفي قضايا العالم الاسلامي يدلون بدلوهم ثم يشيرون بأصابعهم بثقة باتجاه واحد نحو العرب، وعلى رأسهم اسامة بن لادن، كمتهمين مؤكدين وليسوا فقط محتملين في عمليات التفجيرات.
وإذا تجاهلنا التقارير الصحافية التي تتحول في مثل هذه الظروف الى مجرد وجبات سريعة مصحوبة بكل عناصـر التشــويق والاثارة فلم يكن اي من اولئك المحللين، مثل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، يشقى بالمنطق وبالبحث عن الأدلة لكي يصل من خلال الشك الى الحقيقة وبالتالي الربط بين السبب والنتيجة، إذ ان الحاجة، في وقت اطلقت شبكة سي. إن. إن الاخبارية على تغطيتها للاحداث “اميركا تتعرض للهجوم”، لن تكون للمنطق الديكارتي او حتى للتفكير البرغماتي الذي اخترعته اميركا نفسها بل الى كلام يدغدغ المشاعر عن اعداء اميركا الحقيقيين والمتخيلين امثال صدام حسين واسامة بن لادن ليس رودوفان كاراجيتش او كيم جونغ ايل وحكومات تضمها قائمة الدول المتهمة بالارهاب لوزارة الخارجية الاميركية مثل العراق وسورية وليبيا ليس صربيا أو كوريا الشـمالية.
في الجهة المقابلة كان العالم العربي يقف مذهولاً امام ما حدث حيث تسمّر معظم العرب امام شاشات التلفزيون التي راحت محطاتها الفضائية تتسابق في نقل الاحداث المتسارعة من نيويورك وواشنطن يراقبون ما يجري وكأنهم يشاهدون فيلماً هوليوودياً من تلك الأفلام التي أثارت خيال المخرج الاميركي ستيفن سبيليبرغ قبل أن يصحوا سريعاً على التلميحات او الاتهامات المباشرة التي تشير اليهم بأصابع الاتهام بالكارثة القومية التي حلت تواً بأميركا والتي ربما لا توازيها في الاحساس بالهزيمة والمهانة إلا كارثة ضرب اليابانيين لميناء بيرل هاربور اثناء الحرب العالمية الثانية.
انهيار الجسور
ولكن بغض النظر عن ردود الفعل العربية تجاه الحدث، التي تراوحت بين صمت وحيرة او تلقائية وعابرة صفقت له لأسباب عاطفية تتعلق بتاريخ مأزوم من العلاقات بين الطرفين، أو تنديدات سارعت بها القيادات العربية وبيانات التعاطف التي ادلت بها، فإن ما كان ينهار يومها أمام ناظر العرب جميعاً ليس فقط مبنى مركز التجارة الدولي والبنتاغون بل جسر آخر من تلك الجسور التي سعى الطرفان لبنائها عبر عقود طويلة كي تكون معابر للتفاهم والتوافق اللذين ظلا هشين وعصيين بسبب اختلال التوازن في المصالح، خصوصاً في ما يتعلق بالصراع العربي – الاسرائيلي. ولأن الهدف هذه المرة ليس قوات المارينز التي نزلت في بيروت أو المدمرة كول التي رست في ميناء عدن بل صرحان عملاقان يمثلان رمز القوة الاميركية فإن ترقب الغضب الاميركي لا بد ان يتعدى التوقعات عن الثأر بضربات عابرة الى ما هو أبعد من ذلك ويقيم بين العرب والاميركيين حفرة عميقة بدلاً من الجسور التي تقطعت مع التفجيرات الارهابية في نيويورك وواشنطن.
والاكيد الآن، وخصوصاً إذا ما ثبت من خلال ما ستسفر عنه التحقيقات أن هناك يداً عربية لها علاقة في تدبير وتنفيذ ما حدث فإن المواقف الاميركية من العالم العربي في الإطار الاستراتيجي العام وعلى مختلف الاصعدة لن تكون مستقبلاً كما كانت عليه قبل تفجيرات يوم 11 ايلول سبتمبر 2001، ذلك أن اميركا نفسها بل ربما العالم كله لم يعد كما كان قبل ذلك التاريخ الذي ربما سيوازي في اهميته يوم اكتشاف البارود والصاروخ والقنبلة الذرية، إذ ان ما حدث يومها وعلى حد قول وزير الخارجية كولن باول كان حالة إعلان الحرب على اميركا أو كما وصفها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأنها كانت هجوماً على نمط الحياة الاميركية الحرة بهدف سلبها تلك الحرية. ستنسى الولايات المتحدة أن ابن لادن هو صنيعتها وأنها انتصرت به على الجيش الاحمر في افغانستان وهو الانتصار الذي فتح الباب بعدئذ لانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية وتتذكر فقط بأنه زعيم التطرف الاسلامي والعربي وعدوها الرقم واحد الذي نقل تلك الحرب الى قلب الحصن الاميركي وضرب رموز قوتها العسكرية والاقتصادية وحينها فإن “الاسلام فوبيا” وهو رديف “العرب فوبيا” والتهديدات المتصورة منها ستكون هي العنصر الأبرز في السياسة والاستراتيجية الاميركيتين المقبلتين وربما ستحظى بأولوية مطلقة على تلك المصالح المرتبطة بحماية اسرائيل والنفط التي ظلت محور استراتيجية الهيمنة الاميركية في المنطقة منذ عقود طويلة.
بعد يوم واحد من وقوع تلك الهجمات كانت النغمة السائدة بين مسؤولي ادارة الرئيس بوش هي عن تحالف دولي بدت واشنطن داعية وساعية لإنشائه للرد على الارهاب الذي طرق بابها بعنف هذه المرة، وإذا ما افترضنا ان مثل هذا التوجه جاد فإن الاسئلة التي من الضروري ان تُطرح هو ممن سيتكون هذا التحالف وضد من؟ وهل سيكون تحالفاً موقتاً أم بعيد المدى تتم تعبئته خلف نظريات مثل “صدام الحضارات” وبذلك يبدأ العد العكسي لتوقعات صاموئيل هنتنغتن عن الصراع المرتقب الذي ستؤججه الاصولية الاسلامية بين الغرب المسيحي والعالم الاسلامي؟ لنفترض للحظة واحدة ان ذلك أمر سيسعى اليه الصقور الذين تحتشد بهم هذه الادارة الاميركية رداً على ما تعرضت له الولايات المتحدة ودرءاً لتهديدات وضربات مقبلة إذا ما تركت الامر من دون عقاب. فما الذي سيحدث وكيف سيكون بقدرة الخيال ان يتصور المنحدر الذي ستنزلق اليه العلاقات العربية ـ الاميركية، ليس في طابعها الرسمي بل على مستواها الحضاري والتاريخي لو ساد نتيجة الهجمات الاخيرة مزاج في اميركا تجاه العرب يتسم بالغلو والتشدد والاستياء؟
الولايات المتحدة، وحتى بعد ان تفيق من الصدمة ستبدو مثل نمر جريح يريد ان يثأر لكرامته، ولأن الأمر سـيكون متعلقاً بالعالم العربي هذا الكيان الضعيف من وجــهة نظرها، فإن اكثر ما يمكن ان يخشاه المرء هو أن ينزلق صقور الادارة الى استخدام قوانين الغاب بدلاً من اسلوب التعاون والمشاركة في جهد دولي منظم لاستئصال الارهاب، خصوصاً وأن هناك الكثيرين، كما فعل بعض القادة الاسرائيليين، أو لحسابات تتعلق بصراعات اقليمية مثل تلك التي بين الهند وباكستان او روسيا والشيشان الذين سيجدون ان من مصلحتهم الدفع بالطرفين الاميركي والعربي نحو الهاوية.
لكن الأمور، مع ذلك، قد لا تكون او تصبح بالسوء الذي تبدو عليه. ففي اوقات الازمات يميل القادة – والاميركيون ليسوا استثناء – الى الانسياق وراء العواطف الجياشة ويدلون بتصريحات نارية بسهولة بالغة بهدف اشباع الغرائز التي فلت عقالها كما قد تنحدر سلوكيات بعض الاميركيين في موجة معاداة العرب الى سيكولوجية القطيع، لكن اميركا دولة عظمى بكل المقاييس وعليها مسؤوليات اخلاقية والتزامات تاريخية لا يمكن ان تسمح لها في هوجة الغضب والتعصب الاعمى بالوقوع في خطأ تحويل “الاسلام فوبيا” إلى صراع أو نزاع حضاري مع العرب والمسلمين.
هناك درسان على الادارة الاميــركية ان تعيهما في معالجة الازمة الحالية لو ثبت فعلاً ان اطرافاً عربية نفذت او شاركت في الهجمات الارهابية في نيويورك وواشنطن. الدرس الاول الذي عليها ان تتعلمه هو من التنديدات القوية بالانفجارات التي أتت من شخصيات وتنظيمات اسلامية، مثل الرئيس الايراني محمد خاتمي والسيد محمد حسين فضل الله وشيخ الأزهر الشريف الشيخ محمد سيد طنطاوي وحركة الاخوان المسلمين.
أما الدرس الثاني، والذي عليها ان تنبذه، وهو من الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، إذ لا ينبغي عليها ان تتعلم من اسرائيل كيفية الانتقام من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة بأسلوب عشوائي وغريزي كلما وقع انفجار في تل ابيب أو نهاريا، فتجربة الانتفاضة اثبتت مثلما حدث ذلك عبر التاريخ الانساني كله، أن ارهاب الدولة لا يقضي على الارهاب وسيكون من المدهش حقاً ألا تكون الولايات المتحدة قد تعلمت ذلك بعد.
               صفوة القول (18)

               مختارات من اراء وقضايا

مشروع بديل ديموقراطي أم “وجبة سياسية سريعة” على الطريقة الاميركية ؟ 
صلاح النصراوي جريدة الحياة 2 اكتوبر 1998 

فجر الحادي والثلاثين من آب اغسطس 1996 فوجئ سكان محلة عين كاوة في أربيل بالاميركيين الستة الذين يسكنون في المنزل الرقم 23/7، الذين طالما تساءل جيرانهم عن طبيعة مهمتهم الغامضة، يهرعرون تحت جنح الظلام الذي بدأ يتبدد فوق سماء مدينتهم، الى سيارة “التويوتا لاندكروز” البيضاء التي كانت تنتظرهم وسرعان ما أخذت تنهب بهم أرض الشارع العريض القريب في اتجاه صلاح الدين، ثم بعد ذلك نحو الحدود التركية.
ولم يكن ما خلفوه وراءهم مجرد اجهزة هاتف تعمل بالأقمار الاصطناعية وكومبيوترات ومعدات أخرى ووثائق مهمة تتعلق بمحطة للمخابرات المركزية الأميركية كانوا أقاموها في شمال العراق فقط، بل لعل الأهم من ذلك كله هو حوالي 1500 شخص من اعضاء “المؤتمر الوطني العراقي” المعارض وانصاره الذين كانوا يمولونهم كجزء من خطة لإسقاط النظام العراقي.
بعد حوالي ست ساعات من بزوغ شمس ذلك النهار كانت قوات الحرس الجمهوري تحتل مدينة أربيل التي فرّت منها قوات “الاتحاد الوطني الكردستاني”، لعجزها عن الدفاع عنها أمام زحف دبابات الحرس. ما هي إلا ساعات قليلة أخرى حتى كانت القوات الزاحفة تطوق المعسكر القريب الذي أقامه “المؤتمر الوطني العراقي” لمقاتليه ومقر اذاعته في منطقة قوش تبة. بقية القصة معروفة للجميع.
إذ أن من بين مئة عامل في الاذاعة قيل ان اثني عشر فرداً فقط هم الذين نجوا من الإعدامات السريعة التي نفذت حالاً، بينما لقي مئة آخرون من الموجودين في المعسكر المصير نفسه، اثر انهيار مقاومتهم بعد قليل من انتصاف ذلك النهار، وبعدما يئسوا تماماً من وصول القوات الاميركية التي ظنوا انها لا بد ان تكون قادمة لحمايتهم من هجوم الحرس الجمهوري. السؤال الذي بقي من دون اجابة حتى بعد موتهم التراجيدي ذلك، هو أين كانت الحماية الاميركية التي وُعدوا بها أو توقعوها ضمن تصورهم لمشروع إسقاط النظام العراقي المدعوم اميركيا، والمنطلق من منطقة كانت ولا تزال تسمى “الملاذ الآمن”.
اليوم يطرح التساؤل من جديد على خلفية القرار الذي تبناه الكونغرس الاميركي بمجلسيه وبغالبية كبيرة في شهر أيلول سبتمبر الماضي، وهو يدعو إدارة الرئيس كلينتون لتخصيص مبلغ 97 مليون دولار كي تقدَّم على شكل أسلحة وتجهيزات وتدريب عسكري الى معارضين عراقيين بهدف قيامهم باطاحة النظام القائم وإقامة بديل ديموقراطي له.
هذا التساؤل يطرحه كل معني بالشأن العراقي من قريب أو بعيد. البعض مستخف على طريقة وهل يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟ أو مشكك بالنيات الاميركية وفي حقيقة وجود رغبة لدى واشنطن في إحداث أي تغيير في العراق. بينما هناك من يقف متوجساً، سواء من الاهداف الحقيقية التي تكمن وراء المشاريع والخطط المطروحة، أو من إمكان وجود معارضة وطنية حقيقية ترضى بأن تلعب الدور المطلوب علناً وعلى رؤوس الأشهاد. وعموماً، وبغض النظر عن المواقف المسبقة، فإن للجميع تساؤلاتهم الجادة عما يمكن ان يعنيه كل هذا الحديث عن الخطط الاميركية لقلب نظام الحكم في العراق بالقوة المسلحة كما عبر عنها قرار الكونغرس المذكور؟
من ناحية الشكل فإن تشريع “تحرير العراق” هو بكل المقاييس تطور جذري في أسلوب التعامل الاميركي مع الملف العراقي، إذ ان هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها الكونغرس بإصدار قانون وبغالبية كبيرة لا يدعو فيه فقط وبشكل واضح وصريح الى اسقاط النظام العراقي، بل أيضاً يخصص موارد كبيرة من أموال دافع الضريبة الاميركية لتنفيذ المشروع.وعندما تتم الموافقة عليه واعتماده من جانب الإدارة فإن الأمر سيتعدى حينئذ النيات المجردة، وينتقل بالضرورة الى حيز العمل الميداني.
إن مجرد تبني المشروع بشكل تشريع عن الكونغرس، لا يمنحه فقط الإطار القانوني اللازم لتحويله الى ميدان التنفيذ من قبل الأجهزة التنفيذية المعنية بل الأهم من ذلك يجعل منه التزاماً سياسياً جدياً من جانب الولايات المتحدة ذاتها تجاه قضية أصبحت تحتل شيئاً فشيئاً مكانة بارزة في الجدل وربما أيضاً في الصراع الداخلي الأميركي.
ثم إن أخطر ما يمثله قرار الكونغرس عند وضعه موضع التطبيق، هو أنه من المنظور الاستراتيجي والعملياتي سيكون نقلة نوعية تزيل الكثير من الغموض في التوجهات الاميركية نحو المسألة العراقية، وتضع أولويات جديدة في إطار الرؤية الاميركية الشاملة للأمن والمصالح القومية في منطقتي الخليج والشرق الاوسط والتهديدات التي تواجهها.
ومع هذا فإن التساؤلات الرئيسية التي تواجه هذا المشروع هي من الأهمية بمكان حتى أن تحليلها الرصين فقط هو الذي يوفر جواباً على مدى جديته، وعلى مدى رغبة الولايات المتحدة في الانغماس في الموضوع العراقي الى مدياته القصوى، أو الاكتفاء بتطبيقات متنوعة لسياسة الاحتواء المتغلغلة في عقلية صناع السياسة الاميركية، تاركة الموضوع ينضج كما هو الآن على نار هادئة.
إن اول التساؤلات يتعلق بمشروعية أن تقوم دولة كبرى لها مسؤوليات والتزامات سياسية وقانونية وأخلاقية بالعمل السافر على إسقاط نظام حكم معين مهما كان موقف شعبه وموقف المجتمع الدولي منه وتحت أية شعارات براقة كانت. حقاً إن للقطارات الاميركية سجلاً حافلاً بنقل العديد من الأنظمة الى محطات السلطة في العالم الثالث، لكن هذه ستكون المرة الأولى التي ستعمل فيها الولايات المتحدة علناً من دون استحياء على تنفيذ مشروع لإسقاط حكومة وتنصيب مجموعات لن ينظراليها شعبها أو المجتمع الدولي والرأي العام الاميركي، شاءت أم أبت، إلا من زاوية كونها “عميلة وخائنة”.
وثاني هذه التساؤلات عن مدى تطابق مشروع هدفه المعلن اسقاط نظام حكم عن طريق التدخل المباشر والتآمر مع قوى معارضة للنظام تحت يافطة إحلال نظام ديموقراطي مع مجمل الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، التي لا يعرف عنها انسجامها مع مثل هذه الشعارات، ولا تتوفر أدلة مقنعة على أن الديموقراطية بدأت تشكل أحد الخيارات والبرامج الاساسية لصانعي السياسة الاميركية، التي ظلت تتخذ مواقف متخاذلة تجاه قضية الديموقراطية في المنطقة تحت ذريعة المصالح والمنافع المتبادلة.
وفي هذا السياق، كيف سيكون موقف الدول الأخرى ورد فعلها في المنطقة وفي العالم إزاء تجاوز الدور الاميركي الخطوط المقبولة حالياً، وما هو أيضاً رد الفعل المتوقع من قطاعات الرأي العام العربي رغم التقديرالتقليدي السلبي له من جانب صناع السياسة الاميركية؟
وثالث هذه التساؤلات عن واقعية مثل هذا المشروع بأدواته وسبله المقترحة، لإسقاط نظام مثل النظام العراقي متمرس في فنون المؤامرة والبقاء، ومتمترس خلف معادلات إقليمية ودولية لا يزال يتشبث بها كطوق نجاة. لماذا يعتقد زعماء الكونغرس أن هذا المشروع بالذات سينجح في الوقت الذي فشلت مشاريع قبله، وامكان وجود سيناريوات اقل كلفة سياسية وإنسانية؟
لماذا سيكون ممكناً مثلاً اسقاط النظام بمبلغ 97 مليون دولار، وعلى أي اساس موضوعي أو اي دراسات جدوى تم حساب هذه الكلفة؟ ما هي الاسلحة التي سيتم تجهيز قوى المعارضة بها وعن أي طريق سيتم ادخالها الى العراق، وأي دولة مجاورة سترضى بسابقة مثل هذه أو تكون مستعدة للمشاركة في مثل هذا المشروع؟ كيف وأين سيتم تدريب مجموعات المعارضة التي ستتولى العمليات القتالية، ومن أي أرض ستنطلق؟ هل تم التشاور مع الاطراف الاقليمية المعنية وهل يمكن تنفيذ المشروع من دون مباركتها ومشاركتها؟
رابع هذه التساؤلات عن أي معارضة يتحدث المشروع الجديد؟ يشير تشريع الكونغرس الى الدعوة الى بناء معارضة عراقية ديموقراطية وتأهيلها لتسلم السلطة بعد اسقاط النظام، ما يثير تساؤلات أخرى عن صورة اللعبة التي تنوي الولايات المتحدة إدارتها مع معارضة تقرّ هي ذاتها في تقرير رسمي مهَّد للمشروع العتيد، بأنها تتوزع على 72 تنظيماً تتباين انتماءاتها سياسياً وقومياً ودينياً ومذهبياً، وتتوزع ولاءاتها وفقاً لخريطة وجودها الجغرافي، ما جعلها بالتالي مهمشة ومنقسمة ومشتتة ومنهكة وعاجزة عن الانخراط في أي مشروع للتغير، حتى ولو كان في درجة بؤسه وتهافته من طراز مشروع “تحرير العراق” ومهما وفر الكونغرس من امكانات مادية له.
وفي الحقيقة، رغم ان وجود واجهات المعارضة التي ستأخذ على عاتقها تنفيذ مقاولة المشروع هو حجر الاساس فيه، إلا انه لا يبدو حتى الآن أن الاغراءات المعروضة كافية لكي تجرّ اليه القوى الاساسية الرافضة لأسباب مبدئية وطنية وعقلانية، أو المترددة لاسباب تتعلق بالشكل السافر للإعلان عنه، أو بسبب عدم يقينها بجدية الالتزامات الاميركية، أو لاسباب اخرى تتعلق بحسابات شتى، لعل أهمها تلك التي ترتبط بالوضع الاقليمي الناتج من وجودها فيه.
خامس هذه التساولات عن الاثنين والعشرين مليوناً من العراقيين الذين يراد تحريرهم وبناء نظام ديموقراطي لهم، حسب ما يبشر به المشروع، من دون ان يكون لهم أي دور أو صوت، وكأنهم أصبحوا مجرد قطيع تتولى قيادته حفنة من محترفي العمل في القنوات السياسية والمقاولين والسماسرة تحت واجهات وهمية ومضللة. ولعل هذا بالذات هو الجانب الاكثر سوءاً والاكثر ازعاجاً الذي إذا ما قيض له النجاح، فمن المؤكد أنه لن ينتج الا دكتاتورية بائسة أخرى، لكنها لن تستطيع هذه المرة أن تخفي هويتها أو الوظيفة التي قبلت بأن تقوم بها نيابة عن الآخرين. هذا طبعاً إضافة الى الخسائر المادية والمعنوية والسياسية التي يصعب تصور مداها الآن، ويمكن ان تنتج عن سيناريو مغامرة، لا يقوم على اساس واقعي وبإسناد شعبي حقيقي، ويفتقر الى برنامج سياسي للتغيير يستجيب الحاجات والمطالب الوطنية.
طبعاً، من دون ادنى شك، ان النظام الذي يتحمل وزر ما آلت اليه الاوضاع في العراق من تدمير وخراب خلال ثلاثة عقود، يجب ان لا تركن مسؤوليته على الرف أبداً ويجب ألا تترك لذمة التاريخ. ولكن النظر الى المستقبل يتطلب ايضاً، ليس فقط الوعي بالتجارب الخطيرة التي أدت الى وصول العراق الى ما هو عليه، بل الأهم من ذلك تفادي تكرارها. إن هذا متروك بطبيعة الحال لعقل وضمائر من يتصدرون العمل الوطني بشجاعة وحكمة وشرف. ولكن دور العراقي العادي، خصوصاً المثقف، هو ان يبقى صاحياً باستمرار ومتصدياً بالبحث والمكاشفة والنقد للمشاريع المغرية التي تختزل القضية الوطنية مرة اخرى الى مجرد رحلة في قطار اميركي يوصل الى سلطة بعد تناول وجبة سريعة من الديموقراطية.
* صحافي عراق