في الصميم
                       تحليلات ومتابعات
        الغاء بغداد لصفقة السلاح مع روسيا يوجه الانظار نحو نفط كردستان
                                                               صلاح النصراوي
يبدو قرار حكومة نوري المالكي بالغاء صفقة شراء الاسلحة مع روسيا للوهلة الاولى وكأنه يرتبط بالاشتباه بقضية فساد كما نقلت وكالات الانباء عن المتحدث باسم الحكومة علي الموسوي وفي ضوء تقارير اشارت الى اعتراضات قدمتها لجنة النزاهة البرلمانية ضد العقد مع موسكو.
غير ان المتابعة الدقيقة والاعمق للوقائع المتعلقة بالعقد الذي تبلغ قيمته اكثر من 4 بليون دولار والذي اشرف على توقيعه المالكي بنفسه اثناء زيارته لموسكو الشهر الماضي تشير الى سبب مباشر اخر اضافة الى اتهامات الفساد التي شابت العقد والموجهة الى جهات روسية وعراقية عديدة ومافيات تجارة السلاح الدولية.
من الضروري اولاً الاشارة الى ان تصريح الموسوي اكد على ان العراق الغى العرض لكنه يعتزم اعادة التفاوض من اجل التوصل الى عقود جديدة مع روسيا في ضوء ما سماه بحاجة العراق القائمة للسلاحأ اي انه بغداد تبقي الباب مواربا بانتظار انجلاء الموقف.
ما يتعلق بالفساد والعمولات التي شابت الصفقة تناولته اطراف ووسائل اعلام عراقية اشارت الى تورط جهات داخل مكتب المالكي ووزارة الدفاع العراقية ومسؤولين في مصرف التجارة العراقي ووسطاء من تجار السلاح بعضهم معروفين جيدا في المنطقة.
على الجانب الروسي ايضا يبدو كما اشارت تقارير صحفية ودبلوماسية في موسكو الى وجود رابط بين القرار العراقي وقرار الرئيس فلادمير بوتين باقالة وزير الدفاع اناتولي سيرديوكوف بعد اسبوعين من بدء التحقيق الجنائي في قضايا فساد داخل المؤسسات الصناعية الحربية الروسية.
المطلعون والعارفون باوضاع العراق وروسيا يدركون ان لا جديد في قضايا الفساد في البلدين وان باستطاعة الطرفين تجاوز الموضوع لو كان مجرد رشاوي وعمولات وسمسرة وان القصة الحقيقة وراء التطور الجديد تتعلق بموضوع اكثر اهمية يرتبط بتطورات سياسة وجيبوليتكية تتفاعل في الشرق الاوسط وتضع روسيا في خضم الصراع مع الولايات المتحدة على المنطقة.
لذلك فمن الضروري ان يتم النظر بشكل اساسي الى الاوضاع في كل من سوريا، ايران، الخليج، تركيا، كردستان العراق مع تركيز على ملف الاستثمارات البترولية في العراق وبالذات في المنطقة الكردية التي يجري بشأنها صراع شرس اطرافه الحكومة المركزية في بغداد وحكومة اقليم كردستان.
صفقة السلاح مع روسيا كشفت للطرفين بانها انطوت على استعجال وعدم دراسة متأنية لشبكة المشكلات المعقدة في المنطقة كما انها فتحت الباب امام صفقات اكبر بين القوى الاقليمة والدولية وهي سبب مباشر لتعطيلها حاليا.
فاذا كانت الصفقة، حين تتم، ستفتح الابواب امام نوع من التحالف الروسي الايراني السوري والحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد، كما سارت التحليلات، فان من المتوقع ان يلقى ذلك نوع من رد الفعل المقاوم من تحالف اخر في المنطقة يضم اطراف اقليمية على رأسها تركيا ودول الخليج تجتمع ايضا مع الولايات المتحدة الامريكية في الموقف ازاء ايران وسوريا وبالنتيجة روسيا.
هناك تفاصيل عديدة تتعلق بكيفية تأثير شراء الاسلحة الروسية على هذا الاستقطاب جميعها تضع العراق في بؤرة الصراع الذي يمكن ان ينشب بين جميع هذه الاطراف، فيما اذا تمت الصفقة فعليا، يبدو ان حكومة المالكي كانت جاهلة بها بقدر جهلها باستراتيجيات الدول الكبرى وبمكيانزمات صفقات الاسلحة.
ما يبنغي النظر اليه كذلك هو العقود النفطية التي وقعتها شركة غاز بروم للطاقة الروسية مع حكومة اقليم كردستان والتي لا يبدو ان روسيا اصبحت تكترث كثيرا بالتهديدات العراقية بالغائها اسوة بما تفعله الشركات الامريكية والاوربية التي وقعت عقود مماثلة.
من المهم ايضا النظر كذلك بالتقارير التي تشير الى علاقة وزير الدفاع الروسي المقال سيرديوكوف بشركة غازبروم حيث انه متزوج من ابنة فكتور زبكووف احد اخلص الاعوان لبوتين ورئيس شركة غازبروم.
ما تكشف عنه الصفقة والغاؤها هو دور البترول في كردستان ودور الاقليم الكردي العراقي ذاته الذي رفض بشدة صفقة الاسلحة الروسية والذي يصبح شيئا فشيئا في قلب الصراعات في المنطقة وهو المكان الذي يجب ان تتوجه اليه الانظار مستقبلا.
—-
                في الصميم …  تحليلات ومتابعات
                   
البحرين:اسقاط الجنسية يعكس استمرار الخيار الامني في مواجهة الحراك الديمقراطي
                                                    صلاح النصراوي
قرار حكومة البحرين باسقاط الجنسية عن عدد من مواطنيها تعسفي وظالم من وجهة النظر القانونية وهو ما تكفلت منظمات حقوق الانسان بادانته، ولكنه من الناحية السياسة خطوة في الاتجاه الخاطئ وفي غاية الخطورة تعكس مدى التهور لدى صانعي القرار واصرارهم على خوض معركة خاسرة بدل الاستجابة للمطالب المشروعة للمنادين بالاصلاح والتغير والديمقراطية في البحرين ولرياح الحرية التي اطلقها الربيع العربي.
هنا بعض الاستنتاجات بشأن الخطوة التي من المتوقع ان تتبعها ارتدادات دولية واقلمية ومحلية.
اولا على المستوى الدولي والاقليمي:
-ان الخطوة تعتبر انتهاكا صارخا للاتفاقيات والاعراف الدولية الخاصة بالقانون الدولي الانساني وخاصة الاعلان العالمي لحقوق الانسان وبالذات مادته الخامسة عشر التي تنص على حق كل شخص بالجنسية” و”الا يتم حرمانه من الجنسية او من حقه في تغيرها.”
-انها ستحرج اصدقاء النظام البحريني في الغرب الذين يغضون النظر منذ بدء حركة الاحتجاجات قبل نحو عامين وستفضح الازدواجية التي يتعاملون بها مع ثورات الربيع العربي.كما انها من الناحية السياسية فاجئتهم وستضعهم امام خيارات ليست يسيرة في حالة تصاعد الاحتجاجات بسبب القرار.
-انها ستثير احتمالات ان تشجع باقي حكومات مجلس التعاون الخليجي والتي تعاني من مشكلات سياسية وديموغرافية مماثلة الى اللجوء الى مثل هذا الاجراء التعسفي في حالة تصاعد الحراك السياسي فيها.
-انها ستزيد التوترات السياسية والطائفية في المنطقة خاصة بين الشيعة والسنة وبالذات بين البحرين ودول مجلس التعاون من جهة، وايران، من جهة ثانية.
-انها ستثير انتباه دول لديها جاليات تم تجنيس بعض افرادها ومخاوفها من ان يتعرض افرادها الى ممارسات مشابهة في المستقبل.والمعروف ان الهند والباكستان اللتان لديهما جاليات كبيرة في الخليج تم تجنيس افرادها هي اكثر هذه الدول حساسية تجاه مثل هذه الممارسات وتمتلك استراتيجيات امنية وعسكرية وسياسية للتعامل معها.  
-انها تثير مخاوف فيما اذا كانت البحرين وغيرها من حكومات دول الخليج ستلجأ الى اجراءات مماثلة بحق متجنسين او مقيمين من بلدان الربيع العربي اذا ما ثبت مشاركتهم في دعم الحراك في تلك البلدان.
ثانيا على المستوى الوطني:
-انها ستؤدي الى حرمان الافراد الذين انتزعت عنهم الجنسية وعوائلهم من كافة حقوق المواطنة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية الاخرى مما سيترتب عليه تبعات واجراءات قد لاتكون قاسية انسانية فقط بل وخطيرة في اثارها السياسية والاجتماعية.
-انها ستزيد من اسباب الصراع السياسي الحالي وستؤجج الطابع الطائفي للحراك الديمقراطي الجاري وستدعم وجهات نظر حركة الاحتجاجات بالاستهداف الطائفي والفؤوي.
-انها قد تؤدي الى الدفع بالمزيد من التطرف، وربما اعمال عنف كرد فعل لن ينفع الحكومة بالادعاء حينئذ كيل الاتهام للمحتجين بعدم سلمية احتجاجاتهم.
-انها ستفضح نظام التجنيس المثير للجدل في البحرين وستضيف مبررات جديدة للمطالب الخاصة بسياسات التجنيس التي تتبعها الحكومة البحرينية والاتهامات الموجهة لها بالتميز الطائفي.
-انها ترسل رسائل متشددة الى قادة وناشطي الحراك وتجعل امكانية الحل السياسي اكثر صعوبة.
-انها تعمق الجراح داخل المجتمع البحريني وتزيد من صعوبات التعايش بين الطوائف والاجناس وتنقل الصراع الى مستويات جديدة، خاصة وان غالبية سكان البحرين البالغ عددهم قرابة 1,3 مليون هم من المتجنسين والمقيمين الاجانب.(46 بالمائة يحملون الجنسية البحرينية و 56 من الاجانب المقيمين.)
ان خلاصة النتائج المترتبة على قرار سحب الجنسية عن اكثر من 30 ناشط سياسي وحقوقي بحريني هو انها ستزيد الشرخ الوطني وتعمق الهوة وتطيل امد المآزق الوطني وتعطي اشارات سلبية عن نية النظام في التعامل مع مطالب الحراك ومراهنته على الحسم الامني والطائفي.
   

                                                         صفوة القول
                                                مختارات من اراء وقضايا  
                                            
                                  أساليب التّدخل الإنساني بين العراقوبورما
                                                                                           صلاح النصراوي
نشرت في الحياة 11/10/07// 

تكتسب ثورة الزعفران البورمية أهمية كبيرة بالنسبة إلينا نحن العراقيين، على الاقل من باب المقارنة التاريخية، بين بلدين مرّا بظروف مشابهة، منناحية سيطرة طغمة متشددة على الحكم واضطهادها لشعبها، ومغايرة لجهة الوسائل والاساليب التي اتبعت لإسقاطها، فحين يخرج البورميون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة في وجه قوة غاشمة تقبض بيد من حديد على مقدراتهم منذ عقود طويلة، تماما مثلما فعل صدام حسين، فإن السؤال الذي لا بد ان يطرح هو هل سيستطيع الشعب البورمي الأعزل وحده اسقاط هذا النظام، أم أنه سيحتاج إلى الدعم الدولي، وما هو دور هذا الدعم وحدوده؟ لسنا وحدنا كعراقيين من يدرك اليوم النتائج الكارثية التي سببها الغزو الأميركي الذي أسقط صدام، لكن التجربة العراقية ستظل تطرح على ضمير العالم سؤالا آخر: هل يتوجب على الشعوب التي تحتاج لمؤازرة الاسرة الدولية للانعتاق من قهر أنظمتها ان تدفع ثمن تلك المساندة وفق تسعيرة تفرضها شروط الصراعات والمصالح الدولية والاقليمية؟

من الضروري التأكيد على فوارق جوهرية بين التجربتين العراقية والبورمية. فالانتفاضة البورمية المستمرة منذ سنوات هي نتاج نضال حركات المعارضة فيالداخل بقيادة اونغ سان سو تشي، تلك القائدة الوطنية الفذة، التي يعود الى حكمتها وصبرها وعزيمتها صمود الشعب البورمي في وجه تسلط الزمرة العسكرية الحاكمة وابقاء قضيته حية، في الوقت الذي حرم الشعب العراقي من معارضة داخلية قوية ومن تلك القيادة الحكيمة، سواء بسبب ممارسات صدام القمعية التي فاقت كل حدود، او لظروف موضوعية اخرى. اما الفارق الاساسي الآخر فهو العامل الجيوبوليتكي الذي يمثله العراق في سياسات الاقليم، والذي لعب دورا مهما في صوغ تفرد اميركا في تدخلها في العراق لحسابات مصلحتها البحتة، وليس لهدف انساني هو إنقاذ شعب من محنته، وهو ما أخذ يتبين الآن.

وفي ظني ان التاريخ سيشهد ان احد الاسباب الاساسية وراء وصول الوضع العراقي الى ما هو عليه هو افتقاد العراق قيادات سياسية بوزن ومكانة اونغ سان سو تشي، وهي مقارنة صحت قبلها على نلسون مانديلا، الذي اصبح اسطورة تدين له جنوب افريقيا بإخراجها من نفق العنصرية المظلم. واحد اسباب غياب هذه القيادات هو ان نظامي الطغمة العسكرية في بورما والتمييز العنصري (الابارتايد) في جنوب أفريقيا ظلا أقل بشاعة من نظام صدام الذي لم يسمح للمعارضة بالبقاء على قيد الحياة أبدا. غير ان الوضع المتردي في العراق الآن، ورغم طوي صفحة صدام، هو خير دليل على غياب القيادات الحكيمة ورجال الدولة اللامعين بل وحتى الطبقة السياسية الواعية التي بإمكانها ان تدير دفة الامور بسلام وروية. وبغض النظر عن الاسباب التي تقف وراء ذلك، فمن المؤكد ان وجود قيادات من نوع سو كان سيغير مجرى التاريخ في العراق، وهو الامر الآخر الذي يعطي للتجربة البورمية اهميتها مقارنة بالتجربة العراقية.

عادت سو، ابنة الزعيم الوطني البورمي اونغ سان، من المنفى عام 1988 لعيادة والدتها المحتضرة ولكن عودتها تصادفت مع بدء الانتفاضة الشعبية ضد الطغمة العسكرية التي استولت على الحكم منذ 26 عاما فوجدت نفسها وكأن القدر يناديها لتولي قيادة معارضة مفككة في وجه طغيان النظام. لم تهرب سو من النداء ولم تعد الى زوجها وعائلتها في بريطانيا (قارن ذلك بالمعارضة العراقية لصدام)، بل بقيت في بلدها تقود التظاهرات والتجمعات التي أطلقتها الانتفاضة. ولم يكن ذلك المثال الذي ضربته في التضحية واختيار البقاء الى جانب شعبها فقط هو الذي رسّخ زعامتها بشكل سريع، بل الحكمة والرهافة والصبر إلى جانب البراعة السياسية التي ابدتها في قيادة المعارضة وسط ظروف معقدة. في خطاب ألقته وسط مئات الآلاف من انصارها في احد ميادين رانغون يوم 26 آب (اغسطس) 1989 حذّرت سو من مغبة الوقوع في فخ العداء للجيش فميزت بينه كمؤسسة وطنية وبين الجنرالات الذين هيمنوا على البلاد (قارن ذلك ايضا مع تفكيك الجيش العراقي بعد الحرب). تأكيدها الآخر كان على بث قيم الوحدة الوطنية بين الاعراق المختلفة وروح التسامح والانضباط وعدم الانجرار وراء اعمال الثأر الشخصية (قارن كذلك ببث النزعات الطائفية والمحاصصة القومية والطائفية وروح الانتقام التي سادت في عراق ما بعد صدام).

منذ بداية قيادتها لمسيرة المطالبة بالديموقراطية وجهت سو اهتمامها نحو العالم طالبة تضامنه ودعمه لتلك المسيرة، لكنها ظلت تفعل ذلك مناشدة المنظمات الدولية والحقوقية والصحافة للتنديد بجرائم النظام العسكري وفضح انتهاكاته وفرض العزلة الدولية عليه، لكنها أبقت دائما قضية النضال لإسقاط السلطة في الاطار الوطني والسلمي باعتبار أن ذلك هو أولاً مهمة شعب بورما وحده، وثانيا: ضرورة الا ينزلق النضال الى اي شكل من اشكال العنف الذي رفضته بقوة حتى ولو كان رد فعل على عنف النظام ووحشيته. وأدركت سو اهمية التضامن الدولي لدعم مسيرة الديموقراطية من ناحيتين: اولاهما ان المقاطعة والعقوبات التي يفرضها العالم ستزيد من عزلة النظام. وثانيهما ان تلك الاعمال ستمنح البورميين المزيد من الامل حتى في اكثر مراحل الصراع اثارة لليأس والاحباط. وكتبت سو في رسالة وجهتها الى لجنة الامم المتحدة لحقوق الانسان عام 1989 ان الشعب البورمي سيعتمد على شجاعته وصبره وقدرة تحمله في انجاز المهمة، وان كل ما يطلبه من العالم هو دعم قضيته العادلة، وهذا موقفها حتى اللحظة.

والآن مع احتمال وصول الانتفاضة البورمية الى مرحلتها النهائية فإن الانظار تتجه الى الطريقة التي سيتعامل بها العالم مع الازمة هناك. هناك طبعا تعقيدات ترتبط بالعلاقات الدولية وبخاصة بالمصالح الصينية والهندية في منطقة جنوب شرقي اسيا والمشاغبات الروسية المتوقعة في الامم المتحدة وخارجها. كما ان هناك حقيقة جوهرية وهي ان بورما بلد زراعي فقير لا يتمتع بتلك الجاذبية التي شكلها العراق بثرواته النفطية الغنية في دفع الولايات المتحدة لاتخاذ قرارها المنفرد بشن الحرب لتغيير نظام صدام. ومن المؤكد ايضا ان التجربة العراقية المريرة ستفرض ذاتها على النقاش الذي يدور بشأن الخيارات التي على العالم أن يتخذها لمد يد العون إلى شعب بورما في نضاله من أجل الخلاص.
لقد كان أول رد فعل من الرئيس جورج بوشعلى العنف الذي واجهت به السلطة في رانغون المنتفضين انه أمر بفرض حظر على سفر الجنرالات البورميين وعائلاتهم الى الولايات المتحدة، كما ان ردود الافعال الاوروبية لم تزل في مرحلة الكلام الديبلوماسي والاستنكارات، في الوقت الذي يبدي الجاران الكبيران لبورما، الصين والهند، اهتماما اكثر بتدعيم نفوذهما في المنطقة على الاهتمام بمن يحكم بورما وبأية طريقة. اما الامم المتحدة فمن غير المحتمل أن يغير إرسالها ابراهيم غمباري الى رانغون شيئا في ظل انعدام رؤية دولية موحدة بشأن بورما، وهو أمر من الصعب ان يستمر اذا استمرت الانتفاضة واخذت منحى اكثر دموية.
لا نعرف في هذه المرحلة وعلى وجه التحديد الوجهة التي ستسلكها الانتفاضة البورمية وما اذا كنا سنرى في مرحلة ما لافتات ترفع وسط المتظاهرين فيرانغون تنادي بالتدخل الاجنبي لاسقاط المجلس العسكري الحاكم اذا ركب جنرالاته رؤوسهم، ولكن المؤكد ان شعب بورما سيبقى في حاجة الى دعم العالم وتضامنه معه، مما سيثير التساؤلات عن التجربة الجديدة في سياسات التدخل الانساني وتغير الانظمة الشاذة التي ستواجهها الاسرة الدولية قريبا، لكن من المؤكد ان العالم الذي يشاهد الكارثة العراقية سيتريث كثيرا في التدخل المباشر في بورما، وربما سيختار المثال الاندونيسي في التغيير الذي تمكن في النهاية من إطاحة سوهارتو، ولكنه حافظ على اندونيسيا وعلى الامن والاستقرار في جنوب شرقي اسيا. ولعل مقولة الرئيس بوش قبل اسابيع في أحد تبريراته للغزو الأميركي ان صدام قضى على امكانية قيام نلسون مانديلا في العراق ستكون ماثلة امامه وامام العالم. ففي بورما لا تزال اونغ سان سو تشي حية، وكل ما على العالم ان يفعله هو ان يقف معها ومع المقاومة البورمية الشجاعة.
اهمية مؤازرة ثورة الزعفران حتى نجاحها انها ترسل رسالة ودرسا ايضا لكل الشعوب الاخرى التي ما زالت ترسخ تحت نير الانظمة المستبدة. فبورما ليست وحدها من يختبر اذا ما كان لهذه العبارات اي معنى، بل العالم كله موضع اختبار، في ما اذا كان باستطاعته ان يقف مع شعب يتحدى الخوف ليستعيد حريته من دون ان يجبر على دفع ثمن باهظ كالذي دفعه العراقيون.

                     في الصميم …                 تحليلات ومتابعات



                                                   صلاح النصراوي

     في السعودية .. الامير محمد وزيرا للداخلية .. لا ازمة في الحكم.. الى حين

                   
ليس غريبا ان تختفي المتابعات التحليلية في الاعلام المملوك سعوديا بشأن الكثير من الاحداث البارزة في المملكة اذ ان تلك ليست من وظائف هذا الاعلام الذي يهتم عادة بقضايا الاخرين اكثر من اهتمامه بصميم قضاياه المحلية.
ويأتي تعين الامير محمد بن نايف في منصب وزير الداخلية مؤخرا وبعد اشهر من وفاة والده الامير نايف الذي تولى المنصب ذاته لاكثر من ثلاثة عقود من الزمن ليثير التساؤلات عن مغزى هذا القرار الذي اتخذه الملك عبد الله بن عبد العزيز في ظل صمت تام من الاعلام السعودي الذي اكتفى كعادته بالتهليل للقادم الجديد دون محاولة تفسيره وتحليل الخطوة والقاء الضوء على تبعاتها المحتملة.
وعلى عكس ما يثار من ان تعين الامير محمد يعكس ازمة في نظام الحكم السعودي فان الامر يبدو طبيعيا ومتسقا مع طبيعة الامور ومجريات الاحداث منذ وصول الملك عبد الله الى دست الحكم عام 2005 وسلسة التغيرات التي تبعته وخاصة تولي ثم غياب وليين للعهد من ابرز امراء الاسرة الحاكمة خلال فترة قصيرة من الزمن وفي حياته.
 كان تعيين الامير احمد بن عبد العزيز منذ البداية بعد وفاة الامير نايف مؤقتا وانتقاليا لاعتبارات تتعلق بالاحتفاظ بتقاليد العائلة والسن والاقدمية ولكنه لم يكن معبرا عن توازنات القوى ضمن الاسرة والاجهزة التي تتحكم بها اجنحتها الرئيسية، وخاصة الجناح السديري وجناح الملك عبد الله واولاده.
وهكذا يتضح:
1-      ان تعيين الامير احمد الذي كان نائبا للامير نايف كان لمدة محددة بهدف تكريمه انتظارا لانتهاء موسم الحج حيث يقوم الوزير وفق تقاليد وضعها الامير نايف باستعراض سنوي كبير لقوات الامن في مكة المكرمة.
2-      ان الامير محمد بن نايف هو من يمسك فعليا بامور وزارة الداخلية والقوات الامنية التي تعتبر ثالث قوة مسلحة منظمة في السعودية بعد الجيش والحرس الوطني اضافة الى قيادته القوات الامنية في المواجهات مع كل معارضي النظام في حين ان الامير احمد كان يتولى موقعا شرفيا في ظل الامير نايف.
3-      ان الامير محمد هو الوريث الفعلي للامير نايف في تقاسم حصص المناصب الرئيسية في المملكة والتي اضحت سياسة امر واقع تعكس موازين قوى حقيقية بين اجنحة الاسرة الحاكمة.
4-      ان القرار يعكس ضرورات الانتقال الى مرحلة الجيل الثالث من شباب الاسرة الحاكمة ولكن ضمن توزنات القوى المذكورة.هذا الانتقال اصبح استحقاقا ملزما مع تولي الامير سلمان مقاليد ولاية العهد وامكانية غياب الملك عبد الله، وبهدف تجنب صراعات مهلكة قد تفجرها مرحلة ما بعد عبد الله.
5-      ان القرار يعكس حاجة الاسرة للحفاظ على قوتها وتضامنها الداخلي في ظل التحديات الخطيرة التي تواجها السعودية داخليا واقليميا وتضعع دورها السياسي والدبلوماسي غداة ثورات الربيع العربي.
6-      ان تعيين الامير محمد بن نايف يبدو متسقا مع التوازنات الحالية داخل الاسرة حيث ضمن الملك وجود ابنه الامير متعب بن عبد عبد الله في منصب قيادة الحرس الوطني في حين اصبح الطريق سالكا الان للامير خالد بن سلطان لكي يصبح وزيرا للدفاع،  بينما اخذ اخوه بندر جزءاً مهما من نصيب جناح الامير سلطان في منصب مدير الاستخبارات.ويبقى موضوع تعين وزير خارجية جديد في ظل الظروف الصحية التي يمر بها الامير سعود الفيصل مدار تكهنات حول وضع جناح الملك فيصل خاصة في وجود الامير عبد العزيز بن عبد الله نائبا له في وزارة الخارجية.
وهكذا تكون الاجنحة الرئيسية قد ضمنت مكانة اولادها الشباب من الجيل الثالث في المواقع الاساسية في الحكم وفي امكانية جلوس احدها على العرش مستقبلا… ولكن الى حين.. اذ ان من الطبيعي ان الابواب ستبقى مشرعة امام رياح الصراعات والمنافسات والتغير خاصة في ظل معارضة واضحة او مستترة من باقي الاجنحة الاضعف في الاسرة السعودية الحاكمة.

                                                    صفوة القول
                                               مختارات من اراء وقضايا

                                 ولماذا لا يكون دستور العراق انتقاليًا؟
                                                                                         صلاح النصراوي:
نشرت في الحياة يوم 23 – 08 – 2005 
“ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، وهو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها بعضاً، يحتاج ساستها الى أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي الوقت عينه أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحساسيات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا، على جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي، لا ينقادون إلى تأثرات رجعية أو أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل»… هذه كلمات للملك فيصل الأول كتبها في وصية إلى خاصته قبل وفاته بعام ونصف العام مُلخِّصًا بها تجربته في الحكم بين عامي 1921 و1933، ومعاناته المريرة وهو يحاول بناء صرح أول دولة عراقية حديثة.
وبغض النظر عما إذا كان الكيان الذي أنشأه البريطانيون لفيصل الأول أسهم هو أيضاً في الوصول إلى هذه الحال من الفشل الذريع في بناء هوية وطنية جامعة ودولة لكل مواطنيها، فمن المؤكد أن أي قارئ مطَّلع على شؤون العراق سيقف أمام كلمات الملك هذه ليقول: ما أشبه اليوم بالبارحة. وفي الحقيقة هي فعلاً كذلك، وربما هي الآن اكثر سوءاً مما كانت عليه حين دكت أسس هذه الدولة قبل اكثر من ثمانية عقود من الزمن. ولعل اكثر ما افصح عن هذه الحقيقة المؤلمة هو النقاشات والمفاوضات التي دارت حول صوغ الدستور، وكشفت عن الهوة العميقة من عدم الثقة والمخاوف وانعدام الإحساس بالأمن الذي ينتاب العراقيين ولا يزال، بعد كل هذه السنين، يقف حجر عثرة في تحولهم إلى أمة في دولة واحدة قوية البنيان.
فالآن، قد ينجح القادة السياسيون العراقيون تحت ضغوط الظروف في صوغ دستور متفق عليه في ما بينهم، إلا أن التساؤل الذي يبقى هو: إلى أي مدى سيكون في إمكان العراقيين بكل مللهم ونحلهم قادرين، على منع هذه الانقسامات من أن تنزلق بهم إلى مهاوي الصراعات والحروب الأهلية من جهة، وبناء دولة ديموقراطية تعددية موحدة تحل مكان الكيان الهش والهزيل الذي عجز طيلة هذه السنين عن صهرهم في بوتقة هوية وطنية واحدة عميقة ومتماسكة من جهة أخرى. ولأن الأمر يرتبط بوجود نخب سياسية في موقع القيادة والتوجيه، فان نقطة البداية كما أشار فيصل الأول قبل سبعين عامًا هي التساؤل عما إذا كانت النخب العراقية الحالية التي تتصدى لمشروع التغيير تتميز بالحكمة والعدل والتدبير والقوة والبعد عن الأهواء الشخصية أو الطائفية، من دون انقياد للتأثيرات الرجعية أو الأفكار المتطرفة. وهذه مؤهلات افتقدها أجدادهم الذين اشتكى منهم ملك يقول بعض الكتابات المنصفة انه كان يسعى باجتهاد وجد لبناء دولة حديثة.
ابرز، وربما ابشع، ما كشفت عنه مفاوضات الدستور هو أنها كانت تجري على خلفية طروحات تفوح منها رائحة الانتهازية المغلفة بالشعارات العصبوية الغاضبة، وحتى الشوفينية والطائفية، كما تجلت فيها نيات غير وحدوية وأحيانًا انفصالية. فعلى عكس الآمال المرجوة والتوقعات الواقعية للتجربة الجديدة لم نسمع في المعالجات المطروحة أصواتًا تنادي بالدعوة للتمسك بالهوية التاريخية المشتركة للعراقيين والأهداف التي تجمعهم وتطويرها، بل على العكس من ذلك كانت غالبية الأصوات العالية تنأى عن تدعيم الروح التكافلية المطلوبة في لحظات التحول الكبرى وعن الأرضية المشتركة التي ينبغي قيام العراق الجديد عليها. وغابت في لجة السجالات التي رافقت المفاوضات تلك اللغة التي تعكس روح الاعتدال والتسامح والمرونة والتكيف، وحلت محلها لغة شمولية وذرائعية حادة في عواطفها وانفعالاتها لا تضع أهمية لترسيخ قواعد تعايش سلوكية ديموقراطية.
فالمعروف أن كتابة الدساتير، كما توضح التجارب التاريخية الغنية للشعوب، هي عملية تعلم بالدرجة الأولى تهدف إلى أن تقوم الشعوب بصوغ قانوني للعقد الاجتماعي والسياسي الذي يربط بين مكوناتها المختلفة على قاعدة التوازن بين الصراعات والرغبات الانشقاقية من ناحية، وبين الحاجة للإجماع من ناحية ثانية. وبالنسبة للتجربة العراقية الحالية في كتابة الدستور فان هناك جانبًا مغفلاً تمامًا في هذه التجربة، وهو مشاركة العراقيين أنفسهم في كتابة أهم وثيقة في حياتهم، ما يشكل عيباً فظيعاً في العملية التعليمية التي يتطلبها تحقيق المشاركة الجماهيرية في صون العملية الديموقراطية. إذا كان الدستور كتب للناس ومن أجلهم فمن الأجدر والضروري أن يكونوا في قلب العملية، حتى يصبحوا مستعدين في نهاية المطاف لقبول الوثيقة الناتجة والمحافظة عليها أو على الأقل أن يتفهموا الأسباب التي أدت إلى صياغتها النهائية. ومع الأسف الشديد، فإن ذلك لم يتم. واقتصر الأمر برمته على تسويات أبرمت بين النخب الفئوية التي تحصنت بعدد المقاعد التي فازت بها في الانتخابات الماضية.
إن فكرة صوغ الدستور من لجنة منتخبة من الشعب فكرة جذابة ضمانًا لتحقيق مبدأ سيادة الشعب الذي يجب أن يمتلك السلطة ويخولها بعد ذلك لمن يمارسها باسمه. لكن الدستور هو في النهاية وثيقة لا تعكس فقط التجربة التاريخية لشعب ما، وإنما أيضًا روحه، ما يحتم أن يكون مختلفًا في طريقة صوغه بين شعب وأخر. وعلى هذا الأساس، فإن خصوصية الوضع العراقي الذي جرت الانتخابات في ظله كانت تتطلب منهجية وآليات مختلفة لتدوين الوثيقة الدستورية تمنح اكثر فئات الشعب وأفراده حيزًا اكبر من المشاركة ضمن الخبرة المتوفرة تفاديًا لجموح وطغيان الغالبية والتكتيكات الائتلافية الراغبة في انتزاع اكبر قدر من المزايا الفئوية على حساب تعظيم حقوق الأفراد وحرياتهم بل على حساب الدستور نفسه الذي يخشى أن يولد مفرغًا من أيّة ثقافة اندماجية وفاعلية سياسية تخفف من حدة الصراعات.
إن مصالحة الادعاءات المتضاربة وتأكيد الضمانات للحقوق والحريات التي تتمتع بها القوميات والأديان والطوائف أمر جوهري وإيجابي في كتابة أي دستور في بلد تعددي. لكن كل متابع للطريقة التي شكلت بها لجنة صوغ الدستور والمساومات التي شكلت قاعدة مناقشاتها والجدل الحامي الذي أججته لاحظ أنها أدت إلى أن تأخذ كتابة الدستور منحى أخر، منحى يضع أسسًا لترسيخ القيم التصارعية بدلاً من تعزيز التكافل والتماسك واللحمة الوطنية. وكل من تابع المناقشات التي صاحبت كتابة مسودة الدستور يدرك أن القيادات الفئوية التي قادت العملية، من دون مشاركة جماهيرية حقيقية، كانت اقرب إلى تدوين وثيقة تسويات نخبوية مرحلية وليس عقدًا سياسيًا اجتماعيًا دائمًا، الأمر الذي يهدد جوهر العملية الديموقراطية التي ينبغي أن يؤطرها دستور يحظى بالتزام شعبي واع لا لَبْسَ فيه.
لذلك، كان من الأجدر أن يكون هذا الدستور انتقاليًا يعبر عن حاجات المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق ويضع الأسس المتينة لإقامة العراق التعددي الديموقراطي الموحد الذي هو شعار الجميع وهدفهم الآن. فإذا كان تدوين الدستور هو عملية تثقيف من الطراز الأول، فإن اكثر ما يحتاجه العراقيون، نخبًا وجماهير، في الوقت الحالي هو التعلم… تعلم قيم الديموقراطية الحقيقية وهي الحوار والاعتدال والتسامح والمساواة وإقامة العدل والتقريب بين النسخ المتعددة للحقيقة ومصالحة التوقعات المتعارضة مع الموارد المتوفرة، على اعتبار أن كل ذلك هو مقدمة لإعادة تشكيل مجتمع سياسي افتقده العراق خلال عقود طويلة. إن العراقيين الذين عانوا سنين طويلة من عسف الأنظمة الديكتاتورية والشمولية وقساوتها هم أشد الشعوب حاجة للمرور بعملية التعلم والدستور الانتقالي وحده سيضمن إتمام العملية الضرورية هذه بسلاسة وهدوء، في انتظار الفترة التي سيتاح لهم فيها تدوين دستورهم الدائم عبر مشاركة شعبية واعية وواسعة، من دون هيمنة خيارات النخب أو خضوع للتفاعلات المرحلية أو أي نوع آخر من الضغوط.
بغض النظر عن الأساطير التي حاكها مخططو الاحتلال، فان مشروع التغير في العراق يجب أن يكون ديموقراطيًا وحداثيًا نهضوياً متجاوزاً كل التجارب التي مرت قبله، ولم لا مقدماً أيضاً، نموذجاً جديداً للبشرية في معنى التعدد داخل الوحدة. إنها حاجة عراقية قبل أي شيء أخر، لأن البدائل الأخرى كما تنذر في الأفق سيئة، بل مدمرة وكارثية. ومن المشكوك فيه الآن أن هذه النسخة من الدستور والأجواء التي أحاطت بعملية صوغها والنقاشات التي أثارتها ستؤدي إلى النتيجة المرجوة. ومن أجل ألا يقع العراق بعد خروجه من قسوة النظام الشمولي وظلمه ودمويته في براثن الفوضى والحرب الأهلية والتقسيم، يجب أن يأخذ العراقيون وقتهم الكافي لكتابة وثيقة دستورية جديرة بتضحياتهم ومعبرة عن تطلعاتهم الحقيقية، لا تطلعات النخب التي تتصدى لقيادتهم في هذه المرحلة الانتقالية الهشة السائلة المتحركة.