صفوة القول
                                               مختارات من اراء وقضايا

                                 ولماذا لا يكون دستور العراق انتقاليًا؟
                                                                                         صلاح النصراوي:
نشرت في الحياة يوم 23 – 08 – 2005 
“ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، وهو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها بعضاً، يحتاج ساستها الى أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي الوقت عينه أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحساسيات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا، على جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي، لا ينقادون إلى تأثرات رجعية أو أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل»… هذه كلمات للملك فيصل الأول كتبها في وصية إلى خاصته قبل وفاته بعام ونصف العام مُلخِّصًا بها تجربته في الحكم بين عامي 1921 و1933، ومعاناته المريرة وهو يحاول بناء صرح أول دولة عراقية حديثة.
وبغض النظر عما إذا كان الكيان الذي أنشأه البريطانيون لفيصل الأول أسهم هو أيضاً في الوصول إلى هذه الحال من الفشل الذريع في بناء هوية وطنية جامعة ودولة لكل مواطنيها، فمن المؤكد أن أي قارئ مطَّلع على شؤون العراق سيقف أمام كلمات الملك هذه ليقول: ما أشبه اليوم بالبارحة. وفي الحقيقة هي فعلاً كذلك، وربما هي الآن اكثر سوءاً مما كانت عليه حين دكت أسس هذه الدولة قبل اكثر من ثمانية عقود من الزمن. ولعل اكثر ما افصح عن هذه الحقيقة المؤلمة هو النقاشات والمفاوضات التي دارت حول صوغ الدستور، وكشفت عن الهوة العميقة من عدم الثقة والمخاوف وانعدام الإحساس بالأمن الذي ينتاب العراقيين ولا يزال، بعد كل هذه السنين، يقف حجر عثرة في تحولهم إلى أمة في دولة واحدة قوية البنيان.
فالآن، قد ينجح القادة السياسيون العراقيون تحت ضغوط الظروف في صوغ دستور متفق عليه في ما بينهم، إلا أن التساؤل الذي يبقى هو: إلى أي مدى سيكون في إمكان العراقيين بكل مللهم ونحلهم قادرين، على منع هذه الانقسامات من أن تنزلق بهم إلى مهاوي الصراعات والحروب الأهلية من جهة، وبناء دولة ديموقراطية تعددية موحدة تحل مكان الكيان الهش والهزيل الذي عجز طيلة هذه السنين عن صهرهم في بوتقة هوية وطنية واحدة عميقة ومتماسكة من جهة أخرى. ولأن الأمر يرتبط بوجود نخب سياسية في موقع القيادة والتوجيه، فان نقطة البداية كما أشار فيصل الأول قبل سبعين عامًا هي التساؤل عما إذا كانت النخب العراقية الحالية التي تتصدى لمشروع التغيير تتميز بالحكمة والعدل والتدبير والقوة والبعد عن الأهواء الشخصية أو الطائفية، من دون انقياد للتأثيرات الرجعية أو الأفكار المتطرفة. وهذه مؤهلات افتقدها أجدادهم الذين اشتكى منهم ملك يقول بعض الكتابات المنصفة انه كان يسعى باجتهاد وجد لبناء دولة حديثة.
ابرز، وربما ابشع، ما كشفت عنه مفاوضات الدستور هو أنها كانت تجري على خلفية طروحات تفوح منها رائحة الانتهازية المغلفة بالشعارات العصبوية الغاضبة، وحتى الشوفينية والطائفية، كما تجلت فيها نيات غير وحدوية وأحيانًا انفصالية. فعلى عكس الآمال المرجوة والتوقعات الواقعية للتجربة الجديدة لم نسمع في المعالجات المطروحة أصواتًا تنادي بالدعوة للتمسك بالهوية التاريخية المشتركة للعراقيين والأهداف التي تجمعهم وتطويرها، بل على العكس من ذلك كانت غالبية الأصوات العالية تنأى عن تدعيم الروح التكافلية المطلوبة في لحظات التحول الكبرى وعن الأرضية المشتركة التي ينبغي قيام العراق الجديد عليها. وغابت في لجة السجالات التي رافقت المفاوضات تلك اللغة التي تعكس روح الاعتدال والتسامح والمرونة والتكيف، وحلت محلها لغة شمولية وذرائعية حادة في عواطفها وانفعالاتها لا تضع أهمية لترسيخ قواعد تعايش سلوكية ديموقراطية.
فالمعروف أن كتابة الدساتير، كما توضح التجارب التاريخية الغنية للشعوب، هي عملية تعلم بالدرجة الأولى تهدف إلى أن تقوم الشعوب بصوغ قانوني للعقد الاجتماعي والسياسي الذي يربط بين مكوناتها المختلفة على قاعدة التوازن بين الصراعات والرغبات الانشقاقية من ناحية، وبين الحاجة للإجماع من ناحية ثانية. وبالنسبة للتجربة العراقية الحالية في كتابة الدستور فان هناك جانبًا مغفلاً تمامًا في هذه التجربة، وهو مشاركة العراقيين أنفسهم في كتابة أهم وثيقة في حياتهم، ما يشكل عيباً فظيعاً في العملية التعليمية التي يتطلبها تحقيق المشاركة الجماهيرية في صون العملية الديموقراطية. إذا كان الدستور كتب للناس ومن أجلهم فمن الأجدر والضروري أن يكونوا في قلب العملية، حتى يصبحوا مستعدين في نهاية المطاف لقبول الوثيقة الناتجة والمحافظة عليها أو على الأقل أن يتفهموا الأسباب التي أدت إلى صياغتها النهائية. ومع الأسف الشديد، فإن ذلك لم يتم. واقتصر الأمر برمته على تسويات أبرمت بين النخب الفئوية التي تحصنت بعدد المقاعد التي فازت بها في الانتخابات الماضية.
إن فكرة صوغ الدستور من لجنة منتخبة من الشعب فكرة جذابة ضمانًا لتحقيق مبدأ سيادة الشعب الذي يجب أن يمتلك السلطة ويخولها بعد ذلك لمن يمارسها باسمه. لكن الدستور هو في النهاية وثيقة لا تعكس فقط التجربة التاريخية لشعب ما، وإنما أيضًا روحه، ما يحتم أن يكون مختلفًا في طريقة صوغه بين شعب وأخر. وعلى هذا الأساس، فإن خصوصية الوضع العراقي الذي جرت الانتخابات في ظله كانت تتطلب منهجية وآليات مختلفة لتدوين الوثيقة الدستورية تمنح اكثر فئات الشعب وأفراده حيزًا اكبر من المشاركة ضمن الخبرة المتوفرة تفاديًا لجموح وطغيان الغالبية والتكتيكات الائتلافية الراغبة في انتزاع اكبر قدر من المزايا الفئوية على حساب تعظيم حقوق الأفراد وحرياتهم بل على حساب الدستور نفسه الذي يخشى أن يولد مفرغًا من أيّة ثقافة اندماجية وفاعلية سياسية تخفف من حدة الصراعات.
إن مصالحة الادعاءات المتضاربة وتأكيد الضمانات للحقوق والحريات التي تتمتع بها القوميات والأديان والطوائف أمر جوهري وإيجابي في كتابة أي دستور في بلد تعددي. لكن كل متابع للطريقة التي شكلت بها لجنة صوغ الدستور والمساومات التي شكلت قاعدة مناقشاتها والجدل الحامي الذي أججته لاحظ أنها أدت إلى أن تأخذ كتابة الدستور منحى أخر، منحى يضع أسسًا لترسيخ القيم التصارعية بدلاً من تعزيز التكافل والتماسك واللحمة الوطنية. وكل من تابع المناقشات التي صاحبت كتابة مسودة الدستور يدرك أن القيادات الفئوية التي قادت العملية، من دون مشاركة جماهيرية حقيقية، كانت اقرب إلى تدوين وثيقة تسويات نخبوية مرحلية وليس عقدًا سياسيًا اجتماعيًا دائمًا، الأمر الذي يهدد جوهر العملية الديموقراطية التي ينبغي أن يؤطرها دستور يحظى بالتزام شعبي واع لا لَبْسَ فيه.
لذلك، كان من الأجدر أن يكون هذا الدستور انتقاليًا يعبر عن حاجات المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق ويضع الأسس المتينة لإقامة العراق التعددي الديموقراطي الموحد الذي هو شعار الجميع وهدفهم الآن. فإذا كان تدوين الدستور هو عملية تثقيف من الطراز الأول، فإن اكثر ما يحتاجه العراقيون، نخبًا وجماهير، في الوقت الحالي هو التعلم… تعلم قيم الديموقراطية الحقيقية وهي الحوار والاعتدال والتسامح والمساواة وإقامة العدل والتقريب بين النسخ المتعددة للحقيقة ومصالحة التوقعات المتعارضة مع الموارد المتوفرة، على اعتبار أن كل ذلك هو مقدمة لإعادة تشكيل مجتمع سياسي افتقده العراق خلال عقود طويلة. إن العراقيين الذين عانوا سنين طويلة من عسف الأنظمة الديكتاتورية والشمولية وقساوتها هم أشد الشعوب حاجة للمرور بعملية التعلم والدستور الانتقالي وحده سيضمن إتمام العملية الضرورية هذه بسلاسة وهدوء، في انتظار الفترة التي سيتاح لهم فيها تدوين دستورهم الدائم عبر مشاركة شعبية واعية وواسعة، من دون هيمنة خيارات النخب أو خضوع للتفاعلات المرحلية أو أي نوع آخر من الضغوط.
بغض النظر عن الأساطير التي حاكها مخططو الاحتلال، فان مشروع التغير في العراق يجب أن يكون ديموقراطيًا وحداثيًا نهضوياً متجاوزاً كل التجارب التي مرت قبله، ولم لا مقدماً أيضاً، نموذجاً جديداً للبشرية في معنى التعدد داخل الوحدة. إنها حاجة عراقية قبل أي شيء أخر، لأن البدائل الأخرى كما تنذر في الأفق سيئة، بل مدمرة وكارثية. ومن المشكوك فيه الآن أن هذه النسخة من الدستور والأجواء التي أحاطت بعملية صوغها والنقاشات التي أثارتها ستؤدي إلى النتيجة المرجوة. ومن أجل ألا يقع العراق بعد خروجه من قسوة النظام الشمولي وظلمه ودمويته في براثن الفوضى والحرب الأهلية والتقسيم، يجب أن يأخذ العراقيون وقتهم الكافي لكتابة وثيقة دستورية جديرة بتضحياتهم ومعبرة عن تطلعاتهم الحقيقية، لا تطلعات النخب التي تتصدى لقيادتهم في هذه المرحلة الانتقالية الهشة السائلة المتحركة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *