صفوة القول
                                                       مختارات من اراء وقضايا

                                                 أمــام العــراق فرصــة أخيــرة
                                                                                              صلاح النصراوي
نشرت في الاهرام في 2-8-2006 

تتفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية في العراق بشكل خطير‏,‏ حتي أصبح القول إن البلد ينحدر بسرعة نحو حرب أهلية‏,‏ هو تقرير حالة‏,‏ وليس تهويلا‏,‏ أو مبالغة يتهم بها المتشككون أو المتشائمون من نتائج العملية السياسية الجارية‏.‏ فعمليات القتل علي الهوية‏,‏ والتهجير القسري‏,‏ والتطهير الطائفي‏,‏ والهجمات المتبادلة بقذائف الكاتيوشا والهاون‏,‏ واستهداف دور العبادة والمناطق والتجمعات السكنية‏,‏ لأسباب مذهبية‏,‏ وانهيار سلطة الدولة‏,‏ وتشرذم البلد إلي أرخبيل من جزر منعزل تحكمها الميليشيات العصبوية‏,‏ كلها سمات عامة من سمات الحرب الأهلية‏,‏ كما تدل علي ذلك التجارب الأليمة التي مرت بها بعض شعوب العالم وبلدانها من قبل‏.
وإذا كان العراق يقف فعلا علي تخوم حرب طائفية‏,‏ كما هو واضح من المشهد الذي هو عليه الآن‏,‏ فإن السؤال المطروح هو‏:‏ هل ثمة فرصة بعد لكبح جماح هذا الاندفاع الجنوني نحو الهاوية الوطنية وإنقاذ العراق من مصير ليس محتما؟
ما هو مؤكد أن العراق يقف اليوم علي مفترق طرق‏.‏ وفي مثل هذه المنعطفات المصيرية التي تمر بها الشعوب‏,‏ هناك دائما إحساس غير مريح بإمكان حدوث مفاجآت غير سارة‏.‏ إلا أنه من المؤكد أيضا‏,‏ أن الفرصة لاتزال سانحة‏,‏ لكي يدرك العراقيون أن طريق الحرب الأهلية التي وضعوا فيها ليس إجباريا‏.‏ وأن بإمكانهم أن يجتازوا هذا الاختبار الشاق الذي وضعوا فيه بطريقة فاعلة‏,‏ لا توقف فقط هذا الانحدار المدمر‏,‏ بل توقظ لديهم أسباب البقاء‏,‏ كشعب ودولة‏.‏ وتجعلهم قادرين أيضا علي العيش معا كبشر ومواطنين‏,‏ ذوي هوية ومصالح وتطلعات مشتركة‏.‏ غير أن كل ذلك سيعتمد‏,‏ بالدرجة الأولي‏,‏ علي قوة الضمير الأخلاقي للقيادات التي تتولي دفة الأمور داخل العملية السياسية وخارجها‏,‏ وبراعتها السياسية‏.‏ كما سيعتمد‏,‏ ثانيا‏,‏ علي همة العراقيين وعزمهم علي استعادة الإرادة الوطنية التي دمرتها النتائج المروعة للفترة الماضية‏.‏
هناك الآن عملية سياسية جارية‏,‏ تمثل رغم الأسس الركيكة التي قامت عليها‏,‏ والعثرات التي رافقتها‏,‏ الوسيلة الوحيدة المتوافرة للخروج من المأزق الوطني الذي يمر به العراق‏,‏ ولمنع انزلاق العراقيين إلي صراع طائفي ينتهي بتقسيم بلدهم إلي كيانات تتوزع بين شيعته وسنته وعربه وأكراده وتركمانه‏.‏ وبما أن الإطار المرجعي الذي تقوم عليه هذه العملية هو اقتسام السلطة والثروة بين مكونات المجتمع العراقي الاثنية والدينية‏,‏ علي أسس المحاصصات والصفقات‏,‏ وهو الإطار الذي جوبه برفض قوي من قبل أغلبية السنة العرب‏,‏ فإن فحوي الصراع الحالي يدور حول إمكان إعادة التفاوض بشأن عملية الاقتسام هذه‏.‏ بهدف تحقيق التوازنات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بين المكونات الثلاثة الرئيسية‏,‏ والضرورية لوضع العملية السياسية علي أسس أكثر واقعية وعدالة‏.‏ وبهدف البدء بعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع‏,‏ اللذين تمتفكيكهما بالحرب الأمريكية التي شنت لإسقاط نظام صدام حسين‏.‏
ويوفر المشروع الذي طرحه رئيس الوزراء نوري المالكي للمصالحة والحوار الوطني‏,‏ ومؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي تدعو الجامعة العربية إلي عقده الشهر المقبل‏,‏ المبادرتين الوحيدتين الآن اللتين تسعيان إلي المساعدة علي الخروج من هذا المأزق الوطني‏.‏ وفي الوقت الذي يرسي مشروع المالكي قواعد أولية للحوار‏,‏ فإن الجامعة تعتمد في إنجاح مبادرتها علي حسن نيات الأطراف المشاركة في المؤتمر المزمع لإنجاح عملية الوفاق‏.‏ غير أن ما يؤخذ علي المبادرتين‏,‏ علي الأقل في المرحلة الحالية‏,‏ هو عموميات أهدافهما وافتقادهما للرؤي والاستراتيجيات‏.‏ ومن ثم الآليات المطلوبة لتنفيذ حلول وسط وتسويات منصفة وواقعية يتم الاتفاق عليها لإرضاء جميع الأطراف المتنازعة‏.‏
من الضروري أن تجري عملية الوفاق والمصالحة الوطنية علي خمسة مسارات متوازية ومتزامنة إذا ما أريد ضمان نجاحها‏:‏
‏*‏ أولا‏:‏ من المهم العمل علي تحقيق الأمن والاستقرار‏,‏ بهدف تحقيق مناخ مناسب لعملية الوفاق‏.‏ وهي مهمة تتحمل جميع الأطراف‏,‏ سواء كانت مشاركة في العملية السياسية الحالية أم خارجها‏,‏ مسئولية القيام بها وبشكل يؤدي إلي اجتثاث كل أنواع العنف ومن يقف وراءه‏.‏ يتطلب هذا الأمر من الحكومة التعجيل ببناء جيش وقوات أمن علي أسس وطنية ومهنية تأخذ علي عاتقها مهمات حفظ النظام وتطبيق القانون‏.‏ بينما يتطلب من الأطراف المتنازعة حل الميليشيات المسلحة‏,‏ وكل جماعات العنف المنظم‏.‏ ومن شأن هذه الخطوات إرساء مناخ من الأمان والثقة يشجع علي الانخراط في عملية المصالحة وإنجاحها‏.‏
‏*‏ ثانيا‏:‏ يشكل بقاء قوات الاحتلال تحديا كبيرا في وجه أي عملية مصالحة وطنية ناجحة‏.‏ مما يتطلب الاتفاق علي مستقبل وجود هذه القوات‏,‏ في إطار من الواقعية السياسية‏,‏ والحاجات الوطنية الفعلية‏,‏ خارج ثنائية الاحتلال ـ المقاومة التي استحكمت بأداء بعض الأطراف‏,‏ خاصة العربية السنية‏.‏ وجود الاحتلال هو قضية وطنية ينبغي معالجتها في إطار وطني بعيدا عن المزايدات واتهامات التخوين وعقد الصفقات معه لمنحه الفرصة للبقاء مدة أطول‏,‏ أو تغير شكله من خلال منحه رخصة للإقامة الدائمة عبر بناء قواعد ومواطئ قدم‏.‏
‏*‏ ثالثا‏:‏ من الضروري توسيع المشاركة السياسية لكي تشمل أطرافا خارج الجماعات والتشكيلات الطائفية والعرقية التي هيمنت إلي الآن علي العملية السياسية واحتكرتها‏,‏ أو تلك التي قاومتها‏.‏ وذلك من خلال ضم ممثلين عن التيار الوطني العام والمجتمع المدني‏,‏ كمشاركين حقيقيين في صياغة عقد سياسي جديد قائم علي تحقيق توازنات منصفة وواقعية بين وجهات النظر المتعددة والمصالح والآمال التي لدي كل جماعة في سياق عراق جديدد‏.‏ وفي هذا الإطار ينبغي البدء بعملية إدماج وطني علي المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية علي أساس مبدأ التنوع داخل الوحدة‏.‏
‏*‏ رابعا‏:‏ يشكل تحقيق العدل في الأوضاع الحالية‏,‏ من خلال كشف الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين‏,‏ سواء من قبل النظام السابق‏,‏ أو من زمر الإرهاب والعنف بعد سقوطه‏,‏ مهمة ذات أولوية قصوي‏.‏ هدفها إحقاق الحقوق وإزالة مناخ عدم الأمان والخوف‏.‏ وهي عوائق ستظل‏,‏ إذا لم تتم إزالتها بحل ما‏,‏ مانعا لتحقيق أي مصالحة ووفاق وطني‏.‏ وعلي هذا الأساس‏,‏ فإن وضع آلية عملية لتحقيق العدالة الانتقالية‏,‏ وتسليط الضوء علي إرث الانتهاكات الفظيعة التي حصلت ومعالجتها بالطريقة التي تحقق العدالة للضحايا وتغسل جراح الماضي وأحقاده وضغائنه هي مهمة ضرورية لإنجاح عملية المصالحة الوطنية‏.‏
‏*‏ خامسا‏:‏ لا يمكن لأي عملية مصالحة ناجحة أن تجري دون جهد حقيقي وسريع لإعادة البناء الاقتصادي‏.‏ من خلال آليات جديدة لتوزيع الثروة بشكل عادل ومنصف بين مناطق العراق المختلفة‏.‏ وإرجاع العراق إلي سوق اقتصادية واحدة ودفع عجلة التنمية والاستثمار بهدف القضاء علي البطالة والفقر وتوفير فرص العمل وزيادة النمو وتحقيق رخاء اقتصادي يوفر مناخا موائما للاستقرار والأمن‏,‏ ويكون سياجا ماديا حاميا للوفاق والوحدة‏.‏
هذه فترة حاسمة في تاريخ العراق‏,‏ والأشهر القليلة المقبلة ستكشف فيما إذا كان قادة الجماعات العراقية قادرين علي التعلم من أخطاء الماضي‏,‏ البعيد والقريب‏,‏ أم أنهم سيعيدون ارتكابها‏,‏ دافعين ببلدهم وشعبهم نحو حضيض حرب أهلية طاحنة‏.‏ رغم نذر الشؤم‏,‏ فإن المناخ الآن مناسب أمام كل الأطراف لمراجعة الذات والتخلي عن الأنانية والبحث عن الامتيازات من خلال لعبة السلطة المدمرة‏,‏ من أجل مصالحة الادعاءات المتضاربة والتوقعات المتعارضة وتسخير كل ذلك من أجل إعادة البناء‏.‏ وإلا فإن التاريخ سيسميهم بأشنع الأوصاف‏,‏ وسيحكم علي أفعالهم‏,‏ ليس باعتبارها أخطاء‏,‏ بل كونها أعمالا شريرة‏,‏ أدت إلي خراب العراق وانهياره‏.‏ هذه فرصة أخيرة كي يقف هؤلاء القادة أمام ضمائرهم‏,‏ وأمام برك الدم البريء‏,‏ وأمام الركام لكي يحققوا المعجزة العراقية‏,‏ أن ينهض العراق من جديد من تحت الأنقاض التي يراد دفنه تحتها‏ 

صفوة القول

                                                     صفوة القول
                                             مختارات من اراء وقضايا

                                             أمام “حماس” فرصة… وكذلك المنطقة
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في الحياة في 24/2/2006

“إن اليقين هو أن الأصوات التي تغرق الإعلام في هذه الأيام باطلة، فأمام أنظارنا لا يتخلق شرق أوسط جديد فقط بل رؤية آخر الزمان أيضاً. يوجد بين محللينا من يزعمون أن الذئب يوشك أن يعاشر الكبش، وأن مواطني إسرائيل المساكين الذين كانوا يوماً أسوداً أصبحوا يأكلون التبن… كالبقر”. هذه العبارات هي لكاتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية غداة فوز حماس بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهي تخلص الى أن هذا الفوز سيشكل شرق أوسط جديداً سيمثل بدوره كارثة على إسرائيل وتهديداً عظيماً لها.

هل يختلف هذا الاستنتاج الإسرائيلي كثيراً عما قرأناهنحن في صحافتنا العربية أو سمعناه من محللينا الإستراتيجيين اياهم الذين انشطروا، كما هو متوقع، بين من بشر ببداية النهاية للهجمة الإمبريالية الصهيونية على يد الإسلاميين القادمين، وبين من أطلق النذير من أن نسيم الديموقراطية الذي طالما انتظرناه لم يأتِ الا بـ «تسونامي» أصولي طاغ لن يخلف وراءه الا المزيد من الحسرات وخيبات الأمل.
بلا ادنى شك جاءت نتائج الانتخابات الفلسطينية مذهلة للجميع، بمن فيهم حماس ذاتها، لكنه ذهول لا يكشف فقط عورات الأنظمة التسلطية ومدى بغض الناس لها، ولا هول الركام الهائل من الدمار السياسي والنفسي الذي ألحقه طغيانها بمجتمعاتها، ولا علاقات التبعية والموالاة التي أنتجت وأدامت ذلك، بل كشف أيضاً حجم التحديات التي تفرزها مرحلة التحولات الكبرى الجارية في المنطقة، والتي جعلت الكثيرين يخشون من أن دواء الديموقراطية الشافي الذي أنتظرته طويلاً لن يكون إلا داءً جديداً يضاف إلى عللها المزمنة. فهل أن الانتصار الإنتخابي الكاسح الذي أنجزته حماس والكسب الذي حققته قبلها حركة «الإخوان المسلمون» في مصر، وقبلهما صعود التيار الأصولي الشيعي والسني في العراق، تمثل حقاً إنتصاراً للإرادة الشعبية، أم نكوصاً وإرتداداً للحلم العربي الديموقراطي، أم أن الآمر برمته لا يعدو كونه سيراً في الإتجاه ذي الممر الواحد الذي فرضته مرحلة تحول تجيء بعد عقود طويلة من التكلس التي عاشها العالم العربي؟
يطرح فوز حماس الإكتساحي تساؤلات شتى، مع تصاعد السجالات في العالم العربي وتسارع التطورات والتفاعلات السياسية لدفع جهود الإصلاح وتعزيز الديموقراطية بهدف الخروج من حال الإستعصاء السياسي والركود التنموي والجمود الثقافي الذي يعشش في المنطقة والذي أصبح يهدد كياناتها ومستقبل وجودها. غير أن أهم هذه التساؤلات هي تلك التي تتعلق بعلاقة تنامي دور حركات الإسلام السياسي وصعودها الانتخابي في التحولات الديموقراطية الجارية، وكذلك في تأثير عملية التطور الديموقراطي المستعصية في مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلاقة هذا الزحف بالضغوط الخارجية للإصلاح في العالم العربي. ومن المؤكد أن فوز حماس مرتبط مباشرة بهذه القضايا الثلاثة.
ليست هناك أجوبة جاهزة عن هذه التساؤلات. والمرحلة التي تمر بها المنطقة، كاشفة لكنها مخاتلة أيضاً، مما يستوجب التأني والحذر من المتفائلين والمتشائمين قبل الشروع بالإحتفال أو عزف موسيقى الجنازة. فما يحدث، ومن ضمن ذلك إنتصارات الإسلاميين في الإنتخابات، ما هو الا تجليات مرحلة «الفوضى البناءة» التي وضعت فيها المنطقة بعد الحرب الأميركية على الارهاب في 2001 والحرب الأميركية الأخرى عام 2003 لإسقاط نظام صدام حسين في العراق. فما افرزته الحربان هو بداية إنهيار «الوضع القائم» الذي رسم وضع المنطقة لعقود عديدة ومهد الطريق لعملية تفكيك ومن ثم إعادة بناء من الصعب التنبؤ بالمدى الزمني الذي ستستغرقه أو طبيعة التغيرات التي ستنتج عنها.
تهدف الإستراتيجية الأميركية، المدعومة من الغرب، كما هو معلن، القيام بعملية إصلاح سياسي وتحقيق الديموقراطية في العالم العربي كوسيلة للقضاء على بؤر التطرف التي تغذي العداء للغرب وتشن حرب إرهاب عليه. وقد عبر الرئيس جورج بوش مرات عديدة عن هذا التوجه الذي شكل جوهر مبادرة الإصلاح في «الشرق الاوسط الواسع» الذي يدعو اليه. ويفترض هذا الهدف أن محاصرة التطرف والتشدد بكل أشكاله وتجفيف منابعه الفكرية والمادية، إضافة إلى نجاح العراق في إقامة نظام تعددي تشاركي، سيؤدي إلى نشر الديموقراطية في المنطقة وبالتالي الى تحصين أميركا والغرب ضد الإرهاب. الحاصل الآن هو أن خطر الإرهاب والتطرف لا يزال ماثلاً، كما أن المسافة بين العراق والديموقراطية لا تزال طويلة. وكل ما تحقق حتى الآن هو أن عملية التفكيك التي أطلقتها الحربان في المنطقة، أي الفوضى البناءة، تنذر نتائجها الأولية بصحوة جديدة لتيار الإسلام السياسي لا تتوفر أي ضمانات بعدم تحولها إلى مقدمات ليقظة بؤر تطرف جديدة، في ما يبدو مغامرة تجريبية أخرى في سلسلة التجارب التي أخضع لها العالم العربي خلال تاريخه الحديث.
فاليوم أنتجت الانتخابات العراقية وضعاً صعدت فيه الأصولية الشيعية والسنية معاً في الوقت الذي أفرز الوضع بمجمله دائرة رخوة في عموم المنطقة تتقاطع فيه الصراعات المذهبية والعرقية مع المصالح والتطلعات الاقليمية، وكلها مع الإستراتيجيات السياسية والأمنية والبترولية الدولية، لتولد بؤرة توتر قادرة على أشعال المنطقة برمتها. أما في مصر فجاء فوز الإخوان المسلمين بخُمس مقاعد البرلمان ليقرع أجراس الإنذار عن أمكان زحف الأصولية الإسلامية رويداً رويداًً نحو هدفها بإنشاء الدولة الدينية التي يخشى قيامها قطاع عريض من المصريين الرافضين أو غير المتحمسين لربط الديني بالسياسي، سواء في أجهزة الدولة أو في المجتمع وفي طبقة رجال الأعمال الذين أصبحوا يديرون دفة الإقتصاد بالإرتباط بشبكة واسعة من الإستثمارات الدولية أو الأقباط أو النساء وغيرهم. أما فوز حماس ففجر كل ينابيع القلق بشأن مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي الذي ظل طوال العقود الستة الاخيرة الصخرة التي تتحطم عليها كل احلام الديموقراطية والحرية في المنطقة.
هناك في دول أخرى في العالم العربي بؤر توترات مشابهة، بعضها ظاهر، والآخر مستتر، أفرزتها كذلك عملية فتح ملفات الإصلاح في المنطقة، والتي ستفتح معها آجلاً أو عاجلاً، الملفات نفسها التي فتحتها الانتخابات العراقية والمصرية والفلسطينية، أي علاقة الديموقراطية بالإسلام والتيارات الدينية المسيسة، الصراع العربيالإسرائيلي، العلاقة مع الآخر، والأهم الإرتباط الوثيق بين هذه الملفات بعضها بالبعض الآخر. بالتأكيد هذه الأسئلة ليست جديدة بل كانت دائماً في صميم الإشكالية التي واجهت عمليات الإصلاح في المنطقة لكن قدرها أن تقف هذه المرة أيضا أمام المرآة لتطرحها على نفسها من جديد. هل يمكن إقامة ديموقراطية حقيقية تحت عباءة نظام ديني في الوقت الذي لا يزال يخيم على المنطقة شبح التطرف والإرهاب، وهل هناك علاقة بين حل القضية الفلسطينية وإقامة الديموقراطية، وهل تنجح الديموقراطية في ظل علاقات التبعية والهيمنة التي أصبحت تربط المنطقة العاجزة والمهمشة والموبؤة بالفساد بكل أنظمتها السياسية والإقتصادية والثقافية مع المركز المتنفذ الداعي والداعم لمسيرة الإصلاح؟
تبين النتائج التي افرزتها الانتخابات الأخيرة في العراق ومصر وفلسطين أن هناك حاجة ملحة من جانب الأنظمة والحركات السياسية والإجتماعية والنخب الفكرية والثقافية النافذة في العالم العربي إلى التركيز على ما فتحته وستفتحه ملفات الإصلاح من إحتمالات ربما لم تكن في الحسبان، أو أسيء تقدير نتائجها وإنعكاساتها. فما نشاهده اليوم أن العالم العربي وضع أمام خيارين، أما الرضوخ للأمر الواقع الذي تمثله الأنظمة المتسلطة داخلياً، والقابلة بحل للصراع العربي – الإسرائيلي قائم على اساس الأرض مقابل السلام، والخاضعة للهيمنة الخارجية، مع بعض التحسينات، أو القبول بخيارات الحل الذي تطرحه الإنتخابات، وهو الأصولية الإسلامية المتسلقة فوق سلم الإنتخابات والديمقراطية مع إجندتها المتصلبة داخليا،والمتمسكة بخيار مقاومة الحل السلمي للصراع مع إسرائيل والمتشككة أو حتى المعادية للآخر، خصوصاً الأميركي والغربي المهيمن على مقدرات المنطقة.
هل العرب أذن أمام محنة جديدة جاءت بها دعوات الإصلاح؟ أغلب الظن أن تلك هي الحقيقة، فالعالم العربي يقف اليوم أمام منعطف يصعب فيه القبول بخيار العودة إلى الوراء، في الوقت الذي يكون المضي إلى أمام سيراً في طريق المجهول. ما يحصل الآن في المنطقة هو عملية كبرى، لفتح كل الدمل ونكأ الصديد المتراكم، وحتى بتر ما أستعصى على الجراحة منها، ودفعها بعد ذلك الى لعق جراحها ببطء، ثم الانتظار لرؤية ما اذا كان الشفاء ممكناًُ. ولا يقتصر الامر على العراقيين والفلسطينيين والمصريين، فالفوضى البناءة كما هو واضح تعم دول المنطقة، من محيطها إلى خليجها، وكل يقف أزاءها حسب ظروفه وأوضاعه، وهناك قواسم مشتركة يفترض أن تساعدهم على فهم التحديات وعلى مواجهتها أيضاً، وخاصة تلك التي تتعلق بأرتباط التطور الديمقراطي بالإسلام السياسي وبالصراع العربي – الأسرائيلي وبالعلاقة مع الغرب، هذا الثالوث الذي سيشكل وحتى فترة ممتدة آتية، القاعدة التي تشد اليها أي محاولة للإصلاح في العالم العربي.
وفي ظني أن المثال الفلسطيني الذي يطرحه إكتساح حركة حماس للأنتخابات هو الأكثر تمثيلا للمعضلة التي تواجها المنطقة في كيفية مواجهة مرحلة الإصلاح والإستحقاقات المترتبة عليها مثلما سيكون نجاحها هو الملهم للنجاح المرجو لها للخروج من نفق الفوضى الذي دخلت اليه. على حماس، التي شاركت الإنتخابات الفلسطينية وهي مدركة انها تقطع شوطاً طويلاً بين الجهاد لتحقيق حلم تحرير كامل الأرض من البحر إلى النهر إلى القبول بقواعد اللعبة الإنتخابية التي وفرتها اتفاقات أوسلو، أن تأخذ فرصتها، وعلى العرب أنظمة وجماعات ونخباً أن يعينوها لتتخذ قرارها الصحيح الذي ينسجم مع مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح المنطقة وشعوبها ومع التحديات الجسام التي تواجهها. غير أن عليها أن تدرك أيضاً أنها أمام فرصة، فرصة هي إختبار لها وللمنطقة، وعليها ان تصيخ السمع خلالها لنداءات المستقبل وليس لندّابي الماضي.

                                                  صفوة القول 
                                               مختارات من اراء وقضايا 


                                         مأزق «حزب الله» ومأزق المنطقة           
                                                                     صلاح النصراوي
نشرت في الحياة  14/08/06//
تدور رحى حرب الشرق الأوسط الجديدة على جبهتها العربية تحت راية «حزب الله»، وفي ذلك دلالات أكثر من رمزية، الحرب الأولى دارت تحت رايات الأنظمة العربية والحربان اللتان تلتاها دارتا تحت راية القومية العربية بطبعتيها الناصرية والبعثية، ثم دارت حرب أخرى تحت راية ياسر عرفات التي اصطفت وراءها التيارات التي أفرزتها مرحلة انكسار المشروع القومي.
أما هذه الحرب فقد كان طبيعيا، في زمن المد الأصولي، أن تخاض تحت راية «حزب الله»، مما يطرح سؤالا عما إذا كانت دائرة الصراع الآن قد استكملت دورتها حول كل الرايات السياسية والعقائدية المرفوعة في عالمنا العربي منذ أكثر من ستين عاما، مما يفتح باب التكهنات واسعا ليس حول مستقبل هذا الصراع القاسي والمرير فقط، بل عن مستقبل المنطقة برمتها، في ما إذا أثبت واقعها المزري أنه أكثر حضورا من التوقعات، من نوع اعتبار «حزب الله»، أنه يخوض «آخر حروب إسرائيل»، والمعنى هنا واضح.
تتطلب الإجابة عن هذا السؤال ومحاولة استكشاف التوقعات الناتجة عن هذه الحرب العودة إلى شيء من تاريخ الصراع، خصوصاً ذلك الجزء الذي عايشته الأجيال العربية الحالية، وبالخصوص تلك التي تمتلك القدرة على أن تنظر إليه الآن متجردة من الافتتنان المفرط في أساطيره ومن عادة التحديق النرجسي في الصورة القومية، وكذلك من خلال الرغبة في التعلم من تجارب الماضي الأليمة بهدف إعادة اكتشاف الذات، على اعتبار أن القراءة النقدية للتاريخ هي من الضروريات الأساسية للخروج من نفق التراجيديا الكبرى الذي دخلت فيه المنطقة منذ أكثر من ستين عاماً. فالمشكلة الحقيقية في ما يحدث الآن هي أن التاريخ يعيد نفسه، كما ظل يفعل منذ ذلك الحين، بينما يغيب النقاش الجوهري باسم الضرورات المختلفة، وكأن تاريخ الصراع الطويل هو مجرد قصة من قصص النوم التي تروى للأطفال، وليس وعاء للذاكرة القومية وعملية تعلم ضرورية، يتحمل المنخرطون فيها مسؤوليتهم تجاه الحاضر والمستقبل.
لا يجادل أحد أن العرب منذ عام 1948 هم ضحايا أكبر عملية افتئات جرت في التاريخ البشري الحديث، وأن إسرائيل – مهما حاول المرء أن يزين هذه الحقيقة بدعاوى أخرى – تصرفت منذ ذلك الحين بأسلوب المنتصر، الذي يحاول أن يقهر ضحيته ويسحق كل محاولة لديها للنهوض والتحدي. غير أن الحقيقة هي أيضا أن الكارثة التي حلت على العرب يومئذ، والمستمرة لحد الآن، كانت نتيجة سلسلة من الإخفاقات والعجز والتخبط والسياسات العشوائية والتناحر وكذلك التبريرات التي تحاول أن تعفي العرب من أية مسؤولية وتلقي بتبعات هزيمتهم التاريخية على عدوهم.
ملخص القراءة المتفحصة لتاريخ الصراع منذ فوزي القاوقجي وعزالدين القسام وأمين الحسيني مروراً بنوري السعيد والملك عبدالله الاول والملك فاروق وجمال عبدالناصر وأنور السادات وصدام حسين، حتى خالد مشعل وحسن نصرالله وسائر قادة المواجهة الحاضرة، هو افتقاد العرب لرؤية واستراتيجية موحدة، الأمر الذي يعني أنهم بغض النظر عن الرواية المتداولة، لم يكونوا يحاربون إسرائيل على جبهات مختلفة، بل ومتناقضة، فقط، بل كانوا فعليا يحاربون بعضهم بعضاً.
فالحقيقة المرة أنه ومنذ الحرب الأولى والأنظمة والجماعات العربية، كانت تخوض الحروب مع إسرائيل، أو تدفع نحوها، باسم الأهداف القومية الكبرى، إلا أن الوقائع التاريخية تشير، بعد أن يجري تمحيصها وإزالة الشوائب عنها، إلى أن هذه الأنظمة والحركات كانت غالبا مدفوعة في مسعاها ذلك بمصالح خاصة وغايات قطرية أو ذاتية ضيقة، والأمر كان دائما يتعلق بالبحث عن أو ترسيخ شرعية مفقودة أو مهزوزة أو تعزيز أدوار تخبو ويعفو عليها الزمن. هذا ما حصل في الحروب الخمس الأولى على رغم كل الشعارات القومية التي غلفت الخطابات الرسمية والنخبوية السائدة يومها، والتي أنتجت بعدها سلسلة من الانقلابات العسكرية والسياسية، جاءت بالأنظمة المتتالية التي جاهدت كي تحافظ على التوازن بين متطلبات الكفاح المشترك ضد العدو الواحد، اسميا، وبين حاجات ومتطلبات البقاء، عمليا.
بعمليته التي أطلقت شرارة الحرب فإن «حزب الله» جاء يحاول القضاء على الحالة الراهنة أو كما قال قادته تدمير قواعد اللعبة التي بنيت خلال ستين عاماً من إدارة الصراع مع إسرائيل. فالحزب، من وجهة النظر هذه، هو مجرد حركة سياسية تسعى للحفاظ على شرعية ودور اكتسبته في مرحلة غابت فيها الدولة اللبنانية عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك مقبولا ما دام الأمر لا يتناقض مع الشرعية التي اكتسبها النظام الرسمي العربي ولا يتحدى أسلوب إدارته للصراع. إلا أن إطلاق «حزب الله» لهذه الحرب السادسة كان أكثر من محاولة لاختبار قدرة النظام العربي على التورط في حرب جديدة لم يكن مستعدا لها، بل اعتبر ما قام به مسعى لاختطاف قرار دولة عضو في هذا النظام، مما اعتبر محاولة تدمير نهائي للمنجز التاريخي الأكبر لهذا النظام.
غير أن الأمر لم يقتصر على هذا فحسب، بل إن عملية «حزب الله» هددت بتدمير النظام العربي نفسه من خلال ثلاث قضايا أساسية ارتبطت بما قام به، وهي: اولا، اعتبار الحرب التي شنها حربا بالوكالة نيابة عن أطراف بعضها غير عربي، وربما تحمل أجندات مغايرة أو حتى معادية للنظام العربي. ثانيا، أنه حزب أصولي سيسمح انتصاره في هذه الحرب بيقظة أصولية تهدف أساسا الى تحطيم هذا النظام. ثالثا، الحزب حركة شيعية قريبة من ايران وسيخلخل انتصاره، بأي شكل من الأشكال، حالة التوازن الهشة القائمة في المنطقة وينمي جملة الهواجس والمخاوف المذهبية الناتجة أساسا عن تجليات الوضع في العراق.
من هنا يأتي هذا الأحساس بأن «حزب الله» أساء في تقديراته التي قام على أساسها بتأجيج الحرب الأخيرة من دون تحليل صائب للوضع اللبناني والاقليمي والدولي الذي يقوم على حسابات سياسية واستراتيجية أعقد كثيرا من حسابات البازار وعقلية الدكاكين والثنائيات المبسطة. لم يكدر «حزب الله» الوضع الراهن ولا حاول توريط العرب بحرب جديدة فقط، بل كان خطؤه الأكبر أنه وضع العالم العربي الذي يمر بمرحلة قلقة أمام تحديات ناتجة هذه المرة عن موقف صعب يتعلق باعتبارات مذهبية ذات طبيعة جيوسياسية تمس توازنات إقليمية فائقة الحساسية. ومن الطبيعي أن تكون هناك إرادة في الصمود والمقاومة والكفاح من أجل الحقوق طالما هناك إحساس شديد بالظلم الناتج عن الاحتلال الغاشم وقهره، ومن المؤكد كذلك أن النظام العربي أثبت فشلا ذريعا في مواجهة التحدي الاسرائيلي، لكن التخبط والخطوات الأحادية وانعدام الجدية في التعامل مع الواقع وخلط الأمور تؤدي إلى المزيد من التشوهات في القضية وتعقد طرق حلها.
لقد كشفت كل حرب عربية – إسرائيلية منذ عام 1948 عن علل الأنظمة العربية الكثيرة التي كانت وراء إخفاقاتها وهزائمها، بل إنها كشفت أيضا عن العيوب التي تمتاز بها الشعوب العربية وعلى رأسها الضعف والاتكالية والاستسلام أمام الأمر الواقع، والتي جعلت من هزائمهم معا شمولية عميقة الأثر. غير أن ما يميز الحرب الجديدة هو أنها سلطت الأضواء على واحدة من أخطر العلل التي يعاني منها الجسد العربي، وهي الانقسامات المذهبية التي ظلت بعيدة عن مجرى الصراع مع إسرائيل حتى أطلت برأسها الآن بسبب التفاعلات في المنطقة الناتجة عما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بنمو النفوذ الشيعي نتيجة تطورات الحرب في العراق.
هناك أسئلة جوهرية لا بد من طرحها ضمن إطار تحليلي لمستقبل المنطقة والتحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها إذا نجح «حزب الله» فعلاً في تغيير قواعد اللعبة فيها. ما هي القواعد الجديدة التي ينوي «حزب الله» فرضها وهل يسعى ان يكون هو فيها لاعباً رئيسياً وبالطريقة نفسها التي يدير بها قواعد لعبته في لبنان، أي اختطاف قرار الدولة، والانفراد باتخاذ القرار الاستراتيجي، والهيمنة على باقي القوى السياسية في البلاد؟ ما هو مستقبل علاقة «حزب الله» الاستراتيجية مع إيران في الوقت الذي ترى فيه بعض الدول العربية أن إيران التي تسعى لاستخدام أزمتها النووية مع الغرب لتعزيز موقعها الإقليمي تشكل أيضا تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي؟
كان على «حزب الله» أن يدرك الإشارات العديدة التي أطلقها قادة في المنطقة منذ الحرب الأميركية على العراق عام 2003 حول الدور الشيعي المتصاعد والمخاوف من تنامي العلاقات بين الشيعة العرب وإيران وفي ظل الطموحات الإيرانية المتصاعدة في المنطقة. كان عليه ان يدرك أيضا أنه في ظل الدعوات المتجددة لبناء شرق أوسط جديد فان لبنان بتجربته التاريخية، ورغم عثراتها، لا يزال يقدم نموذجا جيدا للتعايش بين المذاهب والطوائف والأديان، وهي تجربة لا ينبغي تدميرها بل صقلها وتنميتها لكي تقدم لباقي دول المنطقة. كما كان على «حزب الله» أن يدرك كذلك أن العمل، في هذه المرحلة البالغة الخطورة، على إعادة تأصيل التشيع العربي، كعنصر تاريخي وروحي وثقافي أساسي في المنطقة هو أهم بكثير من تحقيق أهداف جزئية في مجرى الصراع الجاري في المنطقة وعليها.
ها هو تاريخ المنطقة إذن يعيد نفسه، ولكنه يعيده، كما في كل مرة، تراجيديا، وبغض النظر عن الرايات التي تخفق فوقها. قد يكون «حزب الله» في مأزق، نتيجة رد الفعل غير المتوقع لإسرائيل، كما أقر قادته، ولكن المنطقة كلها في مأزق دائم. هل هناك ديناميكية خفية، كما كان يسأل إدوارد سعيد، نقوم من خلالها بتكرار أخطائنا وكوارثنا من دون أن نتعلم من ماضينا أو حتى نتذكره؟ لقد انتجت حرب الـ1948 خريطة جديدة للمنطقة، وها هي حرب الـ2006 تبشر بشرق أوسط جديد. إننا دائما، حسب سعيد، عند نقطة البداية نبحث عن حل «الآن»، حتى لو كان هذا «الآن» يحمل كل علامات ضعفنا التاريخي ومعاناتنا الإنسانية.

                          صفوة القول
                        مختارات من اراء وقضايا
                    
                                                   الطائفية: تحدي المنطقة الجديد
                                                                               صلاح النصراوي
نشرت في الحياة
4-1-2007
ظهرأخيراًً تعبير يدعو إلى وقف التدخل أو مد النفوذ الثقافي إلى العراق في وثيقتين عربيتين رسميتين، الاولى أصدرتها الجامعة العربية عبر بيان ختامي لاجتماع وزراء خارجية اللجنة العربية المعنية بالعراق، والثانية عبر بيان القمة الخليجية التيعقدت بالرياض أخيرا.
ولان المحفلين اللذين صدر عنهما البيانان لم يكونا مؤتمرين للأدباء والكتاب أو وزراء الثقافة العرب، بل مؤتمران سياسيان بالدرجة الاولى، فكانالامر لافتا ان يتم التحذير من مد النفوذ الثقافي، على رغم ان الاشارة كانت واضحة، وان المقصد كان جليا في المرتين، حيث استعيض عن تعبير النفوذ المذهبي الشيعي الايراني بالتعبير عن النفوذ الثقافي.
واذا كانت تطورات الاوضاع في العراق، والتي اصبح متفقا عليها، انها جزء من صراع يصطبغ بصبغة طائفية، شكلت الخلفية التيعلى اساسها جاء التحذير في البيانين، فان الوثيقتين الرسميتين صدرتا ايضا على خلفية تطورات اخرى في المنطقة لا تخلو بدورها من هذه الصبغة، سواء الصراعات في لبنان، او ازمة الملف النووي الايراني، والتي تشكل جميعها، اضافة الى ملفات اخرى، الخلفيةالتي جاءت على اساسها تحذيرات الوثيقتين من أبرز مؤسستين اقليميتين عربيتين، جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي
والواقع ان المشكلة الطائفية بمعناها الاوسع، اي شاملة ومتضمنة للصراعات بين كل الطوائف الدينية والاثنية والثقافية فيالمنطقة، هي مشكلة قديمة، حتى قبل ان يطلق عليها الدارسون في عصور قديمة تعبير الملل والنحل، الا انها بقيت مشكلة لسبب وحيد، هو رفض الجميع في هذه المنطقة على عكس مناطق اخرى في العالم، الاقرار بها والتعامل معها كحقيقة وواقع، والاستمرار فيذلك التبجح الساذج، بأن الأمر لا يعدو ان يكون من صنع الآخر المعادي والغريم والذي دائما ما يُتهم بخلقها وتأجيجها.
 ولم يقتصر الامر على التعالي على المشكلة ورميهافي ملعب العدو والخصم، بل ظلت تزداد عمقا حين حولت الى تنميط من الادعاءات الزائفة، سواء ما تعلق منها بوحدة وتجانس الجماعة الوطنية والقومية، على مستوى الدولة والأمة والدين، او ربطها بعلاقات ومتغيرات خيالية وافتراضية لا اساس لها في الواقع، ممااضاع السبل في مواجهتها ومعالجتها بالحكمة والبصيرة المطلوبة.
ولذلك وعلىرغم قساوة وفظاعة الواقع العراقي المأسوي لا بد من الاقرار بأن الفضل يعود اليه في ابراز هذه المعضلة الازلية الى واجهة المشكلات التي تواجهها المنطقة، والتحديات التي تفرضها عليها، لعلها تنجح هذه المرة في ان تجد لها حلولا جذرية، مثلما استطاعتمناطق ودول وأمم اخرى في العالم حلها بطرق بارعة حققت فيها العدالة والاستقرار، قطبي المعادلة في اي حل للمشكلات الاثنية والطائفية. ان ابرز ما افرزه المثال العراقي هو سيولة الواقع الاجتماعي والسياسي في هذه المنطقة، مثلما هو في دولها،وفي خصائص الجماعات التي تشكل شعوبها وفي الاطار الاخلاقي والمعرفي والمرجعي الذي يشكل علاقات الذات مع الآخر، على مستوى الفرد والجماعة، بل في دونية ووحشية المعايير المتوفرة للتعامل مع المعضلة ومواجهة حلها.
فحتى في العراق الذي طالما دُمغ تاريخه الممتد عبر خمسة آلاف عام بالعنف والدم والقسوة، لم يكن احد يتوقع ان ينفجر فيه هذا الصراع الوحشي، الذي لم يعد بالامكان وصفه الا بالطائفيالمبني على عصبيات مذهبية تاريخية، مهما حاولت الجماعات المتناحرة ان تؤوله سياسيا. فالحقيقة المرة هي ان ما كان يؤمل ان يتحول الى عملية اعادة بناء الدولة والمجتمع المدمرين نتيجة الحرب والغزو الخارجي، من خلال مشاركة وطنية، تحول الى صراع من اجلالذات والجماعة العصبوية، افرز ما في نفوس العراقيين من كراهية وعدوان مكبوت والذي عمق بدوره الانقسام الوطني، بدلا من ان يحل المأزق الوطني المتمثل في تدمير الدولة والمجتمع، حلا واقعيا ومنصفا. وما يعنيه كل ذلك هو ليس فقط فتح جروح الماضي وتقييمالتجربة التي مرت تقويما سلبيا، بل الحكم كذلك على المستقبل باستحالة العيش المشترك.
ومع ذلك فنحن نعرف الآن ان سبب المأساة الطائفية التي يمر بها العراق ليس الخلاف على من هي الطائفة المنصورة وفقا للرواية، بل هو الصراع الازليبين بني البشر على السلطة والثروة، الذي طالما شكل جوهر النزاعات بين الجماعات الوطنية ولا يزال. ومرد ذلك كما نعرف ايضا هو الفشل الذي زامن تأسيس الدولة العراقية الحديثة، مثل باقي دول المنطقة، في ان تكون دولة مدنية لكل مواطنيها تحققلهم العدالة والانصاف، لا دولة الاقلية التي تزرع بذور التسلط والاحتكار والتهميش وترسخ كل معاني القلق والارتياب والتمييز والتعصب. فما يحصل الآن هو نتيجة حتمية لذلك الاخفاق في بناء دولة مواطنين والذي انتج بالتالي ثقافة تتغذى على الاحباطوالكبت وتقف دوما على خط التماس الطائفي وتنتظر لحظة الانفجار العصابي.
غيران صراعات الهوية اللعينة تطلق حراكا بل تحمل، كما هو شأنها دائما في التاريخ الانساني، ابعادا ومضامين ايديولوجية وفكرية وسياسية قد تتجاوز نطاقها العصبوي الضيق الى نطاق اوسع تتشابك فيه الهويات وتتقاطع المصالح مما ينذر بتحولها، وخاصةفي اقليم هش، مثل المنطقة العربية، من تباين او حتى تنافس ثقافي وسياسي وفكري، او حتى مذهبي، الى صراع جيوبوليتيكي، مثلما يحاول البعض تصوير البروز السياسي للشيعة في العراق وفي المنطقة منذ سقوط نظام صدام حسين.
وهكذا ففي الوقت الذي يخلق الصراع الطائفي في النهاية آليات استنزاف ذاته، من خلال الحسم، او التوصل الى توازنات او قواسم مشتركة، فان المخاطر تزداد حين يراد اعتبار فكرة ان اي شكل من اشكال التغييرالسياسي الذي يقوي مركز جماعة معينة في دولة ما، سوف يؤثر بالضرورة على الدول المجاورة التي تتشارك في الجماعات نفسها، سواء اكان ذلك التغيير طائفيا في طبعه، ام لم يكن كذلك.
 ولعل ابرز مثال على هذا هو المخاوف التي تثار عن الصعود الشيعي في المنطقة، من احتمالات تذهب الى حد قول البعض، ليس من الغلاة فقط، بل من النخب السياسية والفكرية، ببزوغ التحالف الشيعي الايراني الاميركي الصهيوني فيالمنطقة.
اذ بينما تحمل صراعات المنطقة التقليدية، التي اطرافها العرب وايران واسرائيل والتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ابعادا جيوبوليتيكية، فان الصراع المذهبي الشيعي السني في العراق والمخاوف منه، لا تحمل مثل هذه الابعاد، ولا ينبغي الدفع بها لان تكون كذلك، من خلال تلك المقولة الخرقاء. هناك تصورات فيالمنطقة يغذيها القلق والخوف من استعراضات القوة الايرانية، او حتى نيات الهيمنة، كما يدفع بها مع الاسف البعض من المتعصبين والمتطرفين، في الربط بين الحراك الشيعي في المنطقة وايران، وهي تصورات تفتقد الى الاثباتات الحقيقية وتقوم على الكثير منالمبالغات والاوهام.
 وعلى هذا الاساس فان المطلوب اعادة نظر جذرية في السياسات التقليدية التي ورثتها الدول العربية من السلطنة العثمانية وغذتها النزعات الشوفينية والطائفية لبعض الحركات والتي تسعى بشكل تعسفي لاثبات علاقة ارتباطية بين الشيعة العرب والسياسات الايرانية المعبرة بالضرورة عن المصالح القومية للدولةالايرانية وليس عن مصالح الشيعة في اي مكان.
هناك ضرورة للنقاش الجدي والموضوعي والصريح عن هذه القضية التي لم يعد يقتصر الحديث عنها لمزا او تلميحا، بل انتقلت الى المحافل السياسية العليا التي اصبح البعض يرى فيها دومينو شيعياً كانالعراق اول حجر يقع فيه. فالعويل الطائفي يجب ان لا يحجب الرؤية عن حقائق المنطقة التاريخية وعن منابعها ومكوناتها الثقافية والفكرية والتي صمدت في كل اوجه التحديات خلال المئات من القرون واعطت للعالم مثالا مشرقا على قدرة حضاراتها ان تنصهر فيبوتقة واحدة وتحافظ على تعدديتها الدينية والمذهبية والاثنية في وقت واحد.
هناكضرورة اكبر للإقرار بأن جوهر المشكلة سياسي، وتتمثل اساسا في ازمة الحكم العضال، هي نابعة عن الحاجة للديموقراطية وتعميق المشاركة الشعبية وتحقيق العدالة والمساواة في توزيع الثروة الوطنية وتقليص الفجوة بين الجماعات الحاكمة والمحكومة. اما النفخ في البوقالطائفي فلن يكون الا محاولة جديدة للهروب الى امام من مستحقاتحقبة جديدة، على المنطقة ان تواجهها بصبر وحكمة وشجاعة وباعادة تقييم جذري لاوضاعها.
ان جزءاً لا بأس به من المأساة الطائفية في العراق اليوم يعود الى الرسائل الخطأ والتحريض والدعم الذي أتى من الخارج، فالعراق ربما لم يكن واحةللتعايش المشترك لكنه ظل عبر تاريخه قادرا على ترسيخ قاعدة للتعددية المذهبية والاثنية تجاوزت بكثير قدرات الكثير من جيرانه الذين يمتازون ايضا بذلك القدر من التنوع. ان تقييما موضوعيا لحصيلة الفترة الماضية لا بد ان ينبني اولا: علىحقيقة ان اعادة عقرب الساعة في العراق الى ما كانت عليه هي من الامور المستحيلة، وثانيا: على ضرورة مساعدة العراقيين على بناء دولة مواطنة تقوم على اساس لعدالة والانصاف والمشاركة والتعددية، وثالثا: على محاولة حل الازماتالطائفية والعرقية الكامنة في المجتمعات العربية حلا ديموقراطياحضاريا، ورابعا: على تفكيك ازمات المنطقة وعدم الربط القسري بين ما هو مأزق داخلي بنيوي وبين التحديات والتهديدات الخارجية التي بامكانها ان تستغل المأزق لكنها قد لا تكون وراءه.
ما الذي علينا ان نفعله في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها المنطقة؟ هناك طرق عديدة من بينها النفخ في الطائفية، كما يفعل البعضبطريقة عصابية لامسؤولة، وهناك من يظهر استياءه بطريقة تضعه في خانة طائفية حتى ولو لم يقصد، وهناك ايضا من يحاول بسلبية او استعلاء، تجاهل المشكلة او رميها في ملعب القوى الخارجية.
من الواضح اننا لا نعلم، بالأقل هذا ما تدل عليه الاحداث، كما لا نمتلك لا على المستوى السياسي ولا الفكري تصورات عن حل قضايا التنوع والتعدد في مجتمعاتنا والتي هي حقا بمثابة برميل البارود، الذي لا بد ان ينفجر مثلما انفجر في العراق، اذا بقيت من دون حلول قضية التوزيع العادل للسلطة والثروة، التي هي لبالمشكلة وجوهرها الحقيقي.

ساعة ونصف الساعة مع مرشد الإخوان

                                                           صفوة القول 
                                                     مختارات من اراء وقضايا

                                 ساعة ونصف الساعة مع مرشد الإخوان ..
                                                                              صلاح النصراوي
                                                     نشر في الحياة يوم 12 – 06 – 2005
في الطريق إلى مكتب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف، اختمر في ذهني معظم الأسئلة التي كنت انوي أن أوجهها الى رجل ربما يحمل الآن على عاتقه مهمة تاريخية كبرى تتمثل في تحديد «معالم على الطريق»، يفترض أن تكون جديدة، أو حتى مغايرة، لتلك التي وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا قبل نحو ثمانية عقود وجددها أسلافه الستة، كما تختلف بالتأكيد عن تلك التي وضعها مفكر الجماعة الأبرز سيد قطب. فالمؤشرات الداخلية والإقليمية والدولية تدل كلها الى أن الجماعة التي ظلت طوال هذه العقود – مصرياً في قلب الحركة الوطنية ودولياً في قلب الإسلام السياسي النشط – تواجه الآن اكبر اختبار في تاريخها في ما إذا كانت قادرة أخيراً على أن تبلور مواقف تستجيب للتحديات الكبرى التي تواجهها مصر والعالم الإسلامي أم أنها ستفشل في ذلك.
 لا تدل الشقة الصغيرة في حي المنيل في وسط القاهرةوالتي تتكون من ثلاث غرف وردهة ويتخذها مرشد الإخوان المسلمين مقراً لقيادته على أن الجماعة تقف على خط الشروع في احدى معاركها الكبرى مع النظام في مصر، إذ لا يمكن مقارنة هذا المكتب الشديد التواضع والمنزوي على ناصية شارع ضيق مع البناية العملاقة لمكاتب الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم على بعد بضعة كيلومترات ولا حتى مع مكاتب فروعه المحلية المنتشرة في كل المدن. وبالتأكيد لا يمكن المقارنة بين الإمكانات الهائلة للدولة ذاتها وإمكانات أي جماعة سياسية معارضة، وبخاصة إذا كانت سرية.
إلا أن أول سؤال يتبادر إلى الذهن عندما يدخل المرء هذا المكتب الذي يدب بنشاط وحركة غير عاديين، هو: هل أن الإخوان المسلمين الذين اظهروا كل هذه القدرات الهائلة على التعبئة والحشد أخيراً في وجه السلطة يستعدون الآن لاجتياز مرحلة التمكين التي طالت سبعة وسبعين عاماً والاستعداد لتحقيق هدف الوصول إلى السلطة الذي انتظروه طوال هذه الفترة؟ ما يتبع هذا السؤال هو لماذا الآن؟ وما تفسير علاقة التزامن الواضحة في توقيت التصعيد الأخير في مطالبات الإخوان «الإصلاحية»، مع طرح أجندة الإصلاح الأميركية المدعومة دولياً على المنطقة والإشارات الواردة فيها في شأن سياسة جديدة تدعو إلى نبذ تهميش الإسلاميين المعتدلين وإدماجهم في العملية السياسية الديموقراطية المنشودة وإشراكهم في السلطة بل استعداد الولايات المتحدة للتعامل معهم كأطراف أساسية؟
ولأن الحماس الذي دب في جهود «الإخوان» أخيراً لا يمكن أن ينطوي على عنصر الصدفة مثلما لا يمكن أن يكون مجرد استعراض للقوة بلا هدف سياسي حقيقي، فإن تساؤلاً لا بد أن يدور حول مدى استعداد الحركة للدخول في حوار مع الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تسهل خطوة مشاركة «الإخوان» في العملية السياسية وربما المشاركة في السلطة من دون تفاهمات وترتيبات مسبقة، تضمن ليس فقط تراجع المواقف المعادية لأميركا التي ميزت خطاب «الإخوان» حول قضايا خلافية عدة مثل قضية فلسطين، بل أيضاً ضمان التزام إخواني واضح وصريح بالعمل السلمي وقضايا الديموقراطية ومبدأ تداول السلطة وحرية السوق والحريات الأساسية مثل العقيدة والتفكير وحقوق الأقليات والموقف من المرأة.
 تساؤل آخر له علاقة وثيقة أيضاً بهذا السؤال، وهو هل أن الحركة على رغم تباهيها بقوتها العددية الكبيرة وإمكانات الحشد الهائلة التي تمتلكها في مجتمع مأزوم سياسياً من ناحية وشديد الولاء لإسلاميته من ناحية ثانية، مستعدة عملياً للمشاركة في السلطة أو لاستلامها كلياً في دولة مؤسساتية تعتمد منذ أكثر من خمسين عاماً في إدارة شؤونها على بيروقراطيات مدنية وعسكرية وأمنية شديدة الولاء لتقاليدها وذات خبرات متجذرة في إدارة الصراع ومتخندقة وراء تحالفات داخلية ودولية تتيح لها فرصة عالية من المناورة والكسب؟.. هذا الاستعداد لا يرتبط فقط بوجود الكادر البشري التقني المدرب والمهيأ للانتقال من أوكار الجماعة السرية إلى إدارة الدولة، بل ما هو أهم من ذلك بالفكر الذي يواجه تحديات العصر ومتطلباته، خصوصاً توضيح العلاقة بين ما هو ديني وما هو مدني وبين ما هو شرعي وما هو سياسي.
أي بمعنى آخر هل لدى الحركة برنامج عملي مفصل واضح تجاه القضايا الأساسية في السياسة والاقتصاد والثقافة التي تواجهها الدولة والمجتمع في مصر؟ (على سبيل المثال الموقف من معاهدة السلام مع إسرائيل والموقف من العمليات المصرفية والائتمان والموقف من التعددية الثقافية والدينية والحريات الشخصية والفكرية). ربما كانت هذه الأسئلة قديمة ولكني اعتقدت وأنا أعيد طرحها على المرشد العام للإخوان المسلمين خلال ساعة ونصف الساعة بأنها ترتبط هذه المرة باللحظة التاريخية التي تمر بها الجماعة، بل تمر بها مصر والمنطقة برمتها، والتي تستوجب الإجابة على السؤال الأساسي الذي يواجه أي حركة سياسية وأي أمة في مثل هذه اللحظات الحاسمة: ما العمل؟
 قد لا تكون الإجابات أيضاً جديدة، فهي بالتالي لا بد أن تتماشى، لأسباب ذاتية وموضوعية مع الأهداف والتكتيكات والشعارات التي ترفعها الحركة وتستجمع قواها في هذه المرحلة من أجل خدمتها. لكنها مع ذلك قد تلقي بعض الضوء على الاتجاهات الرئيسة السائدة داخل الجماعة، والتي أكد عاكف أنه لا يصوغها لوحده بل من خلال الشورى في هيئات الجماعة القيادية، وهو تأكيد يراعي مستلزمات الدعوات الديموقراطية السائدة. بإيجاز، لا يرى عاكف، في شأن السؤال الأول، أن الإخوان هم الذين افتعلوا المعركة مع النظام أو أنهم بصدد فتح مرحلة جديدة ساخنة في صراعهم معه، «كل ما في الأمر أنهم يطالبون في حقهم الدستوري بالتظاهر السلمي من أجل الإصلاح» الذي قابلته السلطة بإلقاء القبض على مئات من أعضاء الجماعة من الكوادر الوسطى التي تشكل حلقات الوصل بين القيادات والقواعد.
 وينفي المرشد العام تهماً عن التهاون مع النظام في ما مضى، على رغم أنه يؤكد أن الجماعة كانت «تتفاهم» سابقاً مع النظام «لمصلحة هذا البلد». بيد أن تلك المرحلة التي كانت الحركة تقبل فيها التعامل مع النظام من خلال القيادات الأمنية انتهت وحان وقت التعامل معها سياسياً من وجهة نظر المرشد، «فنحن موجودون ونملأ الشارع». أما في ما يتعلق بالسؤال الثاني، فإن عاكف يضع مجدداً خطوطاً حمراء أمام الانخراط في مشروع التغيير المفروض على المنطقة حين يشدد على ثلاثة مواقف يعتبرها أساسية، وهي رفض أجندة الإصلاح الأميركية على رغم أنه يقر بأن «بعض الناس يرون فيها أمراً حسناً»، لكنه يرتاب فيها. ويقول: «كيف اطمئن إلى أنها تبغي الإصلاح وليس ابتزاز أنظمتنا»، كما أنه يرفض أن يكون «مساعداً لنظام خارجي ضد نظام بلدي مهما كان ظالماً»، كما يرفض الحوار المباشر مع المسؤولين الأميركيين إلا في وجود ممثلين عن وزارة الخارجية المصرية «حتى لا يقال إنني أتحاور مع قوى أجنبية في غيبة النظام».
عدا هذا، فإن لدى عاكف حلولاً لما تطرحه أجندة الإصلاح من معضلات يبدو أن بعضها محاولة الالتقاء في منتصف الطريق، مثل التمسك بالشورى كبديل إسلامي للديموقراطية والإيمان بحقوق المرأة من دون حقها في الولاية الكبرى، أو رأيه في طرح القضايا الفقهية الخلافية مثل مسألة الفوائد المصرفية على الاستفتاء العام لبيان رأي الناس فيها. أما عن التساؤل الثالث، فإن عاكف ينفي أن هدف ما تفعله الجماعة حالياً هو القفز على السلطة، على رغم أنه يرى أن السلطة الحالية «فاسدة ومنتهية».
 وعلى حد قوله، فإن ما يسعى إليه الإخوان من خلال الانتخابات المقبلة هو «المشاركة لا المغالبة» بل ويذهب عاكف إلى أبعد من ذلك حين يؤكد عدم قدرة فصيل واحد على أن يحكم مصر، مضيفاً: «لا بد أن يحكمها ائتلاف بين كل القوى السياسية». أما في شأن آليات تحقيق ذلك، فإنه يشدد على أن الإخوان لم يلجأوا إلى «الصدام أو العنف» بل سيظلون يدعون إلى «الحب والسلام». ما يعكسه كلام عاكف، بل ما يمكن ملاحظته في نشاط الإخوان في هذه المرحلة، هو غلبة السياسي على الديني وغلبة الحركي على الدعوي وهو تطور يعكس إدراك القيادة الإخوانية لظروف المرحلة ومتطلباتها خارج الشعار الفضفاض: «الإسلام هو الحل».
لكن السؤال يبقى إلى أي شوط يمكن لهذه القيادة أن تمضي بهدف ولوج العملية الديموقراطية وليس فقط العمل السياسي بهدف الوصول إلى السلطة. لا ينبغي على القيادة الإخوانية أن تسيء فهم اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة ودعوات الإصلاح المتزايدة، فهي لا تعني الأنظمة والمجتمعات فقط، على الرغم من أنها الأولى بالإصلاح، بل هي تعني أيضاً الحركات السياسية، خصوصاً الكبرى منها التي ظلت متجمدة وعصية على دخول العصر. هناك حاجة شديدة لفتح باب الاجتهاد الشجاع والجريء حول المسائل الكبرى التي تواجه الأمة الإسلامية مثل تحديد العلاقة بين الديني والسياسي وعملية السلام والديموقراطية والعولمة بروح المسؤولية، وعلى اعتبار أن الإيمان والحرية صنوان يمنحان الشخص المسلم حقوقه ويعززان كرامته الإنسانية.
غير أن الأمر لا يقف على الإخوان وحدهم إذ على الأطراف الأخرى، سواء من كان منها في الحكم أو خارجه، أن تتخلى عن سياسات الإقصاء والتهميش للإسلاميين المعتدلين التي مارستها طوال عقود طويلة والتي لم تؤد إلا إلى المزيد من قوقعتها وانفصامها عن مجتمعاتها وعن العالم. المطلوب من هذه الأطراف مد اليد إلى كل الإسلاميين الذين يرون في العملية الديموقراطية طريقاً للتغيير حتى إذا كان ما يطرحونه من نماذج لا يرتقي كليا إلى الكمال المنشود.
إن هذه الأمور تتطلب حوارا ديموقراطيا مفتوحاً بين كل قوى المجتمع من إسلاميين وعلمانيين وممثلي التيارات المختلفة حول المستقبل، حواراً يدخل في صلب القضايا المطروحة وليس هامشها، حواراً يتناول طبيعة الدولة وعلاقتها مع الدين، علاقة أجهزة الدولة كالجيش والأمن ومؤسساتها الإدارية بالأحزاب السياسية، معاهدة السلام مع إسرائيل ومستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، العلاقة مع الغرب، وضع الأقليات الدينية، التحديث، قضايا الحرية وحقوق الإنسان… الخ.
 هناك منعطف تاريخي يمر به الإخوان المسلمون مثلما تمر به مصر والمنطقة، غير أن الطريق يبقى طويلاً قبل أن يحسم فيه الصراع، صراع إذا ما حسم على ضفاف النيل فإن من المؤكد تجاوزه في دول أخرى في المنطقة وفي العالم الإسلامي.
 — صحيفة الحياة اللندنية في 12 -6 -2005