14-11-2012
                                    نبذ ثقافة الإفلات من العقاب
                                                                                     صلاح النصراوي

هزت بريطانيا في الاسابيع الاخيرة فضيحة استغلال جنسي للقاصرات اتهم فيها مقدم  برامج تليفزيوني واذاعي شهير توفي منذ سنوات.ما هو مثير في هذه القضية التي بدأت الشرطة بالتحقيق بشأنها ليس فقط عدد القضايا المثارة. وكذلك ارتكاب بعضها داخل مباني هيئة الاذاعة البريطانية, التي تغاضت بدورها عن التحقيق فيها بل ايضا في ان كشفها جاء بعد نحو اربعين عاما من بدء وقوعها, وبعد عام من وفاة جيمي سافيل, بطل الفضيحة.
ما حصل هو ان سافيل استغل شعبيته ومركزه الاجتماعي نحو خمسة عقود قام خلالها بنحو300 حالة انتهاك عرض واعتداءات جنسية مسجلة اضافة الي حالات عديدة اخري يجري التحقق منها.الفضيحة فضحت بدورها جرائم اخري, منها قضية تتعلق باعتداءات جنسية علي الاطفال خلال عقد السبعينيات والتي امر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون باجراء التحقيقات بشأنها, خاصة مع احتمال تورط نواب عن حزب المحافظين فيها.
وحين كنت أروي هذه الوقائع قبل ايام لاحد اصدقائي في الوسط الاعلامي شرد بذهنه طويلا قبل ان يروي لي حكاية عن مخرج تليفزيوني شهير عاصره في نفس تلك الفترة الزمنية وروي لي كيف ان الرجل كان نموذجا محليا عن سافيل البريطاني وان فضائحه مثل فضائح غيره كثيرة وزكمت حينها الأنوف, إلا انها رحلت معهم الي قبورهم دون ان تفتح سيرتها لا في الحياة ولا في الممات.
ثمة قضية جوهرية هنا تتجاوز فضيحة سافيل ورواية صديقي عن المخرج التليفزيوني اياه لتصب في صلب الموضوع الا وهي تحقيق العدالة, وبالذات ضرورة الا يفلت احد من العقاب عن جريمة ارتكبها,مهما تكن الجريمة ومهما يطل الزمن, وهي قضية تطرح نفسها بشدة الآن في الدول والمجتمعات العربية التي تمر بتجارب المراحل الانتقالية في فترات ما بعد الثورات التي اطاحت بأنظمة الفساد والاستبداد والجرائم التي ارتكبت تحت سلطتها.
 وما تثيره التحقيقات في قضية سافيل هو انه لا ينبغي ابدا ان يكون التقادم, ولا طبيعة الاشخاص المتورطين سببا في اغفال النظر في الجرائم والانتهاكات, حتي ولو كان الامر يقتصر علي مجرد تسليط الضوء علي الجريمة وتعرية مرتكبيها بغية تحقيق قدر معقول من العدالة للضحايا وللمجتمع, عبر كشف الجريمة ومعالجة الجراح التي ولدتها وتعويض الضحايا ولو تعويضا معنويا كافيا.
في القانون الدولي الانساني يشير مفهوم الافلات من العقاب الي الاخفاق في جلب منتهكي حقوق الانسان والجرائم للعدالة, وهو بهذا يعني انكار حق الضحايا للحصول علي العدالة والتعويض المادي والمعنوي اللازم لهم. كما يعني العجز عن تسليط الضوء علي الجريمة وكشفها امام الرأي العام الذي هو ايضا صاحب مصلحة حقيقية في تحقيق العدالة ورد المظالم وكذلك منع تكرار تلك الانتهاكات والممارسات وردع كل من تسول له نفسه من القيام بها مستقبلا.
وعمليا فإن الافلات من العقاب يعني عدم خضوع المشتبه بهم للتحقيق الذي يمكن ان يؤدي الي توجيه الاتهام لهم, واعتقالهم ومحاكمتهم وادانتهم, اذا ماوجدوا مذنبين, وفرض العقوبات اللازمة عليهم وتعويض ضحاياهم.إن الافلات من العقاب يتأتي من اخفاق الدولة في تنفيذ التزاماتها واتخاذ الاجراءات الضرورية اللازمة في تحري الوقائع احتراما لحقوق الضحايا في احقاق العدل, سيان في ذلك القضايا الجزائية او المدنية او الادارية او حتي الاجراءات الانضباطية.
ما تشير اليه التجربة التاريخية الحديثة ان الافلات من العقاب اكثر شيوعا في البلدان التي تفتقد لتقاليد حكم القانون وانتشار الفساد فيها, او لان القضاء ضعيف, او لان اجهزة حفظ القانون والنظام تتمتع بالحماية والحصانة, مما يعني عدم توفر الفرصة او استحالة جلب المتورطين امام القضاء.غير ان التجربة اثبتت ايضا ان دولا تشتهر بالديمقراطية وحكم القانون, كالولايات المتحدة واسرائيل, تشهد هي ايضا حالات من الافلات من العقاب, خاصة ما يتعلق بافراد جيوشها واجهزة مخابراتها عندما يتعلق الامر بانتهاكات ترتكب في اثناء الحروب والصراعات.
إن اكثر اوجه هذه القضية ايلاما هو ما يسمي بشيوع ثقافة الافلات من العقاب والتي تعني ان بعض الافراد في المجتمع يبدأون بالاقتناع والتصرف بأن بامكانهم ان يفعلوا ما يريدون دون حساب, او رقابة, او مواجهة عواقب القانون لافعالهم, الأمر الذي يتطلب جهدا معاكسا لمقاومة هذا النوع من الثقافة وتكريس ثقافة بديلة, وهي ثقافة المحاسبة وإتاحة الفرصة للعدالة أن تأخذ مجراها في معاقبة كل من ارتكب جريمة, ومن أعطي الأوامر لتنفيذها, او حرض عليها أو من تستر عليها مهما يطل الوقت او يقصر.
هذه ليست فقط وظيفة الدول التي ينبغي عليها العمل علي ارساء فلسفة سيادة القانون كقوة لايمكن تجاوزها او خرقها من خلال النظام المؤسسي القانوني والامني والاجتماعي, بل هي ايضا مهمة مجتمعية ينهض بها الناس الذين ينبغي ان يستبسلوا في الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم.
في قضية سافيل لم يكن ممكنا ابدا فتح الملفات القانونية لولا الشجاعة التي ابدتها قلة من النساء ظهرن امام الاعلام ليدلين بشهادتهن عن الانتهاكات الجنسية التي تعرضن لها علي يديه في اثناء مشاركتهن في برامجه التليفزيونية والاذاعية, ثم ليفتحن الطريق امام العشرات اللاتي كسرن حاجز الصمت والخجل وكشفن عن تجارب مماثلة. وتوفر المراحل الانتقالية فرصة كبري لنبذ الممارسات القديمة لانه بالتالي لا يمكن اعادة بناء الدولة المدمرة بسبب سياسات الانظمة الاستبدادية الفاسدة الا عبر تحقيق العدالة والتي بدورها لا يمكن اقامتها من خلال اصلاح النظام القضائي فقط دون نبذ كلي لثقافة الافلات من العقاب واحلالها بثقافة حكم القانون.
إذا كانت اقامة حكم القانون تعني الاقتصاص من مجرمي الأمس فإنها تعني ايضا تكريس مبدأ اساسي وهو عدم السماح, كواجب اخلاقي وقانوني, تكرار تلك الجرائم والانتهاكات في عهود التغيير, سواء من خلال عمليات الثأر والانتقام, او عن طريق منح المتنفذين الجدد لانفسهم مرتبة القداسة والحق بأن يفعلوا ما يشاءون لمجرد أنهم اصبحوا سادة في النظام الجديد.

                                                    صفوة القول (10)
                                               مختارات من اراء وقضايا 
            “زوربا العراقي”: كنت أعرف جيداً ما سيتهدم لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض!
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في الحياة 2002-12-12 
مع بدء العد التنازلي للحرب التي تستعد الولايات المتحدة لشنها من اجل اسقاط النظام العراقي، بعد الانهيار المتوقع لنظام التفتيش الحالي على اسلحة الدمار الشامل العراقية، تخطو واشنطن خطوات ابعد قليلاً من شعارها المبهم بأن العراق “سيكون افضل بدون صدام حسين”، وتكاد تقدم للعراقيين وللعالم معالم صورة عراق المستقبل التي تعمل على صياغتها وفقاً لرؤيتها وحساباتها ومصالحها الاقليمية والكونية. قد لا تبدو هذه الصورة الآن مفصلة ولا مكتملة غير أنها تكشف بما احتوته وبما اسقطته من تفاصيل عن نمط التفكير الاميركي وعن الخطوط العامة لبرنامج عمل او خطة طريق هيئتها الولايات المتحدة لليوم التالي للتخلص من النظام في بغداد.
بدأ بعض ملامح التفكير الاميركي هذا يظهر في الوثيقة الاميركية التي قدمت اخيراً في لندن الى اطراف المعارضة العراقية خلال استعداد الاخيرة لعقد مؤتمر جديد لها تسعى من خلاله الى التوافق في ما بينها على صيغة عمل مستقبلي يتزامن مع تنفيذ المشروع الاميركي لتغيير النظام. بينما تظهر ملامح اخرى في تقارير وأوراق أعدت في مجموعات عمل خاصة في بعض مراكز الابحاث الاميركية بمشاركة بعض عراقيي المنفى وباشراف وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي وابرزها تقرير “مجموعة العمل الخاصة بمبادئ الديموقراطية” الذي ينظر اليه باعتباره مسودة لدستور العراق المقبل. كل هذه الحزمة من الاوراق والافكار التي تتضمنها، والتي ستوضع على مائدة مؤتمر المعارضة بهدف تبنيها، تكشف عن جهد اميركي مضن بذل خلال الشهور القليلة الماضية لرسم صورة عراق المستقبل في عملية اشبه ما تكون بعملية استنساخ تجري داخل مختبرات مغلقة.
تفصح “وثيقة لندن” التي عُززت لاحقاً بخطاب رسمي وقّعه اربعة من كبار مسؤولي الادارة الاميركية، لغةً ومضموناً، عن الاسلوب والنيات التي تضعها هذه الادارة أولاً في التعامل مع المعارضة، وثانياً في رسم صورة عراق المستقبل الذي تضع لبناته. ولو تجاوزنا اللغة وهي لغة استعلائية واملائية بكل المقاييس تضع شروطاً والتزامات مسبقة على كل المعارضين العراقيين كثمن لمجرد المشاركة في مؤتمر للبحث في “(رؤية) لعراق المستقبل” فإن بعض بنودها المدونة يكشف نيات لاستبقاء معظم قواعد اللعبة في أيدٍ اميركية وتقليص بل حتى استبعاد العراقيين من انتاج المعايير التي تخص مستقبلهم ومستقبل بلادهم. فإصرار “وثيقة لندن” مثلاً على “عراق في سلام مع جيرانه يتخلى عن اسلحة الدمار الشامل ويقبل من دون شرط قرار مجلس الامن الدولي 6 8 7 وباقي قرارات المجلس” هو شرط مثقل بالالتزامات لأي نظام جديد اضافة الى أنه يبقي العراق المقبل وكأنه دولة مارقة ولا يفتح أي باب للأمل لشعب العراق للتخلص من تبعات اخطاء النظام الحالي مثل تعويضات الحرب او حتى في رفع فوري للعقوبات التي تفرضها قرارات الامم المتحدة ورؤية نهاية عاجلة لمسلسل عمليات التفتيش عن الاسلحة.
ثم ان “وثيقة لندن” لا تعطي درساً مفيداً في الديموقراطية التي تشير الى ان الولايات المتحدة تساندها وتدعو اطراف المعارضة الى تبنيها حين تصر على اعتبار مؤتمر المعارضة القادم مجرد “حدث عام” اي ليس اجتماعاً لوضع سياسات وترفض قيامه بانتخاب جمعية وطنية او انشاء حكومة موقتة وتصرّ في فقرتها الاخيرة على ضرورة موافقة المندوبين الى المؤتمر مسبقاً على كل بنود الوثيقة وعلى ان يوافقوا في قراراته على المبادىء التي تضمنتها “وثيقة لندن” ذاتها بالترحيب (بالتصفيق وليس بالتصويت). وعلى رغم امكان الادعاء ان الوثيقة مجرد مساهمة من ديبلوماسين وموظفين صغار تتضمن خطوطاً عامة لمؤتمر المعارضة إلا أنها المرة الاولى التي تطرح فيها الادارة الامريكية رؤية ولو جنينية تحمل عناصر حاسمة لتحديد مستقبل علاقتها مع المعارضة العراقية وايضاً لمستقبل العراق. بل اكثر من ذلك هو ما اسقطته الوثيقة عمداً او ما تجاهلته من مبادىء أو رؤى أو افكار بعضها تشكل أجندات شديدة الجاذبية لأطراف المعارضة كالفيديرالية للأكراد والأسلمة للفصائل الاسلامية الشيعية والعروبية للقوميين والتي ربما ستفاجئهم بخلافها او حتى بنقيضها في وثائق اخرى تعدها مجموعات العمل الخاصة ومنها تقرير “الانتقال الى الديموقراطية في العراق”.
تنتمي هذه الوثيقة الاخيرة، حسب ما تسرب منها حتى الآن، كباقي تقارير مجموعات العمل التي ظهر الكثير من ملامحها – من خلال الافكار التي عبر عنها واضعوها خلال نقاشات جرت حولها في ندوات نظمها بعض معاهد البحوث الاميركية خصوصاً تلك التي اقامها “اميركان انتربرايز انستتيوت” – الى منهج “وثيقة لندن” نفسه في الانفراد والوصاية واحتكار حق اختيار أجندة عملية التغيير، كما انها تستبعد بروحها ومضمونها عملياً وواقعياً الكثير من آماني الشعب العراقي وتطلعاته والكثير مما يرد في برامج اطراف المعارضة وطروحاتها وتملي عليهم خيارات جديدة لمستقبل العراق. فهناك مثلاً اختلاف جوهري بين ما تراه المعارضة ويصرح به قادتها من ان التغيير هي عملية تجري بأيدٍ عراقية ولأهداف عراقية. وبين ما طرحه البعض في الصفوة المنتقاة من عراقيي المنفى المشاركين في مناقشات مجموعات العمل، انها “عملية تحرير اميركية” وانها “توفر فرصة تاريخية للولايات المتحدة لا يضاهيها بالحجم ما حصل في الشرق الاوسط منذ سقوط الدولة العثمانية ودخول القوات البريطانية للعراق عام 1917″، الى غير ذلك من الافكار الخلافية التي تجد تعبيراتها في المواقف من قضايا الفيديرالية، والعلاقات القومية مع الدولة، وفصل الدين عن الدولة، وانتماء العراق لمحيطه العربي، ودور الجيش ونزع سلاحه، ومصير حزب البعث… وكلها قضايا لا يمكن بل يجب ألا تحسم منذ الآن ومنن خلال اي مؤتمر للمعارضة قبل اجراء نقاش وطني عام وواسع يلي عملية التغيير وضمن استفتاء شعبي عليها.
هذه الحزمة من الاشتراطات والافكار والمقترحات والتصورات التي يراد منها ان تتبلور في موقف نهائي ووثائق قبل ان تلعب اطراف المعارضة العراقية “دور ذكر النحل” لتصادق عليها ومن ثم تقدمها الى العراقيين كافة كـ “برنامج وطني للتغيير”، تظهر كأنها مشروع نخبوي وفوقي لإعادة صياغة كاملة للعراق وليس مشروع اعادة بناء وطني، والفارق شاسع بين الامرين كما هو بيّن. فالأول مهما اكتسى بتسميات براقة يظل أقرب الى تلك النماذج المعروفة من استراتيجيات الهيمنة والتبعية والمحاكاة الاستعمارية والتي تتعاضد في تطبيقها قوى كونية ذات طموحات امبراطورية ونخب محلية مصلحية خانعة ومستسلمة لقدرها او ما يمكن توقعه منذ الآن بمشروع للارتباط بالمركزية الاميركية التي تتبلور صياغتها كونياً. بينما يقع المشروع الثاني ضمن الاختيارات التي يصنعها الناس من خلال التفاعل بين اراداتهم الحرة وحكمتهم وقدرتهم على التنظيم الذاتي وتاريخهم وثقافتهم ومصادرهم المحلية. لذلك تبدو الثقة التي يظهرها بعض المعارضين العراقيين في صياغة افكارهم ومقترحاتهم واستعراضهم لها كباحثين وخبراء امام مختبرات البحوث الاميركية التي سرعان ما تحولها الى منتجات او اوراق عمل محلاّة بكل تعبيرات الحداثة والليبيرالية وقابلة للاستهلاك في القرية الكونية هي ثقة تبعث على الحسد حقاً.
الاكثر اثارة للقلق خطط تسرّب عن الكيفية التي ستعالج بها الولايات المتحدة الفراغ السياسي الذي سيحصل عند سقوط النظام. وهي خطط خليطة من دعوات مباشرة للاحتلال او محاولات تجريبية ووصفات جاهزة للتصدير واستعادة نماذج بالية ينتمي بعضها لمدارس الاستشراق المتعالية او لمدرسة نهاية التاريخ الاستئصالية او هي اشد صلة بنماذج التبعية والموالاة المستهلكة تتجاوز جميعها الواقع المحلي شديد التعقيد وتوقعات العراقيين وواجبهم في البحث والاختبار والابتكار وواقع المنطقة وذاكرة اهلها التاريخية. هذه المشاريع التي تروج لحكم تحت ادارة عسكرية اميركية او ادارة دولية لفترة غير محدودة حتى يتم الانتقال الى ادارة عراقية وطنية تهيىء لانتخابات لاحقة تتضافر مع اصرار الادارة الاميركية على اعادة صياغة مبادرات قوى المعارضة الرئيسية والترويج لابتداعات منقحة لمجموعة مقربة من نخب المنفى لا تقدم خيارات حقيقية بمقدار ما تقدم نماذج مستوردة هي أقرب الى وصفة لتكرار الفشل وللفوضى وعدم الاستقرار وربما لأوتوقراطية جديدة من ان تكون علاجاً نابعاً من الحاجة والفعل الوطنيين.
هناك ادراك واسع لدى اطراف عديدة في المعارضة العراقية لهذا التنافر الذي يفصل بين المتطلبات الوطنية لعملية التغير وازالة النظام الشمولي التي اصبحت حاجة ماسة وبين المشروع الاميركي للتغيير في العراق الذي من الواضح انه ينطوي على تحقيق أهداف ومصالح استراتيجية تتناسب مع الامتداد الامبراطوري والتي تستعد الولايات المتحدة لتدشينه عن طريق الحرب المتوقعة ضد العراق. هناك قناعة ايضاً لدى هذه الاطراف بتوفر فرصة فريدة لتحقيق ما عجزت عنه لسنوات طويلة بإسقاط النظام من خلال المشروع الاميركي للتغيير مما يعني تلاقي مصالح الطرفين على تحقيق هدف واحد. غير ان التجربة التاريخية اثبتت قبل اكثر من ثمانين عاماً على ان التقاء اهداف العراقيين والبريطانيين ضد العثمانيين لم ينتج الدولة الوطنية المرجوة بل اصبح نقطة انطلاق لمجابهة السياسات الاستعمارية، كما كان استمرار هذه السياسات وتسخير النخب المحلية لتطبيقها من خلال زجها في مدار التبعية مدعاةً لانطلاق النضال لصالح المشروع الوطني.
لم تكن الازمة العراقية يوماً ازمة عارضة بل هي ازمة وطنية شاملة وعميقة تمتد من فجر الدولة الحديثة وتضرب بجذورها كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وما النظام الشمولي وممارساته التسلطية والقمعية سوى نتاج طبيعي لهذه الازمة المزمنة. نعم هناك حاجة لعملية اعادة بناء كلي للدولة العراقية على اسس حديثة تستجيب لتطلعات الناس وتتلاءم مع روح العصر وغاياته لكن ليس بالقفز على واقع البلد المعقد ومحيطه الاقليمي الحيوي ولا من خلال جعله مختبراً لتجارب تهدف الى ضم المنطقة المستعصية على الضم الى القرية الكونية. وفي هذه المرحلة الحاسمة لا بد من ان ينطلق اي مشروع للتغيير في العراق من دراسة الماضي واخذ العبر منه وإلا سيظهر العراقيون امام انفسهم وامام العالم مثل زوربا في رواية كازنتزاكي الشهيرة حين وقف ليقول “كنت اعلم جيداً ما سيتهدم لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض”.

Controlling the money

By dismissing the chief of the Iraqi Central Bank, Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki is continuing his attempts at centralising power, writes Salah Nasrawi

The shock ouster of the governor of the Central Bank of Iraq and the issuing of arrest warrants for him and for many of his staff have triggered concerns about widespread corruption in Iraq’s financial and monetary sectors, including fraud, currency manipulation and money laundering.
However, the brazen removal of Sinan Al-Shibibi, a well-known economist who worked for the United Nations for nearly two decades, has also displayed Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki’s determination to consolidate power by moving to control the country’s vast oil revenues.
Al-Maliki’s government announced on 16 October that it had fired Al-Shibibi, who has held the job for more than nine years, following a probe into the bank’s activities. He was replaced temporarily by Abdel-Basit Turki, head of the Supreme Audit Board.
Ali Al-Moussawi, a spokesman for Al-Maliki, said that the dismissal had come after a parliamentary investigation had disclosed “shortcomings” by the Central Bank’s governor and other staff.
He said that the parliamentary panel had submitted its report to the official Integrity Commission responsible for combating corruption, which in turn had decided to act against Al-Shibibi and nearly two dozen of his staff.
Under a system forged by the previous US occupation authority, the Central Bank started channelling millions of dollars a day through the country’s state banks in order for them to sell to Iraqis importing goods from abroad or planning to travel overseas.
The system is widely seen as being behind a growth in corruption owing to lax regulation and the manipulation of variations in prices between local and foreign currencies. The bank currently sells the dollar for 1,166 dinars, while the market price is around 1,210 dinars.
On Monday, Dananer, an online economic news agency, quoted Haitham Al-Jibouri, an Iraqi lawmaker and member of the parliamentary committee that had investigated the bank, as saying that the panel had found that some $40 billion had been made available by the Bank to traders last year without proper documentation.
Last month a US government watchdog said it believed that as much as $800 million in US dollars was being sent out of Iraq illegally each week, draining the country of hard currency.
The US Office of the Special Inspector-General for Iraqi Reconstruction said in a report that auditors in Baghdad feared that up to 80 per cent of an estimated $1billion leaving the country weekly lacked proper documentation.
This is a huge amount of money, and if the reports are true they indicate an organised system of corruption within Iraq’s monetary and financial bodies.
Before being named to manage the Iraqi Central Bank by the US occupying administration shortly after the US-led invasion of Iraq in 2003, Al-Shibibi worked for the Geneva-based United Nations Conference on Trade and Development.
Al-Shibibi, who is politically independent, comes from a respected Iraqi Shia family, and during the rule of former president Saddam Hussein he spent nearly three decades in exile.
Al-Shibibi, who is currently out of the country, has rejected the accusations made against him and has promised to return to Iraq to face the charges. Many who know him have come to his defense, arguing that he is the victim of a political conspiracy.
Relations between Al-Maliki and Al-Shibibi have been tense for years, and in recent months speculation has arisen that Al-Maliki has been planning to get rid of him and many of his trusted aides. Suspicions now abound that the recent Central Bank affair is an attempt by Al-Maliki to tighten his control of the bank.
Under the current Iraqi constitution, the Central Bank is an independent body and its governor is only answerable to parliament. A law enacted by the American occupation administration in 2004 also gives the governor immunity from prosecution in cases related to the bank’s activities.
Some commentators have suggested that the government’s decision to remove Al-Shibibi is illegal. “It is null and void, because it lacks constitutional and legal foundations,” wrote Wael Abdel-Latif, a former judge and lawmaker on the Sahat Al-Tahreer news website. 
In January of last year, Al-Maliki secured a ruling from Iraq’s high court placing the Central Bank under the authority of the cabinet rather than the parliament, attributing the decision to the predominantly executive nature of the bank’s activities. Many believe that the recent ouster of Al-Shibibi was motivated by Al-Maliki’s desire to exercise more control over the bank’s reserves, which are estimated to reach some $60 billion this year.
The Iraqi media have reported that Al-Maliki sought the overthrow of Al-Shibibi after the latter refused a request from the government to borrow from the financial reserves to cover its expenses.
Al-Shibibi reportedly rejected the government’s desire to draw from the Iraqi currency reserves, as this could decrease the value of the Iraqi currency.
The Central Bank has reportedly also ruled out the revaluation of the dinar by knocking three zeros off the nominal value of banknotes.
While the government wants the measure in order to simplify financial transactions and improve confidence in the dinar and thus eventually boost its value, the bank has been urging caution, saying that the economic climate is not suitable for redenomination.
Analysts believe that behind the arm-twisting from Al-Maliki and his attempt to control the Central Bank stands Iran’s attempts to ease the economic sanctions imposed on the country by the West because of its nuclear programme.
The Iraqi newspaper Azzaman reported on 17 October that the Iranian lobby in Iraq had been responsible for toppling Al-Shibibi. It said that Iraq’s Central Bank had recently limited Iran’s ability to draw hundreds of millions of dollars from the Iraqi market in order to support its economy at the expense of the value of the Iraqi dinar.
The paper quoted unidentified sources as saying that Al-Shibibi and his deputy, Mudhir Saleh, had launched a series of measures binding those who wish to exchange Iranian currency for US dollars to submit their applications to the Bank.
The move was aimed at ensuring that such amounts were used for commercial transactions and were not being smuggled into Iran, which suffers from a significant lack of hard currency.
The Iraqi dinar has also been a casualty of the Syrian crisis, due to the demand for dollars in the country’s sanctions-hit western neighbour. Al-Maliki, who looks at the potential fall of Syrian President Bashar Al-Assad as a development that might strengthen his Sunni Arab and Kurdish rivals in the region, has been appearing to support Al-Assad in terms of coordination and financial and commercial assistance.
While it is hard to accuse Al-Shibibi of being single-handedly responsible for the problems that have hit Iraq’s Central Bank, it is surprising that he has remained in the job for more than nine years despite the rampant corruption in the Iraqi establishment.
Whether Al-Maliki is taking aim at Al-Shibibi or not, Iraqi politics, surreal as it can be, is being further crushed by the weight of the Central Bank scandal.

                                                            صفوة القول
                                      مختارات من اراء وقضايا

                           اللحظة الكردية ومستقبل العراق … وفاق أم طلاق؟
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في جريدة الحياة 29 -4-2007
عدت لتوي من اربيل بعد نحو ثمانية عشر عاماً من آخر زيارة لها، جرت خلالها مياه كثيرة، سواء في أنهر كردستان، أم أنهر العراق المتدفقة احداثا جارفة، اغلبها مصبوغ بالدم والدموع، والقليل منها، يحمل قشا للامل واطواقا للنجاة. في زيارتي السابقة كانت اربيل، شأنها شأن باقي المدن الكردية العراقية، تئن تحت آلام حلبجة والانفال، آخر تلك الحملات السيئة السمعة، لنظام صدام حسين البعثي الفاشي، والتي كشفت ايضاً عن تواطؤ بعض العراقيين والعرب، الذين غطوا اعينهم عن تلك الاعمال المشينة، او فضلوا الصمت والنظر الى الجهة الاخرى.
فرق هائل بين اربيل، المتطلعة يومئذ للحكم الذاتي الحقيقي، والمستسلمة للظلم والخوف والاذعان، رغبة في صيانة اسباب البقاء، واربيل اليوم، الناهضة والجامحة، التي لا تطرح نفسها عاصمة لإقليم كردستان العراقي الفيديرالي فحسب، بل القلب النابض للأمة الكردية بأسرها.
في اربيل اليوم، كما في باقي مدن الاقليم، بإمكان المرء ان يدرك بسهولة ذلك الإيقاع الجديد الذي ينمو على رنينه عالم اسطوري من التطلعات والأماني، إذ يشعر أكراد العراق انهم قبضوا بأيديهم للمرة الأولى على تلك اللحظة الخاطفة في التاريخ، التي بإمكانها ان تحولهم الى فاعلين اساسيين في تقرير مصيرهم، بعد سنين طويلة من التهميش والحرمان والشقاء والكفاح.
لا يساور المرء ادنى شك وهو في اربيل، ان الاكراد لا ينفضون عن انفسهم سنوات القهر، ويتطلعون الى المساواة مع باقي العراقيين والشعوب الاخرى فقط، بل انهم يظهرون ثباتا لا يتزعزع، وتوقا لا يستكين، لإسقاط كل جدران العزلة التاريخية والجغرافية الاستثنائية التي ضربت حولهم لقرون عديدة. ما يجري في اربيل ليس فقط عملية دؤوبة لفتح ثغرات في تلك الجدران، بل هي تحقيق لجزء من طموحات الاكراد لإنجاز مشروعهم القومي في كردستان الكبرى. اي بعبارة اخرى، في اربيل اليوم يصنع تاريخ جديد للاكراد، وبالتالي للعراق وايضا للمنطقة، ما يقتضي تسليط الأنظار على ما يجري هناك بتفحص موضوعي، بعيداً عن التعصب والتهييج وايضا اللامبالاة.
ففي اربيل لا يمكن ان يشعر المرء بأنه في مدينة هي بحاجة بعد الآن الى ان تضع رأسها ليستقر من جديد في حضن وطن اسمه العراق، بل هي تسعى جاهدة لكي تكون حضناً دافئاً لأكراد العراق، ومهدا لأحلام وتطلعات الملايين في الأمة الكردية الذين ينتشرون في كردستان الشرقية، في إيران، والشمالية، في تركيا، والغربية، في سورية. هذه حقيقة قائمة لا يمكن ان تحجبها عن ابصارنا الصلة السياسية والدستورية الواهية التي تربط كردستان ببغداد، كما تجسدها مفردات وقائع كثيرة على الارض، مثلما يجسدها الخطاب السياسي والثقافي للقيادات والنخب الكردية والمشاعر والقناعات التي يعبر عنها الشارع الكردي. في اربيل لا يشعر المرء بأن الكردي يرى ما يغريه في البقاء في العراق غير بعض الحوافز الاقتصادية، ونكاد نرى بوضوح اولى المحاولات التي يخوضها الاكراد لبناء كيانهم القومي الواسع، وهي محاولات لا يخفونها ابدا، بل يدعون الآخرين بصمت احيانا، وباندفاع عالي النبرة، احيانا اخرى، الى التأمل فيها وحسبان حسابها المستقبلي.
هناك دائما مخاطر من ان المعاناة الإنسانية يمكن ان تنتج ردود افعال تتسم بالإفراط والمبالغة من قبل اولئك الذين عانوا، ربما يمكن فهمها في اطار الاحباطات من ظلم تاريخي، او من غياب التضامن، او نقصه، ولكنها تنحو نحو التعسف، حين تضل طريقها في السياق الجديد، فتتجاوز الى شعور الضحايا السابقين بأن من واجب الاخرين ان يرفعوهم الى مرتبة القداسة وان من حقهم ان يُمنحوا عفواً خاصاً طالما انهم عانوا كثيرا من السياق القديم. لقد عبرت جماعات بشرية كثيرة عبر التاريخ الإنساني عن مثل هذه المشاعر من الخشية والقلق، ووصلت احيانا الى تأجيج نيران الحقد تجاه من يرونهم متربصين بنجاحهم. وبالإمكان تعداد الكثير من هذه التجارب، لكن التجربة الإنسانية اثبتت ايضا خطأ الإسراع في حرق المراحل، وخطر القفز على الواقع، ومحاولة فرض المطالب والسعي للحصول على الكثير في القريب العاجل، من دون اكتراث بالعوامل الموضوعية والإمكانات المتاحة والحاجة الأكيدة لشركاء حقيقيين.
من هنا يمكن فهم الحالة الكردية الراهنة، كما تمثلها اربيل، التي تبدو لأي مدقق، انها تجتاز حالة تحول من طراز المخاضات الكبرى، التي تمر بها أية أمة على طريق بناء دولتها القومية، عبر التأسيس لنواتها التاريخية. ان حق الاكراد في تقرير المصير وانشاء دولة مستقلة بدءا من كردستان العراق، او كردستان الجنوبية كما يرونها، هو حق انساني وسياسي اصيل لهم، اسوة بكل الشعوب، غير ان هناك سؤالين يلحان الآن، اولهما، هو ما اذا كان المسعى الكردي في هذا الاتجاه، القائم على تراكم الانجازات الكردية في العراق والنحت الجيوبولتيكي في باقي دول الشتات الكردي هو عمل مدروس، ام انه مغامرة غير محسوبة النتائج، قد توجه ضربة اخرى للحلم الكردي المؤجل منذ اكثر من ثمانين عاما. هذا السؤال يخص الاكراد وعليهم الإجابة عليه، اما السؤال الثاني فهو عن الخيارات التي ينبغي على عرب العراق اتخاذها الآن تجنبا للأكلاف الباهظة التي يدفعونها وسيدفعونها في المستقبل حين يتجسد المشروع الكردي في الاستقلال.
سيكون نوعاً من انواع التعالي القومي، وربما الشوفينية ايضاً، مساءلة الاكراد في حقهم في تقرير مصيرهم، حتى اذا كان الامر يتضمن رغبة في الاستقلال، ما دام الامر نتيجة لرغبتهم وارادتهم الحرة، وبغض النظر عما اذا كان ما يجري الآن هو نتيجة صيرورة ذاتية تلقائية ام تغيرات واعية، ومهما كانت تبعات ذلك عليهم نتيجة التحديات والتهديدات التي تواجه مشروعهم القومي. لكن سيكون من الحماقة السياسية وقلة الحيلة ان يظل عرب العراق يدفعون ثمن شراكة غير متحققة، وارتباط واهٍ، ورغبات غير دفينة في الانفصال، اما لاعتبارات وطنية عاطفية تآكلت، وصلات تاريخية لم تعد متوفرة، بفعل التغيرات الهائلة التي أفرزها الاحتلال وما تبعه من انهيار الدولة العراقية، أو لعوامل امنية واستراتيجية اقليمية، لا دخل او لا إمكانية لهم، في ادارتها. هذا الأمر يتطلب التمعن جليا في ما يجري على مستوى العلاقة بين العراقيين من العرب والاكراد والتوصل الى الخيارات المناسبة، وفق دراسة جدوى حقيقية، واتخاذ القرار المناسب والصحيح وطنيا وسياسيا واستراتيجيا.
طبعاً، كل شيء سيبقى رهنا باستقرار الوضع الأمني وبنتائج العملية السياسية الحالية واذا ما كانت ستصل بالنتيجة الى مصالحة وطنية شاملة ترسي قواعد لاعادة بناء الدولة العراقية الموحدة على اسس متفق عليها بين جميع مكونات الشعب العراقي أم لا. هناك صعوبة في تصور الوصول الى مثل هذه النتيجة من دون اعادة التفاوض حول صيغة الفيديرالية التي لا تزال الاطراف الرافضة للعملية ترى انها اقرت في ظروف استثنائية، ومن دون مشاركة حقيقية من العراقيين جميعاً. على الجانب الآخر، فإن اعادة النظر في شروط الفيديرالية وحدودها ستكون امراً مثبطاً للاكراد الذين يعملون منذ سنين تحت حدود سقف عالٍ للفيديرالية، يقترب من حدود الاستقلال. ومن البديهي ان الفشل في الوصول الى صيغ جديدة سيطرح بديلاً وحيداً، وهو القبول رسمياً، باستقلال كردستان، المستقلة نظريا، باعتباره الحل الأقل كلفة للعراقيين العرب.
ادرك ان القضية المطروحة تحتوي على شحنات وجدانية قوية، والكثير من الالتزامات، عند الطرفين العربي والكردي، غير ان الأمر يجب ان يطرح بجرأة ومن دون مواربة، ما دام يتعلق بمصير بلد وشعب، بل مصير المنطقة برمتها، ومن غير المجدي دفن الرؤوس في الرمال او الرهان على المستقبل لإيجاد حلول لها. لقد كشفت قضية كركوك عن جزء يسير من العقدة، سواء على المستوى الداخلي العراقي، او على المستوى الاقليمي، كما ان الاتهامات التركية بشأن نشاطات حزب العمال الكردستاني، وردود القيادات الكردية العراقية عليها، اظهرت الطابع الصراعي للقضية الكردية على المستوى الاقليمي، الذي من المؤكد انه يمكن أن يفجر نزاعات اكبر في المستقبل، بسبب البؤرة التي سيشكلها استقلال الاكراد في العراق، سواء شكلياً او حقيقياً، على باقي دول الشتات الكردي. والسؤال الذي يواجه العراق العربي هو اين تكمن مصلحته الحقيقية؟ هل في اتحاد فيديرالي ضعيف، يتحمل هو كلفة ادامته اقتصاديا، وتوفير مظلة حماية له، في وجه التحديات التي تواجهه من دول المنطقة، ام في قطع الشوط الاخير والقبول باستقلال الاكراد الفعلي في دولة يديرونها حسب مشيئتهم ومصالحهم القومية، ما دام ذلك طموحهم النهائي؟
لقد انهكت القضية الكردية العراق عبر تاريخه الحديث، وخسر العراقيون، عرباً وأكراداً، فرصاً كثيرة في حلها بطرق سلمية، تحقق العدالة والمساواة والاستقرار والازدهار للشعبين، كما ان خيار الفيديرالية، الذي اتخذ في عجالة وفي ظروف الاقتتال الداخلي، وفي نتائجه العملية على الارض، لا يبدو قادراً على تحقيق هوية وطنية مشتركة وفاعلة في ظل هواجس ومخاوف وتطلعات متباينة عند الجانبين. هناك حقيقتان على العرب العراقيين ان يدركوهما، اولاهما ان الاكراد امسكوا بلحظتهم التاريخية، وان كردستان اصبحت مستقلة فعليا، وان الإعلان الرسمي عن ذلك مناط باللحظة التي سينهار فيها العراق كدولة، اذا استمر الصراع الشيعي – السني، والثانية ان تطلعات الاكراد هي صوب بني جلدتهم في الشمال والشرق والغرب الكردي وليس نحو الجنوب العربي. كل الأطراف العراقية، وكذلك الاقليمية، تدرك هذه الحقيقة، ولكنها تقف عاجزة امام هذا الوضع، إنه أشبه بوضع رجل ينام كل ليلة مع امرأة تريد تطليقه عند الصباح، ولكنها تؤجل ذلك لليوم التالي.

                                                         صفوة القول
                                            مختارات من اراء وقضايا  
                                                        عراق فوق الأنقاض
                                                                              صلاح النصراوي
نشرت في الشرق الاوسط في   22 مارس 2008
كانت محنة إنسانية ووطنية قاسية تلك التي واجهها العراقيون قبل خمس سنوات حيث كانت الإدارة الأمريكية تستعد لشن الحرب على بلادهم وحين واجههم السؤال المضني، أين سيقفون هذه المرة، خاصة أن الهدف كان جلياً، وهو إسقاط نظام صدام حسين. شخصياً، رأيت في الحرب فرصة وحيدة للتخلص من ذلك النظام الشمولي، الذي جثم على صدور العراقيين خمسة وثلاثين عاماً، آحال حياتهم خلالها إلى جحيم لا يطاق من القهر والعذابات والإذلال، نادراً ما تحملها شعب من شعوب العالم في النصف الآخير من القرن العشرين. كانت الحرب تبدو فرصة لنبذ كل ذلك الماضي التعيس، ومن ثم البدء من جديد في بناء عراق آخر، عراق قائم على أسس من الحرية والعدالة والإنصاف، ولم لا، ديمقراطي وحداثي، بل ونموذج مشع للدولة المدنية في المنطقة، أيضاً.
كان ذلك الاستنتاج، والأمل بالنسبة لي ولأي فرد عراقي شاركني فيه، في غاية البساطة والبراءة والإنسانية، ولم يكن بحاجة لكي نصل اليه، إلى أية حسابات سياسية أو استراتيجية أو حذلقات ايديولوجية أو تبريرات فلسفية. كما لم يكن ذلك الموقف متناقضاً أبداً، كما أرى حتى الآن، مع الروح الوطنية ومعاني الكرامة الإنسانية التي ظل نظام صدام ينتهكها حتى اللحظات الأخيرة من عمره، حين وضع العراقيين جميعاً أمام محنة الاختيار القاسي، بين الدفاع عنه وعن نظام حكم العائلة والعشيرة الذي أقامه، وبين الوقوع في ذل الاحتلال وقهره، كثمن للتخلص منه.
فالأمر كان بكل بساطة، حلما إنسانيا متواضعا ومشروعا تطلع فيه العراقيون إلى العالم ليمد يده لإنقاذهم من ذلك الجحيم الأبدي، الذي عاشوا فيه، بدون أية بارقة أمل في أن يعمل نظام صدام على إصلاح نفسه، أو أن يتمكن العراقيون أنفسهم ذات يوم من أن يتخلصوا منه بإيديهم، ومن خلال مشروع وطني للتغير. كان ذلك الاستنتاج هو بمثابة انتظار لاستجابة القدر، ولذلك النداء الداخلي لدى كل عراقي، وحمله لإرادة الحياة، وحلمه الأزلي، بكل ما يمكن ان يجلي الليالي الظلماء عن بلاده، ويكسر قيود الذل والاستعباد التي كبلها بهم صدام ونظامه.
كان الأفق مسدوداً أمام أية عملية تغير ذاتي، أو إصلاح داخلي، لأن النظام كان يدرك أن بنيته الأمنية والسياسية والايديولوجية، القائمة على الكبت والقمع وعلى عبادة الشخصية، وصنمها الآبدي صدام، ستكون معرضة لخطر الانهيار مع أول بادرة انفتاح، مهما كانت ضيئلة. فلم تكن هناك أية قوة معارضة سياسية داخلية حقيقية بإمكانها أن تقف أمام النظام وتجهر بصوتها بأي مطلب سياسي، أو حتى إنساني، بعد أن عمل النظام على التصفية المادية والمعنوية للأحزاب والجماعات السياسية.
ولم تكن المعارضة في الخارج بحال أفضل، فقد تحولت أغلبها بسبب هيمنة الجماعات ذاتها التي عجزت عن التصدي لنظام البعث داخليا، وتفضيلها خيار التحول إلى ضحية على خيار البقاء والصمود والمقاومة، وبسبب العقلية التسلطية التي تديرها أيضا، إلى مشروعات فردية أو عائلية ودكاكين تشرف عليها أجهزة مخابرات الدول التي تستضيفها، وتوجهها حسب غاياتها ومصالحها.
اما التطلع لأي عون عربي للتخلص من صدام ومساعدة العراقيين على إقامة نظام ديمقراطي، فكان مجرد سراب وعبث، ليس فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل لأن النظام العربي ذاته قائمُ على تضامن دوله وحكوماته وزعاماته على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، طالما أنه لا يهدد بقاءك، أو، على العكس، أن زواله سيهدد ذلك البقاء.
كان بقاء نظام صدام بالرغم من الكوارث التي ألحقها بالعراق يعني انتصاره على العراقيين وعلى رغبتهم في الحياة الحرة الكريمة، واستمرار ذلهم وقهرهم وقتلهم سنوات طويلة اخرى، مع احتمال شبه أكيد، بان ينتقل الحكم بعد ذلك من صدام إلى أحد ولديه عدي أو قصي، أي بمعنى آخر أن يبقى العراقيون عبيداً أذلاء لذرية الطاغية، ومن أشباهه من السفاحين والمغامرين عديمي الإحساس والضمير، واحداً وراء آخر، بدون أي أفق بانتهاء هذه السلسلة من الطغاة التي كانت تعمل وتخطط للبقاء إلى ما لا نهاية.
ولم تكشف تلك المرحلة عن أزمة وطنية شاملة والمتمثلة بحالة إنسداد في الأفق السياسي للنظام فقط، بل أنها كشفت عن العمق الذي وصلت إليه الأزمة البنيوية للدولة ذاتها من خلال وصولها إلى أقصى حالات التماهي مع النظام، بل مع الفرد الحاكم ذاته. ومع ارتباط الأزمة الداخلية بالتوترات والصراعات مع المجتمع الدولي، بسبب إرث المغامرات والحروب التي خاضها النظام مع جيرانه، فقد فقدت الدولة والمجتمع في العراق أية حصانة وقدرة على الصمود بوجه التحديات الداخلية والخارجية معا، الامر الذي كان سيسهل بالنهاية سقوط النظام بالحرب التي كانت على الأبواب.
غير أن الأمر لم يكن كله أحلاما وآمالا، بل كانت هناك أيضا شكوك وهواجس ومخاوف تحوم وتدفع للظن بان الأمر قد لا ينتهي بما يتمناه العراقيون وكذلك خشية حقيقية من أن تشهد لحظات ما بعد ولادة عراق جديد محاولات لوأده، أو حتى أن يكون الحمل نفسه كاذبا. كانت الشكوك نحو الأمريكان نابعة، أولاً، من أن امريكا ليست جمعية خيرية جاءت لمساعدة العراقيين بتحريرهم من صدام، ولا بد أن لها مصالح وأهدافا قد تكون مناقضة للحلم العراقي. وكان واضحاً، ثانياً، مما كشف عنه من نقاب عن الخطط والاستراتيجية الأمريكية وأسلوب تنفيذها، أن الإدارة الامريكية عازمة على خوض مغامرة كبيرة، بدون أي استعداد جدي لإعادة بناء الدولة، بل بدون فهم حقيقي للواقع العراقي.
ثم كانت هناك شكوك في قوى المعارضة العراقية التي استجلبتها الإدارة الأمريكية لتبرير الاحتلال والمشاركة في إدارته. ففي غياب معارضة سياسية تمثيلية حقيقية على الأرض، يمكنها أن تكون بديلا مقبولاً، أو حتى معقولاً، في فترة انتقالية يجري خلالها بناء الحركات السياسية المعبرة عن الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغير ومن ثم الإعداد للمرحلة الدائمة، كانت تلك القوى بكل ماضيها وخيارتها وأجنداتها، وخاصة الطائفية والفئوية، هي الوحيدة التي بإمكانها أن تتصدر الساحة بوجه تيار وطني عام لم يتسن له النهوض بعد.
مقابل ذلك كانت الشكوك تحوم أيضا حول رد الفعل المتوقع للدول الإقليمية، وخاصة المجاورة للعراق، من عملية التغيير القادمة، وهي التي كانت تستشعر مدى الخطر الكامن في ذلك على أمنها واستقرارها، بل على وجود أنظمتها ذاتها. فحين أصبح واضحا أن الإدارة الأمريكية اتخذت قرار الحرب لم يكن أمام هذه الدول إلا القبول به أيضا، سواء على مضض، أو كرها، غير أن السؤال ظل، هو كيف كانت ستتعامل هذه الدول مع نتائج الحرب المتوقعة، مع كل ما تحمله من توقعات سيئة وكارثية على عموم المنطقة الهشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتحديات التي سيفرزها التغير الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي سيحصل.
في كتابي الأخير «فوق الانقاض، نهاية المشروع الأمريكي في العراق» الذي يصدر متزامنا مع الذكرى الخامسة للحرب حاولت أن أعود إلى حكاية ذلك الحلم المليء بالبراءة وكيف انه سرعان ما تحول إلى كابوس مرعب، عبر المرور بالمحطات التي قطعها مشروع الحرب وما آل اليه مشروع التغير في العراق، الذي بشرت به إدارة بوش إلى مجرد غزو واحتلال قميئين وأطلال مجتمع ودولة يعشش في خرائبها الإرهاب والعنف والفساد وتفوح من زراريبها رائحة الدم وعفن التعصب الطائفي والكراهية. النقطة الجوهرية التي يحاول الكتاب تركيز الأنظار عليها، هي كيف أن العراقيين الذين ظلوا يتشبثون بالأمل للخلاص من واقعهم المآساوي وقعوا ضحية لعملية خداع كبرى، كانت نتاج مزيج من الحماقة وغطرسة القوة والأحلام الإمبراطورية، والنبوءات الخرافية، إضافة إلى المؤامرات الدنيئة، والصفقات الخسيسة، ورغبات دفينة بالثأر، وطموحات مرضية، رافقها تواطؤ مخزٍ وجبن لا أخلاقي نادر وصمت عاجز، حيث اجتمع كل ذلك ليخلق مأساة أكثر رعبا مما أنتجه القهر الصدامي. ليس للعراقيين، وانا واحد منهم، ان يعتذروا لأنفسهم الآن عن تلك الأحلام البريئة، التي تحولت إلى أوهام، لمجرد أنهم ظنوا في ساعة المحنة تلك أن هناك في هذا العالم بقية من رحمة وتعاطف وضمير وأن هناك من سيساعدهم من أبناء جلدتهم على الخروج من تلك الدائرة الشاذة من تاريخهم الحديث، بل عليهم وهم يمرون بهذه الأيام الحالكة من تاريخهم أن يقفوا ويتمعنوا في درس التجربة ويخلصوا إلى أنهم وحدهم القادرون على الخروج من نفق الأزمة الوطنية المريرة، وانهم محكومون بالعيش معا، وأن الفراق بينهم ليس قدراً محتماً، إذا ما توفرت الفرصة لإعادة اكتشاف ماضيهم المشترك وتصويب أخطاء حاضرهم والانشغال ببناء مستقبلهم.
قد لا يصبح ذلك ممكنا بدون ان تقف الأطراف الأمريكية والعراقية وغيرهم من الذين شاركوا في قتل الحلم وصنع الكارثة العراقية أمام محاكم قانونية، او حتى اعتبارية، لكي ينالوا جزاءهم العادل، مثلما ناله صدام نفسه، عما اقترفت أياديهم وأفكارهم الشريرة بحق الملايين من الأبرياء العراقيين. إن العبر من تجربة صدام لم تتجسد في تلك الزنزانة القميئة التي شهدت نهايته، بل في التراب الذي سيظل التاريخ يهيله على تجربته البشعة، وهي عبر لا يبدو أن الكثيرين، سواء من أعدائه وخصومه الذين ظنوا أنهم ورثته، أو من الآخرين الذين أوغلوا أياديهم، كل لحساباته، في دم العراقيين، وخراب بلدهم، قد تعلموها.