عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف8
                               “ذبابة على الحائط في نيوزيلندا” 
                                     “بقلم ايدي ليونسن”
أحياناً تنتابني الحيرة عما يمكن أن تكون الحياة عليه في نيوزيلندا.السفر عبر جزر المحيط الهادئ، العيش في بلد من الصعوبة أن تجده على الخارطة، أنمو في بيت ذو سقف أحمر، وأسير في ممرات خضراء وسط الريف، أحيا في بيت أشاده الأجداد، أكون حفيداً لجد ما في الشيخوخة، أدرس التاريخ مائتي ساعة في كتاب صغير، بالي،، أترع النبيذ من البراميل التي في السرداب.سرداب لا يستخدم كملجأ.
أن أكون نيوزلندياً وبإمكاني أن اضع خططا لخمس سنوات، أهتم بشؤون فريق كرة القدم المحلي، ربما أطلب وظيفة في الجيش، بإعتبار أن ليس هناك خدمة إجبارية.أكون حراً من الجيش على أمل أن أعيش حياة فيها إثارة، أقرأ جريدة نيوزلندية ولا أهتم بمعرفة مالذي يجري في الأرض المقدسة، لماذا يحارب الناس من أجل كل شبر من الأرض في حين أن العالم مكان كبير وأن الحياة واسعة.الإعتقاد أن كل البشر سواسية.
أن تكون نيوزلندياً وأن تعرف بأن المدافع تطلق فقط في مناسبة عيد ميلاد الملكة، وأن الطلقة هي قطار سريع في اليابان، وأن كيس النوم هو شيء تستخدمه عندما تخيم، وأن الأرملة هي أمرأة كبيرة السن.وحينما يخبرها الجيران بأن أبنها سقط في المعركة فانها ستسأل عما اذا كان قد أذى نفسه.
أنا لا ألومك، يا إلاهي، لأنك اخترت أمتنا من أجل هذا.أنا أقبل بحكمك، بحب وإعتزاز.لايمكنني أن أبدل القدس بويلنغتن، او حياتي هنا بحياة راغدة، في أي مكان آخر في العالم.هذه هي أرضي.
ولكن هل حقاً أن الناس في نيوزيلندا يموتون من الضجر؟
                               ولدت في السويد
ولدت في السويد،
بشعر ذهبي مع أطفال لا يلعبون لعبة الحرب.
أبرياء لا يسألون أن كان الله موجوداً.
لانهم لا يحتاجونه.
أما أنا فهنا،
على أرض لمام،
حولها التاريخ إلى عقد من التوترات،
تعقيدات لا نهاية لها.
فتية في ريعان شبابهم،
هناك أبطال في كل يوم،
هم لا يسألون أيضاً اذا كان الله موجوداً،
لأنهم يخشون الإجابة.
أتت لترانا،
مكان قيل لها أنه الوطن،
التقينا بالعطلات الصيفية،
حلمنا أن كل شيء ممكن.
بعد شهرين، بعد أن شاهدت كل شيء،
بعد أن أحبت،
بعد أن امتلأت ببلادي، عادت إلى هناك،
إلى موطنها الرائع الذي يعيش في سلام.
أحياناً، تخبرني في رسائلها كم تحبني،
وتطلب مني أن أكون معها، إلى الأبد.
لديها بيت بجانب البحر،
هناك في السويد، مثلما في حكايات الأطفال.
شخصياً، أعتقد أنها محقة.
لكن في احدى الليالي الممطرة، بقيت مستيقضاً لساعات،
كتبت لها أني أحبك،
لم يكن بمقدوري أن أشرح لها ولا لنفسي،
إني مدين لشخص ما بثلاث سنوات من عمري،
أو العمر كله.
لا يمكن للمسادا أن تسقط ثانية.
 عندما قرأت “كينيريت” تعويذتها الشهيرة، “لا يمكن للمسادا أن تسقط ثانية” بصوتها الرقيق، غرقنا جميعاً بالدموع، كنا على إستعداد لكي نأخذ السلاح وأن نفنى في ذات اللحظة في حماية وطننا الصغير.الوطن حيث هناك أرامل في الثلاثين، حيث لم تصمت المدافع، وحين يقول جار لجاره أن أبنه سقط، فمعنى ذلك أنه سقط في الحرب.وفي جو الصمت المثير كانت كل واحدة منا تشعر أنها جزء من سلسلة أحداث التاريخ الثقيلة، سلسلة الموت، ولكن أيضاً الأمل.كلنا عدا واحدة، “دانيلا” (من الخيمة الأخرى) قالت من غير أي تردد “إن تلك سخافة مطلقة.أنها دعاية.”
اندهشت “كينيريت” في حين أن الفتيات الآخريات كدن أن يرمين بأنفسهن عليها.”أنت لا تعرفين مالذي تقولينه.إنه بلدنا.تاريخنا.ليس من حقك أن تقولي ذلك.”
ظلت “دانيلا” هادئة، إلا أنها ردت، “أنتن تبتلعن أي شيء يقدم إليكن.يحدثوكن عن هذا البلد المثالي وأنتن تصدقن ذلك بسذاجة.هذه الكلمات المعسولة قد تصلح لكي تقال في فلم على التلفزيون يوم الإستقلال.إنها جيدة لإقناع الحشود بأننا على أجمل ما يكون، اليس كذلك؟ “بلد رحيم، حساس، مسالم، ولذلك، وياللاسف، نحن مجبرون أن ندافع عن أنفسنا.”
“ولكن تلك هي الحقيقة.”تحتج “فيريد”
“أية حقيقة، الحقيقة التي تريدين الإقتناع بها حتى لا تسألي نفسك أي سؤال بشأن البزة التي نرتديها، مالذي تعنيه للفلسطينيين، مثلاً.”
مرت لحظات من الصمت.لا أظن أن أحداً قد توقع مثل ذلك.كانت “كينيريت” تستمع  إلى النقاش ولكنها لم تتدخل.العواطف سادت ثانية.
“هذا ليس صحيحاً، لا علاقة لذلك بتاتاً.نحن لدينا تاريخ مميز جداً.لقد أضطهد اليهود في كل زمان ومكان والطلائع الصهيونية ضحت لكي نستطيع أن ننعم نحن هنا بالسلام.”
“لذلك علاقة كبيرة.” تقاطع دانيلا.”طالما أن لدينا تلك الصورة الرومانسية غير القابلة للخطأ عن أنفسنا، سوف نستمر بإضطهاد شعب حتى دون أن ندرك ذلك.”
“لكنهم هم الذين…”
ظل النقاش الفلسطيني متعثراً.حالما انتهوا من مناقشة كل النقاط، تمسكت “دانيلا” بموقفها بينما رمى “المعسكر الوطني” بعض الأشياء في وجهها، موتى الهولكوست، وأولئك الذي سقطوا في حرب الإستقلال، في حرب الأيام الستة، في حرب يوم الغفران، والحرب في لبنان.ومن بين الموتى كان هناك جدة، خال، أب، أخ، ابن عم، صديق…
لم أنبس ببنت شفة.لم يكن لدي قريب احترقت جثته.كما أني لم أكن أظن أن كلام “دانيلا” كله خاطئاً، ولكن من الضروري أن تقولي الأشياء بطريقة أخرى حين تحاولين شرحها دون أن تجرحي أحداً، أو تستفزي تلك الدموع، دون أن تخضعي كل شيء للمساءلة.
أو أن عليك أن تيأسي ثم ترمي بزتك وتهربي من الموقع.
5 أكتوبر، 8:30 مساءاً.
قمنا بركضة الخمسة عشر كيلومتراً اليوم…أنا استطعت أن أركض سبعة كيلومترات منها.إنه ضغط الأيام القليلة الماضية، أن نعيش في هذا الكون فترة طويلة، أن نكون محكومين بالتفكير لمدة نصف ساعة فقط (عندما أكتب).لابد أن يكون الأمر كذلك.أثناء قيامي بالركض، تذرعت بنوع من الحجج من تلك التي نبتدعها في المدرسة الابتدائية عادة، احدى عدسات نظارتي واهية الأحكام.في منتصف الركضة وبشكل غير لافت أخفيتها في جيبي، ناديت على “كينيريت” وأخبرتها بأني لم أعد أري جيداً.لم تحاول أن تخلق أية مشكلة لي، أعطتني ورقة سماح وأمرت سيارة الجيب التي ترافقنا بأن تعيدني إلى القاعدة، حيث بإمكاني بسهولة أن أنتقل إلى الحضيرا.
أربعة ساعات لوحدي، أربعة ساعات من الحرية التامة.لا يمكنني أن أخفي سعادتي.في الحضيرا التي لم يسبق أن زرتها، أعدت العدسة مكانها وجلست على أول مقهى وجدته أمامي.أدير ناظري بدهشة، أناس من مختلف الأعمار، يرتدون ملابس بالأبيض والأسود وكل الألوان الأخرى، أطفال رضع في عرباتهم، أولاد يتراكضون، هؤلاء ظللت أراقبهم بفضول شديد:لم أشاهد أطفالاً منذ زمن طويل.لا نأبى بالأطفال في الشوراع عادة، ولكني أعيش الأن في عالم حيث أرى رجالاً ونساءً بين الثامنة عشر والخمسين، لكن لا أثر للأطفال فيه.أدرك أني أفتقد ذلك، أو بالأحرى أن عدم وجودهم من حولي هو شيء لا يبدو طبيعياً.
أخاطب نفسي، أعيش في عالم محرم على من هو دون الثامنة عشر.
لم أعمل شيئاً طيلة ساعات ثلاث.لم أكتب شيئاً، حتى أني لم أكلم أهلي أو “راحيل” أو “يوليا”.ارتويت من أصوات المدينة، ومن البيوت الصغيرة المتباينة الطراز (ليست جاهزة البناء) ومن الناس.
تنفست من عبق الحرية المسروقة.
6أكتوبر، الساعة 9:20مساءً.
كنا قد خمنا، ولكن الأن تم التأكد من المعلومات من مصدر موثوق، سوف يسمحون لنا بالخروج نهاية هذا الأسبوع.
 ***

                                      عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف7

                                  ممنوع لمن دون الثامنة عشر
25 سبتمبر، الساعة 9:30 مساءاً
عدت إلى القاعدة في وقت متأخر.بررت بأني أعيش في الجنوب وأن على أن أقطع مسافة 200كيلو متراً وأن أغير المحطات عدة مراتكتشفت أن في يوم الأحد يتحول البلد كله إلى معسكر كبير يتسابق فيه الجنود في مختلف الإتجاهات، يتقافزون نحو الحافلات.
أصغت الملازم “أنبار كاتز” لي ثم قالتحسناً، سوف نرى اذا كان هناك أي مبرر للعقوبة.”
الفتيات نظرن إلي بتعاطف واضحبدو عديمة الحيلة.
كنت سعيدة برؤية “إينات” ثانيةخبرتني عن عطلة نهاية الأسبوع الذي قضته هنا.لقد صادقت نصف الذين في القاعدة، لكنها تقول إنني الأفضل؛ إنها رائعة.كما أني عدت (لكن بقليل من الحماسة) إلى صحبة اللحم البقري المشوي مع المعكرونة اللزجة.الدنيا برد وتم منحنا أكياس نوم.
علينا الإستيقاظ الساعة 3:45صباحاً.
أنا سعيدة بالعودة.(مازوكية)
28 سبتمبر، الساعة 9:15 مساءاًً.
علينا التعامل مع ما لايقل عن 236 حالة في اليوم، جميعها وفق جدول متقن، دون وقت لجر الأنفاس.لا يمكنك تصور نفسك شيء آخر سوى أنك جندي.هناك “فاليري” جديدة، لا وقت لديها للتفكير خلال ساعات النهار وبالتأكيد فهي تخلت تماماً عن فكرة أن تقرأ كتاباً خلال الأسابيع الآتيةشعر أني أقوم بإتصال مع “فاليري” الأخرى خلال الليل حين أضع السماعات في أذني وأنام.
لم يعاقبوني بسبب تأخرى عن الوصول، ولا أظن أنهم سيفعلون ذلك.
واجباتي كانت في المطبخ.مثل قزمة بجانب الجبابرة، قدور الطهو التي يبلغ قطرها متر، ملاعق كبيرة.نكسر المئات من البيض حين نصنع الأومليت.لبرهة أشعر وكأني في مطبخ الغول أحاول أن أطهو له وجبة بكل تأني وبخوف وتفاني حتى أتفادي إبتلاعي حية.
كان علي أن أغسل مئات الأطباق.أمي لا يمكن أن تصدق ذلك.(أفعل ما يفعله الآخرونستيقظ في الساعة الثانية لكي اجري إتصالاً تلفونياً بالبيت.هناك فقط خمسة فتيات ينتظرن دورهنمي قالت إنها كانت مستيقظة لأنها كانت تشعر بالعطش، أشعر بالإمتنان للكذبة.)
اليوم وزع أحد الضباط المسؤولين عن الإنتدابات أوراقاً تتضمن قائمة بالخيارات المتوفرة لنا.
لدي الخيار بين:
الإستخبارات
مدربة جنود قتال
ضابط (في أية وحدة، ماذا أفعل، من يدري..)
ميكانيكي دبابات
مدير المصادر البشرية
الخيار الثاني مغري، وكذلك الرابعنهما مثيران لانهما دوران معلومان وواضحان وأنا في ما يبدو أعشق قيادة الجنود.لكن الأقدار تأتي بما تشاء.لقد أديت إختبارات عديدة في مجال الإستخبارات قبل إلتحاقي.لقد خلقوا عندي هذا الإنطباع بأن بإمكاني أن أختار، أنا بإمكاني أن أخلق الإنطباع بأني أصدق ذلك، لأيام قليلة فقط.
تلقينا الدرس الأول في إستخدام السلاح.تعلمنا كيف نفكك ونركب البندقية في خلال ثلاث دقائق فقط.لماذا يجب علينا أن نتعلم كيف نفكك البندقية؟لكي ننظفها في الواقع.ننظفها بهذا السائل الأسود الكثيف الذي يبدو برائحة المطاط وقطعة قماش يطلقون عليه اسماً غريباً، “فلانيلايت”.منظرنا مثير للفخر، ننحني جميعاً تحت الشمس مفككين بنادقنا إلى قطع.
كان لدينا درس التاريخ العسكري كذلك، مع عرض لفلم عاطفي جداً حول حرب الإستقلال.نقيب في الثالثة والعشرين من عمره، كان يقاتل في معركة مذهلة شمال القدس.(لا أدري لماذا قلت مذهلة) ففي الواقع من كان مذهلاً هو النقيب.في نهاية الفلم الوثائقي يشرحون لنا الأهمية الإستراتيجية لما شاهدناه ويخبرونا بأن النقيب يموت ولكن ليس ضمن مشاهد الفلم، نشعر بالحزن بطبيعة الحال.
يطلبون منا التبرع بالدم للجنود الجرحى، ليس الأمر إجباريًا ولكني أتقدم للتبرعنا متأكدة جداً أن ذلك بسبب الفلم.لايريدون مني دماً لان ضغطي منخفض جداً.
غداً سنقوم بالجري مع معداتنا.
29 سبتمبر، الساعة 8 مساءاً.
مرهقة.لكني أكتشف مصادر للمقاومة الجسدية لم أتوقع أبداً أني أمتلكها، كأن هناك احداً يدفعني طيلة الوقت، يأمرني بالوقوف في اللحظة التي أكاد أن أسقط فيها.هذا الصباح، الرياضة أولاً، ثم إستعداد تام لتفتيش كامل.بعبارة أخرى، إن التفتيش سيجري من قبل الملازم “أنبار كاتز” بذاتها وليس من قبل الرقيب “كينيريت”.لماذا هذا التشريف.نحن لانعرف.ربما لملء الجدول الزمني.
كانت محنة نوعاً ما.كان علينا أن نكرر كل ما نقوم به أربع مرات.المرة الأولى لأن ثمة غبار كان لا يزال عالقاً باحدى البطانيات.كان علينا ان ننفض كل البطانيات مرة أخرى.في المرة الثانية بدت من احدى الفتيات والتي ليست من خيمتنا ضحكة، حين كانت لا تزال واقفة بالإنتنباه في الصف.وفي الثالثة نست “فيرد”، البنت التي في خيمتنا فرشاة أسنانها على سريرها.فرشاتها على السرير!نستغرب من هذا الخطأ.نحذرها بأننا سنحلق لها شعرها ان أخطأت ثانية، مما يجعلها تنزوي وتبكي.اما الرابعة، فقد كانت بسبب أن الخيمة لم يتم كنسها بشكل جيد حيث بالإمكان رؤية طبعات الأقدام على الأرضية.
بعد ذلك جاء دور الركض.كل شيء، البدلة المضادة للرصاص، رشاشة عوزي، مشطي عتاد وقنينة ماء كبيرةضافة إلى ثلاثة لترات من صفائح الماء (والتي تزن كلها ثلاثة كيلوغرامات) والتي نحملها بالتناوب.نركض حول حقل للذرة بجوار القاعدة.للدقائق الأولى ظل يراودنا شعور في منتهي الروعة، كأننا فتيات رامبو.بعد ذلك تتحول المجموعة إلى طابور يجري بالوحل.تبدوا الفتيات ذوات الجسم الرياضي في المقدمة في هيئة جيدة ويتميز سيرهن بالخفة رغم المعدات والفتيات المترهلات، الضعيفات، الكسولات اللواتي في المؤخرة.شخصياً كنت في الوسط بينهما.لست خفيفة وبهية، بل يتصبب عرقي وينقطع نفسي اما ملامح وجهي فتبدو ممزقة بين التوتر وبين رغبتي الشديدة الا اكون من بين من سيكن في المؤخرة.
أكثر المراحل صعوبة ليست الحصول على حمام بعد العودة.نحن نستحم في المساء عادة.سيكون من سوء الحظ لو ظهرت روائح نافرة.
عصر اليوم كان لدينا درس في الرماية بوضع الإنبطاح.في كل مرة أحمل سلاحي أشعر وكأني شخصان في الوقت ذاتهنه أمر مزعج.حين أملأ الخزان أقوم بتدفئة الطلقات بيدي.طلقات الـ”عوزي” من عيار 9 مليميتر.الطلقات مدورة من الأعلى وهي قصيرة مقارنة بطلقات ذات عيار 7,7 مليمتير التي تستخدم في رشاشة “ام16التي هي أطول، مدببة ومخيفة.لم أكن أدرك أن للطلقات شخصيات.
شيئ جميل أنهي به مذكرات اليوم.لقد بدأنا نتعلم كيفية السير بتشكيلات طوابير الإستعراض.
والآن مسك الختامشعر بأن هناك قليل مما هو ذي قيمة تبقى في رأسي، حتى أني لم أعد أستطيع التفكير.بدأت أشعر باني أفتقد فرصة أن أختلي بنفسي.
سنبقى داخل القاعدة خلال عطلة نهاية الأسبوع هذهتصلت بأمي التي أخبرتني بأني إجتزت إمتحان البكلوريا بدرجة( أ-).إنها أقل قليلاً من(أ) وذلك بسبب الرياضيات،(أو بالأحرى بسبب “جين ديفيد”).لكن ذلك يبدو من زمن مضى..ماذا تعني البكلوريا في هذا المكان.
اليوم قصير ويوم غد لن يكون هناك الكثير لنعمله سوى عمل المطبخ والحراسة.في الجيش يحترمون يوم الراحة أيضاً.وعلى القول أني يجب أن أحترم ذلك أيضاً، والآننه وقت النوم.
السبت 1أكتوبر، الساعة 4:30بعد الظهر.
اليوم هو يوم غريب.هناك إحساس بأنك جندية ولكن دون أي عمل تؤديه، أنت فقط موجودة في القاعدة، دون متعة، دون إرهاق، دون إحباط حياناً) في الأيام الماضية قدموا لنا طعاماً خاصاً: دجاج بلا عظام، بطاطس مقلية( لكنها، ويجب الإقرار بذلك كانت جيدة جداً) ونبيذ دبس السكر.نستمتع بالوقت ونقوم بالتجوال في القاعدة.
أمشي بإستقامة في طريق من أمام خيمتنا ينتهي إلى غابة صغيرة من أشجار “اليوكالبتوس”. أفكر مع نفسي، “اليوكالبتوس” شجرة فريدة، إنها كبيرة جداً ولكنها غير غشومة، ربما لأنها مرتفعة جداً.كما أن لها أسما جاداً، وليس اسماً شائعاً مثل باقي الأشجار والنباتات.روائحها تذكرني بالبرد في طفولتيمي كانت تضع بضعة قطرات من زيت “اليوكالبتوس” فوق وسادتي لكي يساعدني في التنفس.وأعرف أن الطلائع هم الذين زرعوها هنا بداية القرن العشرين، لكي يجففوا المستنقعات والقضاء على موجات الملاريا.هل تم زرع أشجار “اليوكالبتوس” في معسكرات الجيش الإسرائيلي من أجل خصائصها الإستشفائيةعتقد أن السبب يعود إلى أن طولها الفارع يشكل غطاءً يحجب العيون المتلصلصة عن الأسرار العسكريةنحن مثلاً.
خلف أشجار “اليوكالبتوس” هناك الأسلاك الشائكةدهش قليلاً لرؤيتها، لم أتوقعها، ليس هنا وأنا هائمة وسط الذكريات.بالنسبة لي أن مجرد الكلمتين “أسلاك شائكةتعني إمكانية أن يتمزق جلدكقترب منها بحذر.هناك حقل تم حرثه قريباً، على بعد أقل من نصف متر من السياج.من بعيد هناك طريق لا يمكنني رؤيته بشكل جيد لأن الأرض ليست مستوية.هناك سيارات تسير، أناس يمضون في طريقهم إلى ساحل البحر للنزهة، إنه يوم جميل.بإمكاني أن أتخيلهم، أن أضمهم جميعاً، مثل ذاكرة مثقلة تحاول أن تتذكر شيئاً كان له وجود، ولكنه لم يعد هناك.
عندما عدت إلى الخيمة قالت الفتيات أني أبدو غريبة.لم تكن لدي الرغبة بأن أشرح لهم.لحسن الحظ فان لدى أكثرهن من الطاقة والحيوية مايؤهلن أن يتعاملن مع أي شيء.غنينا، ثم قضينا وقتاً مستمتعات بتأليف الشعارات.فالقاعدة، يمكني القول، مليئة بلوحات الإعلان التي تحمل شعارات مثل:
أيها الجنود قودوا سياراتكم بحذر.من الأفضل أن تأتوا متأخرين خمسة دقائق في هذا العالم من أن تأتوا مبكرين خمسة عقود في العالم الآخر.
أيها الجنود تأكدوا من أن قيافتكم نظيفة دائماً.الجندي الأنيق هو جندي كفؤ في القتال.
أيها الجنود، أدوا التحية لمن هو أعلى منكم رتبةحترام الكبير الخطوة الأولى للنظام.
إنفجروا بالضحك حين قلت أنها مثل الحكم الفلسفية الصينية.”غاليتبدأت بالزعيق:”جنود، جنود، جنود،! أين الجنود؟ليس هناك غير الفتياتين الجنود؟ذلك ما أتيت من أجله.”
وهكذا، إخترعنا الشعار التالي:
أيتها الجنديات، جدن جنود أحلامكن، فالحب سيعطيكن بعض الراحة.
هكذا، السخرية تمنحنا بعض الراحة.
 تأتيكينيريتلتقضي بعض الوقت معنا.حالما نراها نقفز لكي نشكل تشكيلاً رباعياً ونقف بحالة الإنتباه.تبتسم وتقول:”لا أيتها البنات أنه يوم الراحة، جئت لكي أرى كيف تسير الأمور معكن.”
تجلس معنا.”غاليت” و”ريكي” و”سيفان” (الأكثر ثرثرة، أو ربما الأكثر ثقة) يبدأن بسؤالها.
من أين أنت؟
من كيبوتز في الجليل.”
“أي واحد؟
كفار بلوم
“يالك من محظوظة.هل تذهبين للتجذيف؟
لا، ليس كل يوم، ولكن كثيراً.”
هل أنت هنا منذ فترة طويلة؟
كم عمرك؟
أشعر وكأني عدت إلى أيام المدرسة عندما كنا نريد أن نعرف كل شيء عن معلمنا (هل هو متزوج، أعزب؟،هل لديه أطفال؟،هل لديه منزل، أم شقة؟هل لديه كلب؟بيانو؟
لاتدعنا كينيريتنغرقها بالأسئلة.”على مهلكننا جئت هنا لكي أتعرف عليكن.هل لي أن أسئلكن نفس الأسئلة؟
لم نجد الأمر مسلياً أن نتحدث عن أنفسنا فلذلك حاولنا أن نحول الحديث إلى الجيش، إلى ما سوف نقوم به خلال الأسابيع القادمة.
متى سنقوم بالرمي الحقيقي من بنادقنا؟
ماهي أبعد مسافة علينا أن نركضها؟
هل هناك شبان في القاعدة، عدا ذلك الطباخ السمين؟
متى سنعرف أي وحدات سيتم إرسالنا اليها؟
“كنيريت” تجيب عن بعض الأسئلة ولكن ليس كلها.لابأس فنحن كنا نتسامر كأصدقاء يمضون عطلتهم سوية، كما لابأس من أنها لم تكن سوى في التاسعة عشر على أبعد تقدير.(بالإمكان أن تكوني رقيباً في الشهر الرابع من الخدمة العسكرية.وتمضين ثمانية عشر شهراً في تلك الرتبة قبل أن تصبحي عريفاً، الحسبة بسيطة.) هي معلمتنا ولابد أنهم أعطوها أوامر محددة بما يمكن أن نعرفه عنها.
تنهض:”استمتعوا بما تبقى من وقتكم الحر.غداً عودة إلى الروتين.”
 2 أكتوبر، الساعة 9:15 مساءاً.
ركضنا خمسة كيلومترات هذا الصباح.من الواضح أن الركضة الأخيرة ستكون خمسة عشر كيلومتراً.ربما سأكون قد مت قبل ذلك، أو نقلت إلى جهاز إنعاش، أزفر..أزفر..
أيضاً، درس الرماية، عندما ترمين من وضع الإنبطاح تضعين خدك على مقبض البندقية، وتكون الحركة رشيقة جداً.بعد ذلك وضع الرماية الآلية وتكون واقفة والبندقية على فخذك.
لماذا علي أن اخفي الحقيقةنا مأخوذة ببندقتي الرشاشةنها أدات الموت ونحن نرى أنها سهلة الحركة.لانفكر للحظة بأننا سنستخدمها يوماً ما، ولكنها في الوقت ذاته الدليل الأكيد بأننا جنديات حقيقيات، على قدم المساواة مع الشبان.كم أكون فخورة حين أفكر بذلك.
أجري لنا أمتحان لإختبار مقدرتنا في القيادةنه تمرين يقوم به كل واحد منا بأن يشرح ماذ تعني الخدمة العسكرية للسرية، وبعد ذلك عليك التعامل مع اللواتي الذين لا يتقبلن المنطق العسكريعتقد أن أدائي لم يكن سيئاً.
وفي الختام:درس في الإسعافات الأولية مع عرض فلم واقعي عن الجروح التي يمكن أن تتعرض لها من طلقات تقليدية، طلقات متفجرة، قذيفة هاون، حروق مختلفة وأسلحة كيمياوية وبايولوجية.بعد ذلك يشرحون لنا كيفية أخذ الحقن، مضادات العناصر الكيمياوية، عمل الرباطات وتعلم كلمات المواساة التي نستخدمها.يؤكدون لنا أن الجندي الإسرائيلي لا يترك ميتاً أو جريحاً في أرض العدو حتى ولو على حساب حياة الآخرين.
غداً سأكون رئيسة السرية.
 4 أكتوبر، الساعة 9 مساءاً
ليلة أمس وبعد العشاء كان لنا حديث ممتع مع “كينريت”.الموضوع:ماهي الرابطة التي تشدنا إلى إسرائيل، هذا البلد الذي لم يبدأ إلا عام 1948 والمليء باليهود من كل أنحاء العالم.البعض يقول أنها أرض الأجداد، ابراهيم، اسحق، يعقوب وداود.أخرون يشعرون أن الإبادة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية برهنت على أنه كان يجب أن يكون هناك دولة يهودية تكون مأوى لهم اذا ما هددوا ثانية.القليل من الفتيات اللواتي كان لهن رأي معقول إلى حد ما قلن انهن ولدن هنا وأن الإنسان عادة ما يكون ملتصقاً ببلده الأم.بعد ذلك تقرأ “كينيريت” نصين أدونهما هنا.                                   
                                      عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                     صلاح النصراوي
ج1 ف6
                                       إلى الأمام سر
شيء مزعج أن يوقظك شخص ما، لا تكاد تعرفه في منتصف الليل (حتى لو كان الصباح في عرف الجيش يبدأ الساعة الرابعة صباحاً).حالما تخرج من الفراش تحس بالبرد.مع أننا في سبتمبر.لم أشعر قبلاً بالبرد في مثل هذا الوقت في إسرائيل.أرى بعض فتحات التهوية العملاقة والتي تبدو مسؤولة عن تبريد قواعد الجيش، لتعليمنا كيف أن الحياة جدية هنا.
من الواضح أن الجميع أقل ثرثرة من مساء الأمس، نرتدي بزاتنا العسكرية.لو كنت أبدو مثل الآخريات فمن الأفضل أن أبتعد عن المرآة:وجه منتفخ، بشرة شاحبة، عينان متورمتان.
تبدو “سيفان”، التي تشعر أنها قد بدأت بالإضطلاع بدفة القيادة، قلقة بعض الشيء من أن بعض الفتيات يرتدين البلوزات أو الانوراك.
“هل تعتقدن انه مسموح لنا بذلك؟” تسأل بصوت خفيض.
الأشياء المتجمدة من البرد يهززن بأكتافهن.
“علينا الإستيقاظ الساعة الرابعة والنصف، لكن لا احد قال لنا أن علينا أن نتجمد من البرد.اذا تفوهت بأي شيئ فسنخلعها، هذا كل ما في الأمر.”
وهكذا، وضعت البلوزة والانوراك الرجالي ماركة “مشيلن”.أي عارضة أزياء كانت ستبدو كالفيل في تلك الملابس.لكنها لا تؤدي الخدمة العسكرية، وليس بإمكانها أن تشعر بالإحباط الذي يولده البرد حين تكون الملابس سيئة، وحين تكون جندية.
حول المغاسل تتجمع كتلة من لابسات الخاكي.المح رأساً صغيراً أشعثاُ وأضع يداي على عينها.تبصق “إينات” معجون الأسنان من فمها.
“هل نمت جيداً؟”تسألني.
“لا تسأليني أسئلة يمكن أن تزعج أناساً في منتصف الليل.”
“في أي خيمة أنت؟”
“رقم 13، وأنت؟”
“رقم 27.حاولي أن تأتي الليلة قبل أن يطفؤا الأنوار.علي أن أذهب فلم أرتب فراشي بعد.”
وأنا أيضاً.أعود إلى الخيمة مع الفتيات حيث يدور نقاش ساخن.كيف نرتب فراشنا؟البعض يدعي إستناداً إلى مصادر مطلعة (أباء، اخوان، أصدقاء) بأنه يجب طوي الأغطية والبطانيات، آخريات يقلن يجب شد كل شيء بعناية، لكن احدى الفتيات تقترح برومانسية أن نشد الغطاء أسفل السرير مثلما يفعلون في الفنادق.رئيسة المجموعة تفقد صبرها، إنها الرابعة والنصف.
“أياً كان ما سنفعله فلن يكون صحيحاً”، تقول “كينيريت”، “أي شيء محدد.دعونا فقط نتأكد أنها مرتبة.وبسرعة”
في تمام الساعة الرابعة والدقيقة الثامنة والخمسين نكون في حالة التشكيل الرباعي.تقف “سيفان” في الصف الأول، متوترة جداً.تظهر العريف “كينيريت” في تمام الساعة الخامسة وببرود تعطي أوامرها.
“سرية (د)، إنتباه.”
نرفع أذرعتنا اليمين إلى مستوى الجبين.الفتاة التي إلى يساري تطلق صرخة خافتة وتمسح عينيها.الواضح أن الحركة التي قامت بها لم تكن صائبة.أعض على شفتي كي أكبح ضحكة.
“الجندية “سيفان”، قدمي التقرير.”
تتقدم “سيفان” ثلاث خطوات إلى أمام، تؤدي التحية وتقول (بصوت كان من المفترض أن يكون حازماً.”عشرون جندية في السرية، سيدتي.”
“أي سرية؟”
“سرية (د)، سيدتي.”
“عليك أن تقولي ذلك بوضوح.أبقوا في الإنتباه.سأقوم بتفتيش خيامكم.”
تمضي دقيقتان.تعود دون أن تبدي أية ملاحظات.
“سرية (د) نصف إستدارة لليسار.يسار .. يمين، يسار .. يمين… يسار.. يمين.”
نصل إلى الميدان الذي كنا قد تجمعنا فيه ليلة البارحة.كل الكتيبة متجمعة هناك، لكن الملازم “أنبار كاتز” ليست هناك.”
احدى العريفات تبدأ بالكلام.
“سنبدأ يومنا ببعض تمارين الإحماء.الفطور عند الساعة السادسة.الرجاء نزع الأنوراك والتجمع في صف واحد.
نخلع الأنوراك ونرتجف.ومن ثم بأوامر من العريف نبدأ الجري.
20سبتمبر، الساعة التاسعة والنصف مساءً.
لم يعد هناك وقت للتفكير.كل دقيقة هي موضع حساب، كل ما نقوم به هو بموجب أوامر، لم ننعم بدقيقة من الراحة منذ الصباح.من غير المتصور القيام بمبادرة من أي نوع.تعلمنا كيف نطوي أغطية الأسرة والبطانيات بشكل صحيح (60سم×40سم).قبل أي شيء لا بد من نفض البطانيات بقوة بحيث تنطلق غيمة من الغبار.أعتقد أنهم ينقعونها في حمام من الغبار قبل كل موسم.محظوظات أولئك اللواتي لديهن ربو، إذ أنهن معفيات من ذلك.إبتداء من الغد سيكون هناك تفتيش، مرة واحدة على الأقل يومياً.هناك قائمة الواجبات التي علينا إنجازها، المطبخ، الحمامات، واجبات الحراسة الليلية.لأننا لم نتعلم الرماية بعد وليس لدينا أسلحة فستكون الحراسة خارج خيمتنا فقط.ليس هناك من جدوى لهذه لأن هناك من يؤمن حراسة القاعدة.ولكن يبدو لي أن كلمتي “مفيدة” و”منطقية” لا معنى لهما هنا.نحن نتبع الدروس ونواجه حياة صعبة، لا غير.
ومع ذلك فأنا أشعر أني بوضع جيد.الفتيات مرحات، نضحك حالما نختلي بأنفسنا (وهي مرات نادرة).لا واحدة منا تعرف الأخرى من قبل.إنها أرض بكر.نمر بأول تجربة كبنات ناضجات (على ما يبدو).ذلك ما يساعد على سرعة الألفة.
 21 سبتمبر، منتصف الليل
من المفترض أن أكون نائمة.ولكني أنهيت لتوي واجب الحراسة.إنه أمر مضحك.علينا أن نسأل كلمة السر-اليوم كانت الكلمة “قهوة من غير سكر”- من كل من يأتي إلى الخيمة.أنا جندية الكتيبة.لو كان لدي شراب سحري لسقيته للطباخين.صدقاً، وجبات الطعام مقززة.انضممت إلى نادي آكلات اللبن الزبادي.إنه مفيد للرشاقة، لكن قلة النوم وعدم الراحة يجعلك تشعرين بالجوع.من حسن الحظ أن لدى كل منا كميات من البسكويت، جمعناها سوية.
22سبتمبر، الساعة الحادية عشر والربع مساءاً.
أكتب على ضوء النور الذي يشع من ساعتي.بعض الفتيات يشخرن.و”كارين” تمصمص إبهامها.
اليوم إستلمنا بندقية.إنه شيء مرعب.سنمضي سبع سنين في السجن لو فقدناها، أو لو سرقت منا.لابد من أن نبقيها معنا طوال الوقت، أو نقفلها بالسرير.(ماذا اذا سرق أحدهم السرير.)حتى الآن تعلمنا التحذيرات المعروفة.اذا ما اقترب أحد منا ونحن في نوبة الحراسة علينا أن نسأله عن كلمة السر.إن لم يجب علينا أن نقول “قف” بصوت واضح ومرتفع، وبعد ذلك نقول “قف والا سأطلق النار.قف والا سأطلق النار.” مرتين.اذا إستمر بالتقدم:أطلق لتقتل.
أطلق لتقتل.
إنهما مجرد كلمتان، ولكن حين ترتبطان سوية فأنهما تبدوان مثل إنفجار.لامفر من ذلك.
كفاية.الآن أستطيع النوم.
سبتمبر 23.الساعة التاسعة مساء.
سوف نخرج.هابيتا! هابيتا! تلك الكلمة الرائعة التي تعني الذهاب إلى البيت.ننتظر الحافلة التي ستأخذنا إلى محطة الحافلات الرئيسية في الخضيرا.من هناك سنكون أحراراً في الذهاب إلى البيت.أحراراً بكل معنى الكلمة حتى منتصف نهار الأحد.
إنتظرنا ساعتين لحين وصول الحافلة.سلمونا ورقة الإجازة للسماح بمغادرة القاعدة.(ليس بإمكاني الإنتظار أكثر لأستلم ورقتي ومن ثم أقوم بالإتصالات الهاتفية، لكي أغازل، أبكي، أرى أصدقائي، أرتب شعري، أقرأ، أكتب، أضع مساحيق التجميل، أتزوج، ولا أعرف ربما أشياء أخرى.)
محاولة الحصول على توصيلة مجانية على الطريق غير مسموح بها.الطرق عبر البلاد مليئة بالجنود يحملون أسلحتهم، رافعين إبهامهم إلى أعلى.مالذي يفعلونه؟هل هي تمارين الجمناستيك، يتنفسون الدخان الخارج من عوادم السيارات؟
“هذا كل ما في الأمر.تمنع التوصيلات المجانية.
من الضروري كذلك عدم الثرثرة بأسم قاعدتنا، أسماء الضباط، والضباط الصف، زملائنا الجنود، كم عددنا وماهو الرقم العسكري لكل منا.
“لكن جميع من في البلد يعرف بأمر هذه القاعدة”، تجرأت احدى الفتيات على القول “نصف السكان مروا من هنا.”
“ومع ذلك ففي الجيش يجب أن تمتنعن عن الكلام.في الجيش كل شيء مصنف بأنه مخصوص، وأي شيء ليس مخصوصاً فهو سري.”
“وما الذي هو غير سري؟”
“سري للغاية.”
لدى العرفاء أجوبة عن كل شيء، جاهزة دائماً.هم سادة قواعد اللعبة والتي تتطلب منا وقتاً طويلاً لإدراكها.
سنتان؟
“على الجميع أن يعود للقاعدة يوم الأحد.ستكون حافلة بإنتظاركن في محطة الحافلات في الخضيرا في تمام الساعة الحادية عشرة لنقلكن.في منتصف النهار ستكونن أمام الخيمة.عطلة سعيدة.”
بعض الفتيات سيكونن معي في الحافلة لبعض الوقت حتى تل أبيب.نرفع بفخر هوياتنا الجديدة (مسموح للجنود ركوب حافلات النقل العام مجاناً).ننتظر رد فعل ما من السائق، إبتسامة، تحية.لكنه يبدو مبتئساً ولا أبالياً لمجموعتا الخاكية الصغيرة.لكن على الجانب الآخر، ترتسم على وجوه الركاب تعبيرات محببة…منبعها نظراتهم إلينا.الناس في الشارع يقدسوننا.
في الحافلة التي تقطع النقب إلى بئر سبع:أضع السماعات في أذني.وحدي وحرة.خلال ساعة سأعود إلى عائلتي.لحد الآن لدي شعور بالحرية اللامحدودة.ربما يعود ذلك للموسيقى ولمنظر الريف الذي تخلفه الحافلة المنطلقة إلى أمام.أعتقد أني بدأت إكتشاف أن الحرية هي الحركة.وأخذ نفساً عميقاً.
بحدود الساعة الرابعة عصراً أصل إلى مدينتي، التي يخيم عليها السكون.تتهيأ للسابات.أنه مساء الجمعة ويوم الراحة على وشك أن يبدأ.ينتابني شيء من الشعور بالغرابة وأنا أسير هنا بالبزة العسكرية.أشعر كأني في حفلة تنكرية.كل واحد سينظر إلي ويبتسم، أو يضحك.إنهم يعرفون “فاليري”، وليس الجندي المكلف رقم 3810159.
لكن ليس هناك أحد.حين أقرع الباب تتلقاني صيحات الفرح.لم يكن لدي وقت لأخبر والدي بقدومي.أمي تحتظني، وأبي يحاول أن يأخذ نصيبه مني.
“كنت متأكدة من مجيئك هذا الأسبوع.قلت ذلك لأبيك.عملت لك كل الأشياء التي تحبينها.”
   “دعينا نلقي نظرة عليك، تبدين جميلة، البزة تليق بك.”
“ضعي القبعة على رأسك.ياللروعة، أنت جندية حقاً.”
أضع قبعتي.وأيضاً اؤدي التحية.”تمام.أنا جندية، ذلك مذهل.”والآن بما أني في المنزل، مع والدي،لا يبدو بإمكاني أن أحزر مالذي يعنيه هذا بعد الآن.ليس هناك الكثير الذي تغير، فانا في أجواء مألوفة، كل ما هنالك أني ابتعدت لأربعة أيام.أشعر ببعض عدم الإرتياح، وليس بإمكاني أدراك السبب، ولكني أخفي ذلك عنهم.
أنا الآن رحالة عادت لتوها من أرض لم يسعها إكتشفاها.هم يمطروني بأسئلتهم.
“أين نمت؟” تسألني أمي بقلق.
“في خيمة.”
“يالله، هل لديك ما يكفي من البطانيات؟”
“طبعاً لدينا، وعلى أي حال، أنت تعرفين، حين تكونين مرهقة فأنك لا تشعرين بالبرد.”
“ماذا عن الأكل؟” يسألني أبي.
“مقزز.”
ينزعج.ربما من جوابي الصريح أو من الواقع ذاته.أستغل الوقفة لوهلة لكي أسألهم عن شقيقتي.يتأسفون أنها لم تستطيع الحصول على إجازة هذا الأسبوع.بالتأكيد سوف تكون هنا في عطلة نهاية الأسبوع القادم.أقول بيني وبين نفسي، على هذا المنوال فلن أراها لعام كامل.أحاول أن أخبرهم عن كل شيء بالتفصيل، لكني أنسى بعض الأشياء، فأعود ثانية ألى اليوم الأول.إلى اللحظة التي تركتهم فيها.
لايبدو الأمر يسيراً، فأنا أتحدث عن عالم غريب.يحاول والدي أن يجد شبهاً مع أيام خدمته العسكرية خلال حرب الإستقلال الجزائرية.أمي تحاول أن تنهره.
 “لقد حكيت لنا تلك الحكايات مئات المرات، تلك أخبار قديمة.وعلى أي حال، ليس الأمر كذلك  معها، فهي جندية فتاة.”
أصغي إلى الإعتزاز الذي في صوتها، في حقيقة كوني فتاة وجندية.شيء مريح.
بعد أن بقيت هناك لوقت معقول، أتسلل إلى الخارج وأعدهم بأني سأكون معهم على العشاء.الإتجاه إلى “راحيل” و”يوليا”.
من نافل القول أنني لم أخلع بزتي.
تتلقياني بإندهاش يثير في البهجة.
“أنظروا إلى تلك الجندية الجميلة.”
“البزة تليق بك حقاً، حقاً.”تقول “يوليا”.”دائماً ما أقول أن الخاكي يليق بالسمراوات.”
“إنه يناسب الشعر المحمر أيضاً”، أرد بلهجة (تصالحية مماثلة)، أو هكذا أظن.
“ضعي القبعة، هيا نأخذ صورة.”
تأتي “راحيل” بكاميرتها.كليك.ثم تجرب “يوليا” إرتداء القبعة، وتلجأ إلى تلك الطلة الجامدة، كأنها تنحدر من سلالة “مارلين مونرو”.عجزت دائماً عن أن أعرف كيف بإمكنها أن تتخذ تلك الوقفة.المرة الأولى التي حاولت أن أقلدها أمام المرآة بدوت متصلبة القامة تماماً مثل كلب “دوبرمان” لم ينم منذ عشرة أيام.
وتحت الحاح أسئلتهم بدأت أخبرهم بكل شيء.وصفت اليوم الأول بالتفصيل.حدثتهم عن “إينات”.(التي لم يبدين أي إهتمام بها) وعن الملازم “أنبار كاتز” تلك التي من فرط جمالها فأننا نطيع أوامرها بشكل أعمى.(“ذلك سخف”، تقول “يوليا”.”أنتن تطيعونها لأنها ملازمة.”) أخبرهن عن الخيمة، عن البطانيات اللواتي غطسن في التراب، الشعور وكأننا في مخيم العطلة حين نحصل على بضع دقائق من الحرية، عن الروتين اليومي، وعن كل الأشياء في الأوقات الباقية.المسير في الوقت المحدد، الركض، ترتيب الأسرة، تعلم المبادئ الأولية، والتي سرعان ما يأتي غيرها…
أرى أن إهتمامهما يفتر.لذلك اسألهما، وماذا فعلتما أنتن خلال الأيام الأربعة التي مرت؟”
ذهبنا إلى السينما كما ذهبنا إلى البحر يوماً.تسوقتا في تل أبيب.في احدى الليالي ذهبنا مع المجموعة إلى بار جديد في المدينة يدعى “اورغازما”.(منذ مدة واصحاب البارات بدؤا يتنافسون بإطلاق أسماء مثيرة، قبل فترة رأينا “القيامة الآن”، “المطر القرمزي”، “الحطام”، “الملعون”، “دراكيولا”…)
لم يفعلوا الشيء الكثير، تسكعوا سوية.
يمضي كل منا في طريق على أن نلتقي مساءً مثل كل مساء جمعة.”
عدت سريعاً إلى البيت.إستغربت أمي من عودتي المبكرة، لكنها لم تنبس ببنت شفة.بينما كنت أنتظر العشاء سجلت بعض الملاحظات في مذكراتي، لكن ما كان بوسعي أن أقرر في ما اذا كان هناك “معسكر” للمذنبين، “يوليا”؟ “راحيل” ؟أنا؟ من منا لم يعد يفهم الآخر؟من منا لا يشعر أنه بحاجة إلى أن يستمع للتفاصيل الصغيرة التي لاتعنيه؟مالذي حدث في أربعة أيام، بحيث ذابت تدريجياً تلك اللهفة لرؤية احدانا الأخرى حين إلتقينا ثانية.
لم يكن بوسعي فهم تلك الحالة الغريبة.كنت حزينة ولكن ليس إلى الدرجة التي أبكي بها.أو حتى أن أتحدث عنها لأي أحد.
صحيفة نهاية الأسبوع، مع كل ملاحقها كانت فوق الطاولة.قرأت عمود “يوناتان جيفين”، لا يسعنى أن تفوتني مهما كان الأمر.هو يساري لايحيد مثلما هو مدمر لا يفتر.ينتقد الحكومة وإحتلال الأراضي الفلسطينية وللقدرة الإسرائيلية الأسطورية على الجدل دون سماع ولو كلمة واحدة مما يقوله الآخرون.هو في لندن ويكتب عن الصورة التي عليها إسرائيل من هناك.دولة صغيرة لا يتوقف الآخرون عن الكلام حولها.منحتني مقالته الفرصة لكي أتنفس قليلاً بحرية.تصفحت الجريدة أبحث عن شيء آخر.لكني لم أكن مهتمة بأي شيء مما يدور في العالم.
شغلت التلفزيون.كانت الأخبار قد بدأت لتوها.إضطرابات في الأراضي، في جنين.أعمال عنف، إطارات سيارات تحترق، منجامات وحجارة، وأعمال عنف مضادة من جانب قواتنا، إطلاق رصاص مطاطي.جرح خمس عشرة فلسطينياً.ثلاثة جرحى إسرائيليين.لا موتى اليوم كي نحصي ونقارن بين الطرفين، كي نعزز الكراهية، أو السجال ضد الطرف الآخر.
الحافلة التي استقليتها من الحضيرا لكي أصل الى تل أبيب تمر على بعد كيلومترات من جنين.ربما في تلك النقطة كنت أنا و”تامار”، و”شلوميت” و”غاليت” نغني.ربما كانت أغنية “شلومو أرتزي” ،” أرض جديدة.”
   ذهبنا الليلة إلى البار وكنت سعيدة أن التقي بالاولاد، وخاصة “فريدي”؟كلمني عن القاعدة وكأنه كان هناك بيننا.جعلني ذلك اشعر بالانتماء ثانية.وانا بملابسي المدنية شعرت وكأن شيئاً لم يتغير، وكأنه مساء جمعة آخر وليس مجرد 42 ساعة منحت لجندية في السرية (د) في الكتيبة 3.
كنت متعبة وكان لايزال أمامي الكثير من الشراب علي أن أعبه، الا أنني تركته وذهبت مباشرة إلى الفراش ونمت طويلاً.استيقظت، شنيت غارة على الثلاجة:شيء من الدجاج، كرات اللحم التي تصلبت بسبب البرد، قليل من الكيك المحلى بالعسل والذي تصنعه أمي أفضل من أي أحد آخر.
تلك هي المرة الأولى التي أهجم فيها بتلك الطريقة، تاركة باب الثلاجة موارباً وضؤها متقداً، مثل حرامي.
قضيت السبت بين لعب التنس مع أمي ونقاشات فارغة أخرى مع “راحيل” و”يوليا”، وفلم رائع على التلفزيون.
بقيت أقول لنفسي ينبغي أن أستغل كل وقت الإجازة، اذ لا أدري متى سأكون هنا ثانية.لكني لا أعرف مالذي يمكن أن أفعله.ماذا هناك غير ما هو معتاد في السبت (عطلة عامة) في بئر سبع، مدينة هادئة (هادئة جداً) في عمق الصحراء.
فجأة أحس بأني أفتقد “جين-ديفيد” تماماً مثل اليوم الأول بعد مغادرته.أضرب رقمه في تل أبيب.بعد عشر رنات يرفع التلفون، ويرد بصوت ناعس، هالو.
أقفل السماعة.
لا يسعني الإنتظار كثيراً للعودة إلى القاعدة، إلى زميلاتي الجنديات الضاحكات اللواتي لا يعرفن مشكلاتي.لا أطيق الإنتظار، أن أكون الأولى في التدريب الذي وعدونا به.
أردت أن أعرف مالذي سيأتي لاحقاً.لأن تلك هي التي ستكون عليها حياتي منذ الآن.اما بئر سبع، بيتي، صديقاتي، قلبي المحطم، الذي أجره ورائي مثل بطانية الصغار، فسأركن كل ذلك لبعض الوقت.
***
                                     
                                     عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                     صلاح النصراوي
ج1 ف5

                         الرقم 3810159، الكتيبة 3، سرية (د)

أخرجت دفتر الملاحظات من حقيبتي.على الغلاف كتبت ببساطة:جندية 19 سبتمبر–؟ وضعت علامة الإستفهام، اما لكي تزيدني ثقة، أو لترعبني.حقيقة لا أعرف.مهما يكن،لا شيئ مؤكد بشأن المستقبل.
أريد أن أدون ملاحظات وافية عن أحداث اليوم، وخاصة تلك المتعلقة بمشاعري.أشعر أني اذا لم أكتب ما أقوم به بشكل يومي فكأنما لا شيء يحدث.أشعر بذلك منذ كنت في الثانية عشر.السنة الوحيدة التي لم أدون فيها شيئاً كانت سنة قدومي الى إسرائيل:كان هناك الكثير من الإكتشافات والإنفعالات والناس الجدد، كل دقيقة فيها كانت مفعمة.واللغة، العبرية، التي تجعل كل العالم من حولك عديم الفهم، كانت غامضة.لا أتذكر أي شيء من تلك السنة، كأنها فجوة واسعة في ذاكرتي.وحتى اذا ما حاولت فلا شيء غير الظلام التام.
اليوم كان هناك شيء من هذا القبيل، استغرق الأمر بضع ساعات لكي أنطلق نحو عالم غريب.وهكذا فبالرغم من، أو بسبب، تلك المنعرجات، فأني أكتب جملا ً دون فاعل أو دون فعل، مجرد صفات متفرقة.
الجنود المشرفون، مثيرون للسأم.الطعام، صعب المذاق.العالم كله رمادي وخاكي.حتى أشجار اليوكالبتوس تبدوا وكأنها زرعت لكي تستكمل النظام اللوني الرمادي-الأخضر.مبكرة نوعًا ما، بزة الجندية.إثارة.إنه لمن الغباء، ولكني أشعر بأني مختلفة.لست وحدي.جميعنا نتكلم بلغات مختلفة.حين إرتدينا البزة.لا أطيق الإنتظار لكي أرى نفسي بمرآة كبيرة، من رأسي حتى أخمس قدمي.إينات.صديقة.بنت لطيفة، على أي حال.كل شيء يمضي بسرعة، بسرعة كبيرة.
حل الظلام و”إينات” غطت في النوم.نمضي بإتجاه الحضيرا، شمال تل أبيب.نظرة سريعة إلى القمر، مدور ومضيئ، وأغط أنا في النوم.
تهتز الحافلة، تندفع، تختض.نترك الطريق السريع وندخل إلى طريق جانبي ضيق.سلسلة من المطبات والأخاديد.من الواضح أنهم يريدونا أن ندرك أننا لسنا هنا من أجل المتعة.أستطيع أن أرى الأسلاك الشائكة التي تحيط بالقاعدة على ضوء القمر، نقطة التفتيش التي يحرسها جنديان، ضلال أشجار اليوكالبتوس الهائلة التي تبدو أشد سواداً من الليل.صورة مكررة لما رأيته هذا الصباح، بنسخة ليلية.
يطلب منا النزول من الحافلة مع متعلقاتنا وبضمن ذلك كيس العدة الكبير الذي يصل طوله نحو 120 سنتيمتراً.البنت القصيرة التي إرتعبت من التلقيح لا يمكن أن يكون طولها أكثر من 150 سنتمتراً، وبالكاد يمكن رؤيتها من وراء كيسها.أبتسم.
“لماذا تبتسمين”، تسألني “إينات” مندهشة.
أميل بحنكي نحو “تالي”، اذا كنت الفظ أسمها بشكل صحيح.
“إسمعي.أنا أشعر بالأسف نحوها.فهي تبدو مثل كيس له قدمين مع بعض الشعيرات من فوق.تذكرني بأفلام “لوريل وهاردي” أو “شارلي شابلن”.لعلك تعرفين ما أقصد؟”
“ليس تماماً.لابد وأني شاهدت بعضها حين كنت طفلة، ولكن الجميع كان يعتقد أن الدهر أكل عليها وشرب، من زمن ما قبل الحرب ….”
“ليست مما أكل عليها الدهر وشرب.”قلت محتجة.”إنها تدور حول رجال قصار، سمان، سذج، متثاقلون، فاشلون، أناس يختفون وراء أكياس كبيرة.”
“أنت تحبين الفاشلين، إذن، أليس كذلك؟”
أصابني السؤال بالصمم.أنا كنت الأولى في كل شيء، خلال كل سنوات الدراسة، في الموسيقى، في التنس، (وفي الحقيقة ليس في الرياضة أو في السباحة) مما يعني أني لست بفاشلة.ولكني أرى في الفاشلين ما هو مثير.
ليس لدي الوقت لكي أشرح كل ذلك لـ”إينات”، أو حتى لنفسي.تمر إلى جانبنا فتاة في منتهى الجمال.شعر بني قصير، بشرة زيتونية، وجه مستدير تماماً، ترتدي بزة حربية تبدو وكأنها صممت من قبل “إيف سان لورين”، وتعلو رأسها قبعة ذات حافة عريضة.تربط رشاشة “أم-16” حول جسمها، إنه السلاح الأكثر أناقة، والذي يحمله الضباط فقط.ويدل الشريطين اللذان على كتيفيها بأنها ملازم.
“الملازم “أنبار كاتز”، تقدم نفسها.”أنا قائد كتيبتكم.ضعوا الأكياس على الحائط وأصطفوا في صفوف من خمسة أفراد، رجاءً.”
صوتها لايرتفع، ليس هناك في نبرة كلامها ما هو مزعج أو حتى فاتر.إنه محايد، مع شيء من التعاطف.من الواضح أنها تدرك أن كل ما عليها هو أن تكون هنا، وأن تفتح فمها فقط حتى تدين لها المئات من البنات أو أكثر بالطاعة.فجأة أشعر بقرف شديد، أميل نحو “إينات”.
“هل تعتقدين أنها عميلة مأجورة من قبل سوريا لكي تضعضع معنويات الجنود الإسرائيليين؟”
“ربما، إنها خارقة، الجميع يطيعونها فوراً.لديها قوة شخصية فائقة.”
“ونحن نبدوا حمقاوات ببزاتنا الجديدة المتصلبة التي تفوح برائحة النشا من على بعد 200 خطوة.”
تقف “أنبار كاتز” بقامتها المستقيمة أمامنا، أربع بنات أصغر منها سناً بقليل، بمعنى آخر انها ليست أكبر منا، يرتديين قبعات عريضة الحافة أيضاً.
“مرحبا بكم في القاعدة 80.خلال الأسابيع الأربعة القادمة ستتلقون الدروس هنا، في الكتيبة-3.هذه الكتيبة مكنونة من أربع سرايا، كل منها تحت قيادة واحدة من العرفاء الأربعة الذين هنا.سيتلون أسمائكن ويصطحبنكن إلى خيامكن.”
فجأة تتغير نبرة صوتها، “العريف تامار!”
أطول البنات تتقدم أربع خطوات إلى أمام، تستدير ربع إستدارة، ثلاثة خطوات إلى اليسار، ثم ربع إستدارة، خطوة للأمام، ثم ترفع يدها بسرعة خاطفة نحو صدغها.إنها المرة الأولى التي أرى فيها تحية عسكرية حقيقية، أمر مثير للإعجاب.
“نادي على أسماء جنديات السرية (أ).
“نعم سيدتي.”
التحية العسكرية ثانية.تستدير العريف بإتجاهنا وتقرأ قائمة الأسماء، وأنا أبدأ بالتعرف على الأرقام.أرفع قامتي قليلاً حين أسمع رقم “إينات” بينما تغمز لي وهي تسير لتلتقط أشياءها.تضع العريف “تامار” القائمة في جيبها ثم تستدير نحو الضابط وتؤدي التحية، وتقول:
“عشرون جندية في السرية، سيدتي.”
“حسناً، إنصراف.”
تنصرف السرية.أنفصل عن “إينات” ولكني لا أشعر بأي إنزعاج.هناك الكثير من الإثارة.خلال دقائق سأكون قد قد إنغمست في هذا العالم الذي تطغي عليه الجدية والرموز والتنظيم.نسيت كل مخاوفي، وخفقان قلبي، أشعر بفرح غامر، وكأني أخبرت لتوي بأني سأقوم بدور البطولة في إنتاج ضخم يدعى “جندية” أو “بندقية في يدي”.
تبدأ عريف أخر بنفس الإجراءات التي قامت بها الأولى، لكنها أيضاً لا تنادي على رقمي، إنها العريف “كنيريت” ذات الشعر الأشقر المموج والعينان الزرقاوان الهادئتان.لم يبقى الا عشرون منا ولكنها مستمرة في النداء على الأرقام، وبعد ذلك تبلغ الضابط بالتقرير.نتبعها خطواتها إلى حيث يطبق الظلام.
تأخذنا إلى الخيام، وتؤشر إلى الخيمتين المخصصتين لنا ثم تبدأ بتقسيمنا.
داخل الخيمة هناك هناك عشرة أسرة بفراش يبلغ سمكه حوالي سنتيمترين، وربما كنت كريمة في تخميني هذا.
“ضعن حاجياتكن بجانب الأسرة، لديكن دقيقتان لكي ترتبوا كل شيئ.”وبعد ذلك عليكن بالإصطفاف خمسة، خمسة خارج الخيمة مع باقي أفراد السرية.”
تغادر.
الخيمة يسودها جو من الإثارة.بعض البنات اللواتي يعرفن بعضهن يبدأن سجالاً حول أي سرير سيخترن.
أسأل بهدوء.”هل لدى إحداكن ساعة يد؟
كل الأنظار تتجه نحوي بدهشة.
“لقد قالت دقيقتان.في الجيش ذلك يعني 120 ثانية وليس أكثر من ذلك.إعطوني ساعة يد وقرروا أي سرير ستأخذه كل واحدة من كن وأنا سأخذ المتبقي.”
في الثانية 118 كنا جميعاً خارج الخيمة.العريف تنظر إلى ساعة رياضية كبيرة بيدها.تخطو بإتجاهنا لتقف في الأمام.
“أيتها الجنديات.من الأن فصاعداً سوف تسرن صفوفاً حين تكن تحت قيادتي.المسير يبدأ عادة بالقدم اليسرى.عليكن السير بخطوات وبإنتظام في خط واحد، والإصغاء الجيد لأوامري..”نصف إستدارة لليمين.نصف إستدارة لليسار.عندما تكن في تشكيل رباعي كما أنتن الآن، عليكن البقاء في وضع الإستعداد حتى تسمعن الأمر، إسترح.ليكن كعبا الرجلين متلاصقين، وقفن بإستقامة مهما طال وقوف التشكيل.كل يوم سأسمي إحداكن رئيسة السرية.عليها أن تعطي تقريراً بالأرقام في كل مرة يتم المناداة.سأعطيها قائمة بالمهمات التي ستقوم بها السرية وعليها التأكد من متابعة التنفيذ وإحترام التوقيتات.ستتحمل مسؤولية أي تأخير.هناك شيء أخر، عندما تكن في القاعدة فالواجب أن تؤدين التحية لكل من هو أعلى رتبة، بهذه الطريقة.تميل ذراعها بدرجة 45 وترتفع إلى مستوى حاجبها الأيمن.ستستلمون الأغطية والبطانيات وبزة الميدان.سرية (د)، إنتباه.
نقف بحالة الإنتباه.
“نصف إستدارة لليسار”
نستدير كأننا أمرأة واحدة.
“يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين…”
تنطلق المجموعة الصغيرة.البعض تواجه مشكلة في الخطوات فيترك بعضها لكي يظل في الصف مع الآخرين.
“سرية (د)، قف.”
الجميع يتسمر كالموتى.بعض البنات لاتزال واحدة من أرجلهن معلقة في الهواء.تبدو وكأنها لعبة أطفال ولكن من غير غابة مثيرة للمرح أو سناجب تتقافز.
نحن أمام بناية من تلك الأنواع الجاهزة البناء.مثل بناية الإستقبال في القاعدة، أو أي مكان آخر، واذا ما سألتني فأن لا أحد إعتنى بطرازها المعماري.
“سرية (د) إلى البناية في طابور واحد.”
نأخذ بطانيتان لا لون لهما وخشنة مثل بلوز الصوف.بعد ذلك نعطي مقاسات ملابسنا وأحذيتنا.يعطون كل واحدة منا طاقمين من البزة العسكرية مع قبعة صغيرة كتب عليها كلمة “تسحال”* باللون الأصفر، مع زوج من الأحذية ذات القياطين والتي تبدوا أكثر أناقة من أحذية “غولدا”.
“سرية (د) إنتباه.”
“يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين..”
نعود إلى الخيمة حيث أمامنا خمسة دقائق فقط لتغير ملابسنا ووضع حاجياتنا.
مرة ثانية في تشكيل رباعي أمام الخيمة.إنتباه.إسترح.يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين.”
الإتجاه، مركز القاعدة.نتقابل مع سرايا أخرى تسير كما نحن.نتبادل النظرات محاولين التعرف على الوجوه، لكن يبدو الأمر صعباً، فالجميع يرتدون قبعات.
“سرية (د) قف.”
نقف أمام ما يمكن أن يكون مطعماً، يبدو ذلك من خلال الروائح المنبعثة.هناك خمس سرايا تنتظر دورها.الحذاء بدأ يحك قدمي، القبعة الضيقة بدأت تسبب لي صداعاً.ثم أني أشعر بالجوع.
بعد حوالي ربع ساعة من الوقوف الثابت دون أن ننطق بكلمة واحدة، تدعى سرية (د) إلى داخل المطعم.منذ تلك اللحظة لدينا فقط عشرون دقيقة، تلك هي تعليمات الإدارة وعلى الجميع الإلتزام بها.عشرون دقيقة للطعام وست ساعات للنوم يومياً، تلك هي حقوق الجندي الأساسية، الحقوق الوحيدة على ما أراها.
في لوحة الطعام هناك سلطة الطماطة، اللحمة المشوية بالذرة وجزر مسلوق.كل تلك المواد موضوعة في صينية ننظر اليها جميعاً بشيء من القرف.ثم يتم ارشادنا إلى طاولة كبيرة مشغولة نسبياً، الا أن أحد الجنود المناوبين يقول لنا أن نجلس في الأماكن الشاغرة بشكل منتظم.
معظم البنات لا يمددن آياديهن إلى ما هو موجود في الصينية ويتناولن علبة اللبن الرائب الموجودة أمامهن.أسحب صينيتي أمامي بشيء من الحماس وسط نظراتهن المؤنبة.أسألهن إن كن سيمضين الأسابيع الثلاثة القادمة مضربات عن الطعام.ينظرن إلي نظرات ودودة.
“بالمناسبة، هل أنت فرنسية؟”
“نعم.”
“ها.يا لك من محظوظة.”
“إخبرينا عن باريس.”
“قولي شيئاً بالفرنسية.”
“غني لنا في ليلة القمر.
ها نحن نعود إلى ذلك ثانية.لكنهن بدون سعيدات جداً وأنا استجيب لطلباتهن بكل سرور.أقول بالفرنسية شيئاً مثل إننا سنقضي وقتاً رائعاً بالبزة العسكرية، ثم أبدأ أغني الشطر الأول من في ليلة القمر بينما يصغين بإقتناع.شيء سريالي، ها أنا هنا جندية في بزتي العسكرية وأستعد أن أقضي ليلتي داخل خيمة، وغداً ربما سأحمل سلاحاً، وبعد كل ذلك أغني بالفرنسية.
يحين الوقت لكي نفرغ صوانينا ونضعها على حزام ناقل.
لا غرابة.تشكيل رباعي.يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين. إلى اليسار إستدر.يسار يمين، يسار يمين، يسار، يمين.سرية (د) قف.
“لديكن الآن نصف ساعة حتى إطفاء الأنوار.الحمامات هناك بعد ثلاثة خيم.الليلة وكإستثناء لن تقمن بواجب الحراسة.الإستيقاض صباح الغد سيكون في تمام الساعة الرابعة والنصف وفي الساعة الخامسة ستكون خيمتكم قد أخليت تماماً وأنتن في تشكيل رباعي.من هي الرقم 3810254؟
ترفع بنت يكسو النمش وجهها ويدها.
“حسناً، أنت الآن مسؤولة عن المجموعة من الآن وحتى الأربع وعشرين ساعة القادمة.ستقومين بعد رفيقاتك الجنديات صباحاً وتعطيني تقريراً بذلك، هل تفهمين ذلك؟”
تقوم رقم 381054 برفع يدها حتى صدغها.
“نعم.”
“عليك القول نعم سيدتي.”
“نعم سيدتي.”
“جيد؟هل هناك أي سؤال من المجموعة؟”
“هل بإمكاننا أن نقوم بأية إتصالات هاتفية؟”تسأل تلك التي عينت لتوها رئيسة المجموعة.
“هناك كابينتا هاتف مخصصتان لكن بالقرب من المقصف يعملان بالعملة المعدنية.ولكن تذكرن أن ندائاتكن الهاتفية يجب الا تؤثر على الوقت المخصص للنوم.هل هناك أسئلة أخرى؟”
صمتنا هو الجواب.
“حسناً، سرية (د) إنصراف، عمتن مساءً.”
وأخذاً بان الليلة ستكون قصيرة، فقد أعتبرت ذلك نوع من السخرية.
مرة أخرى يدب النشاط في السرية.
حوالي عشر من الفتيات، أو أكثر يسرعن إلى الخيمة ويفتشن بجنون عن بطاقات الهاتف التي جلبناها معهن.آخريات بسبب أنهن أكثر إهتماماً بالنظافة، أو لأنهن أكثر إستقلالية، يمضين نحو الحمامات يحملن بأيديهن فرشاة الأسنان والصابون.
أجلس أنا لوحدي مترددة.هناك بعض الخيارات التي لا أستطيع أن أقررها.
مثل الآخريات، أشعر بأن على أن أخبر أحداً بما جرى طيلة يومي هذا.أعرف أن هناك في البيت من ينتظرني على أحر من الجمر.ولكن ان ذهبت إلى كابينة الهاتف فسأكون متلهفة أن أكلم “راحيل”، وبعدها “يوليا”.الفتيات الآخريات ( لم أتعود بعد على مناداتهن بالجنديات) سيضلن يضربن بالكابينة قبل أن أبدأ بضرب الرقم الثاني.هاتفان فقط وهاهم حوالي 200 بنت وصلن اليوم.وبحساب سريع فاذا ما قامت كل واحدة بإتصال واحد فان كل واحدة ستحصل على عشر ثواني وضمن ذلك الوقت المخصص لضرب الأرقام، وبدأ الإتصال ورنين الجرس.
مزعجات.
لسنوات كانت أمي تردد على مسامعي، إغسلي أسنانك ثلاث مرات كل يوم، بشكل جيد، صباحاً ، ظهراً ومساءاً.ربما علي أن أبرهن هذه الليلة مرة واحدة وإلى الأبد، ورغم أني قد كبرت، وأني أرتدي البزة العسكرية، بأني لم أنسى شيئاً مما تربيت عليه.

الطقس مداري بشكل لافت داخل مجمع النظافة (.. النظافة يا لها من كلمة).هناك حوالي عشرون فتاة يستحممن.الآخريات ينتظرن دورهن.ليس هناك ستائر، ربما غالية الثمن، أو لعله أكثر نظافة هكذا.أعتقد أن ذلك قد يكون السبب.ما لم يعتبر الخفر هنا خصوصية مرتبطة بفترة المراهقة، ولا مكان له هنا.
آخذ فرشاتي الجديدة من الحقيبة واقف أمام واحدة من خمس عشرة حنفية معلقة فوق حوض معدني واحد ضيق.الماء يجري ضعيفاً، مثلما تجري المياه في مجرى الرصيف، لكن هنا يجري مختلطاً ببقايا معجون الأسنان واللعاب.لا شيء من هذا يبدو مقلقاً للفتيات.بعضهن ينشدن أغاني من تلك التي تعلمناها في “التسوفيم، الحركة الوطنية غير الدينية.يبدون متسقات مع أنفسهن.ذلك ما جعلهن يخترن الحمام على الهاتف.
أفتش عن “اينات” ولا أجدها.لا أعلم في أي خيمة هي، وليس لدي أكثر من عشرين دقيقة قبل أن تطفى الأنوار.أريد أن أقرأ بعض الشيء وأن أكتب بعض الأشياء قبل أن أخلد إلى النوم.
الإتجاه خيمة السرية (د).
ثلاثة من رفيقاتي في الخيمة استلقين في أسرتهن.يقرمشن البسكويت بينما يناقشن رحلتهن غير المجدية إلى كابينات الهاتف.يحدقن بي بين الحين والآخر، ولكن ليس بما يكفي لكي يقطعن نقاشهن.أفتح كتابي.
“أنت أيتها الفرنساوية، هل تقرأين دليلاً سياحياً عن قواعد الجيش الإسرائيلي؟”
“هل تأملين أن تنهي رسالة دكتوراه في الإستراتيجية العسكرية في عامين؟”
“هل تحتاجين لقراءة “غطاء الركوب الصغير الأحمر” قبل النوم؟”
تستمر التعليقات الساخرة بالتطاير.لا أعيرها أية إهتمام.الدعابة الساخرة والإزدراء في هذا البلد هي وسيلة تواصل يدركها كل فرد.هي لغة داخل اللغة.إنها طريقة للتأكيد للشخص المعني بأنه ليس هشاً (وهو ما يعادل هنا كونه مبتئساً)، أي أنك لا تحتاج للدوران حوله بحذر.أنا أجعلك هدفي، وأن عليك أن تكون واحداً منا.
لذلك أغلق كتابي، الذي هو بالفرنسية، وأشرع بالتفكير في فرنسا، حول كيف كنا نسافر إلى باريس في العطلات.أختي وأنا كنا نحلم بذلك طيلة العام.ربما ليس من المناسب الآن أن أسترجع ذكريات أسعد الأيام في طفولتي.
أشعر ببعض الذنب لأني نحيت الكتاب جانباً.ويمتلكني شعور بأن على أن أدافع عن قرائتي أمام رفيقات الخيمة.
“اذا كان علينا أن نرتدي البزة العسكرية فذلك لا يعني الا نكون متعلمات.واذا كنت فرنسية فذلك لا يعني أن أعيش قصصاً خرافية.”
أدرك أني ربما تماديت قليلاً.
مدعية، متحذلقة، كاذبة، لصة، قميئة، شريرة، أستمر بالكتابة.بشكل آلي أصنع قائمة في رأسي، وهناك قليل من الشك أن ذلك ينطبق علي.)
ولكي أعوض عن غرور المثقف في، أضيف أو أن علي أن أطوي أشرعتي.نحن سنكون ملازمات لبعضنا البعض شهراً بطوله.لابد أن نتعرف احدانا إلى الأخرى.
لم يكن لإقتراحي أن يأتي في أفضل من هذا الوقت.جاءت الفتيات الآخريات من الحمام ومن كابينات التلفون.تفوح منهن رائحة الصابون بالفانيلا أو بأعينهن المحمرة، أو كما أتخيل بأحاديثهن التي تفطر القلب مع أمهاتهن.مقدمة.
“كارين”، من حيفا.”
“تامارا”، من عسقلان.”
“شلوميت”، ادعيني “شولا”، من بتاح تكفا.”
“سيفان”، رئيسة المجموعة، اذا ما كان علي أن أذكركن، من القدس.”
“ريكين” من كفار سابا.”
“يائيل”، من رفيفيم.”
“دوريت”، من طبريا.”
“غاليت”، من تل أبيب.”
“فيريد”، من بات يام.”
وأنا.
أسم غريب.من مدينة لم اولد بها.أسمائهن كلها لها معاني خاصة مباشرة، شعاع الشمس، تمر، غزالة، موجة صغيرة، وردة.أو انها تعود إلى شخصيات توراتية مثل “ربيكا” (رفيكا والتي تختصر إلى ريكي) أو “شلوميت”.انها أسماء تعني شيئاً، وهن يسألن مالذي يعنيه “فاليري”.
“لست أدري.أعتقد أنها من اللاتينية.ولكن اذا ما قطعتن الكلمة، فا، لي، ري، فأنها تعني إذهبن واضحكن.”
ذلك يثير حيرتهن قليلاً.ثمة في الخارج من يصرخ.”اطفؤا الأنوار.اطفؤا الانوار.”
تمتد عشرة آيادي لكي تطفئ الأنوار.أصوات تقول “تصبحوا على خير” من كل الإتجاهات.
إنها العاشرة والنصف.منذ خمس سنوات لم أخلد إلى النوم في مثل هذا الوقت المبكر.سألهو بشيء من التفكير.أدس جسدي في الفراش الضيق الصغير لكي يجد له موقعاً مريحاً، أستعيد ما حصل اليوم، سوف …
لا شيء من ذلك، وأغط في نوم عميق.
***

                                     عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                     صلاح النصراوي
ج1 ف4
                                  إلى السلاح…، إلى آخره.
توقظني أمي بطريقة أكثر لطفاً مما هو معتاد.إنها السادسة والنصف وعلي أن أكون في مكتب التجنيد في غضون ساعتين.
“ماما…الوقت مبكر جداً” أغمغم.”دعيني أنام قليلاً.”
“لا”، ترد بحسم.”لايجب أن تذهبي إلى الجيش وأنت على عجل.”
أجر نفسي من تحت غطائي.رأسي ثقيل قليلاً.أعرف أني حلمت بـ”جين-ديفيد”:كان في دوامة، ولم يكن بوسعي الإقتراب منه.كان يرسم على وجهه تلك الإبتسامة الساخرة الدائمة، ولم يلحظ الجهد الذي كنت أبذله، ولا خيبة أملي اللاحقة.ثم كان هناك ثمة إطلاق نار، لكن ربما كان ذلك صوت مقبض الباب الذي كانت أمي تديره وهي تدخل الى غرفتي.
اتسلل إلى الحمام، وأشعر كان الأمر برمته يجري بطريقة آلية.كيف يمكن للجسد أن يقوم بكل تلك المناورات حين يكون العقل متوقفاً، حين يكون هامداً.أعد نفسي بأني سأحاول أن أجد كتاباً بشأن الموضوع.أفترض دائماً أن جميع الأجوبة موجودة في الكتب.
أمي صنعت فطوراً من طراز خمسة نجوم.كيك، رائب محلى بالقيقب، شكولاتة حقيقية ساخنة، عصير برتقال طازج.لابد أنها استيقظت الساعة الخامسة لكي تنجز كل هذا، ولكي تسعدني، ولكن من غير أن تدرك أنها قد تجعلني أبدو مثل مدان بالموت يلتهم وجبتهه الأخيرة-في هذه الحالة مدانة.أحصل الآن على الأفضل قبل أن يرسلوني لكي أواجه الأسؤ.أنا أبالغ.دعوني أقول الأمر بشكل صريح أنا الآن في طريقي لكي اواجه المجهول، وهو بالتأكيد أمر مثير للمخاوف كبداية.
بعد أن أنهيت وليمتي، أنزل لكي أتمشى قليلاً في الجوار.أمشى بين الممرات والمساطب والمساحات الصغيرة المعشبة.ثم أمضي ناحية زاوية العمارة التي يقع فيها بيتنا وأرنو من هناك نحو مدرستي التي تقف أمام الصحراء، ثم أنظر إلى شباك “يوليا” وبعدها إلى شباك “راحيل”.أطبع كل التفاصيل الدقيقة في مخيلتي، وكأني التقط صورة لعالم مراهقتي، بالضبط مثلما عملت لعالم طفولتي في الريف الفرنسي قبل أن أغادره قبل خمس سنوات.
عرض علي “فريدي” أن يقلني إلى مكتب التجنيد.ذكرته أنه جندي هارب من الجيش، وأن ذلك هو أسؤ مكان يمكن أن يذهب إليه.يضحك ويرد بأن صورته ليست معلقة في كل القواعد العسكرية ضمن قائمة أكثر المطلوبين.ثم يضيف:”أن ترمي نفسك إلى فك الذئب، هي أفضل طريقة لكي تتفادي تحديقه بك.”بإمكاني القول ان “راحيل” قلقة لكنها لا تقول شيئاً.
في تمام الساعة الثامنة يتم وصول الجميع.
يأتي “إيلان” الذي حصل على إجازة سياقته تواً بسيارة والدته.سيارتان ليستا بالكثير، اذ أن هناك عشرة أصدقاء سيصاحبوني.أنه موكب رئاسي، تكريم غير مسبوق، يكرسه بشر.يشكلون حرساً للشرف، ويؤدون تحية عسكرية لي.أشعر باني على حافة البكاء، كما فعلت أمس.غددي الدمعية تبدأ بالسيلان بطاقتها القصوى، أنها تعمل ساعات إضافية غير مدفوعة الأجر.أنا سيدة الغدد الدمعية المسالة.
يضع “فريدي” أغنية “شلومو ارتيزي” على أعلى درجات الصوت.”لكني جندي أيتها الفتاة الصغيرة فلا تبكي”.يعلو صوتنا.”ولكني جندية أيها الصبي، فلا تبكي”.خلفنا يقرع “إيلان” بوق السيارة من حين لآخر على نغمة اللحن الذي يستمعون إليه.لم يعد الأمر مجرد جعجعة، بل تجربة في قياس مدى تسامح الناس مع مستويات الصوت.ولكن ليس هناك من يعترض.إنهم يعرفون أن الخريف هو موعد الحصاد وأن المحصول هو شباب في عمر الثماني عشرة.
في الخارج يبدو مكتب التجنيد مثل سوق لقطيع من الجنود.ناس تصرخ، تتعانق، تضحك، تبكي.البنات اللواتي في طريقهن إلى أن يغادرن، مثلي، من السهل التعرف عليهن. فهن محاطات بأصدقاء ومعارف، يتحلقون حولهن.الدفئ الذي يحيط بهن مستساغ.جرعة من الصداقة، حصة أخيرة من الحب، قبلة من أب، أو أم.قبلة لأخ صغير، يقف بإعجاب صامت (هناك واحد ربما في السادسة، أو السابعة) يرتدي ملابس عسكرية وينظر إليه الجميع بحب.أشيح بنظري بعيداً بإرتباك.
الأباء والأمهات يمكن التعرف عليهم أيضاً.أنهم في الخامسة والاربعين من أعمارهم، وليسوا في العشرين بطبيعة الحال، ولكن أكثر ما يلاحظ أنهم من تدمع أعينهم، يبدون فخورين وقلقين في نفس الوقت.يتفادى أحدهم نظرات الآخر التأمرية.الظاهر أنهم يفهمون بعضهم البعض من دون كلام.
كما أن هناك الإعلام.حين يقترب المصورون من البنات فان معظمهن يأخذن موقفاً يبدين فيه وكأنهن في وضع طبيعي، على أمل أن يكن فوق صفحات الجرائد في اليوم التالي مع خبر صغير:”العد العكسي، في الطريق إلى الجيش” أو “قبلة قبل الخاكي.”
بسرعة أرفع نظاراتي عن عيني.اما “يوليا” فان أجفانها ترتعش بسرعة خاطفة.
“أصدقاء وخصوم للآبد”، أتمتم مع نفسي.
فجأة تندلع حركة في الحشد الواقف.جندي يظن نفسه رئيس الأركان أو شبيه بـ”رامبو”، يندفع ممتطياً مقدمة احدى الحافلات التي كان محركها يعمل مستعدة للإنطلاق.ينظر إلى الحشد لثوان، بينما ترتسم على شفتيه إبتسامة سادية.تغمره سعادة تمنحها اياه لحظات السلطة التي تعبر عنها نظرات البنات التي تكاد تأكله، وكأنه يحمل حياتهن بين يديه، في حين أن كل ما كان لديه هو حفنة أوراق يقرأ منها بلا مبالاة مقصودة.يهبط سكون، يتنحنح ثم يبدأ التمثيل.
أشعر وكأني عام 1914 وأني جزء من التعبئة العامة.
“سيداتي، ايتها الجنديات.سنبدأ الآن بسحب القرعة.لا، أنا أمزح معكن.حين أقرأ أسمائكن أرجو من كل واحدة أن تنهض وتمضي إلى الحافلة وتعطيني رقم تسلسلها.هل لي أن أطلب منكن الا تطيلن التوديع.أنه أمر ضار بالصحة، كما أنه لن يساعدكن في إنقاص الوزن.”
تجز “يوليا” أسناناها بإشمئزاز.
أتمنى أن أفعل مثلها، وأن أصرخ بأنه مجرد غبي مزعج.ولكني أرتعب من فكرة أن يكون هو الأحمق الأول الذي أبدأ به هذه الرحلة الطويلة، وبالتأكيد لن يكون الأخير.
“كما أنه قميء.” تقول “يوليا” لتواسيني.
“إنه مجرد جندي إداري.يهمس “فريدي”.”انظري إليه بإمعان وستدركين أنهم جميعاً كذلك، لا أدري لماذا يشبهون بعضهم بعضاً، وكأنهم من عائلة واحدة.”
“الغباء هو سمة عائلية.”يقول “إيلان”.
يحملق الجندي الإداري بنا.ولكن بسبب المسافة بيننا فلا يمكنه سماع الحديث الذي يدور بيننا، ولكن لمجرد أننا منهمكون بالحديث فأن ذلك هو بمثابة إهانة له، لأنه بالتأكيد ينتظر منا صمتاً مطبقاً.
يبدأ صلواته.
“تالي افنيري…”
تنفجر كتلة من اللحم على رأسها شعر مجعد بالبكاء، وتحضن أمها.يتفرق الحشد لكي يفسحوا لهم المجال لكي يمروا، وكأنما إشارة إنطلقت، وعلت صيحات الوداع، مما حدا بالإداري أن يرفع صوته الطالع من أنفه لكي يجعل الجميع يسمعونه.
“رونيت بيربي..”
أقبل كل واحد عشرات المرات بإحساس المتعجل.يقولون أشياء كثيرة تختلط معا حتى لم اعد أسمع شيئاً.
والدي في ذروة إنفعالاتهما وتبدأ دموعهم بالهطول.
تعتذر والدتي“وعدت نفسي ألا أبكي..فلم أرد…”
“لا تعبئي بذلك.”أهمس في أذنها.”لايمكنك أن تكوني مختلفة عن الآخريات.وعلى أي حال، فأن الأمر ليس بذي بال.فمهما كان الوقت الذي ستنهظين به لكي تلتحقي بالجيش عليك دائماً أن تسرعي الخطى.
تبتسم من بين دموعها.يعانقني أبي بحنان ويهمس بعبارات تبدوا مثل “إعتني بنفسك.”أصدقائي يقولون أشياء تهدف إلى إثارة ضحكي.
حرف (زد) هو الحرف السابع في الألف باء العبري.لن يطول الوقت حتى أسمع أسمي.
“تامي فارشافيسكي…فاليري زيناتي…”
أعض على شفتي، أحاول أن أحافظ على توازني وأنا أرفع الكيس الذي يصل وزنه إلى ثلاثة أطنان وأناول أوراق إستدعائي إلى ذلك القميء، الذي إنتقل بالمناداة على الأسم التالي.
أختار المقعد الأخير القريب من الشباك.الحشد يتجمع حول الحافلة، هناك من يومئ بالحب، بالوداع أو بالتشجيع.تمتليء الحافلة بسرعة، تغلق الباب، وتشرع الحافلة بالمسير وتختفي الوجوه.
أتمدد في مقعدي وأغمض عيني.
كل شيء انتهى.إنها فقط البداية.
تمضي الحافلة خارج المدينة، ترعد على الطريق الصحراوي بإتجاه تل أبيب.هو ذات الطريق الذي قطعته عشرات المرات من قبل ولكني أشعر الآن وكأني لا أعرف أين ينتهي.جئت بجهاز اللإستريو معي، وأرغب بالإستماع إلى شريط “داني روباس” الذي أهداه لي أصدقائي.
هناك كوع يلدغني في الجنب ويجذبني بعيداً عن الموسيقى التي بدت لي وكأنها تراتيمي الخاصة.أنزع سماعات الأذن.البنت التي تجلس إلى جانبي تنظر إلي بنظرة تأنيب.
“يا حلوة، هل تعتقدين أنك في رحلة إلى “إيلات؟ الا تدركين أننا الآن جنديات؟”
“إذن، مالمشكلة؟”
المشكلة.هناك على بعد خمسة مقاعد.متر وسبعين سنتمتراً، ويبدو مثل عجل، غير أنه ليس مرئياً.إنه مسؤول عنا حتى نصل إلى قاعدة الإستقبال.”
“نعم، ولكن ثم ماذا؟”
“لقد قال لتوه أنه غير مسموح بالإستريو.”
“ولكننا لسنا على طائرة على وشك الاقلاع.” أرد بغضب.
“لا علم لي بذلك، فلم يسبق لي أن ركبت طائرة من قبل.ولكن ما أعرفه أن عليك أن تهبطي إلى الأرض والا فانك لن تصلي إلى أي مكان اذا ما واصلت ذلك.ستواجهين مشكلة حقيقية.”
“أنت تغمرينني بالتفاؤل، لا بد أنك ملاك النهايات السعيدة.”
“وأنا بإمكاني القول أنك ستكونين ممتعة.أنت لست كالآخريات.تبدين وكأنك هبطت بضربة حظ… مثل ..مثل..”
تحاول أن تعثر على إبتسامة وأنا أحاول أن أساعدها.
“مثل براز الطيور.”
تتسع عيناها بتعجب.
“لابد أنك من كوكب “دولالي”.تقول بإحتجاج.إنه كوب جديد ضمن مجموعتنا الشمسية.”
“نعم، هذا صحيح، أنت ذكية جداً، ملاك النهايات السعيدة.ولكي أكون صريحة معك فقد جئت لكي أتجسس على ثاني أقوى جيش في العالم، أم هل هو الرابع، لست أتذكر.”
“ستنجحين في مهمتك.اذا كان الجميع مثل ذلك العجل الذي كنتم تهزؤن به أنت وأصدقاؤك قبل قليل.لن يكون الأمر هيناً عليك لكي تدركي مدى قوة الجيش الإسرائيلي.”
“هنا أنت مخطئة، أيتها المسكينة ذات الخيال المحدود.ليس العجول أو حتى الأولاد ما يعنوني.إنه الجيش برمته.نقطة.فقرة جديدة.”
“هممممم…..لديك كومبيوتر معقد في رأسك.”تهمس بإعجاب.”أتمنى الا نفترق سريعاً بعد وصولنا للقاعدة.هل لديك أدنى فكرة عما سيفعلون بك؟”
“همممم…نعم، ربما.خلال العام الماضي أستدعيت ربما أربع مرات لإختبارات نفسية.لخدمة الإستخبارات ربما.لكن لا شيء أكيد.”
“ها..ها أنا أمام جندية حقيقية.”
أومئ برأسي مواقفة.حان الوقت لكي أظهر بعض الإهتمام بها.
“وهل تعرفين أنت إلى أين ستذهبين.هل تعرفين مالذي تريدين عمله؟
“نعم، أنها مرسومة في ذهني، أنا أريد أن أكون معلمة رياضة.”
هذه القناعات الراسخة توقعني في ورطة.أنظر إليها بتمعن.نحن الأثنتان جالستان، ولكن لدي إحساس بأننا في نفس الطول، حوالي 164سنتميتراً.هي أكثر ذكورية كما يمكنني أن أستنتج من عضلات ساعديها ورجليها.شعرها الكستنائي قصير جداً، قصة شائكة هي المودة السائدة منذ حوالي عام.لا أدري لماذا ولكني دائماً ما إعتقدت أن البنات بقصات الشعر القصيرة تلك يكن شديدات الثقة بأنفسهن، يمارسن الرياضة وإجتماعيات.وبعبارة أخرى انهن في سلام مع أنفسهن.ملامحها مربعة، جلدها ناعم وعيناها خضراوان، كلها متنافرة وكأنها كانت طيلة عمرها تحاول الهزء من العالم حولها، وستبقى كذلك.تزرع الثقة في نفسي.آمل الا نفترق حين نصل إلى قاعدة الإستقبال.
“علي إبلاغك، من باب المعرفة بالشيء، بأن أسمي هو “فاليري زيناتي”.”
“سعدت بلقائك، إحتراماتي…وأنت لك الشرف بمخاطبة “إينات هايموفيتش”.”
“لا أدري ماذا أقول…هل تعتقدين أنه من غير المسموح لنا بالنوم؟”
“ذلك العجل الصغير لم يقل شيئاً عن ذلك.”
“حسناً، اذا سمحت لي فأني أريد أن أغمض عيني قليلاً.لدي شعور بأن ذلك لن يكون متاحاً كثيراً خلال الأيام القليلة القادمة.”
“صدقت، “فاليري زيناتي”.دعيني أفعل ذلك أيضاً.”
أوافقها وأغمض عيني.في نصف إغماضة أرى رأسينا يستريحان أحدهما إلى الآخر.أشعر بإرتياح.
الصوت الاتي عبر المناخير والمضخم بمكبر الصوت يوقضنا بحدة.
“ايتها الجنديات، نحن على وشك المرور عبر البوابات إلى قاعدة الإستقبال.ستمضون اليوم هنا.ستستلمون أغراضكم وتنهون إجراءات التسجيل.وبعدها سترسلون إلى قاعدة التدريب حيث ستلتحقون بالصفوف.”
احدى الفتيات في المقاعد الأخيرة ترفع يدها وتسأل برجفة:”هل صحيح أنهم سيطعموننا باللقاح.”
موجة من الضحك تسري في صفوف الحافلة.تعتذر الفتاة والدموع تجري في عينيها، بينما تتمتم بأنها ترتعب من الحقن.
العجل يؤكد الخبر المؤسف، مضيفاً، “أرجو أن تظهرن أفضل ما عندكن خلال السنتين القادمتين.”
تميل “إينات” نحوي وتهمس،”نسى أن يقول وداعاً، وبلا رجعة.”
أبتسم لها.أنظر إلى خارج النافذة.نحن على حاجز بوابة القاعدة.هناك لوحات بيضاء معلقة على سياج الأسلاك الشائكة كتب عليها:”منطقة عسكرية مؤمنة.يمنع التصوير.المخالفون يعاقبون بموجب القانون.”
سبق وأن رأيت العشرات من هذه اللوحات في الماضي.إسرائيل بلد صغير جداً، ومن الصعب الا ترى منطقة عسكرية كلما خرجت من دارك.ولكن مثل باقي الفتيات في الحافلة لم يتسنى لي أن أعرف مالذي يختبأ وراء الأسلاك الشائكة.قلبي يخفق بشكل أسرع قليلاً، أفقد صبري وينتابني الخوف.هذه واحدة من أكبر القواعد في إسرائيل والتي تقع على حافة تل أبيب.كل جندي إسرائيلي سواء أكان فتى أو فتاة لابد وأنه قضى يوماً أو يومين من حياته في هذا المكان.أول يوم في الخدمة وأخر يوم فيها.
هناك جندي يقوم بالحراسة على البوابة.يبدو ضجراً بشكل لافت.يفتش حقائبنا بلا مبالاة، يقول بضع كلمات إلى مرشدنا ثم يلوح للحافلة بالمرور.تسير الحافلة لبضعة دقائق قبل أن تتوقف أمام عدة مباني مشيدة بطريقة البناء الجاهز.هناك امرأة بإنتظارنا، ضابطة كما هو واضح من الرتبة التي تحملها على كتفها.يهبط مرشدنا من الحافلة يؤدي التحية لها.ينتابني شعور بأن هذه مجرد تمثيلية صغيرة هدفها أثارة إهتمامنا.الضابطة ترد التحية.
نترجل من الحافلة.
“صباح الخير يافتيات.أنا الرائد “ساريت نيغون”، أنا مسؤولة عن الإستقبال والتدريب.إدعوني بالرائد، لاشيء غير ذلك.هذه هي المرة الأخيرة التي ستكونن فيها فتيات.اليوم ستصبحون جنديات، وعندما تخلعون البزة العسكرية بعد سنتين، اذا ما سار كل شيء على ما يرام، ستكونن سيدات.”
“هذه ليست تحية إستقبال أنها خطبة مأتم.”أهمس في أذن “إينات”.
“لم توضح في ما اذا كان فض البكارة هو جزء من الثمن كذلك.”تهمس هي ايضاً.
“عليكن تعلم بعض القواعد الآن.”تستمر الرائد “ساريت” بالقول.القاعدة الأولى، لاتسألوا أي سؤال عدا في الحالات الطارئة.كل ما ستأمرون به تم مراجعته من قبل أناس مسؤولين ومتمكنين.يجب تنفيذ أي أمر يصدر من أي شخص أعلى منكن رتبة، طبعاً على الا تكون قتلاً، أو خيانة، أو إعتداء جنسي.”
ضحكة مكبوتة يضج بها الجميع.
“القاعدة الثانية:لا ضحك، لا كلام، ولا حتى حركة عندما يخاطبكم أحد ما.لا أحد هنا موجود بهدف المتعة.هناك مجموعة معدة من القواعد العامة ستعطى لكل واحدة منكن في قاعدة التدريب.والآن ستستلمون أرقامكن وهوياتكن العسكرية وبعد ذلك سيتم تطعيمكن.”
صاحباتي يغلقن أفواههن.هل هن خائفات فعلاً، أم أنهن يخشين من إظهار عجيزاتهن أمام الجميع.
شخصياً أنا لست خائفة من أي منهما.
“ستتناولون الغداء هنا ثم توزع عليكن البزات.وسأستغل هذه المناسبة لكي أتلو عليكن القاعدة الثالثة.إن سرقة أو ضياع أي قطعة من الملابس أو المعدات أو السلاح عقوبتها السجن مدة تتراوح بين أسبوع إلى سبع سنوات.واضح.والآن العودة إلى اليوم.بعدما تغيرن ملابسكن وترتدين البزات سيتم نقلكن إلى قاعدة التدريب، بالحافلة، وهناك ستبدأ رسمياً فترة الخدمة العسكرية.والآن إتبعوني.”
نشكل طابوراً منفرداً.الجميع متعاونات وكأنهن طالبات في المدرسة الإبتدائية.”إينات” تسير خلفي مباشرة.
نمضي إلى مساحة مغطات يصطف فيها بعض الجنود الإداريين الذين ينظرون إلينا شزراً.أدرك أنها لن تكون المرة الأخيرة التي نتعرض فيها إلى مثل هذه الاهانات الحمقاء العابرة.نحن الفتيات الجديدات وتلك هي الحالة التي سوف نبقى عليها لبعض الوقت.
يتم تصويرنا لعمل الأوراق الثبوتية.ليس هناك وقت لكي تختاري الوقفة أو تعدلي شعرك أو تصطنعي إبتسامة، عشر ثواني هن أكثر ما يمكن أن تأخذه كل واحدة.
يعطوا كل واحدة منا قرصاً معدنياً ذي جزئين معلقاً بسلسلة متينة ويأمروننا بالا ننزعه أبداً.على كل جزء من القرص كتب الأسم واللقب والرقم العسكري.يخبروننا بأنه في حالة الموت، أو القتل في المعركة فأن القرص سيساعد على معرفة هوية الضحية.اذا كان من الصعوبة نقل المصاب من ساحة المعركة فان الجندي السليم سيقوم بكسر القرص ونزع نصفه لكي يأخذه إلى السلطات إلتي تأخذه بدورها إلى عائلته، في حين يترك النصف الآخر على جسم المصاب.حين يؤخذ الجندي أسيراً فأن القرص يعني أن بإمكان الصليب الأحمر التعرف على هويته.
أثارت الأشارة إلى إمكانية الموت ضلالاً من الجدية على وجوه كل واحدة منا.الف السلسلة حول رقبتي وأبدأ بفرك القرص لتدفئته، بينما أبقى مرعوبة بما أطلقه هذا الصوت الميكانيكي عن الجثث والضحايا والموت وأرض المعركة والعائلة التي ستنقل إليها الأخبار المؤكدة.
أستدير نحو “إينات”.
“كان بإمكانه أن يقول كل ذلك بصوت أكثر رقة، أكثر حزناً وأكثر إعتذاراً.لقد بث كل ذلك الرعب وكأنه كان يروج لبضاعته في مركز تسوق.”
“الجيش ليس للشعراء، يا فتاتي العزيزة.”
تبدأ الرائد بالحديث مجدداً.
“إحفظن أرقامكن العسكرية، هنا هذه الليلة.إنه هويتكن.عليكن بترديده بسرعة حتى لو أوقضت إحداكن في منتصف الليل.”
أنظر إلى قرصي: أنا 3810159.رقم “إينات”، (علي أن اقول) “إينات” هي 3810168.
يعطونا بطاقة الأسير.تستوقفني بطاقتي، مكتوبة بالعبرية والفرنسية والتي أصبحت معروفة بأنها لغة الجيوش العالمية.يملؤني ذلك بالغبطة، وهو ما أثار إستغرابي قليلاً: كأنها فرنسا، رغم أنها بعيدة جداً، غير أنها تعطي مؤشراً على الصداقة، مؤشر بإمكاني وحدي أن أفهمه، وسط إستغراب باقي البنات اللواتي حولي.أغرق نفسي بإهتمام جدي بقراءة ملخص إتفاقات جنيف المطبوعة خلف البطاقة.
بعد ذلك يأتي دور التطعيم، الألم، لاننا كنا متوترات جداً كدنا أن نموت، عشرون منا في غرفة واحدة رافعات مؤخراتنا عالياً.
ثم جاء دور الطعام في مقصف كبير.نحمل صوانينا ونمر من بين جنود يرتدون بزات القتال يتدافعون، يتبادلون النظرات والضحكات.هناك شيء ليس بإستطاعتي فهمه:لو كنا التقينا مع هؤلاء الفتيان والفتيات في ظروف مغايرة لكنا تبادلنا الأحاديث بشكل طبيعي، كأشخاص متكافئين.لكن في هذه القاعدة لكل منا دور يلعبه، نحن نمثل مجموعة (الأحداث) بمواجهة أخرى (الأقدمون)، وفي الحقيقة لايهم كثيراً من يكون ماذا، فكل عنصر لابد من أن يعمل ما بوسعه ليسخر من الآخر.أعترف لـ”إينات” بما في خاطري، أتوقع أن يكون هناك بعض التعليقات الساخرة.لكن ذلك لا يحدث.هي تومئ برأسها بشكل جدي.يقودونا لكي نقوم بعمل شيء آخر.شيء كان زاد حديثنا مع صديقاتنا خلال الأشهر القليلة الماضية: البزة العسكرية.
أعتقد أننا جميعاً نتوق لها بشكل غير معلن لأنها ستحولنا، ستمنحنا بعض الغواية، بعض الثقة، إحساس بالهوية.تمتد آيادينا بتوق لكي تتلمس الحزمة؟في الداخل هناك كيس كبير مصنوع من الجوت (كيس الجندي) قميصان بأكمام طويلة، قميص واحد بأكمام قصيرة مصنوع من القطن الخشن، بلوزة واسعة، زوجان من السراويل، تنورة تشبه كيس البطاطة، أنوراك رجالي نوع “ميشلن”، قبعة سوداء عليها رمز الجيش الاسرائيلي، حقيبة ظهر (سوداء كذلك عليها خيطان من الشرائط الفسفورية حتى يمكن رؤية حاملها بالليل.) مع أحذية من موديلات الخمسينات والتي تعرف بأسم حذاء “غولدا” نسبة إلى “غولدا مائير” التي استعملت 82زوجاً منها خلال حياتها، والتي كان إهتمامها بالأزياء أِشبه بإهتمام فلاحة من أوكرانيا في القرن التاسع عشر.
تحذير بالا نقوم بأية تحويرات في البزة لأننا قد ننقل إلى البحرية أو القوة الجوية حيث أن بدلاتهم رمادية.بالنسبة لسلاحنا، والمعدات وبدلة القتال فاننا سنستلمها من قواعد التدريب.
نرتدي البزات في زمن قياسي وتبلغ الإثارة أقصاها أمام المرآة الوحيدة التي في الغرفة.دهشة وزخم من العواطف والسعادة في إرتداء البزة، شيء أشبه بإرتدائك لحذاء أمك وأنت طفل صغير.يمضي الوقت سريعاً.
يأمرونا بالإسراع والخروج والوقوف في تشكيلات من خمسة في كل صف لكي يعطونا هوياتنا وأخيراً للصعود إلى الحافلة.الفتيات اللاتي يعرفن بعضهن يحملقن بفرح في عيون بعضهن البعض.أضغط على قبضتي بشدة، وآمل بغباء أن يعني إستعراض القوة هذا أن يتم أرسال “إينات” معي إلى نفس القاعدة.
النداء على الأسماء ثانية.أنتظر سماع رقمي.أحي صديقتي الجديدة بإشارة صغيرة وأمضي ببطئ إلى الحافلة وفي حلقي غصة.أكاد أن أقع على الأرض بعد أن يصدمني كيس يبلغ وزنه نحو 65 كليو غراماً.خمسة وستون كليو غراماً هو تقدير تقريبي يمثل وزن “إينات” ال 55كيلو غراماً و10 كليوغرامات هو وزن كيسها.
ها نحن على الطريق.أنا في البزة أجلس إلى جانب فتاة أصبحت لتوها قريبة مني، وهي أيضاً في البزة.أنظر إلى ساعتي.
مضت نحو عشر ساعات منذ ابتدأنا.

Analysis & views from the Middle East