عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج1 ف8
“ذبابة على الحائط في نيوزيلندا”
“بقلم ايدي ليونسن”
أحياناً تنتابني الحيرة عما يمكن أن تكون الحياة عليه في نيوزيلندا.السفر عبر جزر المحيط الهادئ، العيش في بلد من الصعوبة أن تجده على الخارطة، أنمو في بيت ذو سقف أحمر، وأسير في ممرات خضراء وسط الريف، أحيا في بيت أشاده الأجداد، أكون حفيداً لجد ما في الشيخوخة، أدرس التاريخ مائتي ساعة في كتاب صغير، بالي،، أترع النبيذ من البراميل التي في السرداب.سرداب لا يستخدم كملجأ.
أن أكون نيوزلندياً وبإمكاني أن اضع خططا لخمس سنوات، أهتم بشؤون فريق كرة القدم المحلي، ربما أطلب وظيفة في الجيش، بإعتبار أن ليس هناك خدمة إجبارية.أكون حراً من الجيش على أمل أن أعيش حياة فيها إثارة، أقرأ جريدة نيوزلندية ولا أهتم بمعرفة مالذي يجري في الأرض المقدسة، لماذا يحارب الناس من أجل كل شبر من الأرض في حين أن العالم مكان كبير وأن الحياة واسعة.الإعتقاد أن كل البشر سواسية.
أن تكون نيوزلندياً وأن تعرف بأن المدافع تطلق فقط في مناسبة عيد ميلاد الملكة، وأن الطلقة هي قطار سريع في اليابان، وأن كيس النوم هو شيء تستخدمه عندما تخيم، وأن الأرملة هي أمرأة كبيرة السن.وحينما يخبرها الجيران بأن أبنها سقط في المعركة فانها ستسأل عما اذا كان قد أذى نفسه.
أنا لا ألومك، يا إلاهي، لأنك اخترت أمتنا من أجل هذا.أنا أقبل بحكمك، بحب وإعتزاز.لايمكنني أن أبدل القدس بويلنغتن، او حياتي هنا بحياة راغدة، في أي مكان آخر في العالم.هذه هي أرضي.
ولكن هل حقاً أن الناس في نيوزيلندا يموتون من الضجر؟
ولدت في السويد
ولدت في السويد،
بشعر ذهبي مع أطفال لا يلعبون لعبة الحرب.
أبرياء لا يسألون أن كان الله موجوداً.
لانهم لا يحتاجونه.
أما أنا فهنا،
على أرض لمام،
حولها التاريخ إلى عقد من التوترات،
تعقيدات لا نهاية لها.
فتية في ريعان شبابهم،
هناك أبطال في كل يوم،
هم لا يسألون أيضاً اذا كان الله موجوداً،
لأنهم يخشون الإجابة.
أتت لترانا،
مكان قيل لها أنه الوطن،
التقينا بالعطلات الصيفية،
حلمنا أن كل شيء ممكن.
بعد شهرين، بعد أن شاهدت كل شيء،
بعد أن أحبت،
بعد أن امتلأت ببلادي، عادت إلى هناك،
إلى موطنها الرائع الذي يعيش في سلام.
أحياناً، تخبرني في رسائلها كم تحبني،
وتطلب مني أن أكون معها، إلى الأبد.
لديها بيت بجانب البحر،
هناك في السويد، مثلما في حكايات الأطفال.
شخصياً، أعتقد أنها محقة.
لكن في احدى الليالي الممطرة، بقيت مستيقضاً لساعات،
كتبت لها أني أحبك،
لم يكن بمقدوري أن أشرح لها ولا لنفسي،
إني مدين لشخص ما بثلاث سنوات من عمري،
أو العمر كله.
لا يمكن للمسادا أن تسقط ثانية.
عندما قرأت “كينيريت” تعويذتها الشهيرة، “لا يمكن للمسادا أن تسقط ثانية” بصوتها الرقيق، غرقنا جميعاً بالدموع، كنا على إستعداد لكي نأخذ السلاح وأن نفنى في ذات اللحظة في حماية وطننا الصغير.الوطن حيث هناك أرامل في الثلاثين، حيث لم تصمت المدافع، وحين يقول جار لجاره أن أبنه سقط، فمعنى ذلك أنه سقط في الحرب.وفي جو الصمت المثير كانت كل واحدة منا تشعر أنها جزء من سلسلة أحداث التاريخ الثقيلة، سلسلة الموت، ولكن أيضاً الأمل.كلنا عدا واحدة، “دانيلا” (من الخيمة الأخرى) قالت من غير أي تردد “إن تلك سخافة مطلقة.أنها دعاية.”
اندهشت “كينيريت” في حين أن الفتيات الآخريات كدن أن يرمين بأنفسهن عليها.”أنت لا تعرفين مالذي تقولينه.إنه بلدنا.تاريخنا.ليس من حقك أن تقولي ذلك.”
ظلت “دانيلا” هادئة، إلا أنها ردت، “أنتن تبتلعن أي شيء يقدم إليكن.يحدثوكن عن هذا البلد المثالي وأنتن تصدقن ذلك بسذاجة.هذه الكلمات المعسولة قد تصلح لكي تقال في فلم على التلفزيون يوم الإستقلال.إنها جيدة لإقناع الحشود بأننا على أجمل ما يكون، اليس كذلك؟ “بلد رحيم، حساس، مسالم، ولذلك، وياللاسف، نحن مجبرون أن ندافع عن أنفسنا.”
“ولكن تلك هي الحقيقة.”تحتج “فيريد”
“أية حقيقة، الحقيقة التي تريدين الإقتناع بها حتى لا تسألي نفسك أي سؤال بشأن البزة التي نرتديها، مالذي تعنيه للفلسطينيين، مثلاً.”
مرت لحظات من الصمت.لا أظن أن أحداً قد توقع مثل ذلك.كانت “كينيريت” تستمع إلى النقاش ولكنها لم تتدخل.العواطف سادت ثانية.
“هذا ليس صحيحاً، لا علاقة لذلك بتاتاً.نحن لدينا تاريخ مميز جداً.لقد أضطهد اليهود في كل زمان ومكان والطلائع الصهيونية ضحت لكي نستطيع أن ننعم نحن هنا بالسلام.”
“لذلك علاقة كبيرة.” تقاطع دانيلا.”طالما أن لدينا تلك الصورة الرومانسية غير القابلة للخطأ عن أنفسنا، سوف نستمر بإضطهاد شعب حتى دون أن ندرك ذلك.”
“لكنهم هم الذين…”
ظل النقاش الفلسطيني متعثراً.حالما انتهوا من مناقشة كل النقاط، تمسكت “دانيلا” بموقفها بينما رمى “المعسكر الوطني” بعض الأشياء في وجهها، موتى الهولكوست، وأولئك الذي سقطوا في حرب الإستقلال، في حرب الأيام الستة، في حرب يوم الغفران، والحرب في لبنان.ومن بين الموتى كان هناك جدة، خال، أب، أخ، ابن عم، صديق…
لم أنبس ببنت شفة.لم يكن لدي قريب احترقت جثته.كما أني لم أكن أظن أن كلام “دانيلا” كله خاطئاً، ولكن من الضروري أن تقولي الأشياء بطريقة أخرى حين تحاولين شرحها دون أن تجرحي أحداً، أو تستفزي تلك الدموع، دون أن تخضعي كل شيء للمساءلة.
أو أن عليك أن تيأسي ثم ترمي بزتك وتهربي من الموقع.
5 أكتوبر، 8:30 مساءاً.
قمنا بركضة الخمسة عشر كيلومتراً اليوم…أنا استطعت أن أركض سبعة كيلومترات منها.إنه ضغط الأيام القليلة الماضية، أن نعيش في هذا الكون فترة طويلة، أن نكون محكومين بالتفكير لمدة نصف ساعة فقط (عندما أكتب).لابد أن يكون الأمر كذلك.أثناء قيامي بالركض، تذرعت بنوع من الحجج من تلك التي نبتدعها في المدرسة الابتدائية عادة، احدى عدسات نظارتي واهية الأحكام.في منتصف الركضة وبشكل غير لافت أخفيتها في جيبي، ناديت على “كينيريت” وأخبرتها بأني لم أعد أري جيداً.لم تحاول أن تخلق أية مشكلة لي، أعطتني ورقة سماح وأمرت سيارة الجيب التي ترافقنا بأن تعيدني إلى القاعدة، حيث بإمكاني بسهولة أن أنتقل إلى الحضيرا.
أربعة ساعات لوحدي، أربعة ساعات من الحرية التامة.لا يمكنني أن أخفي سعادتي.في الحضيرا التي لم يسبق أن زرتها، أعدت العدسة مكانها وجلست على أول مقهى وجدته أمامي.أدير ناظري بدهشة، أناس من مختلف الأعمار، يرتدون ملابس بالأبيض والأسود وكل الألوان الأخرى، أطفال رضع في عرباتهم، أولاد يتراكضون، هؤلاء ظللت أراقبهم بفضول شديد:لم أشاهد أطفالاً منذ زمن طويل.لا نأبى بالأطفال في الشوراع عادة، ولكني أعيش الأن في عالم حيث أرى رجالاً ونساءً بين الثامنة عشر والخمسين، لكن لا أثر للأطفال فيه.أدرك أني أفتقد ذلك، أو بالأحرى أن عدم وجودهم من حولي هو شيء لا يبدو طبيعياً.
أخاطب نفسي، أعيش في عالم محرم على من هو دون الثامنة عشر.
لم أعمل شيئاً طيلة ساعات ثلاث.لم أكتب شيئاً، حتى أني لم أكلم أهلي أو “راحيل” أو “يوليا”.ارتويت من أصوات المدينة، ومن البيوت الصغيرة المتباينة الطراز (ليست جاهزة البناء) ومن الناس.
تنفست من عبق الحرية المسروقة.
6أكتوبر، الساعة 9:20مساءً.
كنا قد خمنا، ولكن الأن تم التأكد من المعلومات من مصدر موثوق، سوف يسمحون لنا بالخروج نهاية هذا الأسبوع.
***