عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج1 ف6
إلى الأمام سر
شيء مزعج أن يوقظك شخص ما، لا تكاد تعرفه في منتصف الليل (حتى لو كان الصباح في عرف الجيش يبدأ الساعة الرابعة صباحاً).حالما تخرج من الفراش تحس بالبرد.مع أننا في سبتمبر.لم أشعر قبلاً بالبرد في مثل هذا الوقت في إسرائيل.أرى بعض فتحات التهوية العملاقة والتي تبدو مسؤولة عن تبريد قواعد الجيش، لتعليمنا كيف أن الحياة جدية هنا.
من الواضح أن الجميع أقل ثرثرة من مساء الأمس، نرتدي بزاتنا العسكرية.لو كنت أبدو مثل الآخريات فمن الأفضل أن أبتعد عن المرآة:وجه منتفخ، بشرة شاحبة، عينان متورمتان.
تبدو “سيفان”، التي تشعر أنها قد بدأت بالإضطلاع بدفة القيادة، قلقة بعض الشيء من أن بعض الفتيات يرتدين البلوزات أو الانوراك.
“هل تعتقدن انه مسموح لنا بذلك؟” تسأل بصوت خفيض.
الأشياء المتجمدة من البرد يهززن بأكتافهن.
“علينا الإستيقاظ الساعة الرابعة والنصف، لكن لا احد قال لنا أن علينا أن نتجمد من البرد.اذا تفوهت بأي شيئ فسنخلعها، هذا كل ما في الأمر.”
وهكذا، وضعت البلوزة والانوراك الرجالي ماركة “مشيلن”.أي عارضة أزياء كانت ستبدو كالفيل في تلك الملابس.لكنها لا تؤدي الخدمة العسكرية، وليس بإمكانها أن تشعر بالإحباط الذي يولده البرد حين تكون الملابس سيئة، وحين تكون جندية.
حول المغاسل تتجمع كتلة من لابسات الخاكي.المح رأساً صغيراً أشعثاُ وأضع يداي على عينها.تبصق “إينات” معجون الأسنان من فمها.
“هل نمت جيداً؟”تسألني.
“لا تسأليني أسئلة يمكن أن تزعج أناساً في منتصف الليل.”
“في أي خيمة أنت؟”
“رقم 13، وأنت؟”
“رقم 27.حاولي أن تأتي الليلة قبل أن يطفؤا الأنوار.علي أن أذهب فلم أرتب فراشي بعد.”
وأنا أيضاً.أعود إلى الخيمة مع الفتيات حيث يدور نقاش ساخن.كيف نرتب فراشنا؟البعض يدعي إستناداً إلى مصادر مطلعة (أباء، اخوان، أصدقاء) بأنه يجب طوي الأغطية والبطانيات، آخريات يقلن يجب شد كل شيء بعناية، لكن احدى الفتيات تقترح برومانسية أن نشد الغطاء أسفل السرير مثلما يفعلون في الفنادق.رئيسة المجموعة تفقد صبرها، إنها الرابعة والنصف.
“أياً كان ما سنفعله فلن يكون صحيحاً”، تقول “كينيريت”، “أي شيء محدد.دعونا فقط نتأكد أنها مرتبة.وبسرعة”
في تمام الساعة الرابعة والدقيقة الثامنة والخمسين نكون في حالة التشكيل الرباعي.تقف “سيفان” في الصف الأول، متوترة جداً.تظهر العريف “كينيريت” في تمام الساعة الخامسة وببرود تعطي أوامرها.
“سرية (د)، إنتباه.”
نرفع أذرعتنا اليمين إلى مستوى الجبين.الفتاة التي إلى يساري تطلق صرخة خافتة وتمسح عينيها.الواضح أن الحركة التي قامت بها لم تكن صائبة.أعض على شفتي كي أكبح ضحكة.
“الجندية “سيفان”، قدمي التقرير.”
تتقدم “سيفان” ثلاث خطوات إلى أمام، تؤدي التحية وتقول (بصوت كان من المفترض أن يكون حازماً.”عشرون جندية في السرية، سيدتي.”
“أي سرية؟”
“سرية (د)، سيدتي.”
“عليك أن تقولي ذلك بوضوح.أبقوا في الإنتباه.سأقوم بتفتيش خيامكم.”
تمضي دقيقتان.تعود دون أن تبدي أية ملاحظات.
“سرية (د) نصف إستدارة لليسار.يسار .. يمين، يسار .. يمين… يسار.. يمين.”
نصل إلى الميدان الذي كنا قد تجمعنا فيه ليلة البارحة.كل الكتيبة متجمعة هناك، لكن الملازم “أنبار كاتز” ليست هناك.”
احدى العريفات تبدأ بالكلام.
“سنبدأ يومنا ببعض تمارين الإحماء.الفطور عند الساعة السادسة.الرجاء نزع الأنوراك والتجمع في صف واحد.
نخلع الأنوراك ونرتجف.ومن ثم بأوامر من العريف نبدأ الجري.
20سبتمبر، الساعة التاسعة والنصف مساءً.
لم يعد هناك وقت للتفكير.كل دقيقة هي موضع حساب، كل ما نقوم به هو بموجب أوامر، لم ننعم بدقيقة من الراحة منذ الصباح.من غير المتصور القيام بمبادرة من أي نوع.تعلمنا كيف نطوي أغطية الأسرة والبطانيات بشكل صحيح (60سم×40سم).قبل أي شيء لا بد من نفض البطانيات بقوة بحيث تنطلق غيمة من الغبار.أعتقد أنهم ينقعونها في حمام من الغبار قبل كل موسم.محظوظات أولئك اللواتي لديهن ربو، إذ أنهن معفيات من ذلك.إبتداء من الغد سيكون هناك تفتيش، مرة واحدة على الأقل يومياً.هناك قائمة الواجبات التي علينا إنجازها، المطبخ، الحمامات، واجبات الحراسة الليلية.لأننا لم نتعلم الرماية بعد وليس لدينا أسلحة فستكون الحراسة خارج خيمتنا فقط.ليس هناك من جدوى لهذه لأن هناك من يؤمن حراسة القاعدة.ولكن يبدو لي أن كلمتي “مفيدة” و”منطقية” لا معنى لهما هنا.نحن نتبع الدروس ونواجه حياة صعبة، لا غير.
ومع ذلك فأنا أشعر أني بوضع جيد.الفتيات مرحات، نضحك حالما نختلي بأنفسنا (وهي مرات نادرة).لا واحدة منا تعرف الأخرى من قبل.إنها أرض بكر.نمر بأول تجربة كبنات ناضجات (على ما يبدو).ذلك ما يساعد على سرعة الألفة.
21 سبتمبر، منتصف الليل
من المفترض أن أكون نائمة.ولكني أنهيت لتوي واجب الحراسة.إنه أمر مضحك.علينا أن نسأل كلمة السر-اليوم كانت الكلمة “قهوة من غير سكر”- من كل من يأتي إلى الخيمة.أنا جندية الكتيبة.لو كان لدي شراب سحري لسقيته للطباخين.صدقاً، وجبات الطعام مقززة.انضممت إلى نادي آكلات اللبن الزبادي.إنه مفيد للرشاقة، لكن قلة النوم وعدم الراحة يجعلك تشعرين بالجوع.من حسن الحظ أن لدى كل منا كميات من البسكويت، جمعناها سوية.
22سبتمبر، الساعة الحادية عشر والربع مساءاً.
أكتب على ضوء النور الذي يشع من ساعتي.بعض الفتيات يشخرن.و”كارين” تمصمص إبهامها.
اليوم إستلمنا بندقية.إنه شيء مرعب.سنمضي سبع سنين في السجن لو فقدناها، أو لو سرقت منا.لابد من أن نبقيها معنا طوال الوقت، أو نقفلها بالسرير.(ماذا اذا سرق أحدهم السرير.)حتى الآن تعلمنا التحذيرات المعروفة.اذا ما اقترب أحد منا ونحن في نوبة الحراسة علينا أن نسأله عن كلمة السر.إن لم يجب علينا أن نقول “قف” بصوت واضح ومرتفع، وبعد ذلك نقول “قف والا سأطلق النار.قف والا سأطلق النار.” مرتين.اذا إستمر بالتقدم:أطلق لتقتل.
أطلق لتقتل.
إنهما مجرد كلمتان، ولكن حين ترتبطان سوية فأنهما تبدوان مثل إنفجار.لامفر من ذلك.
كفاية.الآن أستطيع النوم.
سبتمبر 23.الساعة التاسعة مساء.
سوف نخرج.هابيتا! هابيتا! تلك الكلمة الرائعة التي تعني الذهاب إلى البيت.ننتظر الحافلة التي ستأخذنا إلى محطة الحافلات الرئيسية في الخضيرا.من هناك سنكون أحراراً في الذهاب إلى البيت.أحراراً بكل معنى الكلمة حتى منتصف نهار الأحد.
إنتظرنا ساعتين لحين وصول الحافلة.سلمونا ورقة الإجازة للسماح بمغادرة القاعدة.(ليس بإمكاني الإنتظار أكثر لأستلم ورقتي ومن ثم أقوم بالإتصالات الهاتفية، لكي أغازل، أبكي، أرى أصدقائي، أرتب شعري، أقرأ، أكتب، أضع مساحيق التجميل، أتزوج، ولا أعرف ربما أشياء أخرى.)
محاولة الحصول على توصيلة مجانية على الطريق غير مسموح بها.الطرق عبر البلاد مليئة بالجنود يحملون أسلحتهم، رافعين إبهامهم إلى أعلى.مالذي يفعلونه؟هل هي تمارين الجمناستيك، يتنفسون الدخان الخارج من عوادم السيارات؟
“هذا كل ما في الأمر.تمنع التوصيلات المجانية.
من الضروري كذلك عدم الثرثرة بأسم قاعدتنا، أسماء الضباط، والضباط الصف، زملائنا الجنود، كم عددنا وماهو الرقم العسكري لكل منا.
“لكن جميع من في البلد يعرف بأمر هذه القاعدة”، تجرأت احدى الفتيات على القول “نصف السكان مروا من هنا.”
“ومع ذلك ففي الجيش يجب أن تمتنعن عن الكلام.في الجيش كل شيء مصنف بأنه مخصوص، وأي شيء ليس مخصوصاً فهو سري.”
“وما الذي هو غير سري؟”
“سري للغاية.”
لدى العرفاء أجوبة عن كل شيء، جاهزة دائماً.هم سادة قواعد اللعبة والتي تتطلب منا وقتاً طويلاً لإدراكها.
سنتان؟
“على الجميع أن يعود للقاعدة يوم الأحد.ستكون حافلة بإنتظاركن في محطة الحافلات في الخضيرا في تمام الساعة الحادية عشرة لنقلكن.في منتصف النهار ستكونن أمام الخيمة.عطلة سعيدة.”
بعض الفتيات سيكونن معي في الحافلة لبعض الوقت حتى تل أبيب.نرفع بفخر هوياتنا الجديدة (مسموح للجنود ركوب حافلات النقل العام مجاناً).ننتظر رد فعل ما من السائق، إبتسامة، تحية.لكنه يبدو مبتئساً ولا أبالياً لمجموعتا الخاكية الصغيرة.لكن على الجانب الآخر، ترتسم على وجوه الركاب تعبيرات محببة…منبعها نظراتهم إلينا.الناس في الشارع يقدسوننا.
في الحافلة التي تقطع النقب إلى بئر سبع:أضع السماعات في أذني.وحدي وحرة.خلال ساعة سأعود إلى عائلتي.لحد الآن لدي شعور بالحرية اللامحدودة.ربما يعود ذلك للموسيقى ولمنظر الريف الذي تخلفه الحافلة المنطلقة إلى أمام.أعتقد أني بدأت إكتشاف أن الحرية هي الحركة.وأخذ نفساً عميقاً.
بحدود الساعة الرابعة عصراً أصل إلى مدينتي، التي يخيم عليها السكون.تتهيأ للسابات.أنه مساء الجمعة ويوم الراحة على وشك أن يبدأ.ينتابني شيء من الشعور بالغرابة وأنا أسير هنا بالبزة العسكرية.أشعر كأني في حفلة تنكرية.كل واحد سينظر إلي ويبتسم، أو يضحك.إنهم يعرفون “فاليري”، وليس الجندي المكلف رقم 3810159.
لكن ليس هناك أحد.حين أقرع الباب تتلقاني صيحات الفرح.لم يكن لدي وقت لأخبر والدي بقدومي.أمي تحتظني، وأبي يحاول أن يأخذ نصيبه مني.
“كنت متأكدة من مجيئك هذا الأسبوع.قلت ذلك لأبيك.عملت لك كل الأشياء التي تحبينها.”
“دعينا نلقي نظرة عليك، تبدين جميلة، البزة تليق بك.”
“ضعي القبعة على رأسك.ياللروعة، أنت جندية حقاً.”
أضع قبعتي.وأيضاً اؤدي التحية.”تمام.أنا جندية، ذلك مذهل.”والآن بما أني في المنزل، مع والدي،لا يبدو بإمكاني أن أحزر مالذي يعنيه هذا بعد الآن.ليس هناك الكثير الذي تغير، فانا في أجواء مألوفة، كل ما هنالك أني ابتعدت لأربعة أيام.أشعر ببعض عدم الإرتياح، وليس بإمكاني أدراك السبب، ولكني أخفي ذلك عنهم.
أنا الآن رحالة عادت لتوها من أرض لم يسعها إكتشفاها.هم يمطروني بأسئلتهم.
“أين نمت؟” تسألني أمي بقلق.
“في خيمة.”
“يالله، هل لديك ما يكفي من البطانيات؟”
“طبعاً لدينا، وعلى أي حال، أنت تعرفين، حين تكونين مرهقة فأنك لا تشعرين بالبرد.”
“ماذا عن الأكل؟” يسألني أبي.
“مقزز.”
ينزعج.ربما من جوابي الصريح أو من الواقع ذاته.أستغل الوقفة لوهلة لكي أسألهم عن شقيقتي.يتأسفون أنها لم تستطيع الحصول على إجازة هذا الأسبوع.بالتأكيد سوف تكون هنا في عطلة نهاية الأسبوع القادم.أقول بيني وبين نفسي، على هذا المنوال فلن أراها لعام كامل.أحاول أن أخبرهم عن كل شيء بالتفصيل، لكني أنسى بعض الأشياء، فأعود ثانية ألى اليوم الأول.إلى اللحظة التي تركتهم فيها.
لايبدو الأمر يسيراً، فأنا أتحدث عن عالم غريب.يحاول والدي أن يجد شبهاً مع أيام خدمته العسكرية خلال حرب الإستقلال الجزائرية.أمي تحاول أن تنهره.
“لقد حكيت لنا تلك الحكايات مئات المرات، تلك أخبار قديمة.وعلى أي حال، ليس الأمر كذلك معها، فهي جندية فتاة.”
أصغي إلى الإعتزاز الذي في صوتها، في حقيقة كوني فتاة وجندية.شيء مريح.
بعد أن بقيت هناك لوقت معقول، أتسلل إلى الخارج وأعدهم بأني سأكون معهم على العشاء.الإتجاه إلى “راحيل” و”يوليا”.
من نافل القول أنني لم أخلع بزتي.
تتلقياني بإندهاش يثير في البهجة.
“أنظروا إلى تلك الجندية الجميلة.”
“البزة تليق بك حقاً، حقاً.”تقول “يوليا”.”دائماً ما أقول أن الخاكي يليق بالسمراوات.”
“إنه يناسب الشعر المحمر أيضاً”، أرد بلهجة (تصالحية مماثلة)، أو هكذا أظن.
“ضعي القبعة، هيا نأخذ صورة.”
تأتي “راحيل” بكاميرتها.كليك.ثم تجرب “يوليا” إرتداء القبعة، وتلجأ إلى تلك الطلة الجامدة، كأنها تنحدر من سلالة “مارلين مونرو”.عجزت دائماً عن أن أعرف كيف بإمكنها أن تتخذ تلك الوقفة.المرة الأولى التي حاولت أن أقلدها أمام المرآة بدوت متصلبة القامة تماماً مثل كلب “دوبرمان” لم ينم منذ عشرة أيام.
وتحت الحاح أسئلتهم بدأت أخبرهم بكل شيء.وصفت اليوم الأول بالتفصيل.حدثتهم عن “إينات”.(التي لم يبدين أي إهتمام بها) وعن الملازم “أنبار كاتز” تلك التي من فرط جمالها فأننا نطيع أوامرها بشكل أعمى.(“ذلك سخف”، تقول “يوليا”.”أنتن تطيعونها لأنها ملازمة.”) أخبرهن عن الخيمة، عن البطانيات اللواتي غطسن في التراب، الشعور وكأننا في مخيم العطلة حين نحصل على بضع دقائق من الحرية، عن الروتين اليومي، وعن كل الأشياء في الأوقات الباقية.المسير في الوقت المحدد، الركض، ترتيب الأسرة، تعلم المبادئ الأولية، والتي سرعان ما يأتي غيرها…
أرى أن إهتمامهما يفتر.لذلك اسألهما، وماذا فعلتما أنتن خلال الأيام الأربعة التي مرت؟”
ذهبنا إلى السينما كما ذهبنا إلى البحر يوماً.تسوقتا في تل أبيب.في احدى الليالي ذهبنا مع المجموعة إلى بار جديد في المدينة يدعى “اورغازما”.(منذ مدة واصحاب البارات بدؤا يتنافسون بإطلاق أسماء مثيرة، قبل فترة رأينا “القيامة الآن”، “المطر القرمزي”، “الحطام”، “الملعون”، “دراكيولا”…)
لم يفعلوا الشيء الكثير، تسكعوا سوية.
يمضي كل منا في طريق على أن نلتقي مساءً مثل كل مساء جمعة.”
عدت سريعاً إلى البيت.إستغربت أمي من عودتي المبكرة، لكنها لم تنبس ببنت شفة.بينما كنت أنتظر العشاء سجلت بعض الملاحظات في مذكراتي، لكن ما كان بوسعي أن أقرر في ما اذا كان هناك “معسكر” للمذنبين، “يوليا”؟ “راحيل” ؟أنا؟ من منا لم يعد يفهم الآخر؟من منا لا يشعر أنه بحاجة إلى أن يستمع للتفاصيل الصغيرة التي لاتعنيه؟مالذي حدث في أربعة أيام، بحيث ذابت تدريجياً تلك اللهفة لرؤية احدانا الأخرى حين إلتقينا ثانية.
لم يكن بوسعي فهم تلك الحالة الغريبة.كنت حزينة ولكن ليس إلى الدرجة التي أبكي بها.أو حتى أن أتحدث عنها لأي أحد.
صحيفة نهاية الأسبوع، مع كل ملاحقها كانت فوق الطاولة.قرأت عمود “يوناتان جيفين”، لا يسعنى أن تفوتني مهما كان الأمر.هو يساري لايحيد مثلما هو مدمر لا يفتر.ينتقد الحكومة وإحتلال الأراضي الفلسطينية وللقدرة الإسرائيلية الأسطورية على الجدل دون سماع ولو كلمة واحدة مما يقوله الآخرون.هو في لندن ويكتب عن الصورة التي عليها إسرائيل من هناك.دولة صغيرة لا يتوقف الآخرون عن الكلام حولها.منحتني مقالته الفرصة لكي أتنفس قليلاً بحرية.تصفحت الجريدة أبحث عن شيء آخر.لكني لم أكن مهتمة بأي شيء مما يدور في العالم.
شغلت التلفزيون.كانت الأخبار قد بدأت لتوها.إضطرابات في الأراضي، في جنين.أعمال عنف، إطارات سيارات تحترق، منجامات وحجارة، وأعمال عنف مضادة من جانب قواتنا، إطلاق رصاص مطاطي.جرح خمس عشرة فلسطينياً.ثلاثة جرحى إسرائيليين.لا موتى اليوم كي نحصي ونقارن بين الطرفين، كي نعزز الكراهية، أو السجال ضد الطرف الآخر.
الحافلة التي استقليتها من الحضيرا لكي أصل الى تل أبيب تمر على بعد كيلومترات من جنين.ربما في تلك النقطة كنت أنا و”تامار”، و”شلوميت” و”غاليت” نغني.ربما كانت أغنية “شلومو أرتزي” ،” أرض جديدة.”
ذهبنا الليلة إلى البار وكنت سعيدة أن التقي بالاولاد، وخاصة “فريدي”؟كلمني عن القاعدة وكأنه كان هناك بيننا.جعلني ذلك اشعر بالانتماء ثانية.وانا بملابسي المدنية شعرت وكأن شيئاً لم يتغير، وكأنه مساء جمعة آخر وليس مجرد 42 ساعة منحت لجندية في السرية (د) في الكتيبة 3.
كنت متعبة وكان لايزال أمامي الكثير من الشراب علي أن أعبه، الا أنني تركته وذهبت مباشرة إلى الفراش ونمت طويلاً.استيقظت، شنيت غارة على الثلاجة:شيء من الدجاج، كرات اللحم التي تصلبت بسبب البرد، قليل من الكيك المحلى بالعسل والذي تصنعه أمي أفضل من أي أحد آخر.
تلك هي المرة الأولى التي أهجم فيها بتلك الطريقة، تاركة باب الثلاجة موارباً وضؤها متقداً، مثل حرامي.
قضيت السبت بين لعب التنس مع أمي ونقاشات فارغة أخرى مع “راحيل” و”يوليا”، وفلم رائع على التلفزيون.
بقيت أقول لنفسي ينبغي أن أستغل كل وقت الإجازة، اذ لا أدري متى سأكون هنا ثانية.لكني لا أعرف مالذي يمكن أن أفعله.ماذا هناك غير ما هو معتاد في السبت (عطلة عامة) في بئر سبع، مدينة هادئة (هادئة جداً) في عمق الصحراء.
فجأة أحس بأني أفتقد “جين-ديفيد” تماماً مثل اليوم الأول بعد مغادرته.أضرب رقمه في تل أبيب.بعد عشر رنات يرفع التلفون، ويرد بصوت ناعس، هالو.
أقفل السماعة.
لا يسعني الإنتظار كثيراً للعودة إلى القاعدة، إلى زميلاتي الجنديات الضاحكات اللواتي لا يعرفن مشكلاتي.لا أطيق الإنتظار، أن أكون الأولى في التدريب الذي وعدونا به.
أردت أن أعرف مالذي سيأتي لاحقاً.لأن تلك هي التي ستكون عليها حياتي منذ الآن.اما بئر سبع، بيتي، صديقاتي، قلبي المحطم، الذي أجره ورائي مثل بطانية الصغار، فسأركن كل ذلك لبعض الوقت.
***