عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                     صلاح النصراوي
ج1 ف5

                         الرقم 3810159، الكتيبة 3، سرية (د)

أخرجت دفتر الملاحظات من حقيبتي.على الغلاف كتبت ببساطة:جندية 19 سبتمبر–؟ وضعت علامة الإستفهام، اما لكي تزيدني ثقة، أو لترعبني.حقيقة لا أعرف.مهما يكن،لا شيئ مؤكد بشأن المستقبل.
أريد أن أدون ملاحظات وافية عن أحداث اليوم، وخاصة تلك المتعلقة بمشاعري.أشعر أني اذا لم أكتب ما أقوم به بشكل يومي فكأنما لا شيء يحدث.أشعر بذلك منذ كنت في الثانية عشر.السنة الوحيدة التي لم أدون فيها شيئاً كانت سنة قدومي الى إسرائيل:كان هناك الكثير من الإكتشافات والإنفعالات والناس الجدد، كل دقيقة فيها كانت مفعمة.واللغة، العبرية، التي تجعل كل العالم من حولك عديم الفهم، كانت غامضة.لا أتذكر أي شيء من تلك السنة، كأنها فجوة واسعة في ذاكرتي.وحتى اذا ما حاولت فلا شيء غير الظلام التام.
اليوم كان هناك شيء من هذا القبيل، استغرق الأمر بضع ساعات لكي أنطلق نحو عالم غريب.وهكذا فبالرغم من، أو بسبب، تلك المنعرجات، فأني أكتب جملا ً دون فاعل أو دون فعل، مجرد صفات متفرقة.
الجنود المشرفون، مثيرون للسأم.الطعام، صعب المذاق.العالم كله رمادي وخاكي.حتى أشجار اليوكالبتوس تبدوا وكأنها زرعت لكي تستكمل النظام اللوني الرمادي-الأخضر.مبكرة نوعًا ما، بزة الجندية.إثارة.إنه لمن الغباء، ولكني أشعر بأني مختلفة.لست وحدي.جميعنا نتكلم بلغات مختلفة.حين إرتدينا البزة.لا أطيق الإنتظار لكي أرى نفسي بمرآة كبيرة، من رأسي حتى أخمس قدمي.إينات.صديقة.بنت لطيفة، على أي حال.كل شيء يمضي بسرعة، بسرعة كبيرة.
حل الظلام و”إينات” غطت في النوم.نمضي بإتجاه الحضيرا، شمال تل أبيب.نظرة سريعة إلى القمر، مدور ومضيئ، وأغط أنا في النوم.
تهتز الحافلة، تندفع، تختض.نترك الطريق السريع وندخل إلى طريق جانبي ضيق.سلسلة من المطبات والأخاديد.من الواضح أنهم يريدونا أن ندرك أننا لسنا هنا من أجل المتعة.أستطيع أن أرى الأسلاك الشائكة التي تحيط بالقاعدة على ضوء القمر، نقطة التفتيش التي يحرسها جنديان، ضلال أشجار اليوكالبتوس الهائلة التي تبدو أشد سواداً من الليل.صورة مكررة لما رأيته هذا الصباح، بنسخة ليلية.
يطلب منا النزول من الحافلة مع متعلقاتنا وبضمن ذلك كيس العدة الكبير الذي يصل طوله نحو 120 سنتيمتراً.البنت القصيرة التي إرتعبت من التلقيح لا يمكن أن يكون طولها أكثر من 150 سنتمتراً، وبالكاد يمكن رؤيتها من وراء كيسها.أبتسم.
“لماذا تبتسمين”، تسألني “إينات” مندهشة.
أميل بحنكي نحو “تالي”، اذا كنت الفظ أسمها بشكل صحيح.
“إسمعي.أنا أشعر بالأسف نحوها.فهي تبدو مثل كيس له قدمين مع بعض الشعيرات من فوق.تذكرني بأفلام “لوريل وهاردي” أو “شارلي شابلن”.لعلك تعرفين ما أقصد؟”
“ليس تماماً.لابد وأني شاهدت بعضها حين كنت طفلة، ولكن الجميع كان يعتقد أن الدهر أكل عليها وشرب، من زمن ما قبل الحرب ….”
“ليست مما أكل عليها الدهر وشرب.”قلت محتجة.”إنها تدور حول رجال قصار، سمان، سذج، متثاقلون، فاشلون، أناس يختفون وراء أكياس كبيرة.”
“أنت تحبين الفاشلين، إذن، أليس كذلك؟”
أصابني السؤال بالصمم.أنا كنت الأولى في كل شيء، خلال كل سنوات الدراسة، في الموسيقى، في التنس، (وفي الحقيقة ليس في الرياضة أو في السباحة) مما يعني أني لست بفاشلة.ولكني أرى في الفاشلين ما هو مثير.
ليس لدي الوقت لكي أشرح كل ذلك لـ”إينات”، أو حتى لنفسي.تمر إلى جانبنا فتاة في منتهى الجمال.شعر بني قصير، بشرة زيتونية، وجه مستدير تماماً، ترتدي بزة حربية تبدو وكأنها صممت من قبل “إيف سان لورين”، وتعلو رأسها قبعة ذات حافة عريضة.تربط رشاشة “أم-16” حول جسمها، إنه السلاح الأكثر أناقة، والذي يحمله الضباط فقط.ويدل الشريطين اللذان على كتيفيها بأنها ملازم.
“الملازم “أنبار كاتز”، تقدم نفسها.”أنا قائد كتيبتكم.ضعوا الأكياس على الحائط وأصطفوا في صفوف من خمسة أفراد، رجاءً.”
صوتها لايرتفع، ليس هناك في نبرة كلامها ما هو مزعج أو حتى فاتر.إنه محايد، مع شيء من التعاطف.من الواضح أنها تدرك أن كل ما عليها هو أن تكون هنا، وأن تفتح فمها فقط حتى تدين لها المئات من البنات أو أكثر بالطاعة.فجأة أشعر بقرف شديد، أميل نحو “إينات”.
“هل تعتقدين أنها عميلة مأجورة من قبل سوريا لكي تضعضع معنويات الجنود الإسرائيليين؟”
“ربما، إنها خارقة، الجميع يطيعونها فوراً.لديها قوة شخصية فائقة.”
“ونحن نبدوا حمقاوات ببزاتنا الجديدة المتصلبة التي تفوح برائحة النشا من على بعد 200 خطوة.”
تقف “أنبار كاتز” بقامتها المستقيمة أمامنا، أربع بنات أصغر منها سناً بقليل، بمعنى آخر انها ليست أكبر منا، يرتديين قبعات عريضة الحافة أيضاً.
“مرحبا بكم في القاعدة 80.خلال الأسابيع الأربعة القادمة ستتلقون الدروس هنا، في الكتيبة-3.هذه الكتيبة مكنونة من أربع سرايا، كل منها تحت قيادة واحدة من العرفاء الأربعة الذين هنا.سيتلون أسمائكن ويصطحبنكن إلى خيامكن.”
فجأة تتغير نبرة صوتها، “العريف تامار!”
أطول البنات تتقدم أربع خطوات إلى أمام، تستدير ربع إستدارة، ثلاثة خطوات إلى اليسار، ثم ربع إستدارة، خطوة للأمام، ثم ترفع يدها بسرعة خاطفة نحو صدغها.إنها المرة الأولى التي أرى فيها تحية عسكرية حقيقية، أمر مثير للإعجاب.
“نادي على أسماء جنديات السرية (أ).
“نعم سيدتي.”
التحية العسكرية ثانية.تستدير العريف بإتجاهنا وتقرأ قائمة الأسماء، وأنا أبدأ بالتعرف على الأرقام.أرفع قامتي قليلاً حين أسمع رقم “إينات” بينما تغمز لي وهي تسير لتلتقط أشياءها.تضع العريف “تامار” القائمة في جيبها ثم تستدير نحو الضابط وتؤدي التحية، وتقول:
“عشرون جندية في السرية، سيدتي.”
“حسناً، إنصراف.”
تنصرف السرية.أنفصل عن “إينات” ولكني لا أشعر بأي إنزعاج.هناك الكثير من الإثارة.خلال دقائق سأكون قد قد إنغمست في هذا العالم الذي تطغي عليه الجدية والرموز والتنظيم.نسيت كل مخاوفي، وخفقان قلبي، أشعر بفرح غامر، وكأني أخبرت لتوي بأني سأقوم بدور البطولة في إنتاج ضخم يدعى “جندية” أو “بندقية في يدي”.
تبدأ عريف أخر بنفس الإجراءات التي قامت بها الأولى، لكنها أيضاً لا تنادي على رقمي، إنها العريف “كنيريت” ذات الشعر الأشقر المموج والعينان الزرقاوان الهادئتان.لم يبقى الا عشرون منا ولكنها مستمرة في النداء على الأرقام، وبعد ذلك تبلغ الضابط بالتقرير.نتبعها خطواتها إلى حيث يطبق الظلام.
تأخذنا إلى الخيام، وتؤشر إلى الخيمتين المخصصتين لنا ثم تبدأ بتقسيمنا.
داخل الخيمة هناك هناك عشرة أسرة بفراش يبلغ سمكه حوالي سنتيمترين، وربما كنت كريمة في تخميني هذا.
“ضعن حاجياتكن بجانب الأسرة، لديكن دقيقتان لكي ترتبوا كل شيئ.”وبعد ذلك عليكن بالإصطفاف خمسة، خمسة خارج الخيمة مع باقي أفراد السرية.”
تغادر.
الخيمة يسودها جو من الإثارة.بعض البنات اللواتي يعرفن بعضهن يبدأن سجالاً حول أي سرير سيخترن.
أسأل بهدوء.”هل لدى إحداكن ساعة يد؟
كل الأنظار تتجه نحوي بدهشة.
“لقد قالت دقيقتان.في الجيش ذلك يعني 120 ثانية وليس أكثر من ذلك.إعطوني ساعة يد وقرروا أي سرير ستأخذه كل واحدة من كن وأنا سأخذ المتبقي.”
في الثانية 118 كنا جميعاً خارج الخيمة.العريف تنظر إلى ساعة رياضية كبيرة بيدها.تخطو بإتجاهنا لتقف في الأمام.
“أيتها الجنديات.من الأن فصاعداً سوف تسرن صفوفاً حين تكن تحت قيادتي.المسير يبدأ عادة بالقدم اليسرى.عليكن السير بخطوات وبإنتظام في خط واحد، والإصغاء الجيد لأوامري..”نصف إستدارة لليمين.نصف إستدارة لليسار.عندما تكن في تشكيل رباعي كما أنتن الآن، عليكن البقاء في وضع الإستعداد حتى تسمعن الأمر، إسترح.ليكن كعبا الرجلين متلاصقين، وقفن بإستقامة مهما طال وقوف التشكيل.كل يوم سأسمي إحداكن رئيسة السرية.عليها أن تعطي تقريراً بالأرقام في كل مرة يتم المناداة.سأعطيها قائمة بالمهمات التي ستقوم بها السرية وعليها التأكد من متابعة التنفيذ وإحترام التوقيتات.ستتحمل مسؤولية أي تأخير.هناك شيء أخر، عندما تكن في القاعدة فالواجب أن تؤدين التحية لكل من هو أعلى رتبة، بهذه الطريقة.تميل ذراعها بدرجة 45 وترتفع إلى مستوى حاجبها الأيمن.ستستلمون الأغطية والبطانيات وبزة الميدان.سرية (د)، إنتباه.
نقف بحالة الإنتباه.
“نصف إستدارة لليسار”
نستدير كأننا أمرأة واحدة.
“يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين…”
تنطلق المجموعة الصغيرة.البعض تواجه مشكلة في الخطوات فيترك بعضها لكي يظل في الصف مع الآخرين.
“سرية (د)، قف.”
الجميع يتسمر كالموتى.بعض البنات لاتزال واحدة من أرجلهن معلقة في الهواء.تبدو وكأنها لعبة أطفال ولكن من غير غابة مثيرة للمرح أو سناجب تتقافز.
نحن أمام بناية من تلك الأنواع الجاهزة البناء.مثل بناية الإستقبال في القاعدة، أو أي مكان آخر، واذا ما سألتني فأن لا أحد إعتنى بطرازها المعماري.
“سرية (د) إلى البناية في طابور واحد.”
نأخذ بطانيتان لا لون لهما وخشنة مثل بلوز الصوف.بعد ذلك نعطي مقاسات ملابسنا وأحذيتنا.يعطون كل واحدة منا طاقمين من البزة العسكرية مع قبعة صغيرة كتب عليها كلمة “تسحال”* باللون الأصفر، مع زوج من الأحذية ذات القياطين والتي تبدوا أكثر أناقة من أحذية “غولدا”.
“سرية (د) إنتباه.”
“يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين..”
نعود إلى الخيمة حيث أمامنا خمسة دقائق فقط لتغير ملابسنا ووضع حاجياتنا.
مرة ثانية في تشكيل رباعي أمام الخيمة.إنتباه.إسترح.يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين.”
الإتجاه، مركز القاعدة.نتقابل مع سرايا أخرى تسير كما نحن.نتبادل النظرات محاولين التعرف على الوجوه، لكن يبدو الأمر صعباً، فالجميع يرتدون قبعات.
“سرية (د) قف.”
نقف أمام ما يمكن أن يكون مطعماً، يبدو ذلك من خلال الروائح المنبعثة.هناك خمس سرايا تنتظر دورها.الحذاء بدأ يحك قدمي، القبعة الضيقة بدأت تسبب لي صداعاً.ثم أني أشعر بالجوع.
بعد حوالي ربع ساعة من الوقوف الثابت دون أن ننطق بكلمة واحدة، تدعى سرية (د) إلى داخل المطعم.منذ تلك اللحظة لدينا فقط عشرون دقيقة، تلك هي تعليمات الإدارة وعلى الجميع الإلتزام بها.عشرون دقيقة للطعام وست ساعات للنوم يومياً، تلك هي حقوق الجندي الأساسية، الحقوق الوحيدة على ما أراها.
في لوحة الطعام هناك سلطة الطماطة، اللحمة المشوية بالذرة وجزر مسلوق.كل تلك المواد موضوعة في صينية ننظر اليها جميعاً بشيء من القرف.ثم يتم ارشادنا إلى طاولة كبيرة مشغولة نسبياً، الا أن أحد الجنود المناوبين يقول لنا أن نجلس في الأماكن الشاغرة بشكل منتظم.
معظم البنات لا يمددن آياديهن إلى ما هو موجود في الصينية ويتناولن علبة اللبن الرائب الموجودة أمامهن.أسحب صينيتي أمامي بشيء من الحماس وسط نظراتهن المؤنبة.أسألهن إن كن سيمضين الأسابيع الثلاثة القادمة مضربات عن الطعام.ينظرن إلي نظرات ودودة.
“بالمناسبة، هل أنت فرنسية؟”
“نعم.”
“ها.يا لك من محظوظة.”
“إخبرينا عن باريس.”
“قولي شيئاً بالفرنسية.”
“غني لنا في ليلة القمر.
ها نحن نعود إلى ذلك ثانية.لكنهن بدون سعيدات جداً وأنا استجيب لطلباتهن بكل سرور.أقول بالفرنسية شيئاً مثل إننا سنقضي وقتاً رائعاً بالبزة العسكرية، ثم أبدأ أغني الشطر الأول من في ليلة القمر بينما يصغين بإقتناع.شيء سريالي، ها أنا هنا جندية في بزتي العسكرية وأستعد أن أقضي ليلتي داخل خيمة، وغداً ربما سأحمل سلاحاً، وبعد كل ذلك أغني بالفرنسية.
يحين الوقت لكي نفرغ صوانينا ونضعها على حزام ناقل.
لا غرابة.تشكيل رباعي.يسار، يمين، يسار، يمين، يسار، يمين. إلى اليسار إستدر.يسار يمين، يسار يمين، يسار، يمين.سرية (د) قف.
“لديكن الآن نصف ساعة حتى إطفاء الأنوار.الحمامات هناك بعد ثلاثة خيم.الليلة وكإستثناء لن تقمن بواجب الحراسة.الإستيقاض صباح الغد سيكون في تمام الساعة الرابعة والنصف وفي الساعة الخامسة ستكون خيمتكم قد أخليت تماماً وأنتن في تشكيل رباعي.من هي الرقم 3810254؟
ترفع بنت يكسو النمش وجهها ويدها.
“حسناً، أنت الآن مسؤولة عن المجموعة من الآن وحتى الأربع وعشرين ساعة القادمة.ستقومين بعد رفيقاتك الجنديات صباحاً وتعطيني تقريراً بذلك، هل تفهمين ذلك؟”
تقوم رقم 381054 برفع يدها حتى صدغها.
“نعم.”
“عليك القول نعم سيدتي.”
“نعم سيدتي.”
“جيد؟هل هناك أي سؤال من المجموعة؟”
“هل بإمكاننا أن نقوم بأية إتصالات هاتفية؟”تسأل تلك التي عينت لتوها رئيسة المجموعة.
“هناك كابينتا هاتف مخصصتان لكن بالقرب من المقصف يعملان بالعملة المعدنية.ولكن تذكرن أن ندائاتكن الهاتفية يجب الا تؤثر على الوقت المخصص للنوم.هل هناك أسئلة أخرى؟”
صمتنا هو الجواب.
“حسناً، سرية (د) إنصراف، عمتن مساءً.”
وأخذاً بان الليلة ستكون قصيرة، فقد أعتبرت ذلك نوع من السخرية.
مرة أخرى يدب النشاط في السرية.
حوالي عشر من الفتيات، أو أكثر يسرعن إلى الخيمة ويفتشن بجنون عن بطاقات الهاتف التي جلبناها معهن.آخريات بسبب أنهن أكثر إهتماماً بالنظافة، أو لأنهن أكثر إستقلالية، يمضين نحو الحمامات يحملن بأيديهن فرشاة الأسنان والصابون.
أجلس أنا لوحدي مترددة.هناك بعض الخيارات التي لا أستطيع أن أقررها.
مثل الآخريات، أشعر بأن على أن أخبر أحداً بما جرى طيلة يومي هذا.أعرف أن هناك في البيت من ينتظرني على أحر من الجمر.ولكن ان ذهبت إلى كابينة الهاتف فسأكون متلهفة أن أكلم “راحيل”، وبعدها “يوليا”.الفتيات الآخريات ( لم أتعود بعد على مناداتهن بالجنديات) سيضلن يضربن بالكابينة قبل أن أبدأ بضرب الرقم الثاني.هاتفان فقط وهاهم حوالي 200 بنت وصلن اليوم.وبحساب سريع فاذا ما قامت كل واحدة بإتصال واحد فان كل واحدة ستحصل على عشر ثواني وضمن ذلك الوقت المخصص لضرب الأرقام، وبدأ الإتصال ورنين الجرس.
مزعجات.
لسنوات كانت أمي تردد على مسامعي، إغسلي أسنانك ثلاث مرات كل يوم، بشكل جيد، صباحاً ، ظهراً ومساءاً.ربما علي أن أبرهن هذه الليلة مرة واحدة وإلى الأبد، ورغم أني قد كبرت، وأني أرتدي البزة العسكرية، بأني لم أنسى شيئاً مما تربيت عليه.

الطقس مداري بشكل لافت داخل مجمع النظافة (.. النظافة يا لها من كلمة).هناك حوالي عشرون فتاة يستحممن.الآخريات ينتظرن دورهن.ليس هناك ستائر، ربما غالية الثمن، أو لعله أكثر نظافة هكذا.أعتقد أن ذلك قد يكون السبب.ما لم يعتبر الخفر هنا خصوصية مرتبطة بفترة المراهقة، ولا مكان له هنا.
آخذ فرشاتي الجديدة من الحقيبة واقف أمام واحدة من خمس عشرة حنفية معلقة فوق حوض معدني واحد ضيق.الماء يجري ضعيفاً، مثلما تجري المياه في مجرى الرصيف، لكن هنا يجري مختلطاً ببقايا معجون الأسنان واللعاب.لا شيء من هذا يبدو مقلقاً للفتيات.بعضهن ينشدن أغاني من تلك التي تعلمناها في “التسوفيم، الحركة الوطنية غير الدينية.يبدون متسقات مع أنفسهن.ذلك ما جعلهن يخترن الحمام على الهاتف.
أفتش عن “اينات” ولا أجدها.لا أعلم في أي خيمة هي، وليس لدي أكثر من عشرين دقيقة قبل أن تطفى الأنوار.أريد أن أقرأ بعض الشيء وأن أكتب بعض الأشياء قبل أن أخلد إلى النوم.
الإتجاه خيمة السرية (د).
ثلاثة من رفيقاتي في الخيمة استلقين في أسرتهن.يقرمشن البسكويت بينما يناقشن رحلتهن غير المجدية إلى كابينات الهاتف.يحدقن بي بين الحين والآخر، ولكن ليس بما يكفي لكي يقطعن نقاشهن.أفتح كتابي.
“أنت أيتها الفرنساوية، هل تقرأين دليلاً سياحياً عن قواعد الجيش الإسرائيلي؟”
“هل تأملين أن تنهي رسالة دكتوراه في الإستراتيجية العسكرية في عامين؟”
“هل تحتاجين لقراءة “غطاء الركوب الصغير الأحمر” قبل النوم؟”
تستمر التعليقات الساخرة بالتطاير.لا أعيرها أية إهتمام.الدعابة الساخرة والإزدراء في هذا البلد هي وسيلة تواصل يدركها كل فرد.هي لغة داخل اللغة.إنها طريقة للتأكيد للشخص المعني بأنه ليس هشاً (وهو ما يعادل هنا كونه مبتئساً)، أي أنك لا تحتاج للدوران حوله بحذر.أنا أجعلك هدفي، وأن عليك أن تكون واحداً منا.
لذلك أغلق كتابي، الذي هو بالفرنسية، وأشرع بالتفكير في فرنسا، حول كيف كنا نسافر إلى باريس في العطلات.أختي وأنا كنا نحلم بذلك طيلة العام.ربما ليس من المناسب الآن أن أسترجع ذكريات أسعد الأيام في طفولتي.
أشعر ببعض الذنب لأني نحيت الكتاب جانباً.ويمتلكني شعور بأن على أن أدافع عن قرائتي أمام رفيقات الخيمة.
“اذا كان علينا أن نرتدي البزة العسكرية فذلك لا يعني الا نكون متعلمات.واذا كنت فرنسية فذلك لا يعني أن أعيش قصصاً خرافية.”
أدرك أني ربما تماديت قليلاً.
مدعية، متحذلقة، كاذبة، لصة، قميئة، شريرة، أستمر بالكتابة.بشكل آلي أصنع قائمة في رأسي، وهناك قليل من الشك أن ذلك ينطبق علي.)
ولكي أعوض عن غرور المثقف في، أضيف أو أن علي أن أطوي أشرعتي.نحن سنكون ملازمات لبعضنا البعض شهراً بطوله.لابد أن نتعرف احدانا إلى الأخرى.
لم يكن لإقتراحي أن يأتي في أفضل من هذا الوقت.جاءت الفتيات الآخريات من الحمام ومن كابينات التلفون.تفوح منهن رائحة الصابون بالفانيلا أو بأعينهن المحمرة، أو كما أتخيل بأحاديثهن التي تفطر القلب مع أمهاتهن.مقدمة.
“كارين”، من حيفا.”
“تامارا”، من عسقلان.”
“شلوميت”، ادعيني “شولا”، من بتاح تكفا.”
“سيفان”، رئيسة المجموعة، اذا ما كان علي أن أذكركن، من القدس.”
“ريكين” من كفار سابا.”
“يائيل”، من رفيفيم.”
“دوريت”، من طبريا.”
“غاليت”، من تل أبيب.”
“فيريد”، من بات يام.”
وأنا.
أسم غريب.من مدينة لم اولد بها.أسمائهن كلها لها معاني خاصة مباشرة، شعاع الشمس، تمر، غزالة، موجة صغيرة، وردة.أو انها تعود إلى شخصيات توراتية مثل “ربيكا” (رفيكا والتي تختصر إلى ريكي) أو “شلوميت”.انها أسماء تعني شيئاً، وهن يسألن مالذي يعنيه “فاليري”.
“لست أدري.أعتقد أنها من اللاتينية.ولكن اذا ما قطعتن الكلمة، فا، لي، ري، فأنها تعني إذهبن واضحكن.”
ذلك يثير حيرتهن قليلاً.ثمة في الخارج من يصرخ.”اطفؤا الأنوار.اطفؤا الانوار.”
تمتد عشرة آيادي لكي تطفئ الأنوار.أصوات تقول “تصبحوا على خير” من كل الإتجاهات.
إنها العاشرة والنصف.منذ خمس سنوات لم أخلد إلى النوم في مثل هذا الوقت المبكر.سألهو بشيء من التفكير.أدس جسدي في الفراش الضيق الصغير لكي يجد له موقعاً مريحاً، أستعيد ما حصل اليوم، سوف …
لا شيء من ذلك، وأغط في نوم عميق.
***

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *