عندما كنت جندية
                                         فاليري زيناتي
                                               ترجمة                       
                                         صلاح النصراوي
ج2 ف5
              
                                      رقيبة وفخورة بذلك
مطرقة-1 إلى إعصار-1، يمكنك الإقلاع.
مطرقة-1 إلى إعصار-2، يمكنك الإقلاع.
مطرقة-1 إلى إعصار-3، يمكنك الإقلاع.
إعصار-1 إلى إعصار-2، إعصار-3، قناة 29، إنطلق! حول، قناة 29.
تردد 29، تردد 29!
أبكي وأضع قلمي جانباًً.
مضى أسبوع الآن على وصولنا إلى هذه القاعدة الصغيرة المزدحمة بالهوائيات الغريبة المغروسة بالتلال الصخرية التي تطل على قرية فلسطينية تحتنا.”نعمل” من مستودع يفتقد إلى أية لمسات جمالية.يا للتناقض:نحن نتصنت على كل شيء يطير في السماء ولكنا غير قادرين على رؤيتها.في أول مرة ذهبنا فيها إلى “المطبعة”، (ذلك هو الأسم السري الذي أعطي لمحطة الإنصات) أصبنا بالدهشة: كان هناك حوالي عشرين أو أكثر من الجنود يجلسون وراء أجهزة تسجيل بينما وضعوا السماعات فوق رؤسهم.في الإتجاه المقابل وعلى منصة مرتفعة كان هناك أربعة أشخاص ( ثلاثة منهم من القوة الجوية)، يدونون الملاحظات ويعطون التوجيهات.وعلى منصة أخرى بعيدة نوعاًً ما، كان هناك جنديان، أيضاً مع سماعات في اذانهم، يستمعون إلى الإشرطة، وينقرون على مفاتيح الكومبيوتر.إبتسموا لعلامات الدهشة التي على وجوهنا وعادوا إلى اعمالهم كأن شيئاً لم يحصل.
حالياً، نحن نعمل برفقة آخرين نرتبط بنفس جهاز التسجيل وذلك لتفادي أي خلط قد يحصل بين محادثات الطيارين وشريط لـ”مادونا”.من المفترض أن نبدأ عملنا الأسبوع القادم،هناك عشرة أفراد من الوجبة السابقة على وشك أن ينهوا خدمتهم( جميع هؤلاء من الفتيات إذ أن للأولاد عاماً آخر للخدمة، ويبدو، لمرة واحدة على الأقل أنهم لا يمانعون من وجود مساواة بين الجنسين.) تلك هي الطريقة التي يتم بها إستبدال الوجبتين بتتابع لا ينتهي، حيث يصبح القادمون الجدد شيئاً فشيئاً قدماء في حين يتقدم خلفائهم محلهم.
نقوم بالعمل بثلاث وجبات كل يوم، صباحاً، عصراً، ومساءً، هذا المكان مشغول بشكل دائم منذ عقود.لا تنطلق طائرة من الأراضي الأردنية دون أن نكون على علم بها، وأجد الفكرة مثيرة.
كل جهاز تسجيل مضبوط على موجة ترددات:ترددات لأبراج مراقبة، محطات رادار وترددات تدريب الطيارين.حالما تغير الطائرة ترددها، نبلغ الجميع بذلك ويقوم شخص ما بتولي الأمر في جهاز آخر.نبلغ القوة الجوية بأي نشاطات تثير إنتباهنا كونها غير طبيعية، وهم بدورهم يبلغون مكتباً مركزياً يقوم بدوره بمتابعة المعلومات التي ترسلها الوحدات المختلفة.في المساء نقوم بحل شفرة الأشرطة المهمة ذلك اليوم كما نقوم بتحليل الأساليب القتالية للطيارين وما تعلموه.
وهناك فوق المنصة الصغيرة يقوم احد الجنود بعرض الترددات على شاشة حالما يتم تفعليها.هو بمثابة المستوى الثاني للإنصات، أي التعزيز الذي يأتي حين تكون المحادثة غير مسموعة بشكل جيد.عادة ما يكون هذا الشخص جندياً قضى هناك ما لا يقل عن ستة شهور.إلى جانبه هناك جندي يقوم بمراجعة الترددات بشكل دقيق حتى يتمكن من تحديد تلك التي تم إدخالها حديثاً .
خلال أيام قليلة تمكنا من معرفة كل ما هو طريف في القاعدة.أفضل المواقع هي تلك التي تهتم بمطار عمان الدولي حيث بالإمكان الإستماع إلى محادثات الطيارين على الرحلات العادية من مختلف أنحاء العالم.بقيت أبتسم طيلة أحد الأيام بعد أن إستمعت إلى طيار على الخطوط الجوية الفرنسية بلهجة فرنسية ثقيلة (كان يتكلم الانكليزية) أثناء تقدمه بإتجاه الأجواء الأردنية.
“هذه أير فرررررانس 369المتجهة من باريييييييس إلى البحرررررين، ستة آلالالالاف متر.”
“أيرفرانس-369، ستة آلاف قدم، جيد، رحلة ممتعة.”
أما الموقع الثاني المفضل لدى العاملين في “المطبعة” فهو مدرسة الطيارين.هناك يمتهن المدربون الطيارين طيلة الوقت، شيء مضحك.نتعاطف معهم، نعلم أنهم بنفس اعمارنا.
أخيراً فان لكل جهاز تسجيل أسم منقوش فوقه بقلم ملون.الجميع يتقاتل من أجل أن يكون له السبق بإختراع أسماء ساخرة لها.من بين الأسماء الحالية: “راديو الصمت”، “زواج مرتب”، “كاتش آب وشكولاتا”، “الخنافس الثرثارة”، “معارك المسحاة”، “الطيار الأعرج”،”السبات”، “معبود نوا”، عيون حسين”، عامان إجازة”…
أشعر بتحسن.أخيراً، أصبح مفيدة، أكون في العالم الحقيقي.غداً سنحتفل بالشهر الرابع في الجيش، وسيتم ترقيتنا جميعاً إلى رتبة رقيب من قبل القائد، “اوري”.
تقام الحفلة في ساحة خارج المقصف.”اوري”، وهو من أصول أمريكية، يضع الخيطان من القماش الأبيض علينا.
الجندية “فاليري”، أعينك رقيبة بالجيش الإسرائيلي وأمل أنك ستقومين بمهمتك الجديدة بشرف.”
 “إيانيت”، ذات الشعر الأحمر، هي الأخيرة التي يتم ترسيمها.كنا لازلنا نقف بإنتباه حين بدأت ينابيع من المياه، عشرات البيضات، وبضعة كيلوغرامات من الدقيق تهطل علينا.بدأنا نصرخ بصوت عال، حتى أن جندياً من الذين كانوا في نوبات الحراسة أخذ بالهروب ظناً منه أن هجوماً شن على القاعدة.إنهار “أوري” من الضحك في حين خرجت الوجبة القديمة من مخبئها وهي تغني:مازال توف”، مازال توف.”*
نمطرهم بدورنا بسباب وفير ونلاحقهم كي نمسك بهم ونمسح الوحل ببزاتهم النظيفة. “غيل”، أحد القدماء يضربنا على ظهورنا ويغني:الآن أنتن منا، الآن أنتن منا.”
“أوري” يطلب منا الوقوف إنتباه، قائلاً ان الإحتفال لم ينته بعد، وأحدهم يأتي لكي يأخذ لنا صورة.”شجرات طماطة الكرز” نبدو فخورات، منقوعين، وجوهنا مغطاة بالدقيق، وصفار البيض يغطي شعرنا.
“حسناً، أيتها الفتيات يمكنكن أن تستحموا، اذا أصررتن على ذلك.علي أي حال، من ليست في جماعة الإنذار بإمكانها أن تأخذ إجازة حتى الساعة العاشرة مساءً.
من حسن حظي أني كنت في المجموعة أمس.سأنطلق لكي أغزو القدس.
الجندي الذي التقطني من الطريق وانا أحاول إيقاف سيارة مارة أوصلني إلى ناصية جامعة “جبل المشارف”*، الظلام يغطي المدينة، الليل يهبط حوالي الساعة 4مساءً.أقف بإنتظار الحافلة مع طلاب أكبر مني سناً قليلاًً.دائماً عندما أخرج من القاعدة أشعر كأني اجتزت شيئا أشبه بالستار الحديدي ودخلت إلى العالم الحر.”المدنيون” لهم الخيار بان لا يستيقظوا صباحاً.عندما يغسلون الصحون فأنهم يغسلون ثلاثة وليس سبعيناًً.لا أحد يوقظهم في الثانية صباحاً لكي يقوموا بواجبات الحراسة.يرتدون ما يحبون….
تتدحرج الحافلة بطيئةً إلى وسط المدينة، مارةً عبر الأحياء الدينية حيث تسرع الضلال الداكنة في الشوارع آذنة لصلاة المساء.
أتصل بـ”جين-ديفيد” من نفس المقهى التي أتصلت به في المرة السابقة.الخرافة تسيطر علي بشكل ما.صوت رجل يجيب، ناعس وغير مألوف.
“أنا أشاركه الشقة”، يقول لي، “سيعود الليلة.”
“هل هو في العمل؟”
“لا، لا أعتقد ذلك.حسناً، أنا لست مرضعته، لا أعلم.”
أغلق السماعة.أفكاري تتلاعب في رأسي.هو مع احد ما.مع أصدقاء.على علاقة حب مع واحدة ما.يقيم مع صديق في منزله.لم يعد يشعر بوجودي.ينتظر أن يسمع أخباري.
أحاول أن اوازن الأمور بيني وبين نفسي بصوت عال (دائماً ما أفعل ذلك).حسناً، ستدمرين حريتك القليلة هذه بسبب ذلك.ماذا تعتقدين؟سيبقى طيلة حياته ملصوقاً بالهاتف،ينتظر بصبر أن يرن وأن تكوني أنت على الطرف الآخر.كفى أحلاماًً.هو الآن يستمتع بحياته.أنت كنت ستفعلين الشيء نفسه لو كنت في مكانه.(أحاول أن أحتج بلطف)، لكن الصوت يمضي بقوة:أمضي قدماً، استمري بالمشي.انظري كم هي جميلة هذه الأبنية من الحجر.الا يدق قلبك أسرع لمجرد سماعك أسم القدس؟هذه هي المدينة التي تأتينها حالما أنت خارج القاعدة، إنها أول منطلق لحريتك والتي ستأتين إليها مرة بعد أخرى.عليك أن تعرفي هذا المكان وعليك أن تتعلمي كيف تحبينه، مثل كل الآخرين الذين أحبوه قبلك:بقوة؟
أتوقف عن الكلام.(قررت أني مرافقة بارعة لنفسي) دائماً ما أشجع نفسي على ذلك بأن يكلم جزء مني الجزء الآخر.”فاليري” الحقيقية، الهشة، المفككة، تصغي بإنتباه إلى “فاليري” الآخرى، الحليمة، التي لديها أجوبة عن كل الأسئلة، التي لا تستسلم، التي تهز الناس وتوقظهم بصوت موسيقى، ولكن لم يزل مقنعاًً.
أسير نحو شارع “بن يهودا”، ثم أعرج نحو شارع “الملك جورج” الذي ينتهي بطاحونة “مونتيفيروي”.من هناك يمكنني أن أشاهد أحلى المناظر لأسوار المدينة القديمة.في القدس لا يمكنك أبداً التوقف عن الصعود والنزول، فالمدينة مبنية على ألف تل.فاذا ماكنت في القاع، فلا مفر أبداً من التسلق إلى أعلى، واذا ما كنت في القمة فلا خيار لك أن تهبط إلى الأسفل.بإمتداد ما تصل إليه قدماك فأنه درس في الأمل والتواضع في مدينة واحدة.
“هذا نوع من الفلسفة الطبيعية”، أهمس لنفسي.حتى أني لم الاحظ أن الطريق الذي أسير به ومدعاتي للإعجاب بالأسوار هو نفس الطريق الذي تسير فيه الحافلة رقم 9والذي يؤدي إلى شقة “جين-ديفيد”.فقط حين تصل إلى ساحة باريس تتجه يميناً بدلاً من السير بإتجاه مستقيم.هناك لوحة تجلب انتباهي:”التحالف الفرنسي”.أعرف أن هذه مؤسسة تأسست في القرن التاسع عشر لنشر الثقافة الفرنسية.البناية المشيدة بالحجر الأبيض تبدو مرحبة.بضعة سلالم، باحة خارجية صغيرة، لوحة اعلانات كبيرة كتب عليها أحدهم بخط اليد “ضمن الإحتفالات بذكرى الثورة الفرنسية، يقيم “التحالف الفرنسي في القدس” هذا المساء عرضاً لبرنامج “ابوستروفيس”.أفتح الباب.أسوار القدس التي تعود إلى وقت أطول بكثير من الثورة الفرنسية يمكنها الإنتظار قليلاًً.
أطلب العضوية في الإتحاد (بإسعار مخفضة للجنود)-الآن يمكنني أن اتي لمشاهدة الأفلام الفرنسية وأستعارة الكتب.أشعر بحماس:طالما هناك كتب في متناول يدي، لاشيء فضيع يمكن أن يحصل لي.
في غرفة العرض هناك عشرة منا.البرنامج يثير إعجابي، مثلما الضيوف المثقفون، متحضرون ومتقدون.أذكر منذ طفولتي أني سمعت آحدهم يجادل بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام.أقول لنفسي أريد أن أصبح مثله:أن تكون لي مثل تلك القوة والهدوء، ذلك الإقناع الذي يخدم قضية عادلة.
في إسرائيل يعيش كل المتطرفين في المجتمع جنباً إلى جنب، رغم أن ذلك ليس بالأمر اليسير دائماًً.هناك أناس أغنياء جداً، وآخرون فقراء بشكل مخز، ضلال تهتز حين تصلي إلى الله، وبنات بتنورات قصيرة تتحول إلى ضلال حين ترقص، يفكرن بمتعتهن ويعشن حياتهن، مناضلون يريدون السلام الآن، يعرفون أن تحقيق ذلك يتطلب أن نمنح للفلسطينيين حقوقهم في أن يعيشوا بالطريقة التي يريدونها، وآخرون يقسمون على ولائهم إلى الارض والكتاب المقدس، الذين يصمون اذانهم ويعمون ابصارهم عن حقيقة ان 3,000,000فلسطيني يعيشون-وضعاً ليس بالجيد- في غزة، وفي تلال يهودا والسامرة.التوتر يزداد يومياً كذلك بين المتشددين الدينيين الذين يصرون على غلق دار سينما معينة في القدس، وبين اليهود العادين الذين ينتقدونهم لأنهم لا يؤدون الخدمة العسكرية، بين العاطلين عن العمل الذين يتظاهرون أمام البرلمان معربين عن خيبة أملهم والمهندسين المهرة، بين اليهود المغاربة واليهود الروس، بين المناضلين اليسارين والمناضلين اليمينيين الذين يتبادلون الشتائم والكراهية:”قتلة”!يصرخ أحد المعسكرين، “خونة” يرد الآخرون.
ويستمر الطوفان، يتدفق في الأراضي وفي القدس-حيث يرفع عامل فلسطيني بلطة أو سكيناً صارخاً الله أكبر.البعض يقول أيضاً بأن بإمكاننا أن ننهي هذا التوتر بحرب جيدة.ولكن ما هي الحرب الجيدة؟
في البلد الذي أعيش فيه، هناك آلاف الثورات التي ينبغي تفجيرها.
****

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *