دولة علي بابا
في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق
(4)
حيث الاعلام لا يزعج الفاسدين
(كان من المفترض ان تأتي هذه الحلقة في مرحلة لاحقة من هذه السلسة، لكن بعض الملاحظات التي تكونت لدي خلال هذه الفترة جعلتني اتناول الصلة بين الاعلام والفساد في “دولة علي بابا” للفت الانظار مبكرا الى تلك العلاقة المركبة التي تجعل من الاعلام سلاحا ذا حدين في المعركة الشرسة ضد الفساد، كما سأحاول توضيحه)
لم تكن هي المرة الاولى التي يهاجم فيها نوري المالكي اجهزة الاعلام لتصديها للفساد في “دولة علي بابا” التي يجلس على كرسي رئيس وزرئها الا انه في كلمته امام احتفالية هيئة النزاهة العامة بمناسبة اسبوع النزاهة الوطني يوم 27 تشرين الاول حذر من ان تلك الانتقادات ستنعكس على نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة والتي توقع ان تكون بدورها سيئة هي الأخرى، على حد تعبيره.
ما اقر به المالكي دون ان يقول ذلك بصراحة ان فضائح الفساد التي اصبحت مهيمنة على مشاغل الناس وهمومها ربما ستطيح بأماله في اعادة تنصيبه للمرة الثالثة وان الفضل بذلك يعود الى وسائل الاعلام المختلفة التي جعلت من مهمة فضح الفساد قضية ملحة.
فحوى هذا الاقرار هو ان دور وسائل الاعلام العراقية والناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي في الكشف عن الفساد في “دولة علي بابا” ومقاومته اصبح محورياً وبدأ يؤتي ثماره، بالاقل في لفت انتباه الفاسدين والمفسدين بان الجرائم التي يرتكبونها لن تمر دون تسليط الاضواء عليها وفضحها، وانه لم يعد ممكنا طمس معالمها بالطريقة التي كان يلجأ اليها ذلك القواد الشهير في بغداد الخمسينيات والستينيات (راجع الحلقة الاولى).
ما قاله المالكي اعتراف صريح ايضا بالضيق الذي يبديه هو وغيره من المسؤولين من الدور الذي يقوم بالاعلام والنشطاء على مواقع الانترنيت في كشف الفساد وفي تشكيل جبهة قوية واسعة من الافراد والمجتمع للدفاع عن حقوقهم المهدورة عن طريق الفساد.بالاضافة الى ذلك فان كلام المالكي يمثل تحريضاً سافراُ على الاعلاميين من خلال تحميلهم مسؤولية فشل وعجز الدولة في ادارة ملفاتها المختلفة، لا لشيء الا لانهم يفضحون فساد الزمر المتسلطة عليها.
وتبرز اهمية حملة الاعلام والنشطاء ضد الفساد في الدورالذي لعبته في افشال الزيارة التي قام بها المالكي الى واشنطن نهاية شهر تشرين الاول حيث واجهته انتقادات حادة من الجهات الامريكية وخاصة في الكونغرس وفي النخب السياسية والاعلام والتي اشارت جميعها الى الفساد وسؤ الادارة والمحسوبية والاحتكار والهيمنة باعتبارها تقف وراء العجز السياسي والامني للحكومة، بل ووراء احتمالات انهيار العملية السياسية برمتها.
وبفضل تلك الحملات ظهر المالكي في واشنطن كرئيس وزراء ضعيف وفاشل وعاجز يصعب منحه التأييد، او حتى التعاون معه، وهو موقف يحمل مضامين ورسائل سياسية لجميع زمر الحكم في “دولة علي بابا”، على رأسها ان الولايات المتحدة لديها الان الحجج لكي تحمل السياسيين العراقيين، وعلى رأسهم المالكي، مسؤولية تعثر مشروع اعادة البناء، مما يتيح لها الفرصة للتنصل من مسؤولية الاحتلال ونتائجه.
ما يهمني التركيز عليه هنا هو ان الاعلام يقف في الخط الامامي في جبهة الحرب على الفساد وفي تعزيز الشفافية وتشجيع الحكم الصالح والادارة النزيهه للشؤون العامة وان هذا الدور حاسم واساسي في منح الناس القدرة على التعرف على حجم الفساد الذي يعانون منه والمنبر الذي من خلاله يشاركون بدورهم ايضا في مقاومة الفساد الفاسدين.
ولا يتقتصر دور الاعلام في يقوم به من تغطية صحفية وبرامج يكشف بها قضايا الفساد ويفضح مرتكبيها واطلاع الناس على الحقائق والادلة والوقائع المتعلقة بحالات الفساد ولكن ايضا في عملية تثقيفهم وتوعيتهم وحثهم على المشاركة في الكشف عن قضايا الفساد وتعرية الفاسدين.
من الضروري ان يقوم الاعلام بتوفير الفرصة للناس في مساندة جهود فصح ممارسات الفساد من خلال الابلاغ عن حالات الفساد وعن المفسدين دون تردد او خشية.كما ان من الضروري ان تضع وسائل الاعلام قضية محاربة الفساد على رأس سلم اولوياتها وان تعمل على بلورة اتجاهات للرأي العام توضح مساؤ الفساد على التنمية ومخاطره على الادارة وعلى تدمير القيم والمعايير الاخلاقية في المجتمع وضععة فرص التقدم الديمقراطي وتنمية ممارسات حقوق الانسان.
ان دورالاعلام هذا يتطلب توفير الجو الملائم لعمل الصحفيين في ملاحقة قضايا الفساد ومحاسبة المفسدين لكي يتمكنوا من العمل في اجواء الحرية اللازمة ومنها حرية الوصول الى المعلومات والشفافية والضمانات القانونية اللازمة للعمل وعدم التعرض للتهديدات ووجود نظام تشريعي سليم يوفر لهم غطاءً قانونيا للعمل.من الناحية الاخرى لابد من توفر شروط واجواء مناسبة لعمل الصحفيين والاعلامين في هذا المجال وخاصة الرواتب المجزية والدعم المعنوي وضمانات الحماية المؤسسية والتدريب الهادف الى الارتقاء بالمستوى المهني لكي يكون العمل احترافيا.
وتقدم الصحافة الاستقصائية نموذجا مهما في الجرأة والدقة والمصداقية والشجاعة في العمل على كشف قضايا الفساد نظرا لما تسعى اليه من توفير الادلة والحقائق والتفاصيل والتي تتجاوز طرق جمع المعلومات الصحفية التقليدية او السريعة.لقد اصبح عمل الصحافة الاستقصائية بهذا المجال بمثابة تحقيق متكامل الاركان يقدم اضافة الى الحقائق صوراً ومشاهد بلاغية تكشف الجوانب الاخرى للفساد وتبعاته السياسية والاقتصادية والاخلاقية.
في هذا المجال قدمت الصحافة العراقية نماذج قليلة من التحقيقات الاستقصائية وخاصة ما يتعلق بقضايا الفساد وهو أمر مفهوم تماما اما بسبب الظروف الامنية الصعبة التي يعمل بها الاعلاميون العراقيون والمخاطر التي يواجهونها او بسبب تدني مستويات العمل المهني لدى الصحفيين في مؤسسات تواجه بدورها تحديات لحظات النشؤ والبناء او ضغوطات ناشئة عن الملكية والادارة والعلاقات الملتبسة مع السلطة واطراف العمل السياسي.
ومع ذلك فقد قدمت الصحفية العراقية ميادة داود مثالا باهرا على الدور الذي من المكن ان يقوم به الاعلام في فضح الفساد وخاصة من خلال تقريرها عن امتيازات البرلمانيين في العراق وغيرها من التقارير الاستقصائية والتي فازت عنها بجوائز اقليمية وعالمية استحقتها بجدارة لما اظهرته من جهود معمقة تستند الى البحث والتقصي عن الحقائق الموثقة والمدعومة بالمصادر المتعددة وثيقة الصلة بالموضوع قيد الكشف.
وميادة التي استقبلها الامين العام للامم المتحدة بان كي مون في شهر اكتوبر تثمنياً لدورها في نشر ثقافة صحافة الاستقصاء التي هي جوهر العمل على كشف الفساد والتجاوزات كانت قد نشرت بعض تقاريرها تحت اسم مستعار خشية من محاولات التهديد او الايذاء التي لا يتورع الفاسدون عن محاولة القيام بها ضد الصحفيين، الا ان قيمة اعمالها تكمن في مواكبتها للتقنيات الحديثة والقواعد المهنية في الاستقصاء عن المعلومات والاسلوب السلس في الكتابة الصحفية على الرغم من حداثة تجربتها وخبرتها الصحفية.
لكن على الناحية الاخرى تقف معظم اجهزة الاعلام العراقية بمختلف انواعها المكتوبة والمرئية والمسموعة او التي على الانترنيت عاجزة عن ملاحقة الفساد بطريقة حرفية ومهنية لاسباب عديدة يأتي على رأسها ضعف الجوانب المهنية وطبيعة ملكية تلك الوسائل وخاصة المملوكة للدولة او الاحزاب والجماعات السياسية او رجال الاعمال.ان تغاضي هذه الوسائط الاعلامية عن فضح قضايا الفساد او قلة الاهتمام بها، هو امر متوقع تماما لان بعضها يقع تحت قبضة فاسدين في الدولة او في الفضاء السياسي العام او انها هي ذاتها متورطة بالفساد.
والادهى من ذلك ان بعض الوسائل الاعلامية، وخاصة بعض قنوات التلفزيون والمواقع الالكترونية التي تدعي الاستقلالية، تشارك في عمليات الفساد وانتشاره حتى لو ادعت غير ذلك وحتى لو تظاهرت بانها تقوم بعمليات الكشف عن الفساد عبر نشر بعض الاخبار او البرامج الحوارية التي تستظيف شخصيات من الواضح ان لديها اجندات خاصة.ان ابرز المؤ شرات على ذلك هي الطريقة العشوائية التي تدار بها قضايا الفساد اعلاميا والتي هي اشبه بحملات دعائية مبرمجة او ضجيج وليست عملا صحفيا احترافيا مثلما ينبغي لكي يحقق المصداقية المرجوة.
ان عمل بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية والصحف العراقية في هذا الاتجاه ليس عشوائيا فقط بل يفتقد للمهنية، ولا ينتمي الى عالم الصحافة، وانما هو نشاط موسمي يستبطن اهدافاً مشبوهة مثل الارتزاق والابتزاز والصراع على فتات من الكعكة.وكل من يتابع هذه الوسائل وطريقة تناولها لقضايا الفساد وهو على دراية بخلفية اصحابها وبعض العاملين فيها يدرك تماما الانتقائية والقصدية التي تتحكم في نشاطاتها والاجندات الشخصية والتجارية التي تقف وراءها.ان بعض البرامج التي تقدم تلفزيونيا غير مكتملة الاعداد مهنيا ولذلك فهي تتحول الى ميادين للسخرية والاستخفاف مما يؤدي الى نتائج معاكسة لانها تعطي الفرصة للفاسدين في التشكيك في مصداقيتها وبالاهداف التي خلفها.
ان ادعاء بعض القنوات او المواقع بانها تستقي اخبارها ومعلوماتها من منظمات وهمية للشفافية لا وجود لها او من صناعتها، وعن تقارير او كلام منسوب لمصادر مجهولة يتهم اناساً ترفض هذه القنوات تسميتهم لحجج واهية، هو بحد ذاته فساد لا يخفى على المشاهدين او المتابعين.ان اول مستلزمات العمل الصحفي في كشف الفساد هو الشفافية وبث المعلومات الموثقة والاكيدة والحقائق الدامغة واللجوء الى المصادر المعلومة، وليس نشر انصاف الحقائق او الكلام المرسل او التسريبات المنقوصة والتي لا تخفي دوافع الابتزاز والتكسب التي تقف ورائها.
اهمية الاعلام في المعركة ضد الفساد هي انه يخلق رأيا عاماً متنوراً بهذه المسألة الحيوية ويقدم الادلة التي تقنع الناس بما هو مطروح من معلومات ازاء قضايا محددة وتعزز دورهم الرقابي والتي بموجبها سيجري ملاحقة المتورطين وتقديمهم الى القضاء.وعلى هذا الاساس لا ينبغي ان يكون نشر موضوعات في الصحف او على الانترنيت تقديم برامج لكشف الفساد من اجل التسلية والاثارة او ان تصبح جزءاً من استراتيجيات الحرب النفسية لاغراض تصفية الحسابات او الكيد او تلطيخ السمعة او تغذية الصراعات السياسية وتأجيجها.
ما يؤسف له ومما يثير المخاوف ايضا من محاولات تشويه مساعي مناهضة الفساد في العراق هو ان الكثيرين ممن يدلون بدلوهم فيها هم ممن عرفوا بفسادهم على مدى سنوات بل عقود طويلة في حين ان اخرين تحوم حولهم الشبهات.اذ لا يعقل ابدا ان سياسين متورطين، بل ومدانيين في عمليات فساد، واصحاب صحف ومواقع وقنوات فضائية يعرف القاصي والداني بمصادر ثرواتهم وتمويلهم، ورجال اعمال اياديهم ملوثة بالاموال المنهوبة يفتحون تلك المنافذ نتيجة صحوة ضمير، او لدوافع وطنية او اخلاقية، وانما بهدف واضح وهو الابتزاز والبحث عن نصيبهم في كنز مغارة علي بابا.
هناك ارقام وتقديرات مخيفة عن الاموال التي تصرف على الوسائل الاعلامية هذه في العراق التي يملك اغلبها رجال السلطة والاحزاب المشاركة فيها وحلفائهم من رجال المال والتي انشأوا من خلالها امبراطوريات تتشابك علاقاتها مع مؤسسات ومافيات ومليشيات ومصالح فؤية واقتصادية محلية واقليمية ودولية جعلت من مهمة مقاومة الفساد شديدة الصعوبة ان لم تكن انتحارية.ان جزءاً كبيراً من عمل هذه المؤسسات مخصص اما لغسيل سمعة اصحابها او لتشويه سمعة خصومهم في حين ان القاسم المشترك الذي يجمع بين هذه الاطراف مجتمعة هو الفساد نفسه.
صحيح ان بعض المحاولات الخجولة لنشر الغسيل القذر والكشف عن خيوط تتعلق بقضايا الفساد تبقى مفيدة الا انه لا يبنغي ان نتوقع ان يكون العمل باتجاه محاربة الفساد في وسائل الاعلام هذه مستداماً ولا معمقاً ولا متكاملاً، مما يضع على عاتق النشطاء والمتطوعين عبر الشبكات الاجتماعية العبء الاكبر في جهود مكافحة الفساد وتعزيز اخلاق النزاهة ونشر ثقافة الشفافية. ففي “دولة علي بابا” التي تهيمن الزمر المتسلطة فيها على الفضائين السياسي والاعلامي وتغيب مظاهر الديمقراطية الحقيقية لا يبقى الا امام الناشطين والمثقفين الملتزمين بقضايا الوطن والناس ان ينهضوا بمهمة الدفاع عن الحقوق والمصالح المجتمعية والفردية.
***