عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف9
                                 حيث لا يموت أحد من الضجر
أشعر أنني أخذت بالتعود على حافلات شركة “أيغيد” الحمراء التي تقطع بخطوطها الطرق عبر البلاد بطولها وعرضها.أصبح لدي روتيني الخاص، أطلب مقعداً إلى جوار الشباك، إن أمكن، أضع سماعة الموسيقى في أذني، أنظر إلى الريف، أخضر قياساً بالنقب.إنه الريف الذي يغنون له في الأغاني التي تتحدث عن إسرائيل الجميلة، أرض الطلائع الأجداد:عمال أقوياء، أصحاء ذوي نظرات مملوئة بالثقة والعزيمة، لكن بملابس رثة (لكنهم لايهتمون بتوافه الأمور، التي لا يأخذ بالهم منها الآخرون).ما يميز شخصياتهم، أنهم يحبون الغناء الجماعي،في المساءات، حول المواقد في المخيمات، غالباً أغنيات ثورية روسية تم ترجمتها إلى العبرية.
في كل مرة كنت أغطس في مقعدي، أسند ركبتي على المقعد الأمامي، وأغمض عيني.
يقولون أن السفر بالسيارة يدفع الأطفال إلى النوم ….وكذلك  الجنود.
أصحو وسط الصحراء، كما المرة الأخيرة.أدرك من خلال مصنع إلى اليسار بأني سأكون في بئر سبع في غضون ربع ساعة.كأن تلك البناية المتهالكة القاتمة هبطت هناك لكي تكون علامة طريق للمسافرين.كم من المرات خلال السنتين القادمتين سيقول لي ذلك المصنع بأني أعود الى بيتي؟
أشعر بالراحة، أو بالأحرى كأني خارج نفسي،غريبة.نصفي في القاعدة ونصفي الآخر في البيت.وان القسمين لن يعودا واحداً مرة ثانية، أنا متأكدة من ذلك.لاشيء بإمكانه أن يوحد بين هذين العالمين وأن علي أن أرتب حالي كي أتعايش مع حياة مزدوجة… دون أن أصاب بالشيزوفرينيا.
مرة قرأت بأن المساجين، بعد أن يقضوا عقوبتهم لا يستطيعون أن يتمتعوا بحريتهم المستعادة.لا يعرفون مالذي يفعلون بها، يرتعدون منها، يغرقون فيها ثم يصابون بالكأبة.ذلك حين يرجعون إلى إرتكاب الجريمة ويعودون للسجن.
أختي “سونيا” ليست في البيت، وأنا بدأت افتقدها.والدي يقيمون عرضاً لإظهار كم أنهم سعداء بعودتي بعد أسبوعين من الغياب، لكنهم يبدون غريبي الأطوار نوعاً ما، تائهين.ينظرون إلي وكأني قد كبرت ثلاثون عاماً بين عشية وضحاها.هل تغيرت إلى ذلك الحد؟هل هي أنا، من داخلي، أم أن الأمر يتعلق بسحر البزة العسكرية؟
أنت لا تتكلم مع جندي بنفس الطريقة التي تتكلم بها مع مراهق.لا أحد يأمرهم بأن يرتبوا غرفهم، أو أن يخفضوا صوت الموسيقى، أو يتوقفوا عن الكلام بالتلفون.بعد الآن لن أسمع تلك الكلمات التي رافقت حياتي مع والدي حتى أسابيع قليلة ماضية.
أشعر بأنه تغير قاسي.
الجندية إنسانة ناضجة لديها مسؤوليات أكثر من الوالدين.فهي تحمل على عاتقها مسؤوليات الأمن القومي،ذلك ماقالته الرقيبة “كينيريت” لنا ذات ليلة.
أتصل ب”راحيل” و”يوليا”، لا أطيق الإنتظار لرؤيتهما والحديث اليهما، حتى لو كانتا لاتفهمان شيئاً.
أراهما في غاية الحماس.العد العكسي لهما قد بدأ:تم إستدعائهما للخدمة يوم 17أكتوبر.من المحتمل جداً أن تكونا في نفس القاعدة مثل الآخريات وحتى في نفس السرية.أية آلية غامضة للحظ تلك التي في الجيش، والتي قررت إرسالي للخدمة لوحدي في حين أنها جعلت أعز صديقاتي يذهبن سوية؟
اليوم، ربما بسبب أن يومهن المصيري قد أزف، فأنهن يبدين إهتماماً أكثر بكل شيء أقوله.ولتعديل التوازن في علاقاتنا فقد جاء دوري لكي أكون غير مبالية، خبيرة، وأيضاً متكلفة رغماً عني.أنا أسبقهم قليلاً في عالم الجيش.مثلما كنت العام الماضي الأسبق في أن أمضي ليلة مع شاب، ولأشهر بقيت أمتلك خبرة لم يمكن بوسعهن أن تدركاها.
تغادر “يوليا” لأنها تريد أن تأخذ حماماً عميقاً بالفقاعات.تلك هي نقطة ضعفها الكبرى.قبل سنتين قرر كلانا أن نكتب مائة حلم أو رغبة أو خطة نبغي أن نحققها في حياتنا.عندما أتذكر ذلك أضحك.مائة، ياله من رقم طفولي.واحد من أحلام “يوليا” كان أن تأخذ حماماً بالشمبانيا.من الجائز أنها أخذت الفكرة من مقالة حول “مادونا” أو “اليزابث تايلر”، فهي تعتاش على تلك الوجبات التي توفرها لها مجلات المشاهير.
أنا قلت أني أريد أن ألتقي برجل حياتي وأن يكون لنا طفلين.أريد أن أكتب كتاباً، أسافر إلى إيطاليا واسبانيا ونيويورك وكذلك إلى “أوسشيفتز”.اما رغبتي الخامسة والعشرين فكانت ان ابقى صديقة “يوليا” لعشرين عاماً.
خمسة وعشرون، تلك هي الفترة التي بإستطاعتنا أن نتخليها، وحتى ذلك، فليس بالأمر اليسير.
قررنا أن نؤشر على كل حلم كلما تحقق واحد منها، وأن نسجل إحصائية:عدد الأحلام التي تتحق في كل عام نؤشرها على لوحة حتى يتسنى لنا بلمحة أن نعرف السنوات الجيدة من السنوات الرديئة، ونسبة تحقق الأحلام لكل منا خلال خمس سنوات، خمسة عشر، وخمسة وعشرين.
صمت “راحيل” يمزقني ويأخذني بعيداً عن أحلام اليقظة.هناك شيء ما.
“هل أنت على ما يرام؟”
“لابأس” ترد.أوتار حنجرتها مشدودة.
“حسناً، ذلك يعني أنك لست كذلك”، أقول بلطف، وهي لاترد.
“ماذا هناك؟هل أنت خائفة من الجيش؟لا تقلقي.في اللحظة التي ستكونين فيها هناك، لن يكون هناك لديك وقت حتى لكي تفكري.ستشعرين بنفسك كأنك روبوت، ليس بإمكانك أن تفعلي أي شيء بخصوص ذلك، لكنه ليس بالأمر السيء.ثم قد تكونين مع “يوليا”…”
تعض شفتيها وتشيح بنظرتها إلى الجهة الأخرى.أشعر بأني لم أنجح.أحياناً أرمي بنفسي في أحزان الآخرين وأريد أن اعزيهم بأسرع ما يمكني، ربما أسرع من اللازم.أعانقها.
“راحيل”، مالأمر؟”
تظل صامتة بعناد.أعرف أنها تريد أن تتكلم، والا كان بإمكانها أن تجد طريقة لكي تخبأ مشاعرها.”راحيلنا”، إنها سيدة الاخفاء.لكني أحبها أكثر حين تكشف عن ضعفها.
لحظة إيحاء خاطفة.
“إنه “فريدي”؟”
يجيئني الجواب مخنوقاً، “نعم”.
يا للعنة إنه يهجرها لكي يعود إلى “أنبار” زوجته السابقة التي يتحدث عنها وفي نبرات صوته الكثير من الإعجاب….التي يتحدث عنها كثيراً.نقطة.
أن يفعل ذلك لـ”راحيل” وهي تتهيأ لخدمتها العسكرية (صوت ما لئيم يهمس في أذني:وما المشكلة؟ لقد رماك “جين-ديفيد” في منتصف إمتحانات البكلوريا، لكنك تمكنت من إجتيازها، ألم تفعلي ذلك؟”لا ليس الأمر كذلك،لا أريد التفكير بأنهم جميعاً أوغاد.”جين-ديفيد” ليس وغداً، فأنا لازلت أحبه.كما أن “فريدي” صديقي).
“متى؟ أسئلها، مباشرة، لكي أجعلها تثق بي أخيراً.”
“غداً مساءً.
“غداً مساءً؟” (لا أفهم، أنه يعلمها بموعد فراقهما.شيء مقرف.لم أكن أعلم أنه…يحسب حساباته هكذا.)
“نعم غداً في المساء.إنه لا يرغب بأن تمضي الأمور هكذا.ليس بوسعه الإستمرار بهذه الطريقة.الشرطة العسكرية تبحث عنه بجد هذه المرة.إنه يختبئ عند “رافي” منذ أسبوعين، والدي رفضا أن يستقبلاه عندنا.لذلك قرر أن يسلم نفسه، أن يمضي العقوبة وأن يعود للجيش.
لم أجرأ أن أقول لها أنه شيء مختلف تماماً.على أي حال تنفجر بالبكاء وأخذها بين ذراعي.أقول لها أنني هنا، أننا كلنا هنا، وبأننا جميعاً نحبها، وأن ذلك كان سيحدث آجلاً أم عاجلاً، وأنها كانت تعرف منذ شهر بأنه يوماً ما سيقدم على التخلي عن حريته المسروقة.وبعده أحاول طمأنتها بأنه لن يعاني-وأنه اذا ما أخذنا الأمور على علاتها- فلا أري أي فرق بين قاعدة عسكرية عادية وبين السجن.لابد أن يكون هناك أشجار “يوكالبتوس” أيضاًَ، والواجب في  المراحيض، المطبخ، الخيام، وأكياس النوم.أسكرها بكلمات التعزية، أشعر بأني أقرب إليها حين أدرك أنها تحتاجني.
نبقى هناك فوق العشب لفترة طويلة، نتكلم بطريقة لم أظن أنها ممكنة.
ونحن نودع بعضنا البعض، أسأل، “هل لديكم أية خطط لهذا المساء؟”
“سنذهب لمشاهدة فلم “البرتقالة الآلية” لـ”ستانلي كيبرك”، “إيلان” يقول أنه فلم نخبة.
“أي ساعة ستغادرون؟”
“كوني مستعدة عند الساعة التاسعة؟”
“حسناً، أحبك، أنت تعرفين ذلك؟”
أقبلها، وأعود لكي أتناول أول وجبة تستحق هذه التسمية.
 العودة إلى أصدقائي تجعلني في مزاج جيد.”فريدي” ثرثار جداً، أهمس في أذنه ان “راحيل” أخبرتني عن الغد.سنكون هناك من أجلك ومن أجلها.
تعبير جدي يلتمع في عينيه ويعصر يدي.يبدو أن الجميع يتكلمون أكثر مما هو معتاد، ينهمكون في أحاديث عن أشياء غير محددة.ربما يحاولون تفادي التفكير بالمحتوم، من المؤكد أنهم يحاولون تفادي الإشارة إلى ما سيحدث غداً.في السينما أجلس بين “إيلان” و”راحيل” وهي تجلس إلى جوار “فريدي”.الإثنان صامتان ولكن ملتحمان ببعضهما أكثر من المعتاد.هي تبدو ضئيلة إلى جانب جسمه الضخم.
فجأة أشعر بالحزن:بالأقل هما يحبان بعضهما بعضاً.سينفصلان لفترة وجيزة.
أستدير نحو “إيلان” الذي يلعب دور الأخ الأكبر لنا البنات، خاصة في الأوقات الصعبة.
“كم طول الفلم؟”
“ساعتان وسبعة عشر دقيقة بالتمام.”عيناه تلمعان.كان ينتظر رؤية “البرتقالة الآلية” منذ وقت طويل، لكنه ممنوع لمن هم دون السادسة عشر، كما أنه لايعرض بشكل دائم.
أتثائب.الإعلانات لاتتوقف.تطفئ الأضواء.تسري رجفة في القاعة المملوئة بأشخاص معدل أعمارهم بالعشرين.البعض يطلب ممن يجلس أمامه أن يخفض رأسه.آخرون يطلبون بنفاذ صبر أن يصمتوا.أشعر بتوتر غير طبيعي.لم يسبق لي أن شاهدت أي من أفلام “ستانلي كيبريك” فلمي المفضل هو “الطفل” لـ”شارلي شابلن” وكذلك فلمه “الدكتاتور العظيم”.
هناك مشهد قريب لشخص ما أعور محاطة بأهداب صناعية، ويلبس قبعة كبيرة.تدور الكاميرا وتكشف رجلين متشابهين ونساء عاريات مستخدمات كطاولات.دمى منفوخة.تبدأ شكوكي بذوق “إيلان”.
الرجال الثلاثة في مرآب السيارات، يوبخان رجلاً مسناً بعنف شديد.”إيلان” يميل إلي ويقول.”شيء عظيم، أنهم يتكلمون بالروسية الدارجة.”
لا أكترث اطلاقا للروسية وأشعر، حقاً، حقاً، بالإنزعاج.ليس هذا تماما ما كنت أتوقعه من الإجازة، عنف، حتى لو كان ذلك يحدث بعيداً.
أكتاف “إيلان” قريبة جداً، جداً.لقد استيقظت الساعة الثالثة والخامسة والأربعين هذا الصباح، وليس لدي مشكلة أن أغمض عيني لو وضعت رأسي في مكان ما.
نصف نائمة أسمع “أغني في المطر” على خلفية صراخ، لكنه ليس “جين كيلي” من يغني.أنا أشاهد كابوساً،لابد أني مرهقة جداً.
هناك أمسيات لاتحتاج فيها إلى أفلام النخبة.
أستيقظ في الليل لكي أغزو الثلاجة، لكن طعم الأكل يبدو غريباً، لأنه بارد.حقيقة لا أفهم هذا الشعور:أنا لست جائعة ولكن لدي شعور بأني أحتاج أن املئ معدتي دون أي شعور بالمتعة، بسرعة، كأن هناك فجوة بحاجة لأن تمتلئ.
أمضيت بعض من النهار مع “راحيل”.لم نتكلم كثيراً، نضع بعض أشرطة الموسيقى ونغني سوية.أقول لها بأن الأغاني تتحدث عن الحياة أفضل منا.ماجدوى محاولة أن نكون أفضل منها؟
هي و”فريدي” اتفقا أن يتقابلا عند السادسة مساءً  ليمضيا وقتاً قصيراً قبل أن نتوجه معهما إلى قسم الشرطة العسكرية.الظلام حل مبكراً.أسأل “راحيل” أن كانت ترغب بأن ترافقني لكي نذهب لمشاهدة مغيب الشمس.
مشهد بناية مدرستنا (مدرستنا القديمة) المستطيلة، الداكنة تطل كالظل فوق الصحراء.إلى اليسار القرص الذهبي يهبط ببطئ، كأنه يغرق في الصحراء.السماء تغير لونها في كل لحظة.مشهد في منتهى الروعة، يسلب الألباب.نقف متماسكتان، توحدنا كل حالات الغروب التي راقبناها سوية من قبل، وبالسؤال الذي لم تسأله أي منا:متى سيكون الغروب القادم؟
مع تضارب مواعيد إجازاتنا فقد لا نرى بعضنا بعضاً لفترة طويلة.
“سنتكب لبعضنا البعض”، تهمس “راحيل”.
“نعم”، أرد “ولكن من سيراقب الغروب حين لن نكون هنا.”
في البيت تستقبلني أمي بدمعة وسط عينيها.”احزري من تكلم في الهاتف؟”، تسألني كمن يخالجه شعور بالإنتصار.
“لا ادري.”لست في وارد من يلعب لعبة التخمين.تنظر الي بشيء من الإحباط ولكنها لا تزال تحمل تعابير طفل في محل الحلويات، تعابير شخص يحمل سراً رائعاً.
“جين-ديفيد.”
“ماذا؟”
“في الحقيقة، يجب أن تقولي من وليس ماذا.”جين-ديفيد” اتصل منذ عشر دقائق يريد التكلم معك.”
أغمض عيني وأدع السعادة تغرقني.وأبتسم كما لم أبتسم منذ وقت طويل.
“يقول أن بإمكانك أن تجديه حتى الساعة السابعة”، تقول أمي وهي لاتزال تبدو سعيدة.
أهجم على الهاتف في حين تغادر أمي الصالة وهي تمشي على أطراف أصابعها.قلبي يدق بقوة:مالذي سأقوله له؟لماذ يتصل بعد أربعة أشهر من إنفصالنا.
يدق الهاتف مرة:يداي ترتجفان.فجأة أشعر بأني مرعوبة لأني سعيدة جداً وبأني في غضون لحظات سأسقط من علو شاهق.
يدق ثانية.اذا لم يرد بالدقة الرابعة فسأغلق الهاتف.
يدق للمرة الثالثة.
“هلو؟”
إنه صوته، العلامة المسجلة، نبرة السخرية المعتادة التي أعتقد أن بإمكاني إكتشافها (لكن ربما أكون على خطأ).
“انا فاليري.”(صوتي يتقطع، أجاهد أن أبدو طبيعية)
“يا للمفاجأة”، يقولها بالعبرية ولكنه يلحن قليلاً.
“لا يجب أن تنطقها بهذا الشكل.”أقول له متحصنة بتفوقي الأكيد عليه باللغة التي يسعى لتعلمها منذ أشهر قليلة.”وعلى أي حال فأنها ليست مفاجأة فأنت الذي أتصل لمكالمتي.
“نعم، نعم، أنت على حق”، يقولها بصوت أجش والتي يظن أنها لكنة اسرائيلية.يبدو كمن يهرج، هناك واحد من تفسيرين، أما أنه تغير، أو أنه لايعرف ماذا يقول.ليس الأمر بحسن.
“كيف حالك؟”
أشعر برغبة بصفعه على وجهه، لذلك أرد عليه بحماس لا يتناسب مع طريقته.
“على أحسن مايرام.أقضي أروع عطلة هناك في الشمال.أصحو عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً كل يوم لكي أتأكد بأن كل شيء يسير على ما يرام.إنه منتجع بأربع نجوم، فيه كل ما لذ وطاب، الرمل تحت قدميك، الحمامات جنبك ودرجة الحرارة التي تهبط إلى عشر درجات في الليل.هل تريد العنوان؟”
أواجه بصمت مطبق من الجانب الآخر.إدرك بأني لم أكلمه بمثل هذه الحرية من قبل، دون أن أفكر بكل كلمة أقولها، دون أن أبغي أن أبدو متذاكية، أهم من أي شيء آخر.ينتابني شعور بأني حققت نصراً ما.(لكن أي نوع من الألعاب تلك التي نلعبها؟)
صوته يصبح أكثر رقة.”إسمعي كنت أفكر بك حقاً.أظن بأن … لا ، لا أظن.أود أن تخبريني.هل بإمكانك أن تمري بالقدس أثناء إجازتك؟”
أمر بالقدس!ألمح عينيه الضاحكتين مرة ثانية، يديه، أقبله، حتى ولو فقط على وجنتيه.كان بودي أن أقول له نعم أنا قادمة، الأن-من المفارقة أني سأذهب إلى القدس لأسباب عسكرية-(شيء غريب لأنه لا يمكن أن يكون على علم بذلك.) أشعر بأن لدي جناحين وأن ليس هناك ما يمكن أن يوقفني.
لكن؟
“فريدي” سيسلم نفسه هذا المساء و”راحيل” تحتاجني.
لذلك أقول نعم، بإمكاني المرور بالقدس، ربما بعد أسبوع حين أنتهي من الدورة ولكن قبل بداية أي شيء آخر، دورة أخرى، أو قاعدة أخرى، ربما.تحدثا لدقائق قليلة أخرى، شعرت بإرتياح وأنهيت المكالمة مع أمل بان أبعث له بإشارة حياة قريباً جداً.
تطحن رأسي الأسئلة.أرن لـ”يوليا” وأنقل إليها الأخبار، وأسمع عبر الهاتف صراخ السعادة.”أنا في طريقي إليك” تقول، بل ها هي في غرفتي، تجبرني على إعادة المكالمة كلمة كلمة، تسأل عن نبرات صوته، وصوتي حين كنت أتكلم معه…هي خبيرة تحليل علاقتنا، تقرأ كل الأشياء عن القضايا التي تهتم بها، فهي راكمت لديها معلومات من خلال المسلسلات التلفزيونية التي تشاهدها.
بعد ساعة من الزمن تعلن حكمها.
هو يريد أن يراكي بالبزة العسكرية.تلك رغبة معروفة لدى الأمريكان والأوربيين.عليك أن تذهبي لكي تري بشكل مباشر كم من النقاط كسبتي.ولكن لا تصنعي آمالاً كبيرة، فقد يكون الأمر مجرد …”
تلك جملة كان من الأفضل لو أنها احتفظت بها لنفسها.
يكلمني “إيلان”.
“سنلتقي جميعاً بعد عشرة دقائق خارج بيت “راحيل”.”
ألبس بزتي العسكرية آملة بأن يسهل وجود جندية بين المرافقين مصير صديقنا.
هناك خمسة عشر واحداً منا، انقسمنا في ثلاث سيارات.”رافي” يدخل بجدال مع “راحيل”:هو لا يريدها أن تقود السيارة (لا يقول في الحالة التي هي عليها ولكن ذلك ما كان يعنيه)، ولكنها مصرة على الا تدع أحداً يقوم بذلك.أومأ لـ”رافي” بشكل خفي، فيتوقف عن محاولة إقناعها.
يضع “فريدي” أغنية حزينة عن وفاة “جون لينين”.
تنذرف دموع فوق خدودي.أعتقد أن “راحيل” تقود السيارة والدموع في عينيها كذلك.
يقع قسم الشرطة العسكرية في نهاية شارع مترب، في مكان أشبه بمنطقة عازلة.جندي الحراسة على البوابة يلقي نظرة مستغربة على المجموعة.ربما هو يفكر في ما اذا كان عليه أن يطلق طلقة في الهواء.نقف على بعد أمتار قليلة، متراصين بشيء من العصبية.يتقدم “فريدي” بخطوات إلى الأمام مع “راحيل” التي تستند إليه.
“أنا هارب من الجيش”، يقول بصوت ينطوي على الجد، “جئت أسلم نفسي.”
لا يبدي الجندي أي عاطفة.
“سلمني أوراقك”، يأمره، “ثم إتبعني.”
نحيد بنظراتنا بعيداً لكيلا نرى مشهد الفراق.أحدهم يتلعثم بكلمات”، إلى اللقاء “فريدي”، ثم ننظم جميعاً “إلى اللقاء “فريدي”.نراك قريباً.”
لا يكترث الجندي بالنظر نحونا.يختفي “فريدي” دون النظر إلى الخلف بينما نقف نحن دون حراك.لا شيء آخر يمكن أن نفعله، ولكن مع ذلك لا  يمكننا المغادرة بسرعة.
الصمت لا يطاق.
يتوهج وجه “راحيل” باللون الأحمر وكأنها على وشك الإنفجار.أمضي نحوها وأهمس.”تعالي إلى السيارة.”
في طريق العودة استذكر تلك القطعة عن نيوزيلاندا التي قرأتها لنا “كينيريت”، أقول لنفسي إننا مجرد بنات في الثامنة عشر، وكما نقول بالعبرية، إنه شيء أكبر منا.
***

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *