صفوة القول
                                                       مختارات من اراء وقضايا

                                                 أمــام العــراق فرصــة أخيــرة
                                                                                              صلاح النصراوي
نشرت في الاهرام في 2-8-2006 

تتفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية في العراق بشكل خطير‏,‏ حتي أصبح القول إن البلد ينحدر بسرعة نحو حرب أهلية‏,‏ هو تقرير حالة‏,‏ وليس تهويلا‏,‏ أو مبالغة يتهم بها المتشككون أو المتشائمون من نتائج العملية السياسية الجارية‏.‏ فعمليات القتل علي الهوية‏,‏ والتهجير القسري‏,‏ والتطهير الطائفي‏,‏ والهجمات المتبادلة بقذائف الكاتيوشا والهاون‏,‏ واستهداف دور العبادة والمناطق والتجمعات السكنية‏,‏ لأسباب مذهبية‏,‏ وانهيار سلطة الدولة‏,‏ وتشرذم البلد إلي أرخبيل من جزر منعزل تحكمها الميليشيات العصبوية‏,‏ كلها سمات عامة من سمات الحرب الأهلية‏,‏ كما تدل علي ذلك التجارب الأليمة التي مرت بها بعض شعوب العالم وبلدانها من قبل‏.
وإذا كان العراق يقف فعلا علي تخوم حرب طائفية‏,‏ كما هو واضح من المشهد الذي هو عليه الآن‏,‏ فإن السؤال المطروح هو‏:‏ هل ثمة فرصة بعد لكبح جماح هذا الاندفاع الجنوني نحو الهاوية الوطنية وإنقاذ العراق من مصير ليس محتما؟
ما هو مؤكد أن العراق يقف اليوم علي مفترق طرق‏.‏ وفي مثل هذه المنعطفات المصيرية التي تمر بها الشعوب‏,‏ هناك دائما إحساس غير مريح بإمكان حدوث مفاجآت غير سارة‏.‏ إلا أنه من المؤكد أيضا‏,‏ أن الفرصة لاتزال سانحة‏,‏ لكي يدرك العراقيون أن طريق الحرب الأهلية التي وضعوا فيها ليس إجباريا‏.‏ وأن بإمكانهم أن يجتازوا هذا الاختبار الشاق الذي وضعوا فيه بطريقة فاعلة‏,‏ لا توقف فقط هذا الانحدار المدمر‏,‏ بل توقظ لديهم أسباب البقاء‏,‏ كشعب ودولة‏.‏ وتجعلهم قادرين أيضا علي العيش معا كبشر ومواطنين‏,‏ ذوي هوية ومصالح وتطلعات مشتركة‏.‏ غير أن كل ذلك سيعتمد‏,‏ بالدرجة الأولي‏,‏ علي قوة الضمير الأخلاقي للقيادات التي تتولي دفة الأمور داخل العملية السياسية وخارجها‏,‏ وبراعتها السياسية‏.‏ كما سيعتمد‏,‏ ثانيا‏,‏ علي همة العراقيين وعزمهم علي استعادة الإرادة الوطنية التي دمرتها النتائج المروعة للفترة الماضية‏.‏
هناك الآن عملية سياسية جارية‏,‏ تمثل رغم الأسس الركيكة التي قامت عليها‏,‏ والعثرات التي رافقتها‏,‏ الوسيلة الوحيدة المتوافرة للخروج من المأزق الوطني الذي يمر به العراق‏,‏ ولمنع انزلاق العراقيين إلي صراع طائفي ينتهي بتقسيم بلدهم إلي كيانات تتوزع بين شيعته وسنته وعربه وأكراده وتركمانه‏.‏ وبما أن الإطار المرجعي الذي تقوم عليه هذه العملية هو اقتسام السلطة والثروة بين مكونات المجتمع العراقي الاثنية والدينية‏,‏ علي أسس المحاصصات والصفقات‏,‏ وهو الإطار الذي جوبه برفض قوي من قبل أغلبية السنة العرب‏,‏ فإن فحوي الصراع الحالي يدور حول إمكان إعادة التفاوض بشأن عملية الاقتسام هذه‏.‏ بهدف تحقيق التوازنات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بين المكونات الثلاثة الرئيسية‏,‏ والضرورية لوضع العملية السياسية علي أسس أكثر واقعية وعدالة‏.‏ وبهدف البدء بعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع‏,‏ اللذين تمتفكيكهما بالحرب الأمريكية التي شنت لإسقاط نظام صدام حسين‏.‏
ويوفر المشروع الذي طرحه رئيس الوزراء نوري المالكي للمصالحة والحوار الوطني‏,‏ ومؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي تدعو الجامعة العربية إلي عقده الشهر المقبل‏,‏ المبادرتين الوحيدتين الآن اللتين تسعيان إلي المساعدة علي الخروج من هذا المأزق الوطني‏.‏ وفي الوقت الذي يرسي مشروع المالكي قواعد أولية للحوار‏,‏ فإن الجامعة تعتمد في إنجاح مبادرتها علي حسن نيات الأطراف المشاركة في المؤتمر المزمع لإنجاح عملية الوفاق‏.‏ غير أن ما يؤخذ علي المبادرتين‏,‏ علي الأقل في المرحلة الحالية‏,‏ هو عموميات أهدافهما وافتقادهما للرؤي والاستراتيجيات‏.‏ ومن ثم الآليات المطلوبة لتنفيذ حلول وسط وتسويات منصفة وواقعية يتم الاتفاق عليها لإرضاء جميع الأطراف المتنازعة‏.‏
من الضروري أن تجري عملية الوفاق والمصالحة الوطنية علي خمسة مسارات متوازية ومتزامنة إذا ما أريد ضمان نجاحها‏:‏
‏*‏ أولا‏:‏ من المهم العمل علي تحقيق الأمن والاستقرار‏,‏ بهدف تحقيق مناخ مناسب لعملية الوفاق‏.‏ وهي مهمة تتحمل جميع الأطراف‏,‏ سواء كانت مشاركة في العملية السياسية الحالية أم خارجها‏,‏ مسئولية القيام بها وبشكل يؤدي إلي اجتثاث كل أنواع العنف ومن يقف وراءه‏.‏ يتطلب هذا الأمر من الحكومة التعجيل ببناء جيش وقوات أمن علي أسس وطنية ومهنية تأخذ علي عاتقها مهمات حفظ النظام وتطبيق القانون‏.‏ بينما يتطلب من الأطراف المتنازعة حل الميليشيات المسلحة‏,‏ وكل جماعات العنف المنظم‏.‏ ومن شأن هذه الخطوات إرساء مناخ من الأمان والثقة يشجع علي الانخراط في عملية المصالحة وإنجاحها‏.‏
‏*‏ ثانيا‏:‏ يشكل بقاء قوات الاحتلال تحديا كبيرا في وجه أي عملية مصالحة وطنية ناجحة‏.‏ مما يتطلب الاتفاق علي مستقبل وجود هذه القوات‏,‏ في إطار من الواقعية السياسية‏,‏ والحاجات الوطنية الفعلية‏,‏ خارج ثنائية الاحتلال ـ المقاومة التي استحكمت بأداء بعض الأطراف‏,‏ خاصة العربية السنية‏.‏ وجود الاحتلال هو قضية وطنية ينبغي معالجتها في إطار وطني بعيدا عن المزايدات واتهامات التخوين وعقد الصفقات معه لمنحه الفرصة للبقاء مدة أطول‏,‏ أو تغير شكله من خلال منحه رخصة للإقامة الدائمة عبر بناء قواعد ومواطئ قدم‏.‏
‏*‏ ثالثا‏:‏ من الضروري توسيع المشاركة السياسية لكي تشمل أطرافا خارج الجماعات والتشكيلات الطائفية والعرقية التي هيمنت إلي الآن علي العملية السياسية واحتكرتها‏,‏ أو تلك التي قاومتها‏.‏ وذلك من خلال ضم ممثلين عن التيار الوطني العام والمجتمع المدني‏,‏ كمشاركين حقيقيين في صياغة عقد سياسي جديد قائم علي تحقيق توازنات منصفة وواقعية بين وجهات النظر المتعددة والمصالح والآمال التي لدي كل جماعة في سياق عراق جديدد‏.‏ وفي هذا الإطار ينبغي البدء بعملية إدماج وطني علي المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية علي أساس مبدأ التنوع داخل الوحدة‏.‏
‏*‏ رابعا‏:‏ يشكل تحقيق العدل في الأوضاع الحالية‏,‏ من خلال كشف الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين‏,‏ سواء من قبل النظام السابق‏,‏ أو من زمر الإرهاب والعنف بعد سقوطه‏,‏ مهمة ذات أولوية قصوي‏.‏ هدفها إحقاق الحقوق وإزالة مناخ عدم الأمان والخوف‏.‏ وهي عوائق ستظل‏,‏ إذا لم تتم إزالتها بحل ما‏,‏ مانعا لتحقيق أي مصالحة ووفاق وطني‏.‏ وعلي هذا الأساس‏,‏ فإن وضع آلية عملية لتحقيق العدالة الانتقالية‏,‏ وتسليط الضوء علي إرث الانتهاكات الفظيعة التي حصلت ومعالجتها بالطريقة التي تحقق العدالة للضحايا وتغسل جراح الماضي وأحقاده وضغائنه هي مهمة ضرورية لإنجاح عملية المصالحة الوطنية‏.‏
‏*‏ خامسا‏:‏ لا يمكن لأي عملية مصالحة ناجحة أن تجري دون جهد حقيقي وسريع لإعادة البناء الاقتصادي‏.‏ من خلال آليات جديدة لتوزيع الثروة بشكل عادل ومنصف بين مناطق العراق المختلفة‏.‏ وإرجاع العراق إلي سوق اقتصادية واحدة ودفع عجلة التنمية والاستثمار بهدف القضاء علي البطالة والفقر وتوفير فرص العمل وزيادة النمو وتحقيق رخاء اقتصادي يوفر مناخا موائما للاستقرار والأمن‏,‏ ويكون سياجا ماديا حاميا للوفاق والوحدة‏.‏
هذه فترة حاسمة في تاريخ العراق‏,‏ والأشهر القليلة المقبلة ستكشف فيما إذا كان قادة الجماعات العراقية قادرين علي التعلم من أخطاء الماضي‏,‏ البعيد والقريب‏,‏ أم أنهم سيعيدون ارتكابها‏,‏ دافعين ببلدهم وشعبهم نحو حضيض حرب أهلية طاحنة‏.‏ رغم نذر الشؤم‏,‏ فإن المناخ الآن مناسب أمام كل الأطراف لمراجعة الذات والتخلي عن الأنانية والبحث عن الامتيازات من خلال لعبة السلطة المدمرة‏,‏ من أجل مصالحة الادعاءات المتضاربة والتوقعات المتعارضة وتسخير كل ذلك من أجل إعادة البناء‏.‏ وإلا فإن التاريخ سيسميهم بأشنع الأوصاف‏,‏ وسيحكم علي أفعالهم‏,‏ ليس باعتبارها أخطاء‏,‏ بل كونها أعمالا شريرة‏,‏ أدت إلي خراب العراق وانهياره‏.‏ هذه فرصة أخيرة كي يقف هؤلاء القادة أمام ضمائرهم‏,‏ وأمام برك الدم البريء‏,‏ وأمام الركام لكي يحققوا المعجزة العراقية‏,‏ أن ينهض العراق من جديد من تحت الأنقاض التي يراد دفنه تحتها‏ 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *