صفوة القول

                                                     صفوة القول
                                             مختارات من اراء وقضايا

                                             أمام “حماس” فرصة… وكذلك المنطقة
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في الحياة في 24/2/2006

“إن اليقين هو أن الأصوات التي تغرق الإعلام في هذه الأيام باطلة، فأمام أنظارنا لا يتخلق شرق أوسط جديد فقط بل رؤية آخر الزمان أيضاً. يوجد بين محللينا من يزعمون أن الذئب يوشك أن يعاشر الكبش، وأن مواطني إسرائيل المساكين الذين كانوا يوماً أسوداً أصبحوا يأكلون التبن… كالبقر”. هذه العبارات هي لكاتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية غداة فوز حماس بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهي تخلص الى أن هذا الفوز سيشكل شرق أوسط جديداً سيمثل بدوره كارثة على إسرائيل وتهديداً عظيماً لها.

هل يختلف هذا الاستنتاج الإسرائيلي كثيراً عما قرأناهنحن في صحافتنا العربية أو سمعناه من محللينا الإستراتيجيين اياهم الذين انشطروا، كما هو متوقع، بين من بشر ببداية النهاية للهجمة الإمبريالية الصهيونية على يد الإسلاميين القادمين، وبين من أطلق النذير من أن نسيم الديموقراطية الذي طالما انتظرناه لم يأتِ الا بـ «تسونامي» أصولي طاغ لن يخلف وراءه الا المزيد من الحسرات وخيبات الأمل.
بلا ادنى شك جاءت نتائج الانتخابات الفلسطينية مذهلة للجميع، بمن فيهم حماس ذاتها، لكنه ذهول لا يكشف فقط عورات الأنظمة التسلطية ومدى بغض الناس لها، ولا هول الركام الهائل من الدمار السياسي والنفسي الذي ألحقه طغيانها بمجتمعاتها، ولا علاقات التبعية والموالاة التي أنتجت وأدامت ذلك، بل كشف أيضاً حجم التحديات التي تفرزها مرحلة التحولات الكبرى الجارية في المنطقة، والتي جعلت الكثيرين يخشون من أن دواء الديموقراطية الشافي الذي أنتظرته طويلاً لن يكون إلا داءً جديداً يضاف إلى عللها المزمنة. فهل أن الانتصار الإنتخابي الكاسح الذي أنجزته حماس والكسب الذي حققته قبلها حركة «الإخوان المسلمون» في مصر، وقبلهما صعود التيار الأصولي الشيعي والسني في العراق، تمثل حقاً إنتصاراً للإرادة الشعبية، أم نكوصاً وإرتداداً للحلم العربي الديموقراطي، أم أن الآمر برمته لا يعدو كونه سيراً في الإتجاه ذي الممر الواحد الذي فرضته مرحلة تحول تجيء بعد عقود طويلة من التكلس التي عاشها العالم العربي؟
يطرح فوز حماس الإكتساحي تساؤلات شتى، مع تصاعد السجالات في العالم العربي وتسارع التطورات والتفاعلات السياسية لدفع جهود الإصلاح وتعزيز الديموقراطية بهدف الخروج من حال الإستعصاء السياسي والركود التنموي والجمود الثقافي الذي يعشش في المنطقة والذي أصبح يهدد كياناتها ومستقبل وجودها. غير أن أهم هذه التساؤلات هي تلك التي تتعلق بعلاقة تنامي دور حركات الإسلام السياسي وصعودها الانتخابي في التحولات الديموقراطية الجارية، وكذلك في تأثير عملية التطور الديموقراطي المستعصية في مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلاقة هذا الزحف بالضغوط الخارجية للإصلاح في العالم العربي. ومن المؤكد أن فوز حماس مرتبط مباشرة بهذه القضايا الثلاثة.
ليست هناك أجوبة جاهزة عن هذه التساؤلات. والمرحلة التي تمر بها المنطقة، كاشفة لكنها مخاتلة أيضاً، مما يستوجب التأني والحذر من المتفائلين والمتشائمين قبل الشروع بالإحتفال أو عزف موسيقى الجنازة. فما يحدث، ومن ضمن ذلك إنتصارات الإسلاميين في الإنتخابات، ما هو الا تجليات مرحلة «الفوضى البناءة» التي وضعت فيها المنطقة بعد الحرب الأميركية على الارهاب في 2001 والحرب الأميركية الأخرى عام 2003 لإسقاط نظام صدام حسين في العراق. فما افرزته الحربان هو بداية إنهيار «الوضع القائم» الذي رسم وضع المنطقة لعقود عديدة ومهد الطريق لعملية تفكيك ومن ثم إعادة بناء من الصعب التنبؤ بالمدى الزمني الذي ستستغرقه أو طبيعة التغيرات التي ستنتج عنها.
تهدف الإستراتيجية الأميركية، المدعومة من الغرب، كما هو معلن، القيام بعملية إصلاح سياسي وتحقيق الديموقراطية في العالم العربي كوسيلة للقضاء على بؤر التطرف التي تغذي العداء للغرب وتشن حرب إرهاب عليه. وقد عبر الرئيس جورج بوش مرات عديدة عن هذا التوجه الذي شكل جوهر مبادرة الإصلاح في «الشرق الاوسط الواسع» الذي يدعو اليه. ويفترض هذا الهدف أن محاصرة التطرف والتشدد بكل أشكاله وتجفيف منابعه الفكرية والمادية، إضافة إلى نجاح العراق في إقامة نظام تعددي تشاركي، سيؤدي إلى نشر الديموقراطية في المنطقة وبالتالي الى تحصين أميركا والغرب ضد الإرهاب. الحاصل الآن هو أن خطر الإرهاب والتطرف لا يزال ماثلاً، كما أن المسافة بين العراق والديموقراطية لا تزال طويلة. وكل ما تحقق حتى الآن هو أن عملية التفكيك التي أطلقتها الحربان في المنطقة، أي الفوضى البناءة، تنذر نتائجها الأولية بصحوة جديدة لتيار الإسلام السياسي لا تتوفر أي ضمانات بعدم تحولها إلى مقدمات ليقظة بؤر تطرف جديدة، في ما يبدو مغامرة تجريبية أخرى في سلسلة التجارب التي أخضع لها العالم العربي خلال تاريخه الحديث.
فاليوم أنتجت الانتخابات العراقية وضعاً صعدت فيه الأصولية الشيعية والسنية معاً في الوقت الذي أفرز الوضع بمجمله دائرة رخوة في عموم المنطقة تتقاطع فيه الصراعات المذهبية والعرقية مع المصالح والتطلعات الاقليمية، وكلها مع الإستراتيجيات السياسية والأمنية والبترولية الدولية، لتولد بؤرة توتر قادرة على أشعال المنطقة برمتها. أما في مصر فجاء فوز الإخوان المسلمين بخُمس مقاعد البرلمان ليقرع أجراس الإنذار عن أمكان زحف الأصولية الإسلامية رويداً رويداًً نحو هدفها بإنشاء الدولة الدينية التي يخشى قيامها قطاع عريض من المصريين الرافضين أو غير المتحمسين لربط الديني بالسياسي، سواء في أجهزة الدولة أو في المجتمع وفي طبقة رجال الأعمال الذين أصبحوا يديرون دفة الإقتصاد بالإرتباط بشبكة واسعة من الإستثمارات الدولية أو الأقباط أو النساء وغيرهم. أما فوز حماس ففجر كل ينابيع القلق بشأن مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي الذي ظل طوال العقود الستة الاخيرة الصخرة التي تتحطم عليها كل احلام الديموقراطية والحرية في المنطقة.
هناك في دول أخرى في العالم العربي بؤر توترات مشابهة، بعضها ظاهر، والآخر مستتر، أفرزتها كذلك عملية فتح ملفات الإصلاح في المنطقة، والتي ستفتح معها آجلاً أو عاجلاً، الملفات نفسها التي فتحتها الانتخابات العراقية والمصرية والفلسطينية، أي علاقة الديموقراطية بالإسلام والتيارات الدينية المسيسة، الصراع العربيالإسرائيلي، العلاقة مع الآخر، والأهم الإرتباط الوثيق بين هذه الملفات بعضها بالبعض الآخر. بالتأكيد هذه الأسئلة ليست جديدة بل كانت دائماً في صميم الإشكالية التي واجهت عمليات الإصلاح في المنطقة لكن قدرها أن تقف هذه المرة أيضا أمام المرآة لتطرحها على نفسها من جديد. هل يمكن إقامة ديموقراطية حقيقية تحت عباءة نظام ديني في الوقت الذي لا يزال يخيم على المنطقة شبح التطرف والإرهاب، وهل هناك علاقة بين حل القضية الفلسطينية وإقامة الديموقراطية، وهل تنجح الديموقراطية في ظل علاقات التبعية والهيمنة التي أصبحت تربط المنطقة العاجزة والمهمشة والموبؤة بالفساد بكل أنظمتها السياسية والإقتصادية والثقافية مع المركز المتنفذ الداعي والداعم لمسيرة الإصلاح؟
تبين النتائج التي افرزتها الانتخابات الأخيرة في العراق ومصر وفلسطين أن هناك حاجة ملحة من جانب الأنظمة والحركات السياسية والإجتماعية والنخب الفكرية والثقافية النافذة في العالم العربي إلى التركيز على ما فتحته وستفتحه ملفات الإصلاح من إحتمالات ربما لم تكن في الحسبان، أو أسيء تقدير نتائجها وإنعكاساتها. فما نشاهده اليوم أن العالم العربي وضع أمام خيارين، أما الرضوخ للأمر الواقع الذي تمثله الأنظمة المتسلطة داخلياً، والقابلة بحل للصراع العربي – الإسرائيلي قائم على اساس الأرض مقابل السلام، والخاضعة للهيمنة الخارجية، مع بعض التحسينات، أو القبول بخيارات الحل الذي تطرحه الإنتخابات، وهو الأصولية الإسلامية المتسلقة فوق سلم الإنتخابات والديمقراطية مع إجندتها المتصلبة داخليا،والمتمسكة بخيار مقاومة الحل السلمي للصراع مع إسرائيل والمتشككة أو حتى المعادية للآخر، خصوصاً الأميركي والغربي المهيمن على مقدرات المنطقة.
هل العرب أذن أمام محنة جديدة جاءت بها دعوات الإصلاح؟ أغلب الظن أن تلك هي الحقيقة، فالعالم العربي يقف اليوم أمام منعطف يصعب فيه القبول بخيار العودة إلى الوراء، في الوقت الذي يكون المضي إلى أمام سيراً في طريق المجهول. ما يحصل الآن في المنطقة هو عملية كبرى، لفتح كل الدمل ونكأ الصديد المتراكم، وحتى بتر ما أستعصى على الجراحة منها، ودفعها بعد ذلك الى لعق جراحها ببطء، ثم الانتظار لرؤية ما اذا كان الشفاء ممكناًُ. ولا يقتصر الامر على العراقيين والفلسطينيين والمصريين، فالفوضى البناءة كما هو واضح تعم دول المنطقة، من محيطها إلى خليجها، وكل يقف أزاءها حسب ظروفه وأوضاعه، وهناك قواسم مشتركة يفترض أن تساعدهم على فهم التحديات وعلى مواجهتها أيضاً، وخاصة تلك التي تتعلق بأرتباط التطور الديمقراطي بالإسلام السياسي وبالصراع العربي – الأسرائيلي وبالعلاقة مع الغرب، هذا الثالوث الذي سيشكل وحتى فترة ممتدة آتية، القاعدة التي تشد اليها أي محاولة للإصلاح في العالم العربي.
وفي ظني أن المثال الفلسطيني الذي يطرحه إكتساح حركة حماس للأنتخابات هو الأكثر تمثيلا للمعضلة التي تواجها المنطقة في كيفية مواجهة مرحلة الإصلاح والإستحقاقات المترتبة عليها مثلما سيكون نجاحها هو الملهم للنجاح المرجو لها للخروج من نفق الفوضى الذي دخلت اليه. على حماس، التي شاركت الإنتخابات الفلسطينية وهي مدركة انها تقطع شوطاً طويلاً بين الجهاد لتحقيق حلم تحرير كامل الأرض من البحر إلى النهر إلى القبول بقواعد اللعبة الإنتخابية التي وفرتها اتفاقات أوسلو، أن تأخذ فرصتها، وعلى العرب أنظمة وجماعات ونخباً أن يعينوها لتتخذ قرارها الصحيح الذي ينسجم مع مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح المنطقة وشعوبها ومع التحديات الجسام التي تواجهها. غير أن عليها أن تدرك أيضاً أنها أمام فرصة، فرصة هي إختبار لها وللمنطقة، وعليها ان تصيخ السمع خلالها لنداءات المستقبل وليس لندّابي الماضي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *