14-11-2012
                                    نبذ ثقافة الإفلات من العقاب
                                                                                     صلاح النصراوي

هزت بريطانيا في الاسابيع الاخيرة فضيحة استغلال جنسي للقاصرات اتهم فيها مقدم  برامج تليفزيوني واذاعي شهير توفي منذ سنوات.ما هو مثير في هذه القضية التي بدأت الشرطة بالتحقيق بشأنها ليس فقط عدد القضايا المثارة. وكذلك ارتكاب بعضها داخل مباني هيئة الاذاعة البريطانية, التي تغاضت بدورها عن التحقيق فيها بل ايضا في ان كشفها جاء بعد نحو اربعين عاما من بدء وقوعها, وبعد عام من وفاة جيمي سافيل, بطل الفضيحة.
ما حصل هو ان سافيل استغل شعبيته ومركزه الاجتماعي نحو خمسة عقود قام خلالها بنحو300 حالة انتهاك عرض واعتداءات جنسية مسجلة اضافة الي حالات عديدة اخري يجري التحقق منها.الفضيحة فضحت بدورها جرائم اخري, منها قضية تتعلق باعتداءات جنسية علي الاطفال خلال عقد السبعينيات والتي امر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون باجراء التحقيقات بشأنها, خاصة مع احتمال تورط نواب عن حزب المحافظين فيها.
وحين كنت أروي هذه الوقائع قبل ايام لاحد اصدقائي في الوسط الاعلامي شرد بذهنه طويلا قبل ان يروي لي حكاية عن مخرج تليفزيوني شهير عاصره في نفس تلك الفترة الزمنية وروي لي كيف ان الرجل كان نموذجا محليا عن سافيل البريطاني وان فضائحه مثل فضائح غيره كثيرة وزكمت حينها الأنوف, إلا انها رحلت معهم الي قبورهم دون ان تفتح سيرتها لا في الحياة ولا في الممات.
ثمة قضية جوهرية هنا تتجاوز فضيحة سافيل ورواية صديقي عن المخرج التليفزيوني اياه لتصب في صلب الموضوع الا وهي تحقيق العدالة, وبالذات ضرورة الا يفلت احد من العقاب عن جريمة ارتكبها,مهما تكن الجريمة ومهما يطل الزمن, وهي قضية تطرح نفسها بشدة الآن في الدول والمجتمعات العربية التي تمر بتجارب المراحل الانتقالية في فترات ما بعد الثورات التي اطاحت بأنظمة الفساد والاستبداد والجرائم التي ارتكبت تحت سلطتها.
 وما تثيره التحقيقات في قضية سافيل هو انه لا ينبغي ابدا ان يكون التقادم, ولا طبيعة الاشخاص المتورطين سببا في اغفال النظر في الجرائم والانتهاكات, حتي ولو كان الامر يقتصر علي مجرد تسليط الضوء علي الجريمة وتعرية مرتكبيها بغية تحقيق قدر معقول من العدالة للضحايا وللمجتمع, عبر كشف الجريمة ومعالجة الجراح التي ولدتها وتعويض الضحايا ولو تعويضا معنويا كافيا.
في القانون الدولي الانساني يشير مفهوم الافلات من العقاب الي الاخفاق في جلب منتهكي حقوق الانسان والجرائم للعدالة, وهو بهذا يعني انكار حق الضحايا للحصول علي العدالة والتعويض المادي والمعنوي اللازم لهم. كما يعني العجز عن تسليط الضوء علي الجريمة وكشفها امام الرأي العام الذي هو ايضا صاحب مصلحة حقيقية في تحقيق العدالة ورد المظالم وكذلك منع تكرار تلك الانتهاكات والممارسات وردع كل من تسول له نفسه من القيام بها مستقبلا.
وعمليا فإن الافلات من العقاب يعني عدم خضوع المشتبه بهم للتحقيق الذي يمكن ان يؤدي الي توجيه الاتهام لهم, واعتقالهم ومحاكمتهم وادانتهم, اذا ماوجدوا مذنبين, وفرض العقوبات اللازمة عليهم وتعويض ضحاياهم.إن الافلات من العقاب يتأتي من اخفاق الدولة في تنفيذ التزاماتها واتخاذ الاجراءات الضرورية اللازمة في تحري الوقائع احتراما لحقوق الضحايا في احقاق العدل, سيان في ذلك القضايا الجزائية او المدنية او الادارية او حتي الاجراءات الانضباطية.
ما تشير اليه التجربة التاريخية الحديثة ان الافلات من العقاب اكثر شيوعا في البلدان التي تفتقد لتقاليد حكم القانون وانتشار الفساد فيها, او لان القضاء ضعيف, او لان اجهزة حفظ القانون والنظام تتمتع بالحماية والحصانة, مما يعني عدم توفر الفرصة او استحالة جلب المتورطين امام القضاء.غير ان التجربة اثبتت ايضا ان دولا تشتهر بالديمقراطية وحكم القانون, كالولايات المتحدة واسرائيل, تشهد هي ايضا حالات من الافلات من العقاب, خاصة ما يتعلق بافراد جيوشها واجهزة مخابراتها عندما يتعلق الامر بانتهاكات ترتكب في اثناء الحروب والصراعات.
إن اكثر اوجه هذه القضية ايلاما هو ما يسمي بشيوع ثقافة الافلات من العقاب والتي تعني ان بعض الافراد في المجتمع يبدأون بالاقتناع والتصرف بأن بامكانهم ان يفعلوا ما يريدون دون حساب, او رقابة, او مواجهة عواقب القانون لافعالهم, الأمر الذي يتطلب جهدا معاكسا لمقاومة هذا النوع من الثقافة وتكريس ثقافة بديلة, وهي ثقافة المحاسبة وإتاحة الفرصة للعدالة أن تأخذ مجراها في معاقبة كل من ارتكب جريمة, ومن أعطي الأوامر لتنفيذها, او حرض عليها أو من تستر عليها مهما يطل الوقت او يقصر.
هذه ليست فقط وظيفة الدول التي ينبغي عليها العمل علي ارساء فلسفة سيادة القانون كقوة لايمكن تجاوزها او خرقها من خلال النظام المؤسسي القانوني والامني والاجتماعي, بل هي ايضا مهمة مجتمعية ينهض بها الناس الذين ينبغي ان يستبسلوا في الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم.
في قضية سافيل لم يكن ممكنا ابدا فتح الملفات القانونية لولا الشجاعة التي ابدتها قلة من النساء ظهرن امام الاعلام ليدلين بشهادتهن عن الانتهاكات الجنسية التي تعرضن لها علي يديه في اثناء مشاركتهن في برامجه التليفزيونية والاذاعية, ثم ليفتحن الطريق امام العشرات اللاتي كسرن حاجز الصمت والخجل وكشفن عن تجارب مماثلة. وتوفر المراحل الانتقالية فرصة كبري لنبذ الممارسات القديمة لانه بالتالي لا يمكن اعادة بناء الدولة المدمرة بسبب سياسات الانظمة الاستبدادية الفاسدة الا عبر تحقيق العدالة والتي بدورها لا يمكن اقامتها من خلال اصلاح النظام القضائي فقط دون نبذ كلي لثقافة الافلات من العقاب واحلالها بثقافة حكم القانون.
إذا كانت اقامة حكم القانون تعني الاقتصاص من مجرمي الأمس فإنها تعني ايضا تكريس مبدأ اساسي وهو عدم السماح, كواجب اخلاقي وقانوني, تكرار تلك الجرائم والانتهاكات في عهود التغيير, سواء من خلال عمليات الثأر والانتقام, او عن طريق منح المتنفذين الجدد لانفسهم مرتبة القداسة والحق بأن يفعلوا ما يشاءون لمجرد أنهم اصبحوا سادة في النظام الجديد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *