Category Archives: ما بعد التجربة

مذكرات فكرية

ساعة ونصف الساعة مع مرشد الإخوان

                                                           صفوة القول 
                                                     مختارات من اراء وقضايا

                                 ساعة ونصف الساعة مع مرشد الإخوان ..
                                                                              صلاح النصراوي
                                                     نشر في الحياة يوم 12 – 06 – 2005
في الطريق إلى مكتب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف، اختمر في ذهني معظم الأسئلة التي كنت انوي أن أوجهها الى رجل ربما يحمل الآن على عاتقه مهمة تاريخية كبرى تتمثل في تحديد «معالم على الطريق»، يفترض أن تكون جديدة، أو حتى مغايرة، لتلك التي وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا قبل نحو ثمانية عقود وجددها أسلافه الستة، كما تختلف بالتأكيد عن تلك التي وضعها مفكر الجماعة الأبرز سيد قطب. فالمؤشرات الداخلية والإقليمية والدولية تدل كلها الى أن الجماعة التي ظلت طوال هذه العقود – مصرياً في قلب الحركة الوطنية ودولياً في قلب الإسلام السياسي النشط – تواجه الآن اكبر اختبار في تاريخها في ما إذا كانت قادرة أخيراً على أن تبلور مواقف تستجيب للتحديات الكبرى التي تواجهها مصر والعالم الإسلامي أم أنها ستفشل في ذلك.
 لا تدل الشقة الصغيرة في حي المنيل في وسط القاهرةوالتي تتكون من ثلاث غرف وردهة ويتخذها مرشد الإخوان المسلمين مقراً لقيادته على أن الجماعة تقف على خط الشروع في احدى معاركها الكبرى مع النظام في مصر، إذ لا يمكن مقارنة هذا المكتب الشديد التواضع والمنزوي على ناصية شارع ضيق مع البناية العملاقة لمكاتب الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم على بعد بضعة كيلومترات ولا حتى مع مكاتب فروعه المحلية المنتشرة في كل المدن. وبالتأكيد لا يمكن المقارنة بين الإمكانات الهائلة للدولة ذاتها وإمكانات أي جماعة سياسية معارضة، وبخاصة إذا كانت سرية.
إلا أن أول سؤال يتبادر إلى الذهن عندما يدخل المرء هذا المكتب الذي يدب بنشاط وحركة غير عاديين، هو: هل أن الإخوان المسلمين الذين اظهروا كل هذه القدرات الهائلة على التعبئة والحشد أخيراً في وجه السلطة يستعدون الآن لاجتياز مرحلة التمكين التي طالت سبعة وسبعين عاماً والاستعداد لتحقيق هدف الوصول إلى السلطة الذي انتظروه طوال هذه الفترة؟ ما يتبع هذا السؤال هو لماذا الآن؟ وما تفسير علاقة التزامن الواضحة في توقيت التصعيد الأخير في مطالبات الإخوان «الإصلاحية»، مع طرح أجندة الإصلاح الأميركية المدعومة دولياً على المنطقة والإشارات الواردة فيها في شأن سياسة جديدة تدعو إلى نبذ تهميش الإسلاميين المعتدلين وإدماجهم في العملية السياسية الديموقراطية المنشودة وإشراكهم في السلطة بل استعداد الولايات المتحدة للتعامل معهم كأطراف أساسية؟
ولأن الحماس الذي دب في جهود «الإخوان» أخيراً لا يمكن أن ينطوي على عنصر الصدفة مثلما لا يمكن أن يكون مجرد استعراض للقوة بلا هدف سياسي حقيقي، فإن تساؤلاً لا بد أن يدور حول مدى استعداد الحركة للدخول في حوار مع الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تسهل خطوة مشاركة «الإخوان» في العملية السياسية وربما المشاركة في السلطة من دون تفاهمات وترتيبات مسبقة، تضمن ليس فقط تراجع المواقف المعادية لأميركا التي ميزت خطاب «الإخوان» حول قضايا خلافية عدة مثل قضية فلسطين، بل أيضاً ضمان التزام إخواني واضح وصريح بالعمل السلمي وقضايا الديموقراطية ومبدأ تداول السلطة وحرية السوق والحريات الأساسية مثل العقيدة والتفكير وحقوق الأقليات والموقف من المرأة.
 تساؤل آخر له علاقة وثيقة أيضاً بهذا السؤال، وهو هل أن الحركة على رغم تباهيها بقوتها العددية الكبيرة وإمكانات الحشد الهائلة التي تمتلكها في مجتمع مأزوم سياسياً من ناحية وشديد الولاء لإسلاميته من ناحية ثانية، مستعدة عملياً للمشاركة في السلطة أو لاستلامها كلياً في دولة مؤسساتية تعتمد منذ أكثر من خمسين عاماً في إدارة شؤونها على بيروقراطيات مدنية وعسكرية وأمنية شديدة الولاء لتقاليدها وذات خبرات متجذرة في إدارة الصراع ومتخندقة وراء تحالفات داخلية ودولية تتيح لها فرصة عالية من المناورة والكسب؟.. هذا الاستعداد لا يرتبط فقط بوجود الكادر البشري التقني المدرب والمهيأ للانتقال من أوكار الجماعة السرية إلى إدارة الدولة، بل ما هو أهم من ذلك بالفكر الذي يواجه تحديات العصر ومتطلباته، خصوصاً توضيح العلاقة بين ما هو ديني وما هو مدني وبين ما هو شرعي وما هو سياسي.
أي بمعنى آخر هل لدى الحركة برنامج عملي مفصل واضح تجاه القضايا الأساسية في السياسة والاقتصاد والثقافة التي تواجهها الدولة والمجتمع في مصر؟ (على سبيل المثال الموقف من معاهدة السلام مع إسرائيل والموقف من العمليات المصرفية والائتمان والموقف من التعددية الثقافية والدينية والحريات الشخصية والفكرية). ربما كانت هذه الأسئلة قديمة ولكني اعتقدت وأنا أعيد طرحها على المرشد العام للإخوان المسلمين خلال ساعة ونصف الساعة بأنها ترتبط هذه المرة باللحظة التاريخية التي تمر بها الجماعة، بل تمر بها مصر والمنطقة برمتها، والتي تستوجب الإجابة على السؤال الأساسي الذي يواجه أي حركة سياسية وأي أمة في مثل هذه اللحظات الحاسمة: ما العمل؟
 قد لا تكون الإجابات أيضاً جديدة، فهي بالتالي لا بد أن تتماشى، لأسباب ذاتية وموضوعية مع الأهداف والتكتيكات والشعارات التي ترفعها الحركة وتستجمع قواها في هذه المرحلة من أجل خدمتها. لكنها مع ذلك قد تلقي بعض الضوء على الاتجاهات الرئيسة السائدة داخل الجماعة، والتي أكد عاكف أنه لا يصوغها لوحده بل من خلال الشورى في هيئات الجماعة القيادية، وهو تأكيد يراعي مستلزمات الدعوات الديموقراطية السائدة. بإيجاز، لا يرى عاكف، في شأن السؤال الأول، أن الإخوان هم الذين افتعلوا المعركة مع النظام أو أنهم بصدد فتح مرحلة جديدة ساخنة في صراعهم معه، «كل ما في الأمر أنهم يطالبون في حقهم الدستوري بالتظاهر السلمي من أجل الإصلاح» الذي قابلته السلطة بإلقاء القبض على مئات من أعضاء الجماعة من الكوادر الوسطى التي تشكل حلقات الوصل بين القيادات والقواعد.
 وينفي المرشد العام تهماً عن التهاون مع النظام في ما مضى، على رغم أنه يؤكد أن الجماعة كانت «تتفاهم» سابقاً مع النظام «لمصلحة هذا البلد». بيد أن تلك المرحلة التي كانت الحركة تقبل فيها التعامل مع النظام من خلال القيادات الأمنية انتهت وحان وقت التعامل معها سياسياً من وجهة نظر المرشد، «فنحن موجودون ونملأ الشارع». أما في ما يتعلق بالسؤال الثاني، فإن عاكف يضع مجدداً خطوطاً حمراء أمام الانخراط في مشروع التغيير المفروض على المنطقة حين يشدد على ثلاثة مواقف يعتبرها أساسية، وهي رفض أجندة الإصلاح الأميركية على رغم أنه يقر بأن «بعض الناس يرون فيها أمراً حسناً»، لكنه يرتاب فيها. ويقول: «كيف اطمئن إلى أنها تبغي الإصلاح وليس ابتزاز أنظمتنا»، كما أنه يرفض أن يكون «مساعداً لنظام خارجي ضد نظام بلدي مهما كان ظالماً»، كما يرفض الحوار المباشر مع المسؤولين الأميركيين إلا في وجود ممثلين عن وزارة الخارجية المصرية «حتى لا يقال إنني أتحاور مع قوى أجنبية في غيبة النظام».
عدا هذا، فإن لدى عاكف حلولاً لما تطرحه أجندة الإصلاح من معضلات يبدو أن بعضها محاولة الالتقاء في منتصف الطريق، مثل التمسك بالشورى كبديل إسلامي للديموقراطية والإيمان بحقوق المرأة من دون حقها في الولاية الكبرى، أو رأيه في طرح القضايا الفقهية الخلافية مثل مسألة الفوائد المصرفية على الاستفتاء العام لبيان رأي الناس فيها. أما عن التساؤل الثالث، فإن عاكف ينفي أن هدف ما تفعله الجماعة حالياً هو القفز على السلطة، على رغم أنه يرى أن السلطة الحالية «فاسدة ومنتهية».
 وعلى حد قوله، فإن ما يسعى إليه الإخوان من خلال الانتخابات المقبلة هو «المشاركة لا المغالبة» بل ويذهب عاكف إلى أبعد من ذلك حين يؤكد عدم قدرة فصيل واحد على أن يحكم مصر، مضيفاً: «لا بد أن يحكمها ائتلاف بين كل القوى السياسية». أما في شأن آليات تحقيق ذلك، فإنه يشدد على أن الإخوان لم يلجأوا إلى «الصدام أو العنف» بل سيظلون يدعون إلى «الحب والسلام». ما يعكسه كلام عاكف، بل ما يمكن ملاحظته في نشاط الإخوان في هذه المرحلة، هو غلبة السياسي على الديني وغلبة الحركي على الدعوي وهو تطور يعكس إدراك القيادة الإخوانية لظروف المرحلة ومتطلباتها خارج الشعار الفضفاض: «الإسلام هو الحل».
لكن السؤال يبقى إلى أي شوط يمكن لهذه القيادة أن تمضي بهدف ولوج العملية الديموقراطية وليس فقط العمل السياسي بهدف الوصول إلى السلطة. لا ينبغي على القيادة الإخوانية أن تسيء فهم اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة ودعوات الإصلاح المتزايدة، فهي لا تعني الأنظمة والمجتمعات فقط، على الرغم من أنها الأولى بالإصلاح، بل هي تعني أيضاً الحركات السياسية، خصوصاً الكبرى منها التي ظلت متجمدة وعصية على دخول العصر. هناك حاجة شديدة لفتح باب الاجتهاد الشجاع والجريء حول المسائل الكبرى التي تواجه الأمة الإسلامية مثل تحديد العلاقة بين الديني والسياسي وعملية السلام والديموقراطية والعولمة بروح المسؤولية، وعلى اعتبار أن الإيمان والحرية صنوان يمنحان الشخص المسلم حقوقه ويعززان كرامته الإنسانية.
غير أن الأمر لا يقف على الإخوان وحدهم إذ على الأطراف الأخرى، سواء من كان منها في الحكم أو خارجه، أن تتخلى عن سياسات الإقصاء والتهميش للإسلاميين المعتدلين التي مارستها طوال عقود طويلة والتي لم تؤد إلا إلى المزيد من قوقعتها وانفصامها عن مجتمعاتها وعن العالم. المطلوب من هذه الأطراف مد اليد إلى كل الإسلاميين الذين يرون في العملية الديموقراطية طريقاً للتغيير حتى إذا كان ما يطرحونه من نماذج لا يرتقي كليا إلى الكمال المنشود.
إن هذه الأمور تتطلب حوارا ديموقراطيا مفتوحاً بين كل قوى المجتمع من إسلاميين وعلمانيين وممثلي التيارات المختلفة حول المستقبل، حواراً يدخل في صلب القضايا المطروحة وليس هامشها، حواراً يتناول طبيعة الدولة وعلاقتها مع الدين، علاقة أجهزة الدولة كالجيش والأمن ومؤسساتها الإدارية بالأحزاب السياسية، معاهدة السلام مع إسرائيل ومستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، العلاقة مع الغرب، وضع الأقليات الدينية، التحديث، قضايا الحرية وحقوق الإنسان… الخ.
 هناك منعطف تاريخي يمر به الإخوان المسلمون مثلما تمر به مصر والمنطقة، غير أن الطريق يبقى طويلاً قبل أن يحسم فيه الصراع، صراع إذا ما حسم على ضفاف النيل فإن من المؤكد تجاوزه في دول أخرى في المنطقة وفي العالم الإسلامي.
 — صحيفة الحياة اللندنية في 12 -6 -2005

   
                   الصحفي ومعالي الوزير … انا وهوشيار زيباري (10)
                                                                                       صلاح النصراوي

اريد ان اكتب هذه الحلقة استجابة لنداء اصدقاء اعزهم واجلهم بالتوقف باعتباراني قد عرضت وجهة نظري بما فيه الكفاية، في مقابل أخرين ممن اعرفهم او تعرفت عليهم، شجعوني بالمؤازرة النبيلة بمختلف السبل، ونادوني بالاستمرار حتى افرغ ما في جعبتي في النقاش بشأن هذا الموضوع الحيوي الذي اعتبروه قضية وطنية ملحة.
اقول للجميع بان ليس بيني وبين “معالي وزير” خارجية “العراق الجديد” اية خصومة او مصلحة شخصية على الاطلاق كما اني لست ممن تستهويهم المعارك الدونكيشوتية او ممن تمتلكهم نزعات الضغينة والثأر.ما بدأت بتسطيره هنا لا اعتبره بمثابة معركة مع اي مسؤول لا بصفته الشخصية ولا الحزبية او القومية او الطائفية.ان معركتي الحقيقة هي مع القمع والاستبداد والفساد ومن اجل الحرية والعدالة التي أمنت بها بصدق ودافعت عنها باستماتة ودفعت من اجلها ثمنا باهظا ولم ازل.
لقد سبق وان تعرضت خلال رحلة عملي الطويلة والمضنية الى مواقف عديدة مشابهة ولم اشعر ازائها بغضب او حتى ان تعتريني رغبة بالرد، غير ان ما اثار استيائي حقا هذه المرة هي انها جاءت من اناس كنت اظن اننا تشاركنا ذات يوم تجربة الصراع من اجل الحرية وهماً وطنياً وآمالاً عريضة بعراق جديد حقيقي يبنى على ركام الدكتاتورية والطغيان.
ما انا بصدده من خلال هذه المقالات هو ان اضع الامور في نصابها الصحيح سواء ما يتعلق بجوهر القضية المطروحة، الا وهي السياسة الخارجية العراقية، او ما يمس شخصي من سهام سددت لي لا لشيء الا لانني مارست حقي في حرية الرأي والتعبير والنقد والمشاركة في الشؤون العامة.
في المسألتين فان الباب سيبقى دائما مفتوحاً امامي لكي اعبر عن رأيي في مختلف المنابر والميادين بما يمليه علي ضميري الاخلاقي ومسؤوليتي كمثقف ومواطن، خاصة ازاء الوضع المآساوي الذي تمر به بلادنا نتيجة سياسات التدميرالمنظم على الاصعدة المادية والسياسية وممارسات النهب والفساد التي خلفها الغزو والاحتلال وصنعيته دولة المحاصصة الطائفية والعرقية.
ما وفره لي “معالي وزير” الخارجية هو الفرصة لكي اعود الى تاريخ طويل من العمل الصحفي والكتابة والنشاط السياسي والى تجارب مماثلة في سنوات خلت منعني تواضعي ان اتحدث بها طيلة كل هذه السنين، وانا حين اذكربعضها هنا فاني لا اعتبرها الا كونها امثلة بسيطة اقتديت من خلالها بشجاعة وجسارة اجيال من الصحفيين والكتاب والناشطين الاحرار، ليس في العراق فحسب، بل في العالم كله الذين يستبسلون في قول الحقيقة ويرفضون الخنوع للظلم وللطغيان والقمع والابتزاز.
في سجلي الكثير مما افخر به ويشهد باني وقفت متحديا نظام صدام  في عقر داره وفي عز مجده وفي احيان كثيرة كان ثمن رؤيتي الحرة المستقلة تلك معاناة والما وعقابا، وكل ذلك من اجل ان اُبقي مثال المثقف الحرفي جمهورية الخوف الصدامي حياً وضميره صاحياً وباذرا للامل ومنتجا للخيال باستمرار.
خلال سنوات عملي في اجهزة الاعلام والصحافة العراقية واجهت بكل ما اوتيت من حرص وتروي وجلد وقوة شرور نظام صدام، رغم اني بقيت اعارض واقاوم ذلك النظام من خندق الوطن وليس من خندق اعدائه.
وبعد ذلك يذكر لي زملائي من المراسلين العراقيين والعرب والاجانب الذين عملنا معا في احلك الظروف المهنية واقساها اثناء الحرب العراقية الايرانية وغزو الكويت وحرب الخليج الاولى اني كنت ممن ابى الخضوع والاستسلام حتى اخذت نصيبي من قمع النظام وانتهاكاته.
لا اعتقد ان هناك صحفي عراقي ناله من وزير ثقافة واعلام صدام لطيف نصيف جاسم ومن مساعديه وباقي اجهزة النظام ما نالني من تهديدات بالقتل والتصفية الجسدية وحملات التخويف والرعب التي طالت اسرتي والتي تركت في حياتنا جروحاً وندوباً تستحق ان تروى في مجال اخر.
في اخر يوم عمل لي كمراسل ومسؤول مكتب وكالة انباء الاسوشيتدبريس في العراق وهو يوم 21 اذار عام 1991 وكنت قد عدت لتوي من رحلة منظمة سريعة الى كربلاء بعد ساعات من قمع الانتفاضة فيها دخلت في اشرس صراع يمكن ان يدخله صحفي مع مسؤولي نظام فاشي حين رفضت ان استسلم لاملاءات وكيل وزير الثقافة والاعلام انذاك ناجي الحديثي.
هل انا في حاجة لكي اشرح مالذي يعنيه كل ذلك في سياق الزمن والظروف العصيبة تلك.
استطيع ان امضي في تعداد الكثير من المواقف المشابهة في حياتي الصحفية، لكن النقطة المهمة بالنسبة لي تبقى ان ما اشير اليه هنا هو ليس تمجيدا للذات، بل احتفاءً بالقيم العظيمة التي عبرت عنها الكتابة دائما وهي قيم الحق والشجاعة والحرية، لا غرابة ان من جلسوا في مقاعد نظام صدام لا يكترثون بها كثيراً.
اذن من يعتذر لمن يا “معالي الوزير”؟
انا على استعداد كامل ان اعتذر لك حين اجدك او احداً من زملائك في “العراق الجديد” يعتذر لي ولعراقيين مثلي عن بلادهم التي دمرت وعن ثرواتهم التي نهبت واحلامهم التي سرقت وحياتهم التي ضاعت.
  

                         الصحفي ومعالي الوزير … انا وهوشيار زيباري (9)
                                                           صلاح النصراوي
في الحلقة الاولى من هذه  السلسلة التي جاءت ردا على الهجوم الصاعق الذي شنه “معالي وزير” الخارجية علي كنت قد سجلت ان هدفي هو فتح باب النقاش بين العراقيين حول السياسة الخارجية لبلدهم وجهاز الوزير الدبلوماسي  كما اعلنت انني على استعداد كامل ان اقف مع “معاليه  في اي محفل علني يريده لمناقشة سجل سياسة وزارته وادارتها للدبلوماسية العراق انطلاقا من مبدأ الشفافية والصراحة والعلنية، وبالتأكيد كمصلحة وطنية.
ماذا فعل “معالي الوزير” بدل ذلك قام بتوريط “سعادة سفيره” في الجامعة العربية في رد ثاني هذه المرة على سلسلة هذه المقالات نشره في احد المواقع الالكترونية يوم 25 تشرين الاول 2012  واختار له عنوانا تجاريا اشبه باعلانات مساحيق الغسيل “فعالية الدبلوماسية العراقية”.
واريد قبل ان اسجل هامشا بشأن مقال “سعادة السفير” ان اعود هنا الى نماذج من بعض ردود القراء على مقال سعادته والتي وردت في نفس الموقع.
يقول سرمد انها “فعالة جدا” وهذا الدليل … ثم يسرد تصريحا شهيرا لعضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي طلال الزوبعي يكشف فساد التعينات الاخيرة في وزارة الخارجية.اما ابو نصيف البصراوي فانه يصف المقال بـ”التهريج” ويتساءل “لمن يقدم (سعادة السفير) المديح”.اما ابراهيم المتوكل فانه يشير الى “المغالطات المفضوحه والباطلة” التي يزخر بها مقال “سعادة السفير” ويسخر من الانجازات التي عددها  بانها “لن تدخلهم موسوعة مريدي”، اي سوق التزوير والخردة الشهير في بغداد.
من البديهي ان يكون السؤال هو مالذي دفع “سعادة السفير” لكي يشمر عن ساعديه الان لكي يدبج تلك المقالة في مديح معالي الوزير” وفعالية دبلوماسيته والتي يبدأها بشتيمة الاعلام العربي الذي يقول انه “لعب دوراً سلبياً للغاية في تناول اخبار العراق، فاظهر وعظم كل ابعاد الصورة العنفية والخلافية، وعتم ، ما استطاع ، كل جهد ايجابي.”لاحظوا ان “سعادة السفير” هو سفير في الجامعة العربية وعضو قيادي في حركة قومية عربية وقضى جانبا طويلاً من حياته ما قبل “العراق الجديد” في تدبيج الكلام عن العروبة ومشتقاتها كما انه يرأس تحرير صحيفة لا تزال تصدر في بغداد باسم الحركة وله طبعا علاقات عربية معروفة.
ليس من اهتمامي الان ان اتناول مقالة “سعادة السفير”، رغم انه يحمل من الادانة اكثر ما يحمل من التبرير، حتى لو كنت اعتبره استكمالا للخدمات الشخصية التي تقدم لـ”معالي الوزير” في الحملة القمعية، غير اني اود تذكيره فقط بان اي سفير لاية دولة (يبدو ليس في “العراق الجديد”) هو سفير لبلده وبان اعتماده صادر من رئيس الدولة، وفي حالته هو بموافقة البرلمان، وانه يدين بالولاء والطاعة للبلد وليس لوزيره.
لننظر ماذا يقول “سعادة السفير” بعد ان  سطر الامجاد التي حققتها الدبلوماسية العراقية وخاصة غزوة ليما التي استطاع بجهوده فيها ان يجلس “معالي الوزير” على المنصة متناسيا هذه المرة ان العراق هو رئيس القمة العربية الدورية والذي كان اجدر به ان يقدم النصيحة الى رئيس جمهوريته او رئيس وزرائه بحضور القمة العربية اللاتينية، بالاقل لاضافة ذلك الى النتائج العبقرية لقمة بغداد ذات الخمسمائة مليون دولار.
وبالمناسبة، هل كان جديرا ايضا ان يسأل “معالي الوزير” او “سعادة السفير” عن تكاليف القمة العربية اللاتينية التي تحملتها بيرو لمقارنتها مع قمة بغداد ليطلع العراقيون على ما انفقوه من اموالهم التي كان الاجدر ان تصرف على  الملايين من الفقراء والايتام والارامل والمرضى والمحتاجين في “العراق الجيد”.
يقول “سعادة السفير” في ختام قصيدة المديح تلك وبابلغ ما تفتق به يراعه من وصف للدبلوماسية العراقية “غالباً ما نصاب (اي الدبلوماسيون العراقيون) باحراج شديد من جراء تناقض قولنا مع واقع التفجيرات التي تهز هذا الاستقرار .. اقول هذا لكي ابين حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الدبلوماسية العراقية.”
هل هناك اي تعليق على هذا الكلام الدبلوماسي ابلغ من روح السخرية تلك التي عبر عنها المعلقون العراقيون على مقال “سعادته” بعفوية ولكن بذكاء وقاد.
لا زلت اجدد دعوتي لنقاش وطني موسع وجدي بشأن السياسة الخارجية العراقية وجهازها الدبلوماسي وليس محاولات كاريكاتورية في الانكار مثيرة للشفقة والهزء في آن واحد.

                            الصحفي ومعالي الوزير … انا وهوشيار زيباري (8)
                                                                                         صلاح النصراوي
مثلما صرخ ارخميدس ذات يوم “ايرويكا” وهو يكتشف القاعدة الفزيائية المعروفة باسمه فقد وجد “معالي وزير” خارجية “العراق الجديد” ضالته في الامساك بي متلبسا في مقالي بـ”الاهرام ويكلي” عن سياسته الخارجية.
في رده وجدتها… وجدتها.. يركز “معالي الوزير” على اشارة وردت في نهاية المقال عن تصريح منسوب اليه الى جريدة لوموند اقسم الوزير بانه لم يصرح به للجريدة الفرنسية.
ما نقله المقال مقتبسا من التصريح المنسوب لـ”معالي الوزير” هو ان الاكراد “سيكونون فخورين بان تكون لهم دولتهم الخاصة بهم والتي أمل ان تتحق قريبا” مضيفا “ان بامكان الاكراد ان ينفصلوا عن العراق، ولكن في هذه المرحلة فان الضغط الدولي لن يسمح لهم بذلك.” انتهى الاقتباس.
هذه الفقرة جاءت توضيحا لفقرة سابقة مني تقول “ان العديد من العراقيين يعتقدون ان زيباري ربما يخدم اجندة كردية طويلة المدى للانفصال عن العراق مستهدفين تحقيق ذلك الهدف عندما يأتي اوانه.ويلاحظ بعض العراقيين ان كردستان بدأت تظهر فعليا كـ”بلد اجنبي معادي ” على حدود العراق.”
لاحظ اني اقول ان “العديد من العراقيين” وان “بعضهم”، وهو ليس قولي بل قول موثق نشر على لسان زملائه في العملية السياسية.
اكتشفها “معالي الوزير” كما اكتشف ارخميدس قاعدة الازاحة الفيزيائية وراح يقسم باغلظ الايمان بانه لم يدل بهذا التصريح وجعل من ذكري له تهمة ذهب يطلق بعدها اتهاماته ومطالبه بالاعتذار..
في ردي على رده المنشور الاسبوع الماضي في “الاهرام ويكلي” اوضحت بان الاقتباس جاء من تصريحات موسعة نسبت اليه ادلى بها الى لوموند ظهرت بالعربية والانكليزية على عدة مواقع كردية وعراقية ذكرتها بالاسم  وساذكربعضها  هنا للفائدة.
Kurdistan Tribune: “Hoshyar Zebari advocates a Kurdish state http://kurdistantribune.com/2012/hoshyar-zebari-advocates-kurdish-state/
-Alaazadi: “Its an a honor to be foreign minister of an independent Kurdish state”
-Shababek: “Kurds have full right to have a Kurdish state and I will be honored to be its foreign minister”
 Sotaliraq: “Zebari: Kurds have right to set up their independent state and I will be proud to be its foreign minister
 -Buratha: “In interview with Le Monde: Zebari, I am a Kurdish
minister in the Arabs’ government
 لا يوجد ابدا ما يشير الى ان “معالي الوزير” نفى تلك التصريحات اوعلق عليها ولابد انه ثار ثورته تلك لانه يدرك مدى مصداقية الكاتب والجريدة وهي التي حاول في رده ان يدمرها تدميرا.
لن ادخل مع “معالي الوزير” في جدل المهنية والقواعد الصحفية في التأكد من المصدر او قواعد اسناد الاحاديث ومتونها وفرز الصحيح عن الحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب فلي في ذلك رجل راسخة، وعليه الا ينتقي ويختارما يشاء من اجزاء المقال لـ”دحض النصراوي” بل ان يناقش المقال جملة وتفصيلا.
ومع ذلك فسؤالي هل ينسخ هنا “معالي الوزير” مواقف حزبه وحركة التحرر القومي الكردية التاريخية في نفي مضمون الاقتباس مثلما اراد حين يقول في رده “بعد سنوات من خدمتي العراق في مركزي هذا، ومع خبرتي الطويلة، فانني سأكون مستاء جدا في ما اذا تخيل احد انني يمكن ان اعطي تصريحا مثل هذا.”
وهنا ايضا لا ارغب في الدخول بجدل سياسي حول اهداف الحزب الذي ينتمي اليه الوزير والتناقض الذي ينطوي عليه كلامه حين يحاول ان يفرق بين منصب  “معاليه” وبين انتمائه الحزبي والقومي؟
ما ورد على لسانه في مقالي هو ان ” الاكراد “سيكونون فخورين بان تكون لهم دولتهم الخاصة بهم والتي أمل ان تتحق قريبا” و “ان بأمكان الاكراد ان ينفصلوا عن العراق، ولكن في هذه المرحلة فان الضغط الدولي لن يسمح لهم بذلك.” اليس هذا مجرد تحصيل حاصل وان كل من يلم بما يجري في العراق من عراقيين وغيرهم يعرف، بل سمع ذلك مرارا وتكرار على لسان القادة الاكراد.
هنا تأتي العلاقة بين السند والمتن في تصريحات “معالي الوزير” واذا كان “معاليه” يستنكر بغضب ما نسب اليه فأنه يستحق التصحيح بل وحتى الاعتذار، لكن فقط حين يقول ذلك بلغة كردية وبلهجة بهدنانية واضحة كي لا تتواتر عنه احاديث مشكوك في صحتها.
ومع ذلك فان “معالي الوزير” يطرح هنا قضية في غاية الاهمية تطرح بدورها سؤلا جوهريا عن كيف يكون وزير خارجية دولة متعددة المذاهب والاعراق منسجما مع ذاته اذا ما اختلفت اراؤه الشخصية والسياسية ومواقف واستراتيجيات حزبه وقوميته عن مواقف باقي الاطراف في العملية السياسية، وكيف يؤثر كل ذلك في ادارة وتوجيه السياسة الخارجية؟
بمعنى اخرهل بامكان هذا الوزير ان يخدم سيدين في وقت واحد، او هل يستطيع ان يرضي زوجتين في الآن ذاته؟
هذا السؤال يحتاج الى اجابة لانه يدخل في صلب الموضوع.

                             الصحفي ومعالي الوزير … انا وهوشيار زيباري (7)
                                                            صلاح النصراوي
لا يريد “معالي وزير” خارجية “العراق الجديد” ان يقتنع ان مقالي عن السياسة الخارجية العراقية في الاهرام ويكلي هو جزء من اهتمام كاتب ومثقف بشؤون بلده السائر في دروب الحيرة والضياع وانه مساهمة في الجدل العام بشأن مستقبله المحفوف بالمخاطر والتحديات وانني مستعد ان انقل هذا الجدل الى صفحات الجرائد العراقية بغية حشد وعي العراقيين باحدى اهم مشكلات بلدهم الحقيقية.
في 12 ايلول الماضي انتهزت فرصة نشر الزميل محمد عبد الجبار الشبوط  رئيس تحرير الصباح مقالا يتناول فيه موضوع السياسة الخارجية ويدعو فيه الى مساهمة النخبة الثقافية في التخطيط الاستراتيجي لعراق المستقبل وارسلت اليه مقالا كمساهمة مني في تشجيع باب النقاش حول الموضوع عراقيا الا انه لم ينشر المقال لاسباب لم يحاول حتى ان يذكرها.وتلك قصة اخرى من حكايات العابرين في حياتنا في “العراق الجديد”.
وهنا انشر المقال المذكور.
                                    مطلوب سياسة خارجية فعالة
                            تعزيز الدور العراقي في حل الازمة السورية
                             
حفزني مقال الزميل العزيز محمد عبد الجبار الشبوط عن “الطوفان السوري” قبل ايام ومكالمة تلفونية من احد السفراء العراقيين قبل ذلك ينقل لي فيها شكوى قيادي في الحكومة عن اراء جاءت في سياق مقال لي في جريدة “الاهرام ويكلي” عن السياسة الخارجية العراقية ان ادلي بدلوي من جديد وفي صحيفة عراقية في هذا الموضوع الذي تناولته في فترة مبكرة اثر التغير الذي اطاح بنظام الطغيان عام 2003.
كنت قد جادلت في كتاباتي وفي ندوات فكرية قبل الانسحاب الامريكي والاستلام الحقيقي للسلطة بان من الصعب الكلام عن وجود سياسة خارجية عراقية مستقلة لاسباب لا اظن انها خافية على احد.كما جادلت بعد ذلك بان صياغة سياسة خارجية بناءة وقوية تقوم على صيانة مصالح العراق الحيوية تحتاج الى توافق، واستراتيجة امن وطني متفق عليها من قبل القوى السياسية النافذة، وبعد ذلك كله جهاز سياسي ودبلوماسي محترف وكفء وجسور وملتزم قادر على تحويل كل ذلك الى مبادرات ومشاريع خلاقة في المحافل الاقليمية والدولية.
اريد ان استثمر دعوة الزميل الشبوط للنخبة الثقافية في التخطيط الاستراتيجي لعراق المستقبل، بالاقل بالنسبة لي، في الحوار بشأن السياسة الخارجية العراقية فاسئل بحسن نية اولا:هل ان البنية السياسية للنظام العراقي وللطبقة الحاكمة تسمح للنخبة الثقافية وللخبراء والتكنوقراتط المتجردين من الانحيازات والعصبيات ان يساهموا في تقديم رؤى وصياغة استراتيجيات وطنية في وقت يجري الصراع على هوية الدولة والمجتمع وتتم ادارة الشؤون العامة بطريقة المحاصصة في السلطة وفي الثروة؟
من خلال خبرتي ومتابعتي للدبلوماسية والسياسة الخارجية العراقية في محافل دولية واقليمية عديدة استطيع ان اجيب على هذا السؤال بلا قاطعة.ان جوابي هذا ينطلق اولاً من خصوصية التجربة العراقية التي انبنت على اساس المحاصصة السافرة، وليس التوافق او المشاركة، كما تشير ادبيات الجماعات المتحاصصة، وثانيا من طبيعة العلاقة العضوية بين السياسات الداخلية والسياسة الخارجية لاية دولة.ان اي مجموعة استشارية سوف تجتهد لتقديم رؤى وافكار او ترسم سياسات خارجية سوف تواجه في الحالة الراهنة احتمالين، اما انها ستنقسم داخلها الى اتجاهات تمثل كل واحدة منها مكوناً محددا سيتبنى مصالح مكونه واتجاهات قياداته، او انها ستقدم برنامج وطني، هو حصيلة موضوعية لقراءات الواقع، غير انه لن يجد توافقاً عليه في المستويات الحكومية او السياسية العليا كما سيواجه عرقلة التنفيذ، او بالاقل الافتقار للحماس في تنفيذه، في المستويات الدنيا.
وكي لا اقصر كلامي على الجانب النظري اجدني مضطراً الى الادلاء بشهادة شخصية في هذا المجال.لقد اطلعت خلال السنوات العشر الماضية وبحكم عملي في الصحافية الدولية في عواصم عديدة على نماذج مهولة من “دبلوماسية الاتصال” قام بها مسؤولون عراقيون مع نظرائهم او مسؤولين اخرين في الدول الاجنبية كانوا ينقلون لهم من المعلومات ما هو نقيض ما يتحدثون به علناً، او ماهم مكلفون بنقله من المركز.ان بعض ما اطلعت عليه من وثائق ومنها تسجيلات صوتية ومحاضر اجتماعات كان تحريضاً او استرخاصاً او نفاقاً يثير اشمئزاز حتى مستمعيه، غير انه كان في الحقيقة تعبيراً صادقا عن توجهات قائليه.
لن اتحدث هنا عن وزارة الخارجية وعن السفارات في الخارج فذلك مكانه مواقع النميمة على الانترنيت.
هل يمكن القول بعد ذلك بامكانية صياغة رؤى واستراتيجيات موحدة للسياسة الخارجية للعراق، وهي اليوم اصحبت حاجة ماسة اكثر من اي وقت مضى؟
هناك بلدان عديدة في العالم تتميز بالتنوع الاثني والمذهبي وهي مضطرة لكي تعكس هذا التنوع ليس فقط في هيكلة جهازها الدبلوماسي وانما ايضا في توجهات سياستها الخارجية، ولعل لبنان خير مثال على ذلك.كما ان هناك بلدان يتناوب على حكمها احزاب ذات توجهات سياسية متباينة تقوم بتغيرات جوهرية في السياسة الخارجية عند توليها السلطة وتعين اهل الثقة سفراء ومبعوثين لكي ينفذوا تلك السياسات، ومنها على سبيل المثال ايضا الولايات المتحدة الامريكية.وفي حين ان المجموعة الاولى تبقى محكومة بالتوازنات والتوافقات الداخلية الظرفية، فان دبلوماسية المجموعة الثانية، والسياسة الخارجية التي تنفذها، تبقى ملتزمة بالستراتيجات الكبرى والمصالح القومية العليا للدولة، مهما تغير فيها الرئيس او الحكومة.
ان معضلة صياغة سياسة عراقية خارجية فعالة تعكس المصالح الوطنية تبقى مرتبطة الى حد كبير بمشاكل العراق، وخاصة تلك العابرة للحدود منها، بسبب اتصالها ببلدان الجوار والتي تستخدم  بدورها مدفعية دبلوماسيتها الثقيلة ومواردها السياسية والاقتصادية لتعطيل او شل اي سياسة خارجية عراقية مستقلة.هناك تحديات عديدة واجهتها السياسة الخارجية العراقية وادواتها الدبلوماسية منذ انتهاء الدور الامريكي، ومن بينها أزمة ميناء مبارك مع الكويت والازمة المتواصلة مع تركيا، غير ان صياغة ستراتيجية واضحة المعالم ونشطة تجاه الازمة السورية تحافظ عن المصالح العراقية الاساسية تبقى التحدي الاكبر بسبب ما هو مدرك من نتائج خطيرة سوف يتركها انهيار سوريا على الداخل العراقي.
لا يعني هذا الركون الى المبادرات بشأن سوريا التي اطلقت لحد الان والتي لم تجد طريقها للتفعيل لاسباب معروفة، ومنها عجز الدبلوماسية العراقية عن بلورتها في مشاريع عمل وبرامج خلاقة واتصالات نشطة سواء مع الاطراف السورية المعنية او الاقليمية والدولية الفعالة.بل ان من الضروري وضع تصورات وخطط عمل متكاملة تخلق زخما للعمل السياسي والدبلوماسي العراقي على كافة الاصعدة.ان من البديهيات في العلاقات الدولية هو ان العالم لا يقبل مناطق الفراغ التي يملئها عادة من يمتلك المبادرة والجسارة، خاصة اذا كان الفراغ جيوستراتيجيا، كما هو الحال في سوريا.
ما هو واضح في السياسة العراقية تجاه سوريا، اذا صح وصفها بذلك، هي انها سياسة احترازية ودفاعية وحذرة، بدلا مما هو مطلوب وهو ان تكون فعالة وجريئة وذات خيال وافق واسعين.فالسلبية ليست سياسة حينما يكون العالم يتداعى من حولك وحين تكون انت في موضع الخطر وحين يتسابق كل من حولك لكي يدفعك في آتونه.ادرك الصعوبات الداخلية والخارجية التي تعتري التوصل الى موقف وطني عراقي موحد تجاه الازمة السورية، كما ادرك ان البعض يراهن على ان سوريا مغايرة ربما توفر فرصا افضل في مساومات العملية السياسة المتعثرة، غير ان تلك رهانات خاسرة ان لم تكن خيارات انتحارية.
ان جوهر المعضلة العراقية هنا هو كيفية مواجهة القوى الاقليمية والدولية التي تحاول مستميتة ان تحول الثورة السورية من اجل الحرية والعدالة والديمقراطية الى اداة لاعادة صياغة المنطقة انطلاقا من العراق.ما هو مطلوب من العراقيين هو ان يدركوا ان ثمن سياسة عراقية قوية وفاعلة تجاه الازمة السورية هو اقل كثيراً من الثمن الذي سيدفعونه في حال التقاعس عن القيام بالدور البناء المطلوب لانقاذ سوريا الوطن والشعب من مصيرها المجهول.
لذلك ففي الوقت الذي ارى ان دعوة الزميل الشبوط للعمل على جبهتين لبلورة موقف عراقي تجاه الازمة السورية دعوة بناءة، فاني ارى ان الانتظار الى ما بعد ان تجلس القوى السياسية على الطاولة لكي تحل خلافتها سيكون أمراً عبثيا في ظروف تفاقم الوضع المأساوي في سوريا وازدياد التدخلات الخارجية.ان حداً ادنى من التوافق ضمن لجنة السياسات الخارجية التي شكلت مؤخراً سيكون مفيدا لبناء ستراتيجية عراقية متكاملة تجاه الازمة السورية يساعد في صياغتها خبراء معنيون.
هناك الكثير الذي يمكن الحديث عنه بهذا الصدد، ولكن لذلك مجال أخر.