Category Archives: ما بعد التجربة

مذكرات فكرية

                                       عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج2 ف7
                                     الجنديات يبكين أيضاًً
25فبراير، الساعة 6وعشرة دقائق مساءً.
أمس تمكنت من الإتصال بـ”جين-ديفيد.”قلت له أن لدي إجازة لليلة واحدة وأشعر بأني أرغب بالنوم في مكان آخر غير القاعدة.
تلكأ قليلاً، ثم قال ان بإمكاني أن أتي لكن سيكون لديه أصدقاء هذا المساء.
تملكني إحساس فضيع بالضعة، لكني قاومت، قلت لنفسي لابد من رؤيته، كانت حاجتي إليه أقوى مني، أقوى من مخاوفي بالرفض.
“سأترك لك المفاتيح لدى المنظفين”، أضاف،”سأكون هناك حوالي السابعة.”
شيء حسن أن أكون في بيته لوحدي، كأننا نعيش معاً.إستحميت، إرتيدت ملابسي، وإنسللت تحت غطاء سريره مع كتاب كنت إستعرته من “الإتحاد الفرنسي”.
لم أقرأ حرفاً واحداًً .
كنت في سريره، أتلحف بعطره الذي أستنشقه بعمق وعيناي مغمظتان.أفتحهما لكي أجدها أمامي.
حقيبة مكياج.
قنينة عطر، “جيوغرو من بيفرلي هيلز: التي اتنشقها مدركة انها الرائحة التي اكرها طيلة حياتي.
قميص قصير الأكمام من نوع “كوكي”.
مزيل روائح نسائي.
بدأت أرتجف وأتكلم بصوت عال، مرددة، “إنها ابنة عمه، إنها ابنة عمه، لابد أنها جاءت من فرنسا لكي تراه.”
لم يقل لي أن لديه ابنة عمة.
عندها سمعت صرير المفتاح في الباب، رفعت الغطاء إلى حد ذقني، متظاهرة بأني نائمة.سيكون رقيقاً معي على الأقل لثوان قليلة، ويوقظني.
مسد شعري بيد حزينة.
فتحت عيني ونظرت بإتجاه حقيبة المكياج.لم يقل أن “ابنة عمي جاءت لتراني”، تنهد.
وضعت الكتاب في حقيبتي و اتجهت نحو الباب.حاول أن يمنعني.
“انتظري على الأقل لكي تتعشي معنا.”
إنفجرت بالضحك، ضحك يائس، بلا رجاء.
“لا أريدك أن تجرحي”، قالها بصوت عنيد.
“حسناً، ها أنت قد فشلت”، أجبت وصفعت الباب خلفي.
لم يكن لدى وقت سوى أن أرى فتاة أكبر عمراً مني بقليل (22عاماً أو ربما 23) تنظر الي بتعجب.لم تكن حتى جميلة.
في الحافلة بطريق العودة، بكيت كما لم أبكي من قبل، ليس حتى مثلما تركته في المرة الأولى.
 المرأة الجالسة إلى جانبي بدت قلقلة سألتني إن كان هناك شيء يألمني، ثم إن كان هناك قريب لي قد مات.لم تطاوعني نفسي أن أجيبها، لذلك احتظنتني طيلة الرحلة، وظلت تقول إن كل شيء سيكون على مايرام وأن الله سيكون إلى جانب أولئك الذين سيتعذبون.لم أكن أتصور بأني سألقى عزاءاً عند شخص غريب تماماً عني لم يتسنى لي أن أرى وجهه كما لا أعرف حتى أسمه.
في القاعدة بحثت عن البنات اللواتي كن في نوبة الحراسة تلك الليلة.”هيدي” كانت في نوبة العاشرة إلى الثانية صباحاً .”نوا” كانت من الثانية حتى السادسة.عرضت عليهما أن أخذ مكانيهما.لم تقولا شيئاً بشأن عيناي الحمراوتين، غير أنهما طرحتا فكرة أن اللوائح قد لاتسمح بالقيام بنوبتي حراسة متعاقبتين.قلت لهما هذا ليس شأنكما.لم تصرا، كانتا ممتنتان بأنهما ستنامان دون مقاطعة.
قمت بالدورية مع “عوفر” وهو جندي إحتياط الذي حدثني عن رحلاته إلى الهند.قال لي أن أول رحلة قام بها جاءت بعد أن هجرته صديقته.
“شعرت بأني تحولت إلى قالب من الثلج واحتجت أن ادفأ نفسي تحت سماء مختلفة.”
حوالي الرابعة فجراً بدأ المؤذن في القرية المجاورة بدعوة المؤمنين إلى الصلاة.
“إنهم يهينوننا”، قال “عوفر” (هو يفهم العربية بشكل تام).”انهم يوعدونا بالنار قريبا.”
كانت أسناني تصطك من البرد ومن الإرهاق، ولكني وجدت لدي القوة لكي أرد.
“قل له الا يتعب نفسه، المهمة أنجزت، أنا هناك بالفعل.”
نظر إلي بعطف.
“لا أتحمل صوت المؤذن”، يقول.”أنت تغنين بالفرنسية، هل لك ان تغني، كي لا نسمع المزيد من صوته هذا.”
بصوت متهدج أبدأ بتلك الأغنية التي كان يحبها “جين-ديفيد”:”قل لي، قل لي اذن، إنها هجرتني ليس لشخص آخر بل لي…”
غنينا بهدوء سوية لساعتين، بالعبرية، بالفرنسية، أغاني لـ”ايديث بياف” وغيرها كثيرين، أكتشفت أن بعضها يحفضها عن ظهر قلب في حين أني كنت أحفظ أجزاءً منها.”
سأكون في نوبتي بعد نصف ساعة.لم أنم لأربعة وعشرين ساعة.أشعر بالإرهاق.ذلك بالضبط ما أردته.
خلال أيام سيحل الأول من أبريل.سأكون في التاسعة عشر من عمري، وسأكون في إجازة.كل ستة أشهر يمنحوننا إجازة “طويلة”، لمدة أسبوع.وضعت خططاً كثيرة ولكني أعلم أني سأقضي نصف الوقت أعمل ما يعمله الجنود في العطل:النوم.
في الوقت الحالي، نجلس جميعاً في غرفة التلفزيون في القاعدة، مجتمعين حول “إينات”، ذات الشعر الأحمر، والتي تغلي بالحماس.اليوم ستنتهي دورة الطيارين الأردنيين وأخيراً سيمكنها رؤية وجه فارس أحلامها.
كي نتمكن من تحديد شخصية الرجل، قدمنا طلباً رسمياً ليأتي ضابط من قسم آخر على معرفة بالرجال الذين نعرفهم نحن بأسمائهم الرمزية.أعتقد أنه يبتسم بطريقة معينة.
تبدأ مراسم الإحتفال بحضور الملك حسين والملكة نور.إستعراض عسكري، عرض تمارين قتالية، الضيوف يتظاهرون بأنهم مهتمون جداً بالعرض، في حين أنهم ضجرون بشكل عميق…على خلافنا، نحن اللواتي نراقب المشاهد وكأنها لشريط فيديو عن “هنود البوبيان” إكتشفنا فجأة أننا على صلة بهم.
تأتي اللحظة الكبيرة.نسر-1 سيقوم بمنح الجناح الفضي لكل من الطيارين المتدربين، نفس الأشخاص الذين كان يوجه لهم الإهانات دون رحمة لثمانية أشهر.تنتقل الكاميرا إلى المنصة التي يقف عليها الطيارون بإنتباه.
“أقرب، أقرب،” نصرخ على التلفزيون.
أسمه عدنان ب” يقول صديقنا الضابط، والذي من الواضح أن إبتسامته تصبح أكثر سخرية.
“أعتقد أن ذلك يعني بالعربية، رقيق”، تقول “نوا” لـ”إينات” التي تكتم أنفاسها.
“أقرب، أقرب، أقرب” لا تزال الفتيات الآخريات ينادين.
فجأة يقوم مصور التلفزيون الأردني بشيء كان يجب الا يفعله:أنه يلبي رغباتنا ويأخذ لقطة مقربة لـ “نسر-1“، المكنى عدنان ب.
عدنان ب، رائد ومعلم.
عدنان ب بصوته العميق الدافئ.
عدنان ب الذي يمتاز بخاصية أنه يغني أغاني البيتلز بعد كل تمرين، أغنيته المفضلة هي “الغواصة الصفراء”.
عدنان ب الذي تحبه “إينات” بصدق (مهما بدا ذلك غير واقعي).
عدنان ب، أو “نسر-1“، طوله 1,55سنتيمتراً، أصلع، سمين، بشوارب وفوق الخمسين.
صمت رهيب حل على الجبهة الإسرائيلية، حالياً، في حين أن الأردنيين يطلقون بالونات ملونة وسط صيحات الفرح.بإمكاني القول أن الفجوة بين الدولتين لم تكن بذلك العمق، أبداً .
لا يتجرأ أحد النظر إلى “إينات” التي تتسمر في كرسيها.
“لا يمكن أن يكون ذلك هو”، تهمس “ايميك” باذن الضابط الجاسوس.
يومئ برأسه بأسف بالغ.الآن أستطيع فهم إبتسامته الصغيرة التي رسمها في البداية.
“أنت قاسي القلب”، أقول له كي يتأكد من أنه لم يتمكن من خداعي.
“لا، أنا لست كذلك”، يرد ببرود؟ : ليس مهماً كيف يبدو المرء، اليس كذلك؟على الأقل هذا ما لا تتوقف البنات عن قوله.”إستناداً لمصادرنا فان لدى عدنان ب ذكاء خارق، وهو مثقف عال المستوى، متقن لعمله، حساس و….أرمل.مالذي تريدين أن تعرفي عنه أكثر؟”
تسقط كف بسرعة على خده.تهجم “إينات” عليه بغضب، ونحاول نحن أن نوقفها.إضافة إلى خيبة أملها فأننا في الواقع لا نستطيع أن نسمح بأن تقضي عدة أسابيع في السجن لأنها صفعت ضابطاً في وجهه.
تقوم المجموعة بإسترضائه.”نحن جميعاً سنعتبر أن ماحدث كان خارج النطاق العسكري.لن أتقدم بشكوى، عمتن مساء وتعازي لك أيتها السيدة الشابة.”
تعجبت من رد فعله، أو بالأحرى غياب رد فعله عن صفعة “إينات”.هناك تفسيران محتملان.اما انه كائن فضائي أو أنه بالواقع بريطاني.إحتمال ثالث: إنه مجرد شاب في العشرين من عمره وأنه مثل معظم الملازمين الإسرائيلين رغب بأن يكون هناك جو من المرح.
في اليومين الأولين من إجازتي أشعر بأني خارج السياق، يبدو أن هناك متسعاً من الوقت.أنام حتى منتصف النهار، أتغدى عصراً، أرقد في الحمام لساعات وألتهم ثلاثة كتب خلال يومين.لأكثر من سبعة أشهر لم أخرج من بزتي العسكرية لأكثر من ثمانية واربعين ساعة.أكاد أنسى أنني رقيبة في الجيش الإسرائيلي.أنا حرة بأن أذهب إلى السينما مع “يوليا” وغداً هو عيد ميلادي وسنذهب إلى النادي في تل أبيب مع “فريدي”.
نتوقف في بار ونشرب قليلاً ونتكلم كثيراًً .أدرك أن لدى مشكلة في تقبل “يوليا” كما هي الآن (واثقة جداً من نفسها، مغرية، ومندفعة جداً، لكنها الشخص الذي يمكنني معها أن أضحك بشكل هستيري.هي لا تقاوم، خاصة حين -مثل اليوم- تقلد معلمينا القدماء، قائد قاعدتها، رئيس الوزراء أو دورق الألوان.اللؤم الذي فيها والذي يزعجني أحياناً يتحول إلى دعابة مرة.
كانت الساعة قد قاربت الثالثة صباحاً حين عدنا إلى البيت، ذراعاً بذراع، ملتصقين معا بالفودكا.
“هوووو، انظري هناك ضوء في بيتك”، تقول لي، أرنو نحو الدور الأول من العقار رقم 12 في “شارع سافيد”.
أمي لا زالت مستيقظة، ذلك لا يثير إستغرابي:في غضون خمسين عاماً ستظل تدخل علي ليلاً في البيت لكي تتأكد أني عدت سالمة، وعندها ستؤي إلى فراشها.
لكن النظرة التي أراها في عينها الناعستين ليست تلك التي تعودت عليها.
تتكلم بجد، وتقول بأن الرائد “أوري” اتصل بالتلفون لكي يقول بأن إجازتي الغيت دون أن يشرح ذلك، بطبيعة الحال.علي أن أكون في القاعدة عند الساعة التاسعة على أقل تقدير.لدي ثلاث ساعات لكي أعد حقيبتي، أنام، وأستعيد وعي.
***
                                      
                                        عندما كنت جندية
                                          فاليري زيناتي
                                                ترجمة                       
                                         صلاح النصراوي
ج2 ف6
                                         حرب الحجر
لأول مرة منذ أسابيع تلتقي المجموعة كلها في بئر سبع في اجازة، نجلس جميعاً على العشب، عملياً تحت شباك غرفة نومي.”راحيل” تعود من مرتفعات الجولان حيث تعمل سكرتيرة في وحدة مدرعات، رغم أن عملها بعيد جداً عن عمل السكرتاريا.هي معالجة سايكولوجية، صديقة، أخت كبيرة وحافظة أسرار الجنود.هي التي تنظم الحفلات، والدعوات وأعياد الميلاد لكل الناس هناك.هي التي تعزي وتواسي، بعبارة أخرى هي التي توفر اللمسة الأنثوية لوحدة جميع أفرادها من الذكور.
تخبرنا عن مسرحية عرضتها مع باقي الجنود وعنوانها:الطاهي هو عدونا الأكبر.
“النص كان مثيراً للضحك.كل واحد أراد أن يكون له دور، وبضمنهم القائد والطاهي الذي عمل كل جهده لكي يدافع عن مكانته.”تبدو سعيدة جداً.أنا متأكدة أنها تشعر بالسعادة أكثر كونها تخدم في وحدة من الرجال وليست مختلطة.
عندما خرج “فريدي” من السجن لم يرد أن يعود إلى وحدته القديمة، فتم تعينه سائق لقائد الوحدة في المنطقة الجنوبية، والتي تتمركز في بئر سبع.
“يوماً ما كنت أغني بينما كان هو هناك، ومنذ ذلك اليوم وهو يطلب مني أن أغني على الأقل أغنتين في كل رحلة-يقول إنها تساعده على التركيز.بنته ستتزوج خلال شهرين وطلبت مني أن أغني في حفلتها.”
نصفق جمعنا، ونهنأه على ذلك.نشعر بسعادة لأن مواهب صديقنا أقر بها عقيد في الجيش.
“إيلان” يخدم في وحدة “غيفاتي” في غزة.“
“لا أريد التحدث عن ذلك.”يقول.”أنا أحيا في ذلك لمدة أربع وعشرين ساعة كل يوم.من حسن حظي أنهم يسمحون لي بأن أعزف على الغيتار، ولذلك يعود الفضل بأن لي الكثير من الأصدقاء.”
“إيلينا” ممرضة في قاعدة كلها من الرجال.
“كلهم يتملقونني”.بعظهم يريد أن تعطيه إجازة مرضية، في حين أن آخرين يريدون أن يبقوا نقاط ضعفهم مخفية.”
تبدو سعيدة للسلطة الصغيرة التي بين يديها.”راحيل” و”يوليا” وأنا نتبادل النظرات:”أنت لا تقصدين أنك أصبحت نجمة؟”
“كلهم يجثون تحت قدمي” تقول “يوليا”…لكن ليس للسبب الذي قد تظنوه، بينما تظفر حزمة من شعرها حول اصبعها.”ثم أني لا أقدم لهم القهوة، بل هم من يقدمها لي”، تقول بزهو.
تغمض عينها وتسحب نفساً من سيكارتها.منذ فترة قصيرة بدأت بالتدخين، وسط رعب أصاب المجموعة (نحن ضد التدخين بشكل قوي).ربما سأذهب للجحيم بسبب ما سأقوله ولكني سأقوله على أي حال، “التدخين يضيف شيئاً إلى شعورها بالثقة.”
بدؤا بتحويل إهتماهم إلي، بإنتظار أن أخبرهم عن حياتي في الجندية.
“هممممممم.لا أحد يجثوا على قدمي، والباقي كله “سري جداً”.أحياناً يتغير الأمر ويصبح “سري للغاية”، أضيف لكي يصبح الأمر مشوقاًًً .
“أنت غريبة الأطوار”، تستوقفني “يوليا”، ”هل أنت حقاً ممنوعة من الحديث إلينا؟”
لا، بإمكاني أن اتحدث إليهم.أكثر ما يمتعني في القاعدة هو ما أقوم به هناك، إنها اللحظة التي يعلن فيها طيار ما:”ثعلب-1” خلال تمرين والتي تعني أنه أصاب الهدف منذ البداية.أتخيله حينئذ نشواناً، سعيداً بما عمله، وأنا أشعر معه بنصيبي من تلك السعادة.الأصوات أصبحت مألوفة لدي وأحاول أن أتخيل الوجوه التي تختبئ وراء تلك الأصوات.”إيانيت”، ذات الشعر الأحمر وقعت بحب واحد من المدربين اسمه الشفري “النسر-1”، لا يمكنها الإنتظار إلى حين حفلة التخرج للدورة الحالية والتي سيتم بثها على التفزيون الأردني.(والذي نشاهده نحن هنا.) حتى تتمكن أخيراً من رؤيته وترسل إليه عرضاً للزواج- تلك ستكون قصة رهيبة.لم يأتي روائي بمثل هذه القصة بعد:جندية إسرائيلية شابة تعمل في محطة رصد تقع في حب طيار أردني من خلال صوته العميق.تغامر بحياتها بعبور الحدود وتكون إلى جنبه.هو مفتون بها ( هو دائماً يحب ذوات الشعر الأحمر).يسأل فيما اذا كانت مستعدة لأن تقضي حياتها معه.العصفوران يهربان من جيشيهما ويتزوجان في معبد بوذي في الهند.
“أنت ايتها الجاسوسة، هل لا تزالين معنا؟”
عودة على بدء:حلقت بعيداً جداً، جداً في السماء.
“منحوني بضعة ساعات بعد أن رقيت إلى رتبة الرقيب”، أتمتم، “ذهبت الى المركز الفرنسي وشاهدت هناك برنامجاً جيداً عن الثورة الفرنسية.”
الجميع ينظر إلي وكأني بدأت أتكلم بالصينية.
“فكرت ربما علينا نحن كذلك أن نبدأ بثورتنا أيضاً .”
يبدو أنهم بدؤا يعتقدون أني أسير من سيء إلى اسؤ.لكني استمر.فجأة أصبح لدي الكثير مما يمكني أن أخبرهم به.
“هيا، إسمعوا:مالذي تعلمناه في المدرسة؟اننا نعيش في بلد رائع بناه أبناءه بعملهم المضني وبقتالهم بلدانا أخرى تريد أن تراه يفنى.كل شيء وضع على خلفية موسيقية حيث كلمات “أرض”، “حقول”، “ينابيع”، و”جندي” تشكل ثمانين بالمائة من الأغاني.كما يقال لنا أنه دورنا الآن أن “نمنح الوطن شيئاً “، ننضم إلى الجيش ونمشي على خطى الأبطال الذين دافعوا عن الدولة.كل ذلك شيء جيد، ولكنه ليس الحقيقة، لم تعد كذلك.”
“ماهي الحقيقة؟” يسأل “فريدي” وهو يراقبني.
“حسناً، ينبغي أن نتوقف عن الهيمنة على الآخرين، علينا أن ننسحب من يهودا والسامرة ومن غزة.بعد ذلك علينا أن نتفرغ لمعالجة المشاكل في هذا البلد.ليس من المعقول أن نظل نقبل حقيقة أن بعض الناس يحصلون على الفتات من الرواتب في حين أن آخرين يملكون الكثير من الأسهم التي لا يدرون مالذي يفعلونه بها.ألم يكن الهدف هو بناء دولة يهودية إشتراكية؟حسناًً فلتكن كذلك.علينا أن نتوقف عن جعل الطلاب يدفعون رسوماً باهظة، في حين أن رجال الدين، الذين يجب أن أذكركم أنهم لا يخدمون في الجيش، ويدفعون ضرائب كل سبع سنوات، تدفع لهم الدولة دعما لكي يدرسوا.
“والقدس، مالذي ستفعلينه بالقدس؟” تسأل “يوليا”، التي تخذلني دائماً في اللحظة الحرجة.
أشعر بثقل في قلبي:لا يمكني أن أرى المدينة المقدسة مقسمة إلى جزئين.مشاعر لاعلاقة لها بالسياسة، ولكن مع ذلك…هل يمكن لجسم ما أن يعيش دون قسمه الثاني؟
“لا أعلم..علينا أن نجد حلاً ذكياً.”
تشعر “يوليا” بالإنتصار.وكما هي عادتها حين تكون متمكنة فأنها لاتتوقف.
“وماذا عن الإشتراكية؟هل تعتقدين الآن أن الإشتراكية جعلت الناس سعداء في الإتحاد السوفيتي؟”
“لا يمكنك المقارنة، تلك كانت دولة توتاليتيرية، اما إسرائيل فديمقراطية، وما أسأله هو مجرد القليل من المساواة لكل شخص”، أجيب واثقة من نفسي هذه المرة.
“لكن الفلسطينيين يهاجموننا كل يوم، كيف يمكن التفاوض معهم؟”، تحتج “ألينا”.
“ليس الأمر هو يمكن أم لا يمكن، بل علينا أن نقوم بذلك.”
“ماذا تعنين؟”، تتدخل “راحيل”.
“اذا ما استمرينا بالبقاء في الأراضي، اذا ما استمر الجيش بالتدريب بأسلحته على السكان المدنيين، فان هناك ما هو أسوء سيقع، العالم لن يعد يرانا كطلائع مثيرين للإعجاب.نحن لم نعد كذلك.لكن أسوء ما في الأمر أننا لم يعد بإمكاننا أن ننظر إلى أنفسنا بالمرآة…كما سيموت الكثير والكثير من الناس..للاشيء.أنظروا إلى “إيلان”، انه لا يريد أن يتكلم عما يبدو الأمر هناك.اذا كانت الأعمال العسكرية هناك مبعث فخر حقاً لجئت وقلت شيئاً، اليس كذلك؟”،أجيب، بينما أرمقه بنظرات نافذة.
“ليست تلك هي المسألة”، يقول بتردد.”أعتقد انك تغالطين نفسك اذا ما اعتقدت أن السلام ممكن.”
“لكن السلام ليس طيوراً تغرد وزهوراً تينع فجأة، مثلما تقول الأغاني!ما أقوله هو أن نعمل على حل هذا الصراع مرة واحدة والى الأبد، وليكن هذا البلد ما أراد أن يكونه حين ولد:بلد يعمه العدل، البناء والتضامن.”
“شوششششششش.صوتك مرتفع”، يحذرني “فريدي”، ولكن بعد فوات الآوان.أشعر بأني مبتلة من رأسي حتى أخمس قدمي.العجوز الرومانية التي أفرغت لتوها جردلاً من الماء علي كانت أفضل من اي رام محترف.
“هامففففف!إنه منتصف الليل”، تتأوف بينما تغلق شباكها.”أي وقت هذا الذي تتكلمون فيه بالسياسة.ليس تحت شباكي، على أي حال.”
أرد عليها بقوة، ليس لأني منقوعة بالماء بينما يحاول الآخرون أن يكتموا ضحكتهم، بل لاني لم أعد أجد المنطق الذي يمكنني به أن أقنع أصدقائي.
“لكن الثورات دائماً ما يتم التخطيط لها بالليل”، أصرخ بوجه الشباك المغلق.
بعد عودتي إلى البيت ألتقط النص حول نيوزيلاند الذي قرأته لنا “كينيريت” خلال الدورة.
لن أرغب بالعيش في بلد حيث لا شيء فيه يتغير.
الأحد صباحاً عند محطة الحافلات في بئر سبع.هناك حافلتان إلى القدس (التي علي أن أمر بها لكي أعود إلى القاعدة): حافلة رقم 405التي تمر من خلف الأراضي وتستغرق الرحلة فيها ساعة وأربعون دقيقة للوصول، وحافلة رقم 440 التي تمر خلال يهودا والسامرة عبر مدينتي الخليل ورام الله.خلال ساعة وخمسة وعشرين دقيقة تكون الحافلة قد وصلت إلى ضواحي المدينة المقدسة.
الحافلة التي تمر بهذا الطريق ستكون مميزة بين ألف حافلة:اذ عادة ما تكون معفرة بالتراب كما أن زجاجها مرقط بنجوم هي من نتاج الحجر الذي أعطى الإنتفاضة الفلسطينية اسمها، “حرب الحجر” أو الإنتفاضة.
أركب الحافلة رقم 440 وأعرف بأني لن أخلد للنوم هذه المرة.أعيش في إسرائيل منذ خمس سنوات، ومثل معظم الإسرائيليين، عدا الجنود الذين يقضون خدمتهم هناك، لم يسبق لي أن وطئت الأراضي.حان الوقت لكي أعرف عنها أكثر مما أشاهده على التلفزيون.
بين بئر سبع وأول القرى الفلسطينية هناك حوالي 20كيلومتراً من الأراضي التي هي أشبه بالصحراء.من السخف أني لم أعرف أنهما بهذا القرب.بدأت أشاهد بيوتاً مبنية بالحجر، غالباً فوق ركائز وبين الأحراش والطرق المحفورة.نسبة كبيرة منها غير مكتملة.الغريب أن معظمها يحمل فوق سطحه هوائي أشبه…ببرج “ايفيل”.تبدو لي بشعة ومؤثرة في آن.إذن هذا هو الحلم الفلسطيني:باريس!
يقول أحدهم في الحافلة،”إنها تمطر.”ذلك حسن، حين تمطر يقل الحجر الذي يرمى علينا.”
من لحيته وقبعته أدرك أنه يهودي يعيش في الأراضي، من يسمونهم المعارضون بالمستعمرين.لعله يتأكد من نشرة الأحوال الجوية قبل بدء الرحلة.
تنتشر القرى على مسافة كيلومترات عديدة.لا يعرف أحد أن يبدأ مكان ما وأين ينتهي.فقر، حزن، كراهية.بإمكاني أن أرى كل ذلك في الوجوه التي تنظر إلى الحافلة ذات اللونين الأحمر والأبيض بين حين وآخر.عجائز يتعكزون على عصي، يبدون محترمين، مثل أولئك البدو في فلم “لورنس العرب”.أطفال في ملابس مترهلة.نساء بوجوه تعبة متغضنة، يحاولن موازنة سلال فوق رؤسهن.هناك بعض الفتيات بملابس رمادية عائدات من المدرسة ويصرخن في وجوهنا- شيئاً ليس بودي سماعه.سيارات مرسيدس عفا عليها الزمن، حمير، قطعان من الخرفان، أشجار زيتون.
أشعر أني عبرت حدوداً، ولكنها ليست حدوداً جغرافية.أين أنا؟مائة سنة، مائتين إلى الورراء.
أبراج المنائر تستلفت نظري.بين الحين والأخر بإمكانك أن ترى الطابوق الأحمر لمستوطنة يهودية فوق التلال.
تتوقف الحافلة مرات عديدة، ينزل منها جنود ذاهبون إلى معسكراتهم ومدنيون إلى بيوتهم.لا يتبقى منا سوى حوالي عشرة حين نقترب من الخليل، أكبر مدينة في يهودا.كل الركاب إختاروا بحصافة أن يجلسوا عند الممشى، إلا أنا.أحشر أنفي في زجاج النافذة.أريد رؤية كل شيء.
صوت إرتطام عنيف تحت وجهي تماماً.خلال تلك البرهة أتيح لي أن أرى فتى يرمي من مقلاعه.وجهه صارم وحاقد.كان يوجه حجره نحوي.إني متأكدة فأنا ألبس البزة العسكرية، أنا العدو الأكبر.
أشعر كأني أريد فتح النافذة وأصرخ عليه.”أنت، أنا بمثل عمرك وأفكر تماماً كما تفكر!”
لكن الحجر كان ينهمر علينا في تلك اللحظة.السائق يسرع، سرعته أكثر من المقرر قانوناً، ولكني سأستغرب لو انه توقف عن ذلك.في الأراضي الجيش الأسرائيلي هو وحده صاحب السلطة.
كل من في الحافلة ينبطح أرضاً، وأنا من ضمنهم.نتطاير من اليسار إلى اليمن ومن اليمين إلى اليسار لكي نتفادى القذائف.مع كل حجر أشعر بألم كأني من ضربت به.أسمع إنفجار.لا يمكني القول من أطلق النار واذا كان هناك أحد قد قتل أو جرح.أنفجر بالبكاء ويحاول ركاب الحافلة تطميني.ليس لدي الرغبة بأن أخبرهم بأني لا أبكي لأني خائفة.
 ****              

Iraq’s fake democracy

A new elections law has revealed the extent of Iraq’s phoney democracy, writes Salah Nasrawi
Iraq’s political system after the US-led invasion in 2003 that triggered the end of the era of former president Saddam Hussein has long been touted as a nascent democracy and sometimes used as a kind of bumper sticker to trumpet democratisation throughout the Arab world.
Yet in practice Iraq’s executive and legislative branches of government have been dysfunctional, deadlocked and trapped in ethno-sectarian strife. Moreover, Iraq’s decade-long failure of good governance has provided fodder to sceptics who have argued that there is no such thing as a successful Arab and Muslim democracy.   
A row in recent weeks over amending the electoral law has now shown how entrenched political groups have made a mockery of democracy in the country and raised concerns that the new bill will produce another gridlocked parliament and a stalemated government.
At the heart of the dispute has been how parliamentary seats should be distributed. Iraq’s parliament on Monday passed amendments to the electoral law after a prolonged debate, as key political groups struggled to tailor the bill to maximise their gains in the 325-seat legislature.
Iraq is slated to hold its next national elections in spring, but first the outgoing parliament should make the amendments required by the Supreme Court, which had annulled provisions in the electoral law that allowed bigger blocs to harvest more seats and ordered proportional representation for minorities.
Shortly before the vote in parliament, Vice President Kudhair Al-Khuzaie, who is acting president in the absence of ailing Iraqi President Jalal Talabani, issued a decree setting 30 April as the date for the polling.
Under the new law, the three main blocs that represent the Kurds, Shias and Sunnis in Iraq agreed to increase the total number of seats in parliament to 328 and to adjust a 2005 voting system based on bloc lists of candidates chosen by the heads of the groups.
According to a new formula, the distribution of “compensatory seats”, which used to be awarded to blocs with high numbers of voters, has been replaced with the allocation of seats directly to provinces.
Under this arrangement four seats will go to the mostly Shia-populated provinces and three to each of the Kurdish and Sunni-populated provinces.
The breakthrough was made possible by a compromise proposal put forward by the United Nations Assistance Mission in Iraq (UNAMI), whose mandate includes providing advice and assistance on holding elections and referenda.
The United States also used its diplomatic leverage to push for a deal. US President Barack Obama has urged Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki to make sure that parliament quickly passes the law, paving the way for the vote to happen on time.
Both acted on concerns that the deadlock in the country will jeopardize plans for the 2014 elections and stir up more sectarian violence.
At one point during the negotiations, president of the Kurdistan Regional Government Masoud Barzani threatened to boycott next year’s elections if the new legislation was not satisfactory to the Kurds.
The Iraqi Kurds believe the law that governed the 2010 parliamentary elections was unfair because they did not get the number of seats they felt they deserved.
The Kurds claim that the size of the turnouts in the elections in the Kurdistan Region have been bigger than in the rest of Iraq, making the number of voters in the constituencies in Kurdistan more than those in the rest of Iraq’s provinces and potentially depriving them of dozens of seats.
Under the new amendments, the Kurds have secured three guaranteed seats, or a third of the new allotment.
Yet, the new law has not been good enough for some of Iraq’s minorities, who believe that they are being unfairly treated by the three large communities. Small nationalist and liberal-oriented groups are also unlikely to benefit from the amendments.
Arshad Al-Salehi of the Tourkouman Front slammed the new law as “anti-minorities”.
“This law was enacted by those who consider themselves to be the untouchable rulers of Iraq, and it will reinforce sectarianism,” he told the Asharqiya TV network on Monday.  
Representatives of the Yazidi minority in northern Iraq who walked out of the parliament’s voting session said that the new law was “tailor-made for the large political blocs”.
“This is the worst elections law in the history of the Iraqi parliament,” said Viyan Khalil, a Yazidi lawmaker. “We will appeal to the Supreme Court in a bid to cancel it,” she told a press conference at the parliament.
The Yazidis have a strong case to appeal against the new law, since in 2010 the Supreme Court ordered an adjustment to their quota of seats based on a population census. 
Iraq’s 2005 constitution states that there should be one member of parliament for each 100,000 Iraqis, and the Yazidis claim that they deserve at least five seats because there are more than half a million Yazidis in Iraq.
Since Iraq has not had a census since 1997, seats in parliament are allocated to provinces according to a ration-card system that has been used as a basis for creating an electoral roll in the elections since 2005.
Using the ration-card system and ministry of planning statistics, the authorities say the country’s population is now more than 35 million people, which should bring the number of members of parliament to 350.
Shia politicians have said that their religious leaders have refused to enlarge the parliament after popular protests in recent months against lawmakers who have been accused of corruption and receiving extravagant privileges, including lavish salaries and pensions.
Another reason for the appeals by disgruntled parties could be based on claims that the new law is unconstitutional because it was proposed by the parliament itself and was not drafted by the government, as is required by the constitution.
The Iraqi Supreme Court has often annulled such enactments when challenged on the basis that the constitution allows the government alone to table legislation in parliament.  
The bickering over the law has come amidst an acute political impasse in Iraq that has lasted for nearly two years over Sunni complaints of marginalisation by the Shia-led government and the Kurds’ mistrust of Al-Maliki, further stoking sectarian tensions.
Sunni Arab insurgency groups, including Al-Qaeda, have stepped up their attacks against Iraq’s Shia-led government in recent months, raising fears of a return to full-scale sectarian strife in the sharply divided and war-battered nation.
In fact, as lawmakers were voting on the new bill, a series of bombings and other attacks ripped through areas of several Iraq cities and targeted members of the security forces and civilians.
The rise in violent attacks has left some 7,000 people dead this year alone.
While advocates of the new law say that the amendments will help to maintain stability in the country, opponents say they are a recipe for continuous chaos, arguing that Iraq’s electoral system is inflammatory because it was forged to create large ethnic and sectarian voting blocks.
The critics also say that the system has been used to create fiefdoms with senior clerics, warlords, tribal chieftains and wealthy politicians at the head of political blocs in parliament where they can control Iraq’s political sphere.
One of the salient features of this system has been both the weakening of the Iraqi state and the making of lawmakers not fully accountable to the voters because their first allegiance is to the party bosses who included them on their lists.
Most Iraqis would also argue that the parliament, whose members have been criticised for their greed and incompetence, has been useless in curbing violence, combating rampant corruption, or providing badly needed services such as electricity, water, housing and healthcare.  
Democracy in Iraq was meant to mark the end of Saddam’s autocracy and establish a government that was truly representative of the people’s desires and was accountable to its citizenry.
Yet, one lesson which Iraq gives today is that democracy and elections are not one and the same thing.
One way of explaining democracy in Iraq is in the way that elections have turned out to be the facilitators of the rule of the ethnic and confessional few who have dominated the Iraqi political arena for the last decade and diminished the national state into a kind of ethno-sectarian oligarchy.
They have marginalised the mainstream and deprived most Iraqis of their right to participate in the political arena, turning the state-building project into an enterprise at the service of a parasitical political elite controlled by power-hungry politicians and militia leaders.
                                دولة علي بابا
                  في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق

(4)
                                     حيث الاعلام لا يزعج الفاسدين
                             
(كان من المفترض ان تأتي هذه الحلقة في مرحلة لاحقة من هذه السلسة، لكن بعض الملاحظات التي تكونت لدي  خلال هذه الفترة جعلتني اتناول الصلة بين الاعلام والفساد في “دولة علي بابا” للفت الانظار مبكرا الى تلك العلاقة المركبة التي تجعل من الاعلام سلاحا ذا حدين في المعركة الشرسة ضد الفساد، كما سأحاول توضيحه)
لم تكن هي المرة الاولى التي يهاجم فيها نوري المالكي اجهزة الاعلام لتصديها للفساد في “دولة علي بابا” التي يجلس على كرسي رئيس وزرئها الا انه في كلمته امام احتفالية هيئة النزاهة العامة بمناسبة اسبوع النزاهة الوطني يوم 27 تشرين الاول حذر من ان تلك الانتقادات ستنعكس على نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة والتي توقع ان تكون بدورها سيئة هي الأخرى، على حد تعبيره.
ما اقر به المالكي دون ان يقول ذلك بصراحة ان فضائح الفساد التي اصبحت مهيمنة على مشاغل الناس وهمومها ربما ستطيح بأماله في اعادة تنصيبه للمرة الثالثة وان الفضل بذلك يعود الى وسائل الاعلام المختلفة التي جعلت من مهمة فضح الفساد قضية ملحة.
فحوى هذا الاقرار هو ان دور وسائل الاعلام العراقية والناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي في الكشف عن الفساد في “دولة علي بابا” ومقاومته اصبح محورياً وبدأ يؤتي ثماره، بالاقل في لفت انتباه الفاسدين والمفسدين بان الجرائم التي يرتكبونها لن تمر دون تسليط الاضواء عليها وفضحها، وانه لم يعد ممكنا طمس معالمها بالطريقة التي كان يلجأ اليها ذلك القواد الشهير في بغداد الخمسينيات والستينيات (راجع الحلقة الاولى).
ما قاله المالكي اعتراف صريح ايضا بالضيق الذي يبديه هو وغيره من المسؤولين من الدور الذي يقوم بالاعلام والنشطاء على مواقع الانترنيت في كشف الفساد وفي تشكيل جبهة قوية واسعة من الافراد والمجتمع للدفاع عن حقوقهم المهدورة عن طريق الفساد.بالاضافة الى ذلك فان كلام المالكي  يمثل تحريضاً سافراُ على الاعلاميين من خلال تحميلهم مسؤولية فشل وعجز الدولة  في ادارة ملفاتها المختلفة، لا لشيء الا لانهم يفضحون فساد الزمر المتسلطة عليها.
وتبرز اهمية حملة الاعلام والنشطاء ضد الفساد في الدورالذي لعبته في افشال الزيارة التي قام بها المالكي الى واشنطن نهاية شهر تشرين الاول حيث واجهته انتقادات حادة من الجهات الامريكية وخاصة في الكونغرس وفي النخب السياسية والاعلام والتي اشارت جميعها الى الفساد وسؤ الادارة والمحسوبية والاحتكار والهيمنة باعتبارها تقف وراء العجز السياسي والامني للحكومة، بل ووراء احتمالات انهيار العملية السياسية برمتها.
وبفضل تلك الحملات ظهر المالكي في واشنطن كرئيس وزراء ضعيف وفاشل وعاجز يصعب منحه التأييد، او حتى التعاون معه، وهو موقف يحمل مضامين ورسائل سياسية لجميع زمر الحكم في “دولة علي بابا”، على رأسها ان الولايات المتحدة لديها الان الحجج لكي تحمل السياسيين العراقيين، وعلى رأسهم المالكي، مسؤولية تعثر مشروع اعادة البناء، مما يتيح لها الفرصة للتنصل من مسؤولية الاحتلال ونتائجه.
ما يهمني التركيز عليه هنا هو ان الاعلام يقف في الخط الامامي في جبهة الحرب على الفساد وفي تعزيز الشفافية وتشجيع الحكم الصالح والادارة النزيهه للشؤون العامة وان هذا الدور حاسم واساسي في منح الناس القدرة على التعرف على حجم الفساد الذي يعانون منه والمنبر الذي من خلاله يشاركون بدورهم ايضا في مقاومة الفساد الفاسدين.
ولا يتقتصر دور الاعلام في يقوم به من تغطية صحفية وبرامج يكشف بها قضايا الفساد ويفضح مرتكبيها واطلاع الناس على الحقائق والادلة والوقائع المتعلقة بحالات الفساد ولكن ايضا في عملية تثقيفهم وتوعيتهم وحثهم على المشاركة في الكشف عن قضايا الفساد وتعرية الفاسدين.
من الضروري ان يقوم الاعلام بتوفير الفرصة للناس في مساندة جهود فصح ممارسات الفساد من خلال الابلاغ عن حالات الفساد وعن المفسدين دون تردد او خشية.كما ان من الضروري ان تضع وسائل الاعلام قضية محاربة الفساد على رأس سلم اولوياتها وان تعمل على بلورة اتجاهات للرأي العام توضح مساؤ الفساد على التنمية ومخاطره على الادارة وعلى تدمير القيم والمعايير الاخلاقية في المجتمع وضععة فرص التقدم الديمقراطي وتنمية ممارسات حقوق الانسان.
ان دورالاعلام هذا يتطلب توفير الجو الملائم لعمل الصحفيين في ملاحقة قضايا الفساد ومحاسبة المفسدين لكي يتمكنوا من العمل في اجواء الحرية اللازمة ومنها حرية الوصول الى المعلومات والشفافية والضمانات القانونية اللازمة للعمل وعدم التعرض للتهديدات ووجود نظام تشريعي سليم يوفر لهم غطاءً قانونيا للعمل.من الناحية الاخرى لابد من توفر شروط واجواء مناسبة لعمل الصحفيين والاعلامين في هذا المجال وخاصة الرواتب المجزية والدعم المعنوي وضمانات الحماية المؤسسية والتدريب الهادف الى الارتقاء بالمستوى المهني لكي يكون العمل احترافيا.
وتقدم الصحافة الاستقصائية نموذجا مهما في الجرأة والدقة والمصداقية والشجاعة في العمل على كشف قضايا الفساد نظرا لما تسعى اليه من توفير الادلة والحقائق والتفاصيل والتي تتجاوز طرق جمع المعلومات الصحفية التقليدية او السريعة.لقد اصبح عمل الصحافة الاستقصائية بهذا المجال بمثابة تحقيق متكامل الاركان يقدم اضافة الى الحقائق صوراً ومشاهد بلاغية تكشف الجوانب الاخرى للفساد وتبعاته السياسية والاقتصادية والاخلاقية.     
في هذا المجال قدمت الصحافة العراقية نماذج قليلة من التحقيقات الاستقصائية وخاصة ما يتعلق بقضايا الفساد وهو أمر مفهوم تماما اما بسبب الظروف الامنية الصعبة التي يعمل بها الاعلاميون العراقيون والمخاطر التي يواجهونها او بسبب تدني مستويات العمل المهني لدى الصحفيين في مؤسسات تواجه بدورها تحديات لحظات النشؤ والبناء او ضغوطات ناشئة عن الملكية والادارة والعلاقات الملتبسة مع السلطة واطراف العمل السياسي.
ومع ذلك فقد قدمت الصحفية العراقية ميادة داود مثالا باهرا على الدور الذي من المكن ان يقوم به الاعلام في فضح الفساد وخاصة من خلال تقريرها عن امتيازات البرلمانيين في العراق وغيرها من التقارير الاستقصائية والتي فازت عنها بجوائز اقليمية وعالمية استحقتها بجدارة لما اظهرته من جهود معمقة تستند الى البحث والتقصي عن الحقائق الموثقة والمدعومة بالمصادر المتعددة وثيقة الصلة بالموضوع قيد الكشف.
وميادة التي استقبلها الامين العام للامم المتحدة بان كي مون في شهر اكتوبر تثمنياً لدورها في نشر ثقافة صحافة الاستقصاء التي هي جوهر العمل على كشف الفساد والتجاوزات كانت قد نشرت بعض تقاريرها تحت اسم مستعار خشية من محاولات التهديد او الايذاء التي لا يتورع الفاسدون عن محاولة القيام بها ضد الصحفيين، الا ان قيمة اعمالها تكمن في مواكبتها للتقنيات الحديثة والقواعد المهنية في الاستقصاء عن المعلومات والاسلوب السلس في الكتابة الصحفية على الرغم من حداثة تجربتها وخبرتها الصحفية.
لكن على الناحية الاخرى تقف معظم اجهزة الاعلام العراقية بمختلف انواعها المكتوبة والمرئية والمسموعة او التي على الانترنيت عاجزة عن ملاحقة الفساد بطريقة حرفية ومهنية لاسباب عديدة يأتي على رأسها ضعف الجوانب المهنية وطبيعة ملكية تلك الوسائل وخاصة المملوكة للدولة او الاحزاب والجماعات السياسية او رجال الاعمال.ان تغاضي هذه الوسائط الاعلامية عن فضح قضايا الفساد او قلة الاهتمام بها، هو امر متوقع تماما لان بعضها يقع تحت قبضة فاسدين في الدولة او في الفضاء السياسي العام او انها هي ذاتها متورطة بالفساد.
والادهى من ذلك ان بعض الوسائل الاعلامية، وخاصة بعض قنوات التلفزيون والمواقع الالكترونية التي تدعي الاستقلالية، تشارك في عمليات الفساد وانتشاره حتى لو ادعت غير ذلك وحتى لو تظاهرت بانها تقوم بعمليات الكشف عن الفساد عبر نشر بعض الاخبار او البرامج الحوارية التي تستظيف شخصيات من الواضح ان لديها اجندات خاصة.ان ابرز المؤ شرات على ذلك  هي الطريقة العشوائية التي تدار بها قضايا الفساد اعلاميا والتي هي اشبه بحملات دعائية مبرمجة او ضجيج وليست عملا صحفيا احترافيا مثلما ينبغي لكي يحقق المصداقية المرجوة.
ان عمل بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية  والصحف العراقية في هذا الاتجاه ليس عشوائيا فقط بل يفتقد للمهنية، ولا ينتمي الى عالم الصحافة، وانما هو نشاط موسمي يستبطن اهدافاً مشبوهة مثل الارتزاق والابتزاز والصراع على فتات من الكعكة.وكل من يتابع هذه الوسائل وطريقة تناولها لقضايا الفساد وهو على دراية بخلفية اصحابها وبعض العاملين فيها يدرك تماما الانتقائية والقصدية التي تتحكم في نشاطاتها والاجندات الشخصية والتجارية التي تقف وراءها.ان بعض  البرامج التي تقدم تلفزيونيا غير مكتملة الاعداد مهنيا ولذلك فهي تتحول الى ميادين للسخرية والاستخفاف مما يؤدي الى نتائج معاكسة لانها تعطي الفرصة للفاسدين في التشكيك في مصداقيتها وبالاهداف التي خلفها.
ان ادعاء بعض القنوات او المواقع بانها تستقي اخبارها ومعلوماتها من  منظمات وهمية للشفافية لا وجود لها او من صناعتها، وعن تقارير او كلام منسوب لمصادر مجهولة يتهم اناساً ترفض هذه القنوات تسميتهم لحجج واهية، هو بحد ذاته فساد لا يخفى على المشاهدين او المتابعين.ان اول مستلزمات العمل الصحفي في كشف الفساد هو الشفافية وبث المعلومات الموثقة والاكيدة والحقائق الدامغة واللجوء الى المصادر المعلومة، وليس نشر انصاف الحقائق او الكلام المرسل او التسريبات المنقوصة والتي لا تخفي دوافع الابتزاز والتكسب التي تقف ورائها.
اهمية الاعلام في المعركة ضد الفساد هي انه يخلق رأيا عاماً متنوراً بهذه المسألة الحيوية ويقدم الادلة التي تقنع الناس بما هو مطروح من معلومات ازاء قضايا محددة وتعزز دورهم الرقابي والتي  بموجبها سيجري ملاحقة المتورطين وتقديمهم الى القضاء.وعلى هذا الاساس لا ينبغي ان يكون نشر موضوعات في الصحف او على الانترنيت تقديم برامج لكشف الفساد من اجل التسلية والاثارة او ان تصبح جزءاً من استراتيجيات الحرب النفسية لاغراض تصفية الحسابات او الكيد او تلطيخ السمعة او تغذية الصراعات السياسية وتأجيجها.
ما يؤسف له ومما يثير المخاوف ايضا من محاولات تشويه مساعي مناهضة الفساد في العراق هو ان الكثيرين ممن يدلون بدلوهم فيها هم ممن عرفوا بفسادهم على مدى سنوات بل عقود طويلة في حين ان اخرين تحوم حولهم الشبهات.اذ لا يعقل ابدا ان سياسين متورطين، بل ومدانيين في عمليات فساد، واصحاب صحف ومواقع وقنوات فضائية يعرف القاصي والداني بمصادر ثرواتهم وتمويلهم، ورجال اعمال اياديهم ملوثة بالاموال المنهوبة يفتحون تلك المنافذ نتيجة صحوة ضمير، او لدوافع وطنية او اخلاقية، وانما بهدف واضح وهو الابتزاز والبحث عن نصيبهم في كنز مغارة علي بابا.
هناك ارقام وتقديرات مخيفة عن الاموال التي تصرف على الوسائل الاعلامية هذه في العراق التي يملك اغلبها رجال السلطة والاحزاب المشاركة فيها وحلفائهم من رجال المال والتي انشأوا من خلالها امبراطوريات تتشابك علاقاتها مع مؤسسات ومافيات ومليشيات ومصالح فؤية واقتصادية محلية واقليمية ودولية جعلت من مهمة مقاومة الفساد شديدة الصعوبة ان لم تكن انتحارية.ان جزءاً كبيراً من عمل هذه المؤسسات مخصص اما لغسيل سمعة اصحابها او لتشويه سمعة خصومهم في حين ان القاسم المشترك الذي يجمع بين هذه الاطراف مجتمعة هو الفساد نفسه.
صحيح ان بعض المحاولات الخجولة لنشر الغسيل القذر والكشف عن خيوط تتعلق بقضايا الفساد تبقى مفيدة الا انه لا يبنغي ان نتوقع ان يكون العمل باتجاه محاربة الفساد في وسائل الاعلام هذه مستداماً ولا معمقاً ولا متكاملاً، مما يضع على عاتق النشطاء والمتطوعين عبر الشبكات الاجتماعية العبء الاكبر في جهود مكافحة الفساد وتعزيز اخلاق النزاهة ونشر ثقافة الشفافية. ففي “دولة علي بابا” التي تهيمن الزمر المتسلطة فيها على الفضائين السياسي والاعلامي وتغيب مظاهر الديمقراطية الحقيقية لا يبقى الا امام الناشطين والمثقفين الملتزمين بقضايا الوطن والناس ان ينهضوا بمهمة الدفاع عن الحقوق والمصالح المجتمعية والفردية.
***
                                        عندما كنت جندية
                                         فاليري زيناتي
                                               ترجمة                       
                                         صلاح النصراوي
ج2 ف5
              
                                      رقيبة وفخورة بذلك
مطرقة-1 إلى إعصار-1، يمكنك الإقلاع.
مطرقة-1 إلى إعصار-2، يمكنك الإقلاع.
مطرقة-1 إلى إعصار-3، يمكنك الإقلاع.
إعصار-1 إلى إعصار-2، إعصار-3، قناة 29، إنطلق! حول، قناة 29.
تردد 29، تردد 29!
أبكي وأضع قلمي جانباًً.
مضى أسبوع الآن على وصولنا إلى هذه القاعدة الصغيرة المزدحمة بالهوائيات الغريبة المغروسة بالتلال الصخرية التي تطل على قرية فلسطينية تحتنا.”نعمل” من مستودع يفتقد إلى أية لمسات جمالية.يا للتناقض:نحن نتصنت على كل شيء يطير في السماء ولكنا غير قادرين على رؤيتها.في أول مرة ذهبنا فيها إلى “المطبعة”، (ذلك هو الأسم السري الذي أعطي لمحطة الإنصات) أصبنا بالدهشة: كان هناك حوالي عشرين أو أكثر من الجنود يجلسون وراء أجهزة تسجيل بينما وضعوا السماعات فوق رؤسهم.في الإتجاه المقابل وعلى منصة مرتفعة كان هناك أربعة أشخاص ( ثلاثة منهم من القوة الجوية)، يدونون الملاحظات ويعطون التوجيهات.وعلى منصة أخرى بعيدة نوعاًً ما، كان هناك جنديان، أيضاً مع سماعات في اذانهم، يستمعون إلى الإشرطة، وينقرون على مفاتيح الكومبيوتر.إبتسموا لعلامات الدهشة التي على وجوهنا وعادوا إلى اعمالهم كأن شيئاً لم يحصل.
حالياً، نحن نعمل برفقة آخرين نرتبط بنفس جهاز التسجيل وذلك لتفادي أي خلط قد يحصل بين محادثات الطيارين وشريط لـ”مادونا”.من المفترض أن نبدأ عملنا الأسبوع القادم،هناك عشرة أفراد من الوجبة السابقة على وشك أن ينهوا خدمتهم( جميع هؤلاء من الفتيات إذ أن للأولاد عاماً آخر للخدمة، ويبدو، لمرة واحدة على الأقل أنهم لا يمانعون من وجود مساواة بين الجنسين.) تلك هي الطريقة التي يتم بها إستبدال الوجبتين بتتابع لا ينتهي، حيث يصبح القادمون الجدد شيئاً فشيئاً قدماء في حين يتقدم خلفائهم محلهم.
نقوم بالعمل بثلاث وجبات كل يوم، صباحاً، عصراً، ومساءً، هذا المكان مشغول بشكل دائم منذ عقود.لا تنطلق طائرة من الأراضي الأردنية دون أن نكون على علم بها، وأجد الفكرة مثيرة.
كل جهاز تسجيل مضبوط على موجة ترددات:ترددات لأبراج مراقبة، محطات رادار وترددات تدريب الطيارين.حالما تغير الطائرة ترددها، نبلغ الجميع بذلك ويقوم شخص ما بتولي الأمر في جهاز آخر.نبلغ القوة الجوية بأي نشاطات تثير إنتباهنا كونها غير طبيعية، وهم بدورهم يبلغون مكتباً مركزياً يقوم بدوره بمتابعة المعلومات التي ترسلها الوحدات المختلفة.في المساء نقوم بحل شفرة الأشرطة المهمة ذلك اليوم كما نقوم بتحليل الأساليب القتالية للطيارين وما تعلموه.
وهناك فوق المنصة الصغيرة يقوم احد الجنود بعرض الترددات على شاشة حالما يتم تفعليها.هو بمثابة المستوى الثاني للإنصات، أي التعزيز الذي يأتي حين تكون المحادثة غير مسموعة بشكل جيد.عادة ما يكون هذا الشخص جندياً قضى هناك ما لا يقل عن ستة شهور.إلى جانبه هناك جندي يقوم بمراجعة الترددات بشكل دقيق حتى يتمكن من تحديد تلك التي تم إدخالها حديثاً .
خلال أيام قليلة تمكنا من معرفة كل ما هو طريف في القاعدة.أفضل المواقع هي تلك التي تهتم بمطار عمان الدولي حيث بالإمكان الإستماع إلى محادثات الطيارين على الرحلات العادية من مختلف أنحاء العالم.بقيت أبتسم طيلة أحد الأيام بعد أن إستمعت إلى طيار على الخطوط الجوية الفرنسية بلهجة فرنسية ثقيلة (كان يتكلم الانكليزية) أثناء تقدمه بإتجاه الأجواء الأردنية.
“هذه أير فرررررانس 369المتجهة من باريييييييس إلى البحرررررين، ستة آلالالالاف متر.”
“أيرفرانس-369، ستة آلاف قدم، جيد، رحلة ممتعة.”
أما الموقع الثاني المفضل لدى العاملين في “المطبعة” فهو مدرسة الطيارين.هناك يمتهن المدربون الطيارين طيلة الوقت، شيء مضحك.نتعاطف معهم، نعلم أنهم بنفس اعمارنا.
أخيراً فان لكل جهاز تسجيل أسم منقوش فوقه بقلم ملون.الجميع يتقاتل من أجل أن يكون له السبق بإختراع أسماء ساخرة لها.من بين الأسماء الحالية: “راديو الصمت”، “زواج مرتب”، “كاتش آب وشكولاتا”، “الخنافس الثرثارة”، “معارك المسحاة”، “الطيار الأعرج”،”السبات”، “معبود نوا”، عيون حسين”، عامان إجازة”…
أشعر بتحسن.أخيراً، أصبح مفيدة، أكون في العالم الحقيقي.غداً سنحتفل بالشهر الرابع في الجيش، وسيتم ترقيتنا جميعاً إلى رتبة رقيب من قبل القائد، “اوري”.
تقام الحفلة في ساحة خارج المقصف.”اوري”، وهو من أصول أمريكية، يضع الخيطان من القماش الأبيض علينا.
الجندية “فاليري”، أعينك رقيبة بالجيش الإسرائيلي وأمل أنك ستقومين بمهمتك الجديدة بشرف.”
 “إيانيت”، ذات الشعر الأحمر، هي الأخيرة التي يتم ترسيمها.كنا لازلنا نقف بإنتباه حين بدأت ينابيع من المياه، عشرات البيضات، وبضعة كيلوغرامات من الدقيق تهطل علينا.بدأنا نصرخ بصوت عال، حتى أن جندياً من الذين كانوا في نوبات الحراسة أخذ بالهروب ظناً منه أن هجوماً شن على القاعدة.إنهار “أوري” من الضحك في حين خرجت الوجبة القديمة من مخبئها وهي تغني:مازال توف”، مازال توف.”*
نمطرهم بدورنا بسباب وفير ونلاحقهم كي نمسك بهم ونمسح الوحل ببزاتهم النظيفة. “غيل”، أحد القدماء يضربنا على ظهورنا ويغني:الآن أنتن منا، الآن أنتن منا.”
“أوري” يطلب منا الوقوف إنتباه، قائلاً ان الإحتفال لم ينته بعد، وأحدهم يأتي لكي يأخذ لنا صورة.”شجرات طماطة الكرز” نبدو فخورات، منقوعين، وجوهنا مغطاة بالدقيق، وصفار البيض يغطي شعرنا.
“حسناً، أيتها الفتيات يمكنكن أن تستحموا، اذا أصررتن على ذلك.علي أي حال، من ليست في جماعة الإنذار بإمكانها أن تأخذ إجازة حتى الساعة العاشرة مساءً.
من حسن حظي أني كنت في المجموعة أمس.سأنطلق لكي أغزو القدس.
الجندي الذي التقطني من الطريق وانا أحاول إيقاف سيارة مارة أوصلني إلى ناصية جامعة “جبل المشارف”*، الظلام يغطي المدينة، الليل يهبط حوالي الساعة 4مساءً.أقف بإنتظار الحافلة مع طلاب أكبر مني سناً قليلاًً.دائماً عندما أخرج من القاعدة أشعر كأني اجتزت شيئا أشبه بالستار الحديدي ودخلت إلى العالم الحر.”المدنيون” لهم الخيار بان لا يستيقظوا صباحاً.عندما يغسلون الصحون فأنهم يغسلون ثلاثة وليس سبعيناًً.لا أحد يوقظهم في الثانية صباحاً لكي يقوموا بواجبات الحراسة.يرتدون ما يحبون….
تتدحرج الحافلة بطيئةً إلى وسط المدينة، مارةً عبر الأحياء الدينية حيث تسرع الضلال الداكنة في الشوارع آذنة لصلاة المساء.
أتصل بـ”جين-ديفيد” من نفس المقهى التي أتصلت به في المرة السابقة.الخرافة تسيطر علي بشكل ما.صوت رجل يجيب، ناعس وغير مألوف.
“أنا أشاركه الشقة”، يقول لي، “سيعود الليلة.”
“هل هو في العمل؟”
“لا، لا أعتقد ذلك.حسناً، أنا لست مرضعته، لا أعلم.”
أغلق السماعة.أفكاري تتلاعب في رأسي.هو مع احد ما.مع أصدقاء.على علاقة حب مع واحدة ما.يقيم مع صديق في منزله.لم يعد يشعر بوجودي.ينتظر أن يسمع أخباري.
أحاول أن اوازن الأمور بيني وبين نفسي بصوت عال (دائماً ما أفعل ذلك).حسناً، ستدمرين حريتك القليلة هذه بسبب ذلك.ماذا تعتقدين؟سيبقى طيلة حياته ملصوقاً بالهاتف،ينتظر بصبر أن يرن وأن تكوني أنت على الطرف الآخر.كفى أحلاماًً.هو الآن يستمتع بحياته.أنت كنت ستفعلين الشيء نفسه لو كنت في مكانه.(أحاول أن أحتج بلطف)، لكن الصوت يمضي بقوة:أمضي قدماً، استمري بالمشي.انظري كم هي جميلة هذه الأبنية من الحجر.الا يدق قلبك أسرع لمجرد سماعك أسم القدس؟هذه هي المدينة التي تأتينها حالما أنت خارج القاعدة، إنها أول منطلق لحريتك والتي ستأتين إليها مرة بعد أخرى.عليك أن تعرفي هذا المكان وعليك أن تتعلمي كيف تحبينه، مثل كل الآخرين الذين أحبوه قبلك:بقوة؟
أتوقف عن الكلام.(قررت أني مرافقة بارعة لنفسي) دائماً ما أشجع نفسي على ذلك بأن يكلم جزء مني الجزء الآخر.”فاليري” الحقيقية، الهشة، المفككة، تصغي بإنتباه إلى “فاليري” الآخرى، الحليمة، التي لديها أجوبة عن كل الأسئلة، التي لا تستسلم، التي تهز الناس وتوقظهم بصوت موسيقى، ولكن لم يزل مقنعاًً.
أسير نحو شارع “بن يهودا”، ثم أعرج نحو شارع “الملك جورج” الذي ينتهي بطاحونة “مونتيفيروي”.من هناك يمكنني أن أشاهد أحلى المناظر لأسوار المدينة القديمة.في القدس لا يمكنك أبداً التوقف عن الصعود والنزول، فالمدينة مبنية على ألف تل.فاذا ماكنت في القاع، فلا مفر أبداً من التسلق إلى أعلى، واذا ما كنت في القمة فلا خيار لك أن تهبط إلى الأسفل.بإمتداد ما تصل إليه قدماك فأنه درس في الأمل والتواضع في مدينة واحدة.
“هذا نوع من الفلسفة الطبيعية”، أهمس لنفسي.حتى أني لم الاحظ أن الطريق الذي أسير به ومدعاتي للإعجاب بالأسوار هو نفس الطريق الذي تسير فيه الحافلة رقم 9والذي يؤدي إلى شقة “جين-ديفيد”.فقط حين تصل إلى ساحة باريس تتجه يميناً بدلاً من السير بإتجاه مستقيم.هناك لوحة تجلب انتباهي:”التحالف الفرنسي”.أعرف أن هذه مؤسسة تأسست في القرن التاسع عشر لنشر الثقافة الفرنسية.البناية المشيدة بالحجر الأبيض تبدو مرحبة.بضعة سلالم، باحة خارجية صغيرة، لوحة اعلانات كبيرة كتب عليها أحدهم بخط اليد “ضمن الإحتفالات بذكرى الثورة الفرنسية، يقيم “التحالف الفرنسي في القدس” هذا المساء عرضاً لبرنامج “ابوستروفيس”.أفتح الباب.أسوار القدس التي تعود إلى وقت أطول بكثير من الثورة الفرنسية يمكنها الإنتظار قليلاًً.
أطلب العضوية في الإتحاد (بإسعار مخفضة للجنود)-الآن يمكنني أن اتي لمشاهدة الأفلام الفرنسية وأستعارة الكتب.أشعر بحماس:طالما هناك كتب في متناول يدي، لاشيء فضيع يمكن أن يحصل لي.
في غرفة العرض هناك عشرة منا.البرنامج يثير إعجابي، مثلما الضيوف المثقفون، متحضرون ومتقدون.أذكر منذ طفولتي أني سمعت آحدهم يجادل بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام.أقول لنفسي أريد أن أصبح مثله:أن تكون لي مثل تلك القوة والهدوء، ذلك الإقناع الذي يخدم قضية عادلة.
في إسرائيل يعيش كل المتطرفين في المجتمع جنباً إلى جنب، رغم أن ذلك ليس بالأمر اليسير دائماًً.هناك أناس أغنياء جداً، وآخرون فقراء بشكل مخز، ضلال تهتز حين تصلي إلى الله، وبنات بتنورات قصيرة تتحول إلى ضلال حين ترقص، يفكرن بمتعتهن ويعشن حياتهن، مناضلون يريدون السلام الآن، يعرفون أن تحقيق ذلك يتطلب أن نمنح للفلسطينيين حقوقهم في أن يعيشوا بالطريقة التي يريدونها، وآخرون يقسمون على ولائهم إلى الارض والكتاب المقدس، الذين يصمون اذانهم ويعمون ابصارهم عن حقيقة ان 3,000,000فلسطيني يعيشون-وضعاً ليس بالجيد- في غزة، وفي تلال يهودا والسامرة.التوتر يزداد يومياً كذلك بين المتشددين الدينيين الذين يصرون على غلق دار سينما معينة في القدس، وبين اليهود العادين الذين ينتقدونهم لأنهم لا يؤدون الخدمة العسكرية، بين العاطلين عن العمل الذين يتظاهرون أمام البرلمان معربين عن خيبة أملهم والمهندسين المهرة، بين اليهود المغاربة واليهود الروس، بين المناضلين اليسارين والمناضلين اليمينيين الذين يتبادلون الشتائم والكراهية:”قتلة”!يصرخ أحد المعسكرين، “خونة” يرد الآخرون.
ويستمر الطوفان، يتدفق في الأراضي وفي القدس-حيث يرفع عامل فلسطيني بلطة أو سكيناً صارخاً الله أكبر.البعض يقول أيضاً بأن بإمكاننا أن ننهي هذا التوتر بحرب جيدة.ولكن ما هي الحرب الجيدة؟
في البلد الذي أعيش فيه، هناك آلاف الثورات التي ينبغي تفجيرها.
****