الانتخابات العراقية بين ملهاة السياسة ومأساة الواقع
12 أبريل 2014
صلاح النصراوى
تتجاوز الانتخابات التشريعية العراقية المزمع إجراؤها نهاية الشهر الحالى نتائجها المباشرة إلى تقرير مآلات العراق نفسه، حيث يغرق البلد بعد أحد عشر عاما من الغزو الامريكى له فى مستنقع لا قرار له من الفوضى والأزمات، وتنسد أمامه كل افاق المستقبل.ففى الوقت الذى تنغمس فيه الجماعات السياسية التى تمكنت من السلطة اثر الغزو فى سباق محموم من أجل الفوز مجددا بنصيبها من كعكة الثروة والسلطة من خلال صناديق الاقتراع، يبدو العراقيون أنفسهم أكثر اقتناعا الآن مما مضى بأن الانتخابات هى مجرد تمرين عبثى آخر على طريق انهيار الدولة والمجتمع الذى سلكته الجماعات المهيمنة.
هل يبدو هذا التقييم متشائما، بالأقل إزاء فكرة أن إجراء الاقتراع بحد ذاته يبدو فعلا إيجابيا يستحق التثمين، كما يجادل المتفائلون، حيث تشكل الانتخابات السد الأخير أمام ذلك الانهيار ومنح الشرعية الضرورية لحمايته وتحصينه.شخصيا لا أعتقد ذلك، إذ أن كل عراقى يدرك بالتجربة الآن أنه وفى ظل قواعد المحاصصة الاثنوطائفية التى أقيم عليها نظام ما بعد صدام حسين فإن الانتخابات الثالثة ستعيد انتاج نفس تلك المنظومة من الجماعات والسياسات والقيم المسئولة عما وصلت إليه الأوضاع فى العراق من ترد جعلت منه واحدا من أسوأ اماكن العيش فوق كوكبنا هذا.
تأتى الانتخابات وسط تدهور أمنى فظيع وأزمات سياسية ودستورية وخلافات حول السلطة والموارد وصراعات طائفية وقومية هى بمجملها نتاج فشل المرحلة الانتقالية التى اعقبت الغزو الامريكى عام 2003 فى العبور بالعراق إلى مرحلة إعادة بناء الدولة والمجتمع.والعامل الأساسى الذى يقف وراء ذلك الفشل هو ذات الطبقة السياسية التى قادت العملية السياسية بعد انتخابات عامى 2005 و2010 والتى تسعى الآن إلى تجديد رخصة هيمنتها على السلطة من خلال الانتخابات المقبلة.
ان أزمة العراق المستفحلة خلال أكثر من عقد هى أزمة قيادة بالدرجة الأولى حيث عجزت هذه الطبقة عن تقديم حلول بارعة للمشكلات العويصة التى واجهتها المرحلة الانتقالية، وذلك لأسباب عديدة منها افتقادها الخبرة والرؤية والخيال السياسى والنظرة الاستراتيجية، ومنها تخندقها وراء العصبيات الطائفية والاثنية.كان العراق فى ذلك المنعطف الخطير من تاريخه بحاجة إلى قيادات حكيمة ونزيهة وواعية وشجاعة تقود مشروعا وطنيا للبناء والنهضة وبرنامج ــ ديمقراطى ــ للتغير والتنوير إلا أن الزمن لم يجد إلا بطغم لم تجلب للعراق سوى المبائس والآلام والخراب.
هنا تكمن الأزمة العراقية بالذات حيث تحول برنامج التغير والتحول لمرحلة ما بعد صدام إلى مشروع سيطرة وتحكم فى الدولة وفى الموارد وانتصار لطائفة معينة على الطوائف والأعراق الأخرى، وإطلاق معارك الهويات الصغرى، فى حين تلاشت بالتدريج أهداف المشروع الوطنى وعناصر الهوية الوطنية المتميزة، وتبخرت معها، بطبيعة الحال، الأطر الديمقراطية والدستورية التى تمت صياغتها لتوجيه وإدارة العملية الانتقالية، وما كان ينبغي أن توفره من عدالة وتكافؤ ومشاركة.
النتيجة الأسوأ لأزمة المشروع الوطنى العراقى هى ظهور المشكلة الطائفية التى أصبحت العقبة الكأداء أمام عملية إعادة بناء الدولة وإنجاح الفترة الانتقالية، ليس فقط من خلال الفشل فى تحقيق أى إجماع وطنى وتوافق سياسى وبالتالى مصالحة وطنية، بل بسبب الإخفاق أيضا فى الوصول إلى مشاركة حقيقية وتقاسم فعلى للسلطة والثروة فى عراق قائم على أساس التعددية والتنوع.إن أسوأ ما فى نهج المحاصصة الاثنو لطائفية هو تحوله إلى نظام سياسى قائم على مبدأ الأغلبية والأقلية فى المجتمع، وليس فقط فى السلطة، دون اعتبار لمفهومى المواطنة والشراكة، والحقوق والواجبات المترتبة عليهما.
ما أنتجته سياسات التمكين واستراتيجيات الهيمنة التى مارستها الأغلبية بحق الأقلية هو التهيمش والإقصاء والعزل والتقزيم، مما أدى إلى فشل جهود المصالحة الوطنية، وكشف عن استحالة تحقيقها، كما أخل بالتوازن الوطني، وأفرز خطابات وممارسات مذهبية، وأوجد صراعا طائفيا أخذ بالنهاية منهجا مسلحا.ولا غرابة أن النهج الإقصائى التعسفى امتد ليشمل كل العراقيين من مختلف المذاهب والاعراق الذين يرفضون وضع الوطن فى حجرة هوية ضيقة ويأنفون عن ركوب الموجة الاثنوطائفية وما يصاحبها من برامج جهنمية وردات فعل غرائزية.
كل هذا يدفع إلى الاعتقاد بأن إجراء الانتخابات البرلمانية فى ظل المشهد الطائفى الزاحف يعد تهربا سرياليا من الواقع يصل إلى حد كونه ملهاة ساخرة يدعون إليها العراقيين بهدف إعادة التصديق على صيغة المحاصصة الطائفية وتجديد شرعية العملية السياسية القائمة عليها.ما ستتمخض عنه هذه الجولة الانتخابية هو إعادة إنتاج نفس السياسات وذات الأشخاص الذين كانوا سببا فى وقوع العراق فى هذا الشرك البنيوى المحكم الذى سيظل العراق عالقا فيه والمتمثل فى الفصل الطائفى الزاحف على كل مناحى الحياة.
إن القول بأن الانتخابات استحقاق دستورى وطريق ديمقراطى وآلية اختيار حر، هو فى السياق العراقى الحالى بضاعة بالية ولغو فارغ، بل واذا شئنا ميكافيلية سافرة، في ظل حقائق مزرية على رأسها الكلام المكشوف حول الاهداف الطائفية للجماعات السياسية المتنافسة وانماط القوائم والدعوات للتصويت للسياسات الطائفية والغياب الصارخ لخطاب الوطن والمواطنة.ما تكشف عنه المعسكرات الانتخابية هو ان العراق اصبح اشبه بدول الفصل العنصري، حيث جماعة واحدة محددة الاصول، تسيطر “ديمقراطيا” على الفضاء العام، وحيث الامن والموارد تشكل الاداتين الرئيسيتين لحرمان الاخرين من المساواة في السلطة والثروة.
فالمأزق الذى ستتمخض عنه الانتخابات المقبلة هو حالة مستدامة من الانقسام الجغرافى والسياسي، سيظل يدور فى الفضاء الصراعى الطائفي، ما لم يتم إجراء تحولات إساسية فى الخطوط الحمراء الموضوعة من قبل الجماعات الطائفية لإعادة بناء الدولة على أسس من العدالة والمساواة.العراق بحاجة إلى بنية سياسية جديدة يتخطى من خلالها حالة الصراع، إذ لا ديمقراطية، ولا معنى للانتخابات مع استمرار الاحتراب الأهلى الذى يوسع من شقة الخلافات ويضع البلد برمته على حافة التفكك والانهيار.
—