دولة علي بابا  : في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق 
                                               
5)
                                                  وللفساد تأصيل شرعي
تثير مسألة تفاقم الفساد في العراق الذي يتولى قيادة حكومته المركزية واغلب محافظاته الجماعات السياسية الاسلامية الشيعية تساؤلات حول الموقف الشرعي الذي تتبناه هذه الجماعات من قضايا الفساد من نهب المال العام والرشاوي والابتزاز والسرقة وغير ذلك مما عالجته ابواب الشريعة الاسلامية المختلفة.واذا كان الفساد ظاهرة سياسية واخلاقية عابرة للاديان والمذاهب والمعتقدات فان التساؤل بشأن الموقف العقدي والفقهي لهذه الجماعات حول الموضوع يبقى جوهرياً طالما انها تؤسس شرعيتها على اساس ديني ومذهبي اولا كما انها تطرح مشروعها الاسلامي الذي يستوجب ان يكون لمماراسات السلطة فيه تأصيل شرعي محكم.
في البداية لا بد من القول ان الاسلام وقف موقفا حديا من الفساد الذي اعتبره بكل اشكاله من الكبائر وحفل القرأن الكريم بتحذيرات عديدة للمؤمنين من مغبة الوقوع فيه كما توعد مرتكبيه بعذاب الدنيا والاخرة والطرد من رحمة الباري وبركاته.بل وفي عبارات قاطعة حذر القرأن الكريم ممن يحاول ان يغطي على فساده بالادعاء والكذب كما ورد في سورة البقرة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.اَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ).وترسخت في العقيدة ان الفساد من الرذائل التي ينبغي على المسلم تجنبها كما شرع بتجريمها ووضع لها العقوبات الرادعة بشكليها الالهي والدنيوي.اذ بينما يحفل القرأن بالكثير من الايات التي تنذر الفاسدين وتضع افعالهم في الاخرة موضع الموبقات فان جزائهم في الدنيا كان اشد وضوحا. قال تعالى (إنما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَه ويَسعَونَ في الأرضِ فسادًا أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّعَ أيديهم وأرجلُهم من خِلافٍ أو يُنفَوا من الأرضِ ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم-المائدة). 
غير ان من الواضح ان التفسيرات الفقهية ذهبت بعد ذلك مذاهب شتى بشأن الفساد ومعانيه حيث تباينت التؤيلات والاجتهادات التي ينسب بعضها الى الاحاديث النبوية وبعضها الاخر الى رؤيا الخلفاء الراشدين والصحابة والفقهاء.واذا كان الفساد في معناه المعاصر اكثر شمولية مما ورد في النصوص القديمة فان هذه النصوص اخذته بالمعنى الضيق باعتباره سرقة للمال كما ميزت بين السرقة التي جاءت عقوباتها واضحة في الاسم وبين سرقة المال العام.اضافة الى ذلك فقد طال الاجتهاد ما يتعلق بسرقات المال بالتخفيف من العقوبات التي فرضوها عليه باعتبارها لم تحدد بالاسم في النصوص وايضا تحت ذريعة انه مال عام وللناس نصيب منه وهي نظريات استغلها الفاسدون والمفسدون عبر التاريخ الاسلامي.ان خير دليل على وجود مثل هذا الاتجاه هو ما اشار اليه بيان لهيئة النزاهة صدر في 9/3 يحمل فتوى لاية الله السيد على السيستاني بتحريم الرشوة تقول فيها الهيئة “ان السيستاني يسلط الأضواء على محرمات عدة توهم بعض وانخدع بعض آخر بأنها رزق حلال”. صدور الفتوى واشارة هيئة النزاهة تأكيد واضح على الضبابية التي تحيط بالموقف من الفساد لدى الجماعات الحاكمة واتباعها المتورطين فيه.
واذا ما كان يعنينا هنا بالدرجة الاولى هو موقف الجماعات الشيعية من مسألة الفساد فان الامر يبدو حتى لغير اهل الاختصاص ان فقهاء الشيعة لم يهتموا كثيرا بهذه المسألة حيث تكاد كتبهم ورسائل المجتهدين تخلوا من ابواب خاصة باظهار الاحكام بشأن الفساد بانواعه المالي والاقتصادي والادراي، وبالذات نهب الاموال العامة وسؤ استخدامها وعدم المحافظة عليها.صحيح ان البعض تناول قضايا الرشوة المعنوية والمادية وحرمها من باب السحت الحرام، الا ان البعض الاخر اجازها، او احتاط بشأنها، اذا ما كانت، حسب قولهم،  في “مورد الحاجة”، وهو تفسير او بالاحرى فتوى اباحة غريبة، توفر لنا تفسيرا لما يجري في عراق اليوم.
ان اكثر ما نراه في التفسيرات الفقهية الشيعية الحديثة بشأن الفساد هو انه يدخل في باب “اكل المال بالباطل” (وََلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ-البقرة)وهو مصطلح فقهي مستحدث يراد له ان يشمل النهي عن كل انواع  الفساد مع الاقرار ممن صكه ان بعض المفاسد المالية والاقتصادية ليست لها عقوبة دنيوية في الاسلام وانما تترتب عليها عقوبات اخروية فقط. 
ان جزءا اساسيا من هذا الموقف الشرعي الشيعي من مالية الدولة والعلاقة بينها وبين الناس، يعود، في ما اظن، الى جوهر النظرية الشيعية المتعلقة بالامامة وايامانهم عبر التاريخ الاسلامي ان السلطة في العالم الاسلامي السني كانت مغتصبة من قبل الحكام من صاحبها الاصلي اي الامام وورثته.اذ ما دامت الدولة تحكم من قبل سلطة مغتصبة فلا حدود ولا تعزير فيها لانها ليست اسلامية وتفتقد للشرعية، ولربما اعتبر البعض من فقائهم ايضا ان اموال الدولة (غير الشرعية لانها ليست دولة الامام) انفالا والتي يعرفها اية الله السيد محمد محمد صادق الصدر في كتابه “ما وراء الفقه” بانها “كل ما كان ملكا للامام من اموال.
واذا كانت تلك هي الفلسفة المتعلقة بشكل الملكية في دولة غير الامام فان السؤال هو كيف تعاملت الجماعات الشيعية العراقية مع الدولة التي يتولون حكمها، او يقودون حكومتها، منذ سقوط صدام.لاتتوفر هنا اجابات نظرية في مجالات الفقه والتشريع بشان المفهوم الفقهي او الموقف الشرعي من مالية الدولة وهو موقف غريب لانه يطرح السؤال الاهم وهو موقف المرجعية الشيعية العليا من الدولة العراقية الحالية ومدى علاقاتها بدولة الامام المتصورة، او على الاقل هل هي من وجهة النظر الشرعية دولة شيعية.ان عدم التحديد هنا يثير اشكالات بشأن الموقف من التعامل مع الدولة وبضمن ذلك ماليتها وقوانينها ومعاملاتها وبطبيعة الحال الموقف من الفساد باشكالة المختلفة.
وخلاف المفهوم الفقهي، فان الكيفية التي تعاملت بها الحركات والقيادات الاسلامية السياسية الشيعية العراقية مع المال العام عمليا تكشف انها اعتبرت المال العام مالا سائبا ومباحا.فحتى قبل ان تتولى السلطة كانت الحركات الشيعية تنظر للدولة باعتبارها ارثا تستحقحه على نحو شرعي.كانت معظم هذه الحركات ترفع الاية القرأنية ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثينالقصص) شعارا سياسيا لنضالها السياسي ضد نظام صدام بكل ما ينطوي عليه من دلالات بوراثة النظام التي كانوا يتطلعون اليه بعد صدام، وايضا الدولة ذاتها.في هذا السياق ايضا تلجأ هذه الجماعات الى التوسع المفرط في تفسيراتها الخاصة بشأن قضية الملكية وهي ان الارض ومن عليها هي ارث في هذه الحياة وفقا للاية ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون-الانبياء) حيث تعتبر هذه الحركات نفسها بانها وارثة وان الله قد نصرها في هذه الارض ومكنها من ثرواتها. 
يشكل استيلاء السيد حسين الشامي المقرب من رئيس الوزراء نوري المالكي وحزب الدعوة على مباني وارض جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا نموذجا صارخا للفساد الذي تقوم به هذه الجماعات.وقصة هذه المنشأة التي تعود ملكيتها الى وزارة الدفاع وتحولت الى مؤسسة تحمل اسم الامام الصادق اصبحت موثقة بسبب الجدالات التي دارت بشأنها وكيفية تحويلها الى مؤسسة تدر ارباحاً هائلة لاصحابها الجدد والتي لم تنفع كل المحاولات الى اعادتها الى ملكية الدولة.ولم يحاول الشامي وهو رجل دين بارز ان يبرر شرعياً كيفية استيلائه على المبنى ومن ثم شراءه بسعر بخس ودون اجراءات سليمة كعرضها في مزاد علني، او التقيد بالشفافية، مستغلا مركزه وعلاقاته مع السلطات الحاكمة، سوى وصفه للمشروع الذي اقامه بانه اسلامي.
ولم يكن ممكنا ان تتوالى عمليات نهب مماثلة جرت للمال العام منذ بداية الاحتلال الامريكي الا بعد ان ضربت قيادات شيعية بارزة مثالا على ذلك باستيلائها على مباني واراضي ومنشئات الدولة حين احتلت قصوراً ومباني تتبع ملكيتها رجالات نظام صدام، او الدولة بحجج رد المظالم التي تعرضوا لها وبالتالي اباحوا شرعية استباحة المال العام.ولقد شجع ذلك العامة من الناس على الاستيلاء على اراضي الدولة والتجاوز عليها بالبناء في واحدة من اكبر عمليات انتهاك المال المال العام في تاريخ الدولة العراقية والتي تم تشريعها لاحقا من خلال الاقرار بالكثير من تلك التجاوزات رسميا.
تلك كانت بداية رحلة الفساد التي شرعت فيها الجماعات السياسية الشيعية الحاكمة والتي اسست لدولة علي بابا لاحقا والتي ان لم تكن قد وفرت لها الغطاء الشرعي، فانها عجزت عن ان ترفع هذا الغطاء عمن يمارسونه وهو امر كان سيحدث فرقا كبيرا في حجم الفساد الذي ترسخ وتغول وطغى.
ملاحظة/هذا فصل اخر من السلسلة سيتم التوسع فيه لاحقا حين تصدر في كتاب.
—— 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *