عندما كنت جندية
                                    فاليري زيناتي
                                           ترجمة                       
                                   صلاح النصراوي
ج1 ف2
          
                                    والأن إلى البكالوريا
“فاليريي ي ي ي!”
ستة أيام بالأسبوع تصرخ “يوليا” بإسمي من تحت شباك غرفتي وهي في طريقها إلى المدرسة.
“أنا نازلة، حالاً.”
تلك كذبة صغيرة.حالاً تعني خمس دقائق، على أقل تقدير.حوالي نصف محتويات خزانة ملابسي مبعثرة على السرير، وأنا لم أرتد ملابسي بعد.ما الذي يجب ألا أرتديه؟ ماذا أختار؟ ربما الأخضر.مرة قال لي أحدهم إنه يجلب الحظ السعيد.ولكني لا أملك إلا جاكيتاً أخضر واحداً وهو متسخ الأن.مالذي ترتديه “يوليا”، هذه المرة؟ ليس بإمكاني رؤيتها جيداً.أنه بنطلون جينز وقميص أزرق، ربما بنطلون أبيض وقميص بنفسجي.أجول في الغرفة يمينا وشمالاً، أقلب الملابس دون أن ألقي بالحقيقة نظرة عليها.
لا قرار.رعب.
اليوم هو الأول في إمتحانات البكلوريا.التاريخ في الصباح، ومن ثم الدراسات التوراتية بعد الظهر.وبصراحة فأني لا أفكر فيهما كثيراً.
أنا لا أعرف مالذي أرتديه.
بسرعة ألتقط تنورة بيضاء من العلاقة بيد، بينما تعبث يدي الأخرى في ركام القمصان لكي تلتقط قميصاً اسوداً.أبيض وأسود.لونان متطرفان.الكل، أو لا شيء.مرة قال لي “جيدي” “كوني الأفضل أو الأسوء، ولكن لا تكوني وسطاً أبداً”.”جيدي” هو مدرس التاريخ ونصف التلميذات وقعن، أو لا يزلن، يقعن في غرامه (النصف الثاني قرروا عدم بحث الأمر، بل اخترن اقامة علاقات غرامية حقيقية).أسود أو أبيض اذا.فبالإضافة إلى أنهما يعبران عن فلسفة معينة فأنهما لونان لا ينمان معاً عن أية أخطاء في الذوق.
جهاز الإنتركم يثقب طبلتي أذني.”يوليا” غاضبة، وأنا لا ألومها، فالساعة الآن هي الثامنة إلا ربعاً.أمر من أمام أمي التي إرتدت وجه القلق.
“لم تأكلي شيئا.”
“لاتقلقي، لدي الكثير من البسكويت في حقيبتي.”
“هل ستأتين على الغداء، سأعمل بعضاً من ….”
المزيد من قرع الانتركم، أكثر تهديداً من ذي قبل.
“لا، سوف نتغدى لدى “راحيل”، والديها ليسا في البيت.”
تبدو محبطة.انه لأمر مؤذ، اذا ما غادرت بهذه الطريقة وقد أغضبتها فأني سأفشل في الامتحان، لامحال.
لذا أقول سريعاً:”إعملي شيئاً رائعاً لهذا المساء فسأكون هنا.”
تبتسم، وتقول “إكسري رجلاً”، وبعدها تهمس في اذني: “أعرف أنك ستنجحين.أنه أمر عادي بالنسبة لك.”
يوماً ما على أن أتحرى لماذا أن تعبير “كسر رجل” يعني حظاً سعيداً.لابد أن هناك منطق وراء ذلك، ولكن ليس بإستطاعتي أن أدركه الآن.كما أن على أعرف لماذا لدى أمي كل هذه الثقة بي في حين أنني دائماً ما أشك في نفسي.ولكن بالتأكيد لن أجد إجابات كل ذلك في كتب المراجع التي لدي.
تتكئ “يوليا” على الحائط وهي تقرع بنغمات سريعة صغيرة بأضافرها الطويلة والقوية.
“لقد تأخرتي طويلاً.هل قررتي أن تتخلي عن البكلوريا وأن تصنعي لنفسك مهنة محصلة في “اكسترافارم”.هل ذلك ما تبغينه؟”
“لا، لم يكن بوسعي أن أعرف ما الذي سأرتديه.”
“حسناً، لقد وجدتي شيئأ.وفي الحقيقة، فأن هذه التنورة ليست سيئة.لكن ماذا دهاك؟ تذكري أنه إمتحان كتابة وليس إمتحاناً شفهياً.”
“أعرف ذلك.ولكني كنت أريد أن أشعر بأني حسنة المظهر-وحتى جميلة.للجمال بذاته.إنه من أجلي.”
“نعم، هذا صحيح.”(لم يكن بوسعها أن تبدي إهتمامإ أكثر)، “إذن، ماهو شعورك الأن؟”
“غريب….”
“عدا ذلك؟”
“شاذ.أشعر بخواء.في غربة.حسناً، تعرفين ما أعني.”
“لا، لا أعرف.”
“هيا.أنه مجرد إمتحان مثل غيره.بالنتيجة أنهم لا يتوقعون منا أن نعرف الأن أكثر مما نعرفه طيلة العام.ولكن في نفس الوقت فان كل واحد يحاول أن يجعل منه شيئاً مهماً.منذ أن إنتقلت إلى الصف الأول وأنا أسمع الكثير عن البكلوريا.مدرس اللغة الانكليزية كان يقول:”عليك بالعمل على التحضير للبكلوريا منذ الأن.الآخرون كانوا يقولون:سترين مالذي تعنيه البكلوريا.إعتقدت حينها أنها مسألة حياة أو موت.أي أحد سيجتازها فأنه سيكون إنساناً خارقاً.أشعر هذا الصباح وكأنني لست أنا هي التي تمضي معك الى المدرسة.كأني ارى نفسي اقوم باشياء دون اكون انا فعلا من يقوم بها.”
“ذلك لأنك تفكرين بـ”جين- ديفيد.”
هاهي تضيع فرصة كان بإمكانها ان تبقي فيها فمها مغلقاً.لو أنها وجهت قبضتها اليمنى نحو فكي لكان ذلك أرحم مقارنة بما قالته.نستمر بالسير نحو بوابة المدرسة.
“راحيل” وصلت قبلنا.تأتي بإتجاهنا.عيناها تلمعان ونفسها متقطع.تلك هي الإشارات التي تعرف من خلالها أنها أما قلقة، أو مضطربة.دائماً ما ترفض أن تعبر عن مشاعرها بالكلمات.حين أخبرها “ليرون”، أول صديق لها بأنه يحبها قالت له أنه ليس جاداً، وأنه سيتجاوز ذلك.لم يحاول مرة ثانية وإنفصلا بعد ذلك بقليل.كان عليه أن يكون أكثر فهماً لها، لكنه هو نفسه كان غريب الأطوار.
“إنه لأمر مزعج”، تقول لنا.”هناك ست قاعات للإمتحانات، وأن ترتيب الجلوس سيكون حسب الحروف الأبجدية.
أسم عائلتها يبدأ بالباء، “يوليا” بالكاف وأنا بالزاد، نحن الثلاث نغطي كل الأبجدية.هناك أوقات أظن فيها أننا نمثل العالم كله بكل تنوعاته.
يقرع الجرس.نقبل إحدانا الأخرى ونتمنى لكل واحدة منا حظاً سعيداً، بينما يراقبنا الآخرون.تقبيل الأصدقاء عادة فرنسية صميمة.”يوليا” تحب تلك العادة بعد أن شاهدت فلما لـ”صوفي مارسو” مرات عديدة(سراً، كانت تشعر أنها شبيهتها).
يمضي قطيع الطلبة إلى غرف الإمتحان.هناك البعض ممن لا يزال يراجع، يتأكدون من التواريخ، يسألون عباقرة المدرسة عن أي خيط.هؤلاء العباقرة الذين عادة ما يكونون بنات يبدون مرعوبات ويبدأن بالصراخ:”لقد نسيت كل شيء، لقد نسيت كل شيء.آخرون يبدون خارج الزمن، هناك إثنان يلفان ذراعيهما أحدهما حول الآخر كأنهما في عالم ثان وكأن مجرد إظهار الحب أمام الآخرين هو جواز سفر إلى البلوغ.بالعبرية، وأظن بالألمانية، البكلوريا تعني البلوغ.
إمتحان التاريخ (الذي هو بثلاث درجات) ينقسم إلى قسمين.
تاريخ “الهولوكوست” (درجة واحدة).
التاريخ العام (درجتان).
ذلك هو التاريخ.”الهولوكوست” منفصل، إنه موضوع تاريخي ولكنه مع ذلك خارج إمتحان التاريخ نفسه.قسم إجباري، موضوع قائم بحد ذاته.ليس موضوعاً عابراً، مثل قصة “دريفوس”، الحروب النابليونية، العصر الذهبي ليهود إسبانيا، أو الحروب الصليبية.ليس هناك إسرائيلي واحد يجلس لإمتحان البكلوريا دون أن يمتحن بـ”الهولوكوست.ستة ملاين ماتوا، إشرح متى، من، أين، كيف ولماذا؟عليك أن تكون دقيقاً في الأرقام، في التواريخ، مع أسماء الجلادين، تحفظ فصول من كتاب “كفاحي” وشعارات الدعاية النازية، تعرف أسماء المعتقلات، بتسلسل فترة بنائها، تميز بين معسكرات السخرة، ومعسكرات الموت، تعرف أنه كانت هناك حياة بكاملها وثقافة في الغيتوات، المدارس والإنتاج المسرحي، دور الاوبرا.تذكر إملاء كلمات “اينساتغربون” و”اوبرستاربانفير”،لا تنسى عمليات الفرز، أولئك الذين على اليمين يتم إعدامهم بغرف الغاز فوراً، أولئك الذين على اليسار سيعيشون فترة أطول قليلاً، يموتون كل يوم.احفظ عن ظهر قلب قوانين “نورمبرغ”، من هناك بدأت الإبادة.يتم إنتقاء الناس ثم يعزلون، ثم يؤشرون-تلك هي عملية قتل بطيئ.الحل النهائي، مؤتمر “وينز”،أقرأ كل ما بوسعك عن هذه الموضوعات، دون ملاحظاتك، رتب أوراق المراجعة.إنها قصة مهولة، تروى خلال آلاف الكتب والفصول والأجزاء، قصة إبادة يهود أوربا، ألمانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، بولندا، روسيا، تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا (كما كانت تعرف حينذك)، اليونان، هنغاريا، إيطاليا.يا الاهي كم تبدو أوربا بلاداً مهولة.
وهكذا، إمتحان “الهولوكوست” هو بداية إمتحانات البكلوريا، وهو أول خطوة نحو طريق البلوغ.
أجلس، ومثل كل الباقين أضع قنينة ماء أمامي.شيء مذهل كمية المياه التي يشربها أحدنا خلال الإمتحان.أوراق الإمتحان على وشك أن توزع ورويداً، رويداً تختفي الهمهمات.الأن ما عدنا نتواصل الا عن طريق الإشارات.ينفخ كل من “ألون” و”ميكي” وجنتيهما، وتتقلب عيناهما، في إشارة إلى أنهما يتوقعان صعوبة الإمتحان، أما “تال” و”رافي” فأنهما يقومان بحركة ساخرة بوجهيهما، محاولين إمتصاص بعض التوتر خارج اللحظة. يبدو الأولاد مشدودين أكثر من البنات، البعض وضع رهاناً على أي من الأسئلة ستأتي في الإمتحان.الساعة هي الثامنة إلا دقيقتين.تأتي نائبة المدير حاملة معها ظرفاً بلاستيكياً أسمراً كبيراً.تديره من كل الجهات لكي تبرهن أنه محكم الإغلاق، ومن ثم تخرج الأوراق منه وكأنها أثمن ما يمكن أن حملتها أيدها خلال سنين طويلة.
الإرشادات، التي ستردد كل يوم وسنحفظها جميعاً عن ظهر قلب، يقرأها “أفي” طالب الرياضيات الغريب الأطوار الذي يكاد صوته يخرج بالكاد من زوره.
“سيبدأ الإمتحان عند الساعة الثامنة تماماً، وينتهي عند العاشرة بالضبط.ومن ثم سنقوم بجمع الأوراق ونوزع أسئلة إمتحانات التاريخ العام.ذلك الإمتحان سيستغرق مدة ثلاث ساعات.إستخدام الحاسبات ممنوع بتاتاً.
اسم العائلة أولاً:
رقم الهوية:
تاريخ الميلاد:
….وكذلك إستخدام القواميس….
المدرسة:
تاريخ الإمتحان:
مادة الإمتحان:
الدرجات:
“إذا أردتم إستخدام الحمامات، فلابد من الذهاب بصحبة مرافق.بإمكان شخص واحد فقط مغادرة القاعة في وقت واحد.لايمكنكم ترك القاعة لأكثر من خمس دقائق….”
تاريخ “الهولوكوست”.درجة واحدة.
“هل لي بتذكريكم بأن لديكم خياران.لاتنسوا ذكر أي خيار من الأسئلة إخترتم.وهل لي أن أذكركم بأن عليكم عدم كتابة أسمائكم على ورقة الإمتحان لأي سبب..لا يجوز لكم كتابة الأسم، أو شيء بإمكان الممتحن أن يتعرف عليكم من خلاله.”
السؤال الأول:19351938.صف، ومن ثم علق مع التأكيد على الأحداث المهمة التي وقعت خلال هذه السنين الأربع فيما يتعلق بتطبيق سياسات الإضطهاد النازية تجاه اليهود.*
السؤال الثاني:غيتو “وارشو”، 19401943.
هناك جو من الراحة يهيمن على القاعة.الواضح أن البعض قد كسب رهانه.أتردد قليلاً بين السؤالين.الأول تقني إلى حد ما، واضح، ما عليك الا ان تشير إلى قوانين “نورمبغ” وليلة الزجاج.*، لتحليل التطورات المتعلقة بالعنف الإجتماعي الذي شجعه القانون، ومن ثم بدء العنف البدني، تدمير الممتلكات وأخيراً تدمير الحياة البشرية.السؤال الثاني أوسع كثيراً.الغيتو هو الحياة والموت جنباً إلى جنب، عوائل تكدس معاً، العمل الإجباري، الجوع، المرض، الأغاني، الثقافة، التنكيل، الإذلال، العزل، والتمرد الذي يقوده حفنة من الشباب الذي كانوا في أعمارنا.أعمارهم ستة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، يحملون البنادق في آياديهم، مع قليل من الرصاص لكي يقفوا بوجه الجيش الألماني لأكثر من شهر، بندقية، وبضعة رمانات وقليل من الطلقات، في مواجهة الدبابات وأيضاً الطائرات.كانوا يعملون أي شيء لكي يموتوا مرفوعي الرأس، كمقاتلين، كجنود، يواجهون جنوداً آخرين وليسوا كضحايا يواجهون جلاديهم.أنا لم أعد في قاعة الإمتحان، لم أعد أجلس لإمتحان البكلوريا.أقف أمام واحد من قادة التمرد في غيتو “وارشو”، “موردخاي أنيلفيتش” الذي رأيت صورته في متحف “ياد فاشين”.صورة بالأسود والأبيض، باهتة قليلاً، لرجل جميل المحيا وصارم الملامح، من الطبيعي أن يكون جميلاً وصارماً.وأنا كذلك سأكون قريباً جندية وسأحمل السلاح بيدي، ولكن ليس هناك من مقارنة بين الأثنين، والمثال الذي ضربته مثير للسخرية.
أتيح لعقلي أن يحلق بينما الوقت يمضي…تك… تك..تك.بإمكاني القول أني لو أخترت سؤال الغيتو فسأكتب قطعة من الشعر.سأضع جملاً حزينة ومثيرة للعواطف، وأظني سأبكي كذلك.ستغرق دموعي الورقة الإمتحانية وسأفقد بالنتيجة عشر درجات.(تحسب الدرجات على أساس مائة بالمائة وحسب ما يقوله المعلمون فان الأجوبة يجب أن تكون جيدة لكي تنال الدرجات العشر.)

*(نوفمبر 10/ 1938 ليلة تعرض فيها اليهود الى مذابح في المانيا)
علي اذاًَ أن أختار السؤال الأول.
طالب الرياضيات يعد الذباب.بين حين وآخر يمشي بين الصفوف، يتظاهر بأنه مهم.كل ربع ساعة يعلن كم الوقت تبقى.يبدو حزيناً.ربما هو أيضاً ينتظر، ينتظر نداءً تلفونياً لا يأتي أبداً.أو ربما ما هو أسؤ من ذلك.هو لم يقع بالحب من قبل فالرياضيات هي كل حياته.
خلال فترة ثلاث سنوات أسس النظام النازي جهازاً للقمع في إطار القانون.إنطلقت آلة الكراهية التي تقود كل شيء، من الفصل العنصري داخل المجتمع إلى تدمير الإملاك والحياة نفسها.نظام من الرعب تم بناءه تحت أبصار الأمم الأوربية الأخرى.هنا بدأت كتابة أكثر صفحات التاريخ الإنساني ظلاماً.
عضدي يؤلمني ولكني أشعر بسعادة مع نفسي.كتبت ثمان صفحات وأظن أنها واضحة بما فيه الكفاية.وأخيراً أرفع نظري للمرة الأولى منذ ساعتين.أولئك الذين إنتهوا ينظرون بعين أحدهم الآخر.”ألينا” و”رينات”، البقرتان الممتلئتان تجران أنفاسهما بصعوبة بينما تدونان جملاً سريعة في اللحظات الأخيرة، وبعدها يبدأن التوسل إلى طالب الرياضيات لكي يدعهما تكملان.كلمة واحدة أخرى فقط، مجرد ربع نقطة فقط، ربما…
لا وقت لدينا لكي نلاحق أنفاسنا.علينا أن نولي إهتمامنا لورقة إمتحان التاريخ العام.نعيد كتابة أسمائنا، الموضوع، التاريخ.هناك ثلاثة أسئلة مطروحة.
1-مولد الأمم المتحدة؛
2-الحرب الأهلية الأمريكية؛
3-ثورة أكتوبر.
لا أتردد ولو للحظة واحدة، وأبدأ على الفور الكتابة عن الموضوع الثالث، حتى قبل أن أبد بالتفكير حوله.أبدأ هكذا:
ساعد حكم القيصر “الكسندر الثاني” على إنطلاق مشاعر الأمل في روسيا إلى حد كبير.كان يتهيأ لكي يمنح روسيا دستورها الأول حين قتل عام 1881.اما “الكسندر الثالث” فقد كان بعيداً جداً عن متابعة تلك الثورة الديمقراطية وأمعن في إخضاع شعبه وولد ذلك إحباطاً وغضباً.
مضيت بعيداً، أدرك ذلك.كانت ثورة أكتوبر عام 1917 وليس عام 1881.أي ممتحن نحس سوف يشطب الفقرة الأولى برمتها بجرة من القلم الأحمر، ليس لأن بإمكاني رؤية ذلك ولكن لأنه سيشعر بحالة أفضل.لا حيلة فأنا من المعجبين بـ”الكسندر الثاني”.أنا اتحدث عنه في أية مناسبة.ربما يعود الأمر إلى فلم رائع كنت قد شاهدته حوله وحول عشيقته “كاتيا”.لقد قرأت بنهم كل ما وقع تحت يدي بشأنيهما.يقال أن “كاتيا” هي التي أقنعت القيصر بأن يتبنى السياسات اللبرالية وأنها كانت ملهمته.عندما يروقني الأمر فأني أنحو إلى الإقتناع بمثل هذه الإشاعات (حتى حين يكون قد أضفي عليها طابع رومانسي جدي).ربما أراد “الكسندر” تتويجها امبراطورة بعد وفاة زوجته.(كانت توصف في الكتب التي لدي بانها عجوز لا لون لها، هزيلة مثل خيزرانة، بملامح صارمة، أي بمعنى آخر كانت نقيض عشيقته).لم يكن لديه متسع من الوقت، وبالتالي فأن “كاتيا”، وأسمها الكامل “كاترينا دوغلوروكي” نحيت جانباً من قبل العاهل اللاحق.غادرت بعدها إلى فرنسا حيث توفيت في “نيس”.
على أي حال، إن مجرد ذكر أسم “الكسندر الثاني” يضعني في مزاج رائق، وفي نهاية يوم الإمتحان هذا أشعر بثقة عالية.
في الفرصة التقيت بـ”راحيل” و”يوليا”.كانت الأولى مطأطأة الرأس، أما الثانية فمتوترة.لم يكن لدي الجرأة أن أسأل اي سؤال.”يوليا” تضع ذراعها حول “راحيل” وأنا أفعل الشيء ذاته، دون أن ننبس ببنت شفة.نبقى هكذا لدقائق، نهزها برفق، ونتجاهل نظرات المارة الذين يتجمعون حولنا وكأن هناك حادثة.
“هل تردن ساندويتشات، أم أننا سنذهب للغداء عندك كما خططنا؟” أهمس.
تحدق بالأرض، ثم تحول عينيها بحدة نحوي، بنظرة ملئها فرح زائف، أحسها مؤلمة.ليس بالإمكان تخمينها.”بالطبع، سنذهب إلى بيتنا.أمي ملئت الثلاجة برمتها، وجعلتني أقسم لها باننا سنأتي على كل الطعام الذي فيها.”
“هيا بنا نجري، إذن.”
“هيا.”
ذلك مانفعله دائماً.شيء ننفرد به نحن الأثنتين.في اللحظة التي يكون هناك شيء ما في داخلنا فأن الأخرى تقترح الجري.ليس المهم من سيفوز.”راحيل” هي التي تفوز لأنها بطلة المدرسة بركضة مسافة ال 100متر وال 400 متر(بغض النظر عن المسافة فأنها تغلب الصبيان ونحن نفخر بذلك كثيراً).ما يهم هو ذلك الشعور الذي يربطنا به الجري سوية.فنحن نرمي وراء ظهرينا كل ما يمكن أن يزعجنا، أي شيء يمكن أن يقلقنا.إنها وسيلة أخرى للهروب من أنفسنا.
لا تزيد المسافة إلى حيث تسكن “راحيل” عن مائة متر.ننتظر “يوليا” التي تمشي هويداً هويداً.ملامحها تنم عن الفوقية، مثلما هو غير مفهوم.بإمكاني أن اسمع كلمة “صبياني” تتردد في رأسها حين ترسم تلك الصورة على وجهها.حين تكون على تلك الهيئة، تبدو صداقتنا وكأنها في مهب الريح.بدأت أشعر بذلك منذ بضعة أشهر، وتأكدت منها اليوم.أضغط على نفسي لكي افكر بشيء آخر، عن الأسئلة التي سوف تأتي في إمتحان الكتاب المقدس بعد ظهر اليوم.
“لقد أصبت برعب حقيقي في إمتحان التاريخ العام”، تهمس “راحيل”.لم اكتب شيئاً، لا شيئ على الإطلاق عدا أسمي وبعض التفاصيل.”
أعصر يدها بقوة.أعرف أنها لن تخبر أحداً بما أسرتني به الأن.إنها شديدة الفخر بنفسها، كتومة، معقدة والبعض حتى يقول أنها ملتوية.ولكني أحبها مثل أختي، كأنها مثيلتي، صديقة بإمكاني أن أقسم يمين الإخلاص لها مدى الحياة، حتى الموت.
عاصفة الإمتحانات تتجدد بسرعة، وطقوسية الإرشادات تجعلني أشعر وكأنني أمثل نفس المشهد، مرة تلو الأخرى لمجرد الإمتاع السادي للمشاهدين الغامضين.
الدراسات الإنجيلية.عالمية رسالة النبي “عاموس”.
البايولوجيا:ميكانزما الـ دي. ان.اي.
اللغة الأنكليزية:خطاب “مارتن لوثر كنغ”” لدي حلم.”
الأدب:البطل المضاد عند “ديستيوفسكي”.
بعد إنتهاء إمتحان الأدب طرأت لدى “جين-ديفيد” تلك الفكرة السيئة في أن يتصل بي هاتفياً.كان متلعثماً ويداخله شعور بالذنب والحرج، وهو يحاول أن يشرح لي، مع الكثير من عدم التركيز والإرتجاف في صوته، أنه إلتقى ببنت في القدس وأن الأمور تجري بينهما بشكل جيد.قال أنه يأسف على ذلك.لكني كنت سأذهب إلى الجيش على أي حال، ولن يكون بإمكاننا أن نلتقي بإنتظام، سألتقي بأناس أخرين، أبدأ حياة جديدة.من الطبيعي أن بإمكاننا أن نبقى صديقين.هو يرغب أن يراني مرة ثانية.أجيبه بصمت طويل قبل أن أقول له وداعاً مصحوبة بأهة مع أول دمعة، ثم أجري لكي أبكي في ذراعي “راحيل” و”يوليا”، لوقت طويل.
يعلم الله وحده مالذي إرتديته في امتحان الرياضيات في اليوم التالي.لم أذرف دمعاً كما فعلت حين أجبت على أسئلة إمتحان “الهولوكوست”، ولكن حين جاء دور مسائل المثلثات، والتي لا أستطيع عادة حلها بشكل كامل، كان هناك قليل من البقع الصغيرة.
سأجتاز البكلوريا، ذلك شيء يكاد يكون مؤكداً.ولكن مهما كان الأمر فأنه لا يقلقني الأن.أنا مجرد جرح يمشي.حين تطلع النتائج في أكتوبر سأكون جندية.سأعيش في ذلك العالم الغريب الذي تدخلة مراهقاً، وتخرج منه على ما يبدو، ناضجاً.
***

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *