عندما كنت جندية
                                    فاليري زيناتي
                                          ترجمة                       
                                   صلاح النصراوي

منذ عدة سنوات قمت بترجمة رواية الكاتبة الفرنسية الاسرائيلية فاليري زيناتي “عندما كنت جندية” بعد ان قرأتها بالانكليزية واثارت انتباهي شكلاً وموضوعاً.ورغم ادراكي للمواقف المعارضة لترجمة الادب الاسرائيلي الى العربية الا اني كنت، ولا ازال، اعتقد ان الاعتراضات بشأن نقل ذلك الادب الى لغتنا لا تتسم بالحكمة ولا بالموضوعية وهي تدخل اما في خانة الجهل والغباء او في خانة المزايدات المبتذلة التي عانت منها القضية الفلسطينة على مر تاريخها المرير.تقدمت الى احد الناشرين البارزين في القاهره بالترجمة لطبعها الا انه لم يتكلف حتى بالرد وعذرته لاني كنت متيقنا من خشيته من السهام التي قد تطاله، ولم اكرر التجربة.ثم جاءت الثورات العربية واخذت من مشاغلنا بها ومن حياتنا ما أخذت حتى نسيت تلك الترجمة وخشيت ان تختفي من ملفات الحاسوب او يطوي نسختها الورقية الغبار.وها انا اقدمها هنا على مدونتي متسلسلة، متحملا كل مسؤولية ادبية وسياسية واخلاقية عن ذلك.لقد عشت حياتي كلها لصيقا بقضية فلسطين ومأساة شعبها وفترات طويلة قريبا من فصائلها المناضلة ومن قيادتها التاريخية واخالي اجزم ان من ضيع فلسطين والحق بشعبها تلك الكارثة هي الحماقة التي اعمت اجيالا من العرب عن معرفة الاسرائيلي وكيف يفكر ويعمل وهي المقاربة التي كان ينبغي ان تصدم كل عربي منذ ان قال موشي ديان ان العرب لا يقرأون..

الجزء الاول

                                 ثلاث بنات وسط الصحراء
“نحن ثلاث فاشلات في أرض الفاشلين”، تقول “يوليا” وهي تلفظ كلماتها وترفع حاجبيها بتعبير لا يسمح لاحد أن يجادلها فيه.”هذا جحر العالم”، تمضي بالقول، “ولا يمكن أن يأتي شيء مميز من جحر العالم هذا.”
أنظر إلى تلك العينين الزرقاوين اللتين تفخران بهما، خاصة بعد أن ألبستهما عدستين لاصقتين.في السابق كانت ترتدي نظارات بلاستيكية ذات عدسات سميكة، بشعة، كما أن عينيها كانتا تعانيان من إنحراف وبعد نظر وإستكماتزم، وكما كانت تقول عمتي، فان عينيها كانتا تومضان.لقد تحملت كل ذلك العبأ طيلة سنين طفولتها.ولكن منذ أن إستبدلت النظاراتين بالعدستين الصغيرتين فكأنها كانت تسعى لأن تجعل العالم كله يدفع ثمن الإذلال الذي كانت تشعر به.الأن بدأت تنتقم.أحياناً كل ما تستطيع أن تراه في عينيها هو غضب وإحتقار، أو حتى أخس من ذلك.حين تتكلم مع اساتذتها، أو مع أحد الأولاد، تكذب، في حين أن عينيها، زرقاوتان وشفافتان، تلبسان قدراً لا يمكن تخمينه من البراءة.أنا أكره تلك العينين الزرقاوتين الكبيرتين.أنا أكره عيني صديقتي المفضلة، كراهية حرباء غاضبة، عاجزة، مثلما أشمئز من الطريقة التي تتكلم بها أحياناً، بفم ممزوز، مليء بالنتانة، وكأنما تحاول القول أنا حرة الأن.”أنا لم أعد تلك البنت الصغيرة، اللطيفة.”
على أي حال، إنها صديقتي، علي الإقرار بذلك، وهي بدورها تقر بذلك أيضاً.في المدرسة يصفوننا باننا صنوان، لا يفترقان، ليس بإمكان أحد أن يصادف أحدانا دون أن تكون الأخرى هناك.نجلس جنباً إلى جنب، منذ أربع سنين، ونكلم احدانا الأخرى بمعدل ثمان مرات يومياً.عندما لا أكون معها أكون مع “راحيل”، صديقتي المفضلة الأخرى.
كلاهما ولدتا في ما كان يدعى سابقاً بـ”الإتحاد السوفيتي”.”يوليا” تنحدر من “طاشقند” في “أوزبكستان”.هي مغرمة بنطق هذه الأسماء، “طاشقند”، “سمرقند”، كأنما تتعامل مع كنوز تلمع في زاوية كل شارع هناك.أمام الآخرين القادمين من “روسيا” تشدد دائماً أن والدها من أصول ألمانية، وأن أمها رومانية.وبإمكاني القول أنها تشعر بالخجل من “أوزبكستان” التي يظن الآخرون بانها لابد أن تكون الموضع الذي يقع فيه جحر العالم.شخصياً ليس لدي أية فكرة واضحة عن تشريح جسد الكرة الأرضية.
“راحيل” ولدت في “بيندري”، وهي مدينة صغيرة بالقرب من “كيشينيف” في “مولدافيا”.عندمت تلفظ أسم مدينة طفولتها، فانها تشدد على الياء، كما ينزلق صوت الراء، مثلما يفعل الناطقون باللغات السلافية، وهي تطيل الياء الأخيرة مصحوبة بإبتسامة.بالتأكيد أنها ممن يدعون بمرضى الحنين للأوطان.
ولدت في “نيس” في “فرنسا” وهو ليس أمراً عادياً.بل هو امر مثير للإنتباه.ذلك ما يجعلني بالنسبة للجميع، مختلفة، نوعاً ما عن الآخريات كما يجعلني مثيرة للفضول، أو حتى فاتنة للبعض.كل ما علي هو أن أفتح فمي حتى يجتمع الناس من حولي.دائماً ما ييسر ذلك معرفتي بالناس، لكن من الممكن أن يكون الأمر أيضاً مثيراً للضجر، خاصة اذا ما تطلب الأمر أن تقول شيئا بالفرنسية… بودلير، كاميمبير، سوليتود، اينفانت تيربل، أي شيء يمكن أن يخطر على بالي.ما يهم بالنسبة لهم هو الأصوات التي تأتي منها، خاصة كلمات تحتوي على الأصوات، أي ، أو، آ، دو، دا، دينودو، كل الأصوات التي لا تتوفر في لغاتهم، والتي يجدونها مثيرة وغريبة.والفضل يعود إليهم أنني أكتشفت أن اللغة هي أولاً وأخيراً نوع من الموسيقى، وأنها تجميع للأصوات.وهم يحبون أي شيء يمكن أن أقوله لهم، لأني لا أستطيع التفكير في ما يمكن أن أقوله لأناس لا يفقهون كلمة مما أقول.ذلك يفطر قلبي لأني بالحقيقة أحب الكلمات، أنا مغرمة بها، وأبدي إحتراما لها وأحاول أن أسبر أغوارها الغامضة، وأن أستخدمها بتأن في كلا اللغتين؛ لغتي الأم الفرنسية، واللغة الأجنبية، العبرية.
لكن أي من الآخرين لم يكن ليكترث بذلك ولم يتوقفوا من القول ،”رجاء قولي شيئاً بالفرنسية.”
نحن نعيش في “بئر سبع”، مدينة يسكنها حوالي 100,000 من البشر، وتقع في صحراء النقب في إسرائيل.من السماء تبدو المدينة شبيه بـ”اطلانطا” (عدا بناية السي.ان.ان والملعب الأولمبي)، مكعبات رمادية تقوم على رمال رمادية.وأي إنسان يعتقد إن الصحراء هي مجرد إمتداد للرمال الصحراوية البيضاء تتخللها واحات صغيرة هنا وهناك، لابد وأن يكون من أولئك الذين يكثرون من مشاهدة أفلام الكارتون.يالهنائهم، دائماً ما أغبطهم.
منذ أن وصلت إلى هنا قبل خمسة أعوام مع والدي وشقيقتي وأنا على إعتقاد أن الصحراء قميئة، ومضجرة، وبلا أية غاية.الشمس فقط والتي تغيب كل مساء ببريقها المتوهج هي التي تبرر حقيقة أن لا شيئ غير ذلك هناك.
لدي صديقتان مفضلتان روسيتان ذوات عيون زرقاوتين وشعر كستنائي، لكنهما لا يشبهان بعضهما إطلاقا.نحن بلغنا، على وشك أن نبلغ، الثماني عشرة عاما.خلال شهرين سوف نمر بإختبار البكلوريا المرهق.
وخلال ستة أشهر، بالإقل، سنتستبدل قمصاننا ذات الكم القصير بقمصان وسروايل الخاكي.الجيش سيكون بإنتظارنا.الجنديات “يوليا”، “راحيل”، وأنا.
حالياً نضطجع على العشب وسط حذوة الحصان التي تشكلها العمارات السكنية التي نعيش فيها.العقار يدعى “المنطقة السكنية للمهاجرين الجدد”.ليس هناك أية علامة تقول بالإبتعاد عن العشب، كما أن الناس هنا يتكلمون نحو خمس عشرة لغة مختلفة.
نحن نتكلم عن الليلة الماضية، ونعيد تكرار ما قلناه مرات عديدة، عن الحفلة التي أقمناها في منزل “إيلان”، هو واحد من مجموعة صبية أخذوا يصبحون قربين منا.
“نفس القصة القديمة”!، تتذمر “يوليا”.”بعض الكوكولا، بعض “الفودكا”، والأولاد يرقصون مثل بطات سكارى، البنات يشعرن بالضجر، أنت تتعرقين ويذبل مكياجك فتذهبين إلى الحمام لتضعي طبقة جديدة، ولكن لمن، لمن؟”
“راحيل” وأنا نأخذ القرار الصحيح، بأن نبقى صامتتين بعد أن شعرنا بذلك الملل.نحن معتادتان على تأوهات “يوليا”.بعد دقيقتين ستقوم واقفة وتمزقنا إرباً أربا، بجملة حادة واحدة، نحن وجحر الجحيم هذا، أو أنها ستغير الموضوع إلى آخر جديد تماماً…مثلاً.
وهي بطبيعة الحال ما تفعله الآن.
“على أي حال.الجميع كانوا ينظرون إلي طيلة الليلة.أنا أحياناً أتساءل لماذا..بالتأكيد ليس لأني أرتدي ثوباً أنيقاً، مثلك يا “فال”.”
أسرق نظرة سريعة إلى “راحيل” التي لا تحاول أن تخفي إبتسامة ماكرة.
“نعم” توافق “راحيل”:جثوا جميعاً تحت قدميك، متيمين، سائلين الشفقة، مستسلمين، مثيرين للسخرية…إنه وضع تعجز الكلمات عن التعبير عنه.من أخترت في النهاية؟
نظرة غاضبة من “يوليا”.
شعور من الإشمئزاز يهبط في داخلي.
اذا ما أستمر الأمر على ما هو عليه فسيكون هناك شجار، صراخ، ثم تبادل للشتائم.يزلزلني الغضب.كلما يرفع الآخرون أصواتهم يشحب لوني، ثم يحمر، وأبدأ بالإرتعاش.أقف هناك صامتة، وتبدأ عيناي بالحكة، وأشعر كم أنا غبية، وبلا جدوى.وسرعان ما أغير الموضوع.عن إمتحان البكلوريا، مثلاً.
هل انتهيتم من ملاحظاتكم حول “الجريمة والعقاب”؟
“نعم”، تجيب “راحيل”، “لكن لدي مشكلة.ففي الروسية الكلمة هي الجريمة أما بالعبرية فانها مترجمة إلى “إثم”، وهي ليس كذلك.”راسكولينيكوف” يرتكب جريمة، نقطة.”
“لكن الجريمة إثم”، أجيب.”لابد وأن ديستوفيسكي رأها كذلك، فلقد كان مؤمناً شديد الإيمان.”
“ماذا عن “الغريب”؟ تقاطع “يوليا”، “هل أنتهيت منها؟”
“لا مشكلة لدي فيها، فقد قرأتها ثلاث مرات.ولقد أنهيت كل ملاحظاتي حول كامو، الجزائر، اللامعقول، عقوبة الإعدام… دعونا نأمل أن تأتي الأسئلة عن ذلك.”
“لذلك، ليس من الغريب أن تكوني مغرمة به، أنه فرنسي.”
“وماذا في الأمر؟ لا شأن لهذا بذلك.هل أنت مجنونة بـ”ديستوفيسكي” فقط لأنه روسي؟”
“كلا”، تجيب “يوليا”.
“نعم”، تعارضها “راحيل”.
“هل ستعيرينني ملاحظاتك عن “كاميل؟”، تسألني “يوليا” دون تكلف.
“حاولي أن تلفظي أسمه بشكل صحيح ولو لمرة واحدة.”كاميل” أسم امرأة، أسمه “كامو”..كام..او.اما بالنسبة للملاحظات ف…. فلا جدوى لك بها فقد كتبتها بالفرنسية.
انا متأكدة أنها لاحظت ترددي من الطريقة التي أشاحت بها وجهها بشكل حاد.ولكن ظلت هناك إبتسامة صغيرة إرتسمت على شفتيها وهي تطوي بذقنها إلى أمام.
“يا بنات أنظرن من الآتي.”
نجول بنظراتنا نحو الجهة التي نظرت إليها.إنها “ألينا”، أو دورق الألوان، كما نسيمها، تمضي نحونا.هي من ضمن الأشياء الخمسة التي تدور حولها احاديثنا المفضلة، إلى جانب الأولاد والمعلمين ومواضيع امتحانات البكلوريا.بإمكاننا أن نمضي بالحديث عن ملابسها لساعات طولية.عادة ما ترتكب خطأين واللذان نعتبرهما لا يغتفران، فهي ترتدي ملابس بلون الأحمر إلى جانب الزهري، أما أحمر الشفاه التي تضعه فانه يوحل أسنانها.كثيراً ما نضحك عليها بشكل صريح.أدرك أن ذلك أمر شنيع ولكننا نحتاج إلى “ألينا”.إنها طراز من البنات بإمكان أية بنت أن تقف إلى جانبها لكي تشعر بانها مشرقة، وفاتنة، وأنيقة.على أي حال ، لديها دائماً إهتمام في أحاديثنا دون دعوة.تذكرني الطريقة التي تمد بها اذنيها لتصغي، وتتعبيراتها المثيرة للشكوك، بعانس عجوز معقوفة الأنف كانت تدير ملجئاًُ قبل الحرب، وبطبيعة الحال لم يتسنى لي أن أقابل إحداهن أبداً، ولكن الخيال هو احدى مميزات البشر.البنت يمكن أن تكون جاسوسة ممتازة.
“هل سمعتم آخر الأخبار؟”
“لا، نقول جميعنا في نغمة واحدة.”
تلك هي حقيقة خالدة.ليس هناك أبداً أحد سمع آخر الأخبار.عدا طبعاً من يحاول إعلانها بشئ من التبجح.
“البرتقالي، هو لون الصيف.هل تصدقون ذلك؟”
“هــمممممم.”
“لا أصدق.”
“لا يمكن أن يكون ذلك.”
 لسبب ما قررنا يوماً ما أن اللون البرتقالي لا يليق بنا.إنه يناسب فقط البنات اللاتي لا مستقبل لهن.”إلينا” تعرف ذلك وهي تستمتع بان تغيض مجموعتنا الصغيرة.
“إسمعوا”، أتنهد، “أنا لا أكترث كثيراً أو قليلاً بالبرتقالي.تعرفون أني سأكون غارقة بالخاكي قبلكم بكثير.”
يهبط صمت مهيب.
“على أي حال، أنا مغادرة.”أقول، بينما أنط من مكاني.”لدي عمل لأنجزه.”
أمشي فوق العشب بخطوات سريعة، أحاول قدر الإمكان أن أبدو مثل “فايه دانوي” في فلم “بوني وكلايد”.لا أنظر إلى الخلف ولكني أعلم أن البنات يراقبنني.اذا كان هناك شيئ وحيد أنا متيقنة منه فهو أنهم يحسدون ساقي.ذلك شيئ لا يجعل الإنسان محبطاً في هذا العالم.
تنتهي المحاضرات في المدرسة في الساعة الثانية.ليس هناك مطعم أو وقت مخصص للغداء.نحن ندرس على إمتداد فترة ممتدة ثم نكون أحراراً بعد ذلك لباقي ساعات اليوم، لنذاكر أو نمارس الرياضة أو نشاهد التلفزيون.اما أنا فاني أشتغل في صيدلية كبيرة، واحدة من سلسلة صيدليات، حيث أعمل تحت مسمى متبجح، وهو “منسقة عرض.”وبالأساس، فان ذلك يعني أن علي أن أمضي بين ممرات الصيدلية عرضاً وطولاً، منهمكة في ترتيب المنتجات على الرفوف، كي تظل دائماً منظمة ومملوئة بكل أنواع الشامبو، ومزيلات الروائح، وفوط الصحة.والواضح أن الهدف من ذلك هو جعل الزبون يكسر هذا الترتيب الممل، ومن ثم يقوم بشراء البضاعة.بين فترة واخرى يتم نقلي إلى قسم العطور للقيام بعملية تغليف المبيعات التي تقدم كهدايا حيث أستمتع بإختراع أشكال مختلفة من الأغلفة بطويات معقدة ثلاثية أو خماسية مع حافات ثنائية، أو رباعية.هم يدفعون لي لأني أمضي وقتاً أعمل خلاله شيئاً فيه بعض الجمال في حين أن شخصاً ما سيقوم بإزالته بمجرد حركة سريعة.
عندما، أطلعني “رافي”، رئيسي في العمل، على فلسفة محلات “اكسترافارم” بعد أن وظفني قال لي خلال عشرين دقيقة ما خلاصته إن الزبون ملك، ما يريده هو أوامر، نحن خدم بين يديه، وعندما يدفعنا إلى الإنهيار العصبي، حين يتردد بين شراء مسحوق غسيل، بـ، أو بدون منعم للملابس (مرعوبين من أن زوجاتهم قد يقلبن الدنيا اذا لم يستجيبوا لطلباتهن)، فأن علينا أن نطبع إبتسامة حلوة وودودة على شفاهنا، وأن نساعدهم في إتخاذ القرار خلال تلك اللحظات الحاسمة.
وبعد أن أعطاني “رافي” مثالين أو ثلاثة عن حالات من هذه يمكن أن أواجهها في عملي الجديد الرائع ذي المستقبل الواعد أعطاني عقد عمل “اكسترافارم” والتي تعيد التذكير بأن على العمال أن يظهروا تواضعاً أمام الزبائن.تعلمت كل ذلك سريعاً عن ظهر قلب، ليس إيماناً، أو خضوعاً، بل لانها كانت معلقة على جدران المراحيض وغرف تبديل الملابس حيث أقضي وقتاً لابأس به كل يوم.بعض منها:
لاتقل:هذا ليس من اختصاصي، أطلب من (سين) في فرع (صاد)، بل قل: إتبعني سأخذك إلى شخص على إطلاع بهذا الفرع.
لاتقل:ليس لدينا ما تبقى في المخازن ولكن قل:ان هذا المنتج مرغوب جداً، ونحن بإنتظار الإرسالية الجديدة في أي وقت.اذا ما تركت لي عنوانًا فأنني سأكون سعيداً لكي أبلغك متى ما وصلت.
لاتقل:وداعاً، بل قل شكراً لكونكك زبون دائم، آمل أن نراك قريباً.
ومن الواضح أن الوصايا السبع الأخيرة هي على هذا المنوال.
في البداية، لم يكن بإستطاعتي التوقف عن العض على شفتي حين أرى تعابير الحبور وهي ترتسم على وجوه العجائز من الرجال والنساء من بولندا، أو المغرب، غير قادرين على الكلام لرد المجاملة، ولكني تعودت على ذلك بمرور الوقت.كنت أضع نفسي مثلما توضع الطائرة على جهاز الطيار الآلي، واذا ما نسيت تلك الطبيعة العلائقية لعملي، فان ساعتي سرعان ما تذكرني بذلك.بإمكانك أن ترى ان الفقرة الاخيرة من العقد تنص على ما يلي:ضع ساعتك على رسغك الأيمن، وليس الأيسر حتى تتذكر دائماً أنك عامل إستثنائي في مؤسسة إستثنائية، وفي خدمة زبون إستثنائي.
واذا ما سألتني فان إختيار الساعة كان ذكياً من قبل مدراء “اكسترافارم” لانهم يدركون أنها من الأشياء التي تساعد على التذكير، لأن النظر إلى الساعة هي من أكثر العادات شيوعاً بين العاملين.لكن العقد لا ينص فيما اذا كان على المؤسسة أن تشتري ساعة للعاملين الذين لايمتلكونها.
دعوني أقول كذلك بأننا أقل أجوراً مما ينبغي.فالدفع هو على أساس ساعات العمل وهي 120 ساعة أساسية شهرياً بعد إستقطاع التأمين الإجتماعي ومساهمتي لصندوق التقاعد (على الرغم من لدي مشكلة في تقيم فائدة تلك الأخيرة).ولكن أن تكون عاملاً متميزاً في مؤسسة متميزة هو شيئ جيد بحد ذاته، فليس بإمكانك أن تطالب بالمزيد من المرتبات فوق كل ذلك.
عندما أفكر بذلك فأنني أقتنع بأني في فترة لاحقة من حياتي سأكون نقابية عمالية.أو ربما ثورية.وفي اليوم الذي سأصبح فيه ذلك، فأنهم سيضيفون صفرين إلى كل صكوك الراتب، أو ربما لن يكون هناك صكوكاً أساساً، وسوف لن يكون المال ذلك الشيء الغريب الذي من أجله يمكن أن أكون مستعدة للعب دور البهلوان (ظاهرياً، مع بعض الشطارة)، بين تلك الممرات التي تفوح منها روائح الصابون ومساحيق الغسيل والعطور الباهظة الثمن.في ذلك اليوم لن يشعر أحد بالمهانة لمجرد أنه فقير ولن يكون هناك مؤسسة تدار كدكتاتورية صغيرة.
أحلم.
أعرف أنني أحلم، ولكن تلك هي تركيبتي التي أنا عليها.في لحظة من الشعور المفرط بالزهو (أحيانا يراودني ذلك) كتبت: لست على قناعة فيما أذا كنت أحيا، ولكني أعرف أني احلم.
(حلم رقم 1.سلسلة من الأفكار، الصور، الإنفعالات، تمر عبر عقل الشخص وهو نائم.2. تصورات غير واقعية أو خادعة.)
في قاموسي الشخصي كنت سأضيف:نقاشات لا نهاية لها مع صديقاتي، توقعات حميمية عن المستقبل، صياغة أفكار حول الحياة الحقيقية التي تنتظرنا هناك.كل ذلك يأتي مع قرارات مؤلمة بشأن المساومة:مالذي سنفعله بعد الجيش؟ستة اشهر، أو عام في سفر للخارج-إلى أمريكا اللاتينية، أو الهند، مثل الكثيرين من الأشخاص، لكي يتخلصوا مما علق في رؤسهم؟أم الدراسة أولا ومن ثم الرحلة الكبيرة بعد ذلك؟نعم ولكن اذا ما صادفنا رجلاً، الرجل المثالي بينما نحن نجلس لإمتحان البكلوريا، فهل سنقول وداعاً للأبد لرحلة الحياة تلك، لحرية الشفاء التي نحلم بها، في مكان ما بعيد، في قارة لا يتواجد فيها ما يذكرنا بالأشياء التي نعرفها؟ومالذي سندرسه؟ العلاقات الدولية؟ التاريخ؟دراسات الإتصال؟لكي نصبح ماذا؟دبلوماسين؟صحفيين؟موظفي علاقات عامة؟ ماهي الحياة التي سنعيشها؟المستقبل يبدو غامضاً، وغير واضح المعالم، أما نحن فنريده أن يكون مختلفاً تماماً عما نعيشه الأن.آه، لو كانت هناك عصاً سحرية لكي تأتي به مدهشاً، وجميلاً، ولكي تجعل كل العالم في غيرة.المستقبل بالنسبة لـ”راحيل”، ولـ”يوليا” ولي، ويا للعجب، هو أشبه بكلمة إنتقام.
تأتيني كل تلك الأفكار وأنا أقود دراجتي نحو “اكسترافارم”.أفكر بأصدقائي الذين هم مختلفون جداً، لكنهم بالنسبة لي على نفس الدرجة من الإهتمام.أفكر بأني أستحق فعلا الإجازة في “إيلات” و”البحر الأحمر” والتي نخطط أن نقوم بها بعد إمتحان البكلوريا.(عندما تكون يداي ملطختان بالسخام الأسود نهاية هذا اليوم، فذلك يعني أني قد حصلت على ما يعادل نصف إيجار ليلة واحدة في مركز إستضافة الشباب).أفكر في أن مدة خدمتنا في الجيش ستكون مثل إنحراف عابر، فقرة إضافية في حياتنا، لاندري ما الذي سيكون فيها.أفكر بأني سأمر بمشاكل كثيرة لكي أتمكن من التفكير، دائماً، كما أفعل الأن، في دوامة كبيرة، لانهائية، أفكر دائماً بالغد، لكي أكون مطمئنة باني لا أفكر بشأن حقيقة أن “جين-ديفيد” ذهب إلى العيش في القدس قبل أسبوع ولم يتصل بي منذ ذلك الحين.
****

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *