صفوة القول (11)
مختارات من اراء وقضايا
خيار واحد للإصلاح
صلاح النصراوي
نشرت في الحياة 19-3-2005
تريثنا كثيراً، زملائي وأنا، في المؤسسة الصحافية التي اعمل فيها، قبل وصف قرار الرئيس المصري حسني مبارك الطلب الى مجلسي الشعب والشورى تعديل الدستور ليتيح اختيار الرئيس بالاقتراع العام والسري والمباشر بدلاً من طريقة الاستفتاء على شخص واحد المتبعة منذ عقود. هناك في جعبتنا نحن العاملين في الصحافة تعبيرات جاهزة لمثل هذه الحالات، كأن نصف الخطوة او الحدث بأنه مفاجىء أو مهم أو بارز أو غير مسبوق، واحياناً كثيرة نقول انه تاريخي، وكلها تعبيرات نستلها على عجل من خزانة لغة الحرفة التي نغرف منها في كتابة الخبر. غير ان مغزى الخطوة التي أقدم عليها مبارك كانت بكل المعايير اكبر من ان تختزلها «كليشيهات» صحافية. وكلما امعنا في الأمر حينها مستعيدين تاريخ هذا البلد العريق وجدنا امامنا حقيقة دامغة وهي أنها المرة الاولى التي سيتاح فيها للمصريين اختيار رئيسهم بأنفسهم منذ عهد الأسرة الاولى التي وضعت مداميك الدولة المصرية القديمة قبل أكثر من خمسة آلاف عام.
والواقع ان ما بدا في حينه حدثاً مصرياً يحتاج الى توصيف موضوعي ودقيق كان حدثاً عربياً ايضاً، لأنه كشف لحظتها كيف ان منطقة مهمة في هذا العالم كالمنطقة العربية كانت مهد الحضارات الانسانية ظلت كل هذه القرون تهجع في كهف الحكم الفرداني والتسلط والدكتاتورية والشمولية وترفض بعناد دخول العصر من بوابات الحرية والديموقراطية بينما لا تزال شعوبها غير قادرة على اختيار حكامها في انتخابات حرة ونزيهة. وفي حين ان موجات الديموقراطية، العارمة تتوالى على مختلف بقاع العالم منذ عقود طويلة حتى ان الديموقراطية التمثيلية التي تعبر بها الجماهير عن ارادتها في اختيار ممثلين ينوبون عنها لحكمها وادارة شؤونها اصبحت نمطاً شائعاً حتى في بلدان لم يكن لها وجود على الخارطة العالمية منذ سنين قليلة.
لا نعرف على وجه اليقين نتائج الخطوة التي اقدم عليها مبارك على الواقع المصري، وهي لن تكون في التحليل النهائي معزولة عن خطاب التغيير والتطوير والاصلاح الذي يسود المنطقة منذ عامين ولا عن سلسلة التطورات الهائلة منذ تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر) 2001 ثم الحرب على العراق عام 2003، على رغم أن البعض سيصرّ على رفض مثل هذا الاستنتاج. فهي جاءت بعد اسابيع من الانتخابات الفلسطينية والعراقية والسعودية وقبل يومين فقط من الهبّة الشعبية التي اسقطت حكومة عمر كرامي في لبنان ثم اجبرت الرئيس السوري بشار الاسد بعد ذلك على اعلان استعداده للانسحاب من لبنان. وقبل كل ذلك أتت بعد سلسة خطوات اصلاحية اتخذها بعض دول الخليج ومبادرات خارجية وداخلية اتخذها الزعيم الليبي معمر القذافي وتوقيع حكومة الخرطوم على اتفاق السلام مع الجيش الشعبي لتحرير السودان وابدائها الاستعداد لمصالحة وطنية مع اطراف المعارضة الشمالية… وهذه كلها كانت جزءاً يسيراً من استحقاقات على المنطقة طال انتظارها.
الاسئلة الآن كثيرة وكلها تتمحور حول ما اذا كانت منطقتنا التي ظلت انظمتها التسلطية عقوداً طويلة تقاوم رياح الديموقراطية والحرية قد لانت أخيراً واستسلمت لقدرها أم انها لا تزال عصية على التغير والاصلاح وما هذه الخطوات سوى انحناء عابر ريثما تلقي تلك الرياح بثقلها؟من المؤكد أن اليقين في الاجابة على هذه الاسئلة هو مسألة محفوفة بالمخاطر، كما ان من المبكر جداً اعلان هزيمة الانظمة والجماعات والافكار الاستبدادية والتسلطية والشمولية التي لا تزال تهيمن على الحياة العربية وترفض ان تنكس رايتها امام زحف الحرية الذي بدأ يدب في شوارع العديد من المدن العربية. ففي العراق وعلى رغم النتائج الباهرة للانتخابات، إلا أن اعداء الديموقراطية يصطفون على مختلف الجبهات ويقبعون في مختلف الخنادق يحاولون الانقضاض على الوليد الجديد. وفي فلسطين لا يزال التحدي الاكبر امام بزوغ شمس الحرية هو قيام دولة فلسطينية مستقلة تمنح لحياة الانسان الفلسطيني معنى وكرامة. اما في لبنان فإن امام انتفاضة الاستقلال مشواراً لا يزال طويلاً قبل ان تتحول فيه الى سلطة الشعب الحقيقية بعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية والسياسات الفئوية ومصالح امراء الحروب والمليشيات الذين سيحاولون ثانية العودة بلبنان الى عهد الهيمنة والاحتراب. وفي كل مكان آخر في هذا العالم العربي خطت الانظمة خطوة واحدة الى الامام على طريق الاصلاح والتطوير هناك تهديد حقيقي بخطوتين الى الخلف في اللحظة التي تضعف فيها ارادة المطالبة بالتغيير.
ان فهم عملية الاصلاح الجارية وتوصيفها الوصف الصحيح مطلوب اولاً لتفادي الوقوع في أحابيل الانظمة التي تطبل للخطوات الصغيرة التي تقوم بها باعتبارها منجَزاً ديموقراطياً تمن به على شعوبها وليست حقوقاً لهذه الشعوب طال أجل سدادها. وثانياً لتجنب الإغراق في التفاؤل بأن عصراً من الديموقراطية والحرية قد حلّ اخيراً بين ظهرانينا بعد كل عقود الاستلاب والقهر. إن ما يجري في عالمنا العربي في الحقيقة هو مطلع لمشهد خلاب،على جانب منه نرى شعوبا تتطلع إلى الانعتاق وتسعى اليه، وعلى الجانب الآخر، حكومات وانظمة بدأت تقر بعدم قدرتها على تجاهل هذه المطالب او لجمها لكنها تسعى الى احتوائها بالطرق الاحتيالية التي تجيدها. ما يعنيه هذا هو ان الطريق لا يزال شاقاً ووعراً ويحتاج الى ما هو أكثر من التمنيات والنيات الطيبة او حتى الالحاح اللجوج في المطالب التي بدأ يعبر عنها تيار عام داخل المجتمعات العريية. فالمهم اليوم هو إدراك الاشكاليات التي تواجه عملية التحول الديموقراطي في العالم العربي والتعامل معها بجدية ورصانة بعيداً عن كل اشكال التسويف والذرائعية والضبابية وخلط الامور وعلى اعتبار ان الفشل او حتى التأخر في انجاز هذا التحول سيكون وصفة اكيدة للارتداد الذي سيسلم العالم العربي هذه المرة إلى القوى الظلامية التي تعشش فيه.
اول هذه الاشكاليات هو العلاقة بين الداخل والخارج في العملية الديموقراطية التي تستغلها الانظمة لاغراض سافرة في التحريض والابتزاز والترهيب والتي نجحت الى حد كبير في نشر الاوهام بان دمقرطة المنطقة واصلاحها هو مطلب خارجي وبالذات أميركي ولمصلحة اجندات اجنبية. ان الديموقراطية برموزها وقيمها ومؤسساتها هي حاجة وطنية خالصة عبرت عنها النخب العربية التي خاضت معارك الاستقلال ضد الاستعمار مثلما تعبر عنها نخب اليوم المقاومة للهيمنة. ومن الضروري فضح محاولات التشكيك والاتهام لدعوات الاصلاح بأنها معبرة عن مصالح واهداف اجنبية. فالوقائع الحية تشير الى ان معظم هذه الانظمة لم يكن بإمكانها الاستمرار في الحكم طوال هذه السنوات من دون عون واسناد خارجي، بينما كانت هي تضرب بعرض الحائط كل القوانين والدساتير ومعايير الحكم الصالح ومواثيق حقوق الانسان الدولية التي انتجتها البشرية. وبالتالي فإن من استقوى بالقوى الخارجية ضد شعوبه طوال كل هذه السنين لا يمكنه الآن الادعاء بأن المطالبة بالاصلاح هو عزف على نغمات خارجية لمجرد أن الولايات المتحدة وجدت في لحظة ما ان حماية امنها القومي ضد الارهاب يتطلب تعزيز ونشر الديموقراطية في المنطقة.
وفي هذا الاطار يندرج ايضاً ما يطرح بشأن اشكالية الخصوصية الوطنية والبيئة المحلية ودعاوى التناقض بينها وبين مبادرات الاصلاح المطروحة على المنطقة وكأن التطوير والتحديث واقامة ديموقراطية حقيقية واحترام حقوق الانسان وكرامته وتوسيع فرص مشاركة المرأة والشباب وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة والقضاء على الفقر ومكافحة الفساد ليست قيماً عليا أصيلة للعرب ومطالب يرفعونها منذ اول مشاريع للنهضة طرحها مفكروهم قبل قرنين من الزمن. ان دعاوى المرحلية والتدرج وعدم حرق المراحل وعدم اختبار المجتمعات العربية لطرق الحداثة وغياب المشروع الليبرالي تستخدم ايضا ككوابح لعرقلة عمليات الاصلاح وكثيراً ما تطرح ابواق السلطة مبررات اخرى كعدم جاهزية المجتمعات العربية وافتقارها للوعي السياسي وعدم نضجها الثقافي لقبول مشاريع التطوير وكلها ليست إلا تبريرات فاسدة وادعاءات استخدمت ولا تزال لاطالة عمر الاستبداد.
مع ذلك ينبغي الاعتراف بأن المنطقة العربية تعاني وعلى المستوى الجماهيري من حالة استلاب مرضي فظيع يتمثل في حالات من اللامبالاة والقدرية والتشكيك والارتباك والتي هي نتاج خيبات الامل المتتالية بقدرات وارادات انظمتها على الاصلاح والتخلي عن النزعات الشمولية والاحتكار. ولطالما شاهدتُ بنفسي اثناء انتخابات جرت في بلدان عربية عديدة أناس يأنفون من الذهاب الى مراكز الاقتراع وهي على بعد بضعة امتار من بيوتهم للادلاء باصواتهم معللين مواقفهم تلك بعدم ثقتهم بنزاهة الانتخابات وبنتائجها التي يرون انها مقررة سلفا من قبل النظام. ان استعادة ثقة الناس بجدوى عملية الاصلاح هي أمر جوهري لكنها عملية لا يمكن ان تقوم بها الانظمة التي لا ترى لها مصلحة في ذلك، بل يتطلب الأمر تطوير واحياء ثقافة ديموقراطية جماهيرية كانت دوماً عاملاً حاسماً في نشأة الديموقراطية وتطورها وتماسكها. حقا ان الشعوب دائما ما تثور كالبراكين عند لحظات تاريخية معينة لكن موجات الديموقراطية تحتاج الى ما هو اكثر من الغضب،الى ثقافة وسلوك وقيم ديمقراطية بامكان مؤسسات وكتابات ان تغرزها في النفوس التواقة،والمجتمعات العربية هي الاكثر حاجة الآن وبشكل استثنائي الى الخروج من حالة الياس والاحباط وزجّها في صلب العملية الجارية.
هناك أيضاً قضية غياب النخب المهيأة لقيادة مطالب الاصلاح والتحديث والتي تعتبر من المستلزمات الاساسية لنجاح هذه العملية التي ينبغي ان تتمحور على مستوى شعبي وقاعدة جماهرية اجتماعية عريضة خارج اطارات الدولة الرسمية وأجهزتها السياسية التي ستحاول بكل قوة الالتفاف على مطالب التغير أو افراغها من محتواها وتسخيفها. لقد أضعفت سياسات الهيمنة والاقصاء والاحتكار التي مارستها انظمة الحزب الواحد وتدخلات اجهزتها الامنية والبيروقراطية الاحزاب والهيئات والنخب السياسية الاخرى وانهكتها حتى بدت في معظم الاحيان مهمشة ومهزوزة ومخترقة وفي صورة كاريكاتورية مقززة لا يمكنها ابداً الحصول على ثقة الناس بقدرتها على مواجهة السلطة وقيادة الحركة الاصلاحية. ان اولى خطوات الاصلاح ينبغي ان توجه الى رفع يد الدولة وكل اجهزتها عن الاحزاب وهيئات المجتمع المدني والكف عن الوصاية التي تمارسها عليها ومحاولات اختراقها باشكال مباشرة او غير مباشرة. ان عمليات توسيخ وتوحيل القيادات التي تتصدى لقيادة حركات الاصلاح، ومحاولات نزع الشرعية والاسناد الشعبي عنها، هي محاولات خطيرة لأنها لن تؤدي إلا الى تحول الحركة الاصلاحية الى الشارع الذي سيأخذ حينئذ المبادرة بيده وهناك مؤشرات عديدة على ذلك.
ما لذي يجعل الأمر مهماً بل خطيراً الى هذه الدرجة؟ انه الموقف الحساس والحرج الذي تمر به المنطقة العربية بعدما فشلت انظمتها في القيام بواجباتها في تلبية كل متطلبات الحياة الحرة والكريمة لشعوبها وآلت بها الى هذا التداعي والعجز امام التحديات الداخلية والخارجية. انها المخاوف والمخاطر التي تكمن وتتربص بالاوطان وتندس في كل ثناياها وفي ارواح شعوبها التي سوّدها القهر والعسف والطغيان. ومن المؤكد ان هناك خيارا للتغير والاصلاح غير خيارات صدام حسين أو قرار 1559 أو حتى مبادرة الشرق الاوسط الكبير. انه ببساطة خيار الخروج من دائرة التسلط والاحتكار والوصاية والتخلي عن الاعيب السلطة واتخاذ انصاف الخطوات. إنه خيار الانصياع لارادة الشعوب العربية ولتطلعاتها في أن تعيش مثلها مثل باقي شعوب العالم بحرية وكرامة ورفاه وسلام.