دولة علي بابا

 

 cover 5

(15)

                                     ويسألونك عن الالحاد

لم تقتصر الأثار الخطيرة التي خلفها الفساد على البنى السياسية والاقتصادية والأمنية وانعاكسات كل ذلك في الدمار الشامل الذي الحقته منظومة الحكم التي قادتها احزاب وجماعات الاسلام السياسي في العراق منذ استلامها للسلطة بعد انهيار نظام “صدام حسين” الشمولي.فقد طال ذلك الانهيار بشكل لا يقل دمارا البنى الدينية والثقافية والاجتماعية والأسس الروحية والعقائدية التي رسخت في عقل ووجدان الأمة العراقية عبر آلاف السنين.ففي بلد نشأت فيه الاديان وتجذرت العقائد الروحية وكان مهبطا لأولى الرسالات السماوية التي حملها ابراهيم فقد ظل العراقيون طيلة القرون من اكثر الشعوب التي تتشبث بالايمان الروحاني على اختلاف منابعه وتؤيلاته كما تحافظ اغلبيته على العيش في الفضاء الروحي الذي تدعمه ايضا القدسية التي يمنحها هذا الماضي الديني العتيد وتظمه مرابع مقدسة  للاديان المختلفة على طول البلاد وعرضها.

كان واضحا منذ البداية ان الجماعات السياسية ذات الاتجاه الإسلامي سوف تستغل الوضع الجديد لفرض ثقافة وحالة عامة تنسجم مع توجهاتها الدينية المتشددة، واجندتها الطائفية، وهو ما عبرت عنه بالكثير من النصوص التي فرضتها في متن الدستور الجديد وفي ديباجته.ولقد سعت هذه الجماعات بعد ذلك وبكل ما اوتيت من سلطة وقوة وثروة تمكنت منها في الوضع الجديد لكي تفرض على المجتمع حالة من التسلط الديني وطقوسه وممارساته تجاوزت فيها كثيرا نص وروح الدستور وأسس العملية السياسية القائمة على التوافق، والتعددية، والتنوع الثقافي في مسعى منها للهيمنة وفرض الأجندة الواحدية الضيقة التي كانت تخفيها على مجتمع كان منفتحا طيلة عقود طويلة على الأديان والمذاهب والثقافات المتعددة الى حد كبير.

ان تاريخ هذه المرحلة سيسجل ان الجماعات الدينية السياسية التي تحكمت في مصير العراق منذ عام 2003 اعادت ارتكاب نفس الحماقات والخطايا التي ارتكبت في اماكن عدة وفي مراحل اخرى في تاريخ البشرية، الا وهي محاولة وضع الدين ازاء التفكير العقلاني والتنوير والحريات والحقوق الطبيعية للانسان والهيمنة على الفضاء العام وقتل الفرادة بكل نواحيها الفكرية والثقافية والروحية مما استدعي ردود افعال عكسية خلقت الكثير من التناقضات الثقافية والارتدادات الفكرية التي كانت نتيجتها تأجيج الصراعات المجتمعية.

تشير دراسات عديدة تناولت قضايا تاريخ الدين والتدين ونزعة الايمان عند البشر ومبرراته الى ان هناك علاقة سببية بين الارتدادات الروحية والايمانية التي تحصل في المجتمعات وبين تصاعد درجة العداء لرجال الدين، او الجماعات الدينية التسلطية، الذين يتجاوزن مهماتهم الروحية الى فرض مؤسسات كهونيتة ترعى برامج ومشاريع سياسية، او مصلحية، وتنغمس في الفساد بكل انواعه المادي والاخلاقي.وهناك بحوث عديدة اشارت الى ان انتشار الالحاد في اوربا في العصور الوسطى لم يكن ردا فلسفيا بانكار وجود الله، بل كان بالاساس موقفا اجتماعيا سياسيا لمواجهة الطغيان الكنسي، وهيمنة رجال الدين على المجالين الخاص والعام.ولم يقتصر الأمر على مجرد تحول الالحاد انذاك الى نزعة رفض، او تمرد على الاستبداد الديني فحسب، وإنما ادى الى ان يتحول الالحاد إلى شكل نضالي في الصراع ضد الكنسية، مما يظهر حيوية العامل السياسي كدافع رئيس من دوافع التمرد ضد الكنيسة الذي وصل الى حد الالحاد.وتؤكد دراسات بحثية عديدة اجريت حول تلك الفترة ان نسبة كبيرة من الملاحدة في اوربا عانوا من فترات قنوط ويأس ادت بهم إلى الشكوك والمسائلة الروحية، وهو ما يدل على الدور الاساسي الذي يلعبه الشعور النفسي بالاحباط والتأزم الذاتي في الاتجاه إلى الالحاد.

وبعيدا عن اوربا فقد تم رصد زيادة مؤشرات الالحاد في العالم العربي اثر فشل الثورات العربية التي تفجرت نهاية عام 2010 وبداية عام 2011 والهجمة المضادة التي قامت بها القوى الدينية، والجماعات المتطرفة، لكي تهيمن على الفضاء الاجتماعي.واذا كان التاريخ قد سجل ارتفاع وتيرة الالحاد اثر الثورة الفرنسية عام 1789 بسبب الموقف الذي اتخذته الجمهورية من الكنيسة والاكليريوس الكاثوليكي، فان تزايد حدة الالحاد في العالم العربي عقب الربيع العربي لا بد ان يعزى الى انتشار حالة الخيبات والضياع وفقدان الرجاء بين الشباب العربي، وهي المشاعر التي تؤثر بشكل مباشر في اتخاذ قرار الالحاد لأنها تنعكس على تصور المرء لمفهوم الإله بالصورة التي تشيعه الجماعات الدينية.(1)

واذا ما عدنا للحالة العراقية فانه بالرغم من غياب الدراسات والبحوث العلمية والميدانية والاحصاءات الدقيقة، فلا تبدو الحالة مختلفة، وخاصة في عزو اسباب الظاهرة الى حالات اليأس والقنوط التي اصابت العراقيين، وخاصة الشباب نتيجة لممارسات الجماعات الدينية السياسية التي تربعت على دست السلطة ومارست ابشع انواع الفساد بغية الاحتفاظ بها.وتسجل وقائع كثيرة وردت خلال السنوات الماضية عبر مختلف وسائل الاعلام الوطني والأجنبي وشبكات التواصل الاجتماعي والحالات العيانية المسجلة شيوع الالحاد في العراق بشكل لم يسبق له مثيل نتيجة لذلك.من العسير الوصول الى أرقام دقيقة عن عدد الملحدين في العراق لأسباب عديدة، لكن النشاطات التي يقوم بها اصحاب هذا الاتجاه، وبالذات على مواقع الاتصال الالكتروني، تكشف عن حجم ليس بالصغير، وخاصة في الأوساط الشبابية.وفي استفتاء اجراه موقع “اكا نيوز” المتوقف والذي كان يتخذ من اربيل مقرا له عام 2011 ونشره الباحث الامريكي “خوان كول” على مدونته واسعة الانتشار، اشار الى ان 32 بالمائة من العراقيين ابدوا شكوكا في وجود الخالق في حين ان 11 بالمائة لا يؤمنون بوجوده من الأساس.(2)

من البديهي ان هناك سببا آخر اساسي يرتبط بهذا الظاهرة، الا وهو العنف الذي مارسته الجماعات الاسلامية المتشددة والتنظيمات الارهابية، كالقاعدة وداعش وسلوكيات وممارسات التوحش الذي اظهرتها المنظمة الأخيرة، وهو ما دفع بعض الناس الى التشكيك في مبادئ الاسلام وقيمه الاساسية.غير ان هذا النوع من ردود الفعل يرتبط ايضا بالفساد الذي مارسته جماعات الحكم والذي ادى بدوره الى توفير حاضنة للارهاب.وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية قد اشارت في تقرير عن الظاهرة نشر عام 2008 الى ان بروز الالحاد في العراق يرجع غالبا الى ازدياد العنف مما يدعو الشباب العراقي الى التشكيك في المعتقدات الدينية التي تقف وراءه والتي يروج لها المتطرفون والارهابيون، لكنها نوهت ايضا، وفق شهادات من طلاب ومدرسي جامعات عراقية التقت بهم، الى ان التشكيك المتزايد بالقيادات الدينية التي تستخدم الدين في السياسة، اضافة الى فساد الجماعات الدينية الحاكمة، يشكلان عاملان آخران مهمان في تنامي التشكيك في المعتقدات الدينية او رفضها.(3)

من المؤكد ان هناك صعوبة في القبول بنتائج الاستفتاء المذكور لاسباب تتعلق بالجهة المستفتية وبالمنهجية التي لم يتم التأكد منها والاهم من ذلك من عينات المستفتين.كما قد يكون من الصعب تصديق وجود هذا العدد الكبير من الملحدين واللادينيين في العراق، ومن المحتمل ايضا ان هناك ميل لتوظيف هذه القضية اعلاميا من جهات عديدة داخلية وخارجية في معالجات سياسية، او قد يتعلق الأمر باستخدامها في مبررات طلب اللجؤ من بعض العراقيين الى الدول الغربية، الا ان الأمر يبقى مثيرا للاهتمام اولا على ضؤ مساهمات عدد كبير من الافراد العراقيين على شبكات التواصل الاجتماعي من الذين يدعون الالحاد او اللاادرية او المتشككين والتي تظهر وجودا نشطا لهم على مستوى التشبيك الجماعي، وثانيا ما تكشفه هذه الظاهرة من انعاكسات للممارسات السلبية واللاخلاقية للاحزاب والجماعات الدينية التي هيمنت على السلطة والتي تعتبر فعلا عاملا منفرا، وخاصة للشباب للابتعاد عن الدين.

وعموما، فان واقع الحال يشير الى تنامي التيارات العلمانية والمدنية التي ترفض الاسلام السياسي ومناهجه وممارساته، وهو رفض نابع من رد فعل تجاه ما يحصل من فوضى امنية واستعصاء سياسي وانهيار اقتصادي وغياب الخدمات وهيمنة سلطات متعددة على الفضائين السياسي والاجتماعي مع ضياع الأمل بالتغير والتقدم والارتقاء والعدالة بسبب تفشي الفساد وانتشار الرشوة والمحسوبية السياسية والطائفية.ان خير دليل على تنامي الابتعاد عن الجماعات الدينية هو حركة الاحتجاجات التي شهدها العراق خلال السنوات الاخيرة الموجهة اساسا ضد رموز الجماعات الاسلامية الحاكمة، وتناقص اعداد المشاركين في الانتخابات البرلمانية والمحلية  خلال السنين الآخيرة.(4)

وادراكا منها للمخاطر التي تشكلها هذه الظاهرة على نفوذها وخاصة في كشف زيف ادعائتها بتمثيلها للدين والدفاع عن اسسه الايمانية والاخلاقية فقد انبرت قيادات الجماعات الدينية السياسية المتسلطة الى التنديد واطلاق الوعيد ضد الملحدين وتمادوا في تهديداتهم ضد اللادينيين او العلمانيين، بل وشملت تلك التهديدات احيانا كل من يدعو للدولة المدنية والديممقراطية والحريات.وفي مسعى لخلط الأوراق ومحاربة التيارات السياسية التي تدعو الى تأسيس دولة مدنية في العراق فقد لجأت قيادات الجماعات الاسلامية السياسية الى تشويه صورة دعاة الدولة المدنية الذين تمكنوا من كسب تأييد وتعاطف اغلبية كبيرة من العراقيين المستائين من الفساد من خلال دمغهم بالالحاد واللادينية والعلمانية وغيرها من العبارات التي تستخدم عادة للتجريح وكيل الاتهامات الكيدية للخصوم.

ففي مقابلة تلفزيونية هاجم “علي الاديب” القيادي في حزب الدعوة من سماهم العلمانيين بانهم “عملاء فكريين لنظام او انظمة او منظمات فكرية معينة” وذهب الى ابعد من ذلك في ترديد الاتهامات بان العلمانيين “هم بالاساس معادين للاسلام والاديان”.وفي اشارة تتعلق بصلب الموضوع الذي يرتبط بالعلاقة بين تفشي الفساد والرفض الشعبي العارم الذي توجه التيارات المدنية اضاف الاديب المعروف بكونه احد صقور الحزب بان العلمانيين يحاولون استغلال زلات المجموعات الاسلامية التي تمسك بالسلطة لاثارة الرأي العام ضدهم.(5)

غير ان بعض قيادات الجماعات الحاكمة والمتنفذة اقرت بان الفساد الذي طال كل مناحي الدولة والمجتمع كان ايضا من عوامل ظهور الالحاد خلال هذه الفترة.ففي كلمة له في واحدة من الامسيات الرمضانية في ايار (مايو) 2017 هاجم رئيس “التحالف الوطني العراقي” “عمار الحكيم” شيوع ظاهرة الالحاد في المجتمع العراقي كما حرض على الملحدين بالضرب بيد من حديد، الا انه مع ذلك اقر بان شيوع ظاهرة الالحاد ترتبط بظاهرة الفساد في المجتمع “كمصداق من مصاديق الظلم، خاصة اذا ضربت الرشوة احد مفاصل القضء”. بل ان ممثل السيد السيستاني الشيخ “عبد المهدي الكربلائي” ذهب ابعد من ذلك حين ربط بين شيوع الالحاد وبين الفشل في الاداء الحكومي والتدهور الاقتصادي في البلد.(6)

وفي شهادة لافتة، على فشل حكم الجماعات الإسلامية لانها تأتي من أهل الدار، يشير الكاتب “غالب الشابندر” الذي كان احد المنخرطين في تيار الاسلامي السياسي العراقي لسنوات طويلة قبل انشقاقه ،الى ان “الاحباط وممارسات احزاب الاسلام

السياسي” تقف وراء انتشار الالحاد في العراق.ويظيف في تلك الشهادة التي لا تخلو من قسوة:”اصبح حكم  الكافر العادل افضل من حكم الأحزاب الاسلامية في العراق”.(7)

ان الخلط بين مفهومي الالحاد واللادينية والعلمانية والدعوة المدنية هو منهج انتقائي معروف لدى الجماعات الاسلامية المتشددة، وهدفه هو بث الخوف والرعب في صفوف معارضيهم من منقدي ممارساتهم المنافية للدين ورسالته الانسانية وقيمه العليا كما ينطوي ايضا على تحريض الشرائح الاجتماعية البسيطة، وذات الثقافة  المتدنية ضد المدنيين من خلال اتهامهم بالعلمانية او الالحاد.والأهم من كل ذلك فان ما تسعى اليه الجماعات المتسلطة هو تطويق الرفض الشعبي العارم لسياسات استخدام الدين، ليس فقط في السيطرة على الدولة والهيمنة على مقدرات المجتمع، وانما ايضا في استمرار سياسات النهب المنظم للثروات الوطنية.

ومع انها استمرت بالهجموم على التيارات المدنية ووصمها بالعلمانية وبالالحاد، الا ان الجماعات الدينية اضطرت الى ركوب الموجة المدنية والادعاء بتبني شعارتها الأساسية في المواطنة والدولة المدنية ومحاربة المحاصصة والفساد.ان جنوح هذه الجماعات الى التدليس والنفاق من خلال الادعاء بتأييدها للشعارات المدنية لم يأتي الا نتيجة الزخم الذي وفرته حركة القوى المدنية والاحتجاجات والمظاهرات التي نظمتها بدء من عام 2011.وفي الحقيقة لم تكن محاولات القوى الدينية للالتحاق بركب دعاة الدولة المدنية صادقة وحقيقية، بل كانت تكتيكات تمليها دوافع انتهازية ومحاولة ركوب الموجة، وخاصة بعد ثلاث سنوات من الحرب الضروس التي شنت على تنظيم داعش الارهابي والتي كشفت بدورها حجم الفساد الذي كان وراء المكاسب التي حققها التنظيم عام 2014، كما انها جاءت قبل عام من الانتخابات البرلمانية الحاسمة في ربيع عام 2018 التي اشارت التقديرات الى توفر الفرص لحركة التيار المدني بان يحقق نجاحات فيها.

ربما كانت قضية الالحاد في العراق مبالغ بها، او حتى مفتعلة، كما اشرنا، الا انها بالتأكيد كانت من العوامل التي كشفت عن جانب مهم في قضية الفساد الذي اصبحت عليه الجماعات القابضة على سدة الحكم والتي ساقت العراق بالنهاية الى ذلك الحضيض الذي اصبح عليه.وبقدر ما يتعلق الامر بموضوعة الدين الذي جعلته جنبا الى جنب السردية الطائفية التي اوصلتها الى كراسي السلطة، فقد اثبتت هذه الجماعات انها بممارساتها اللصوصية وجشعها لم تنزع عن العملية السياسية التي قادتها جوانبها الاخلاقية وموازين العدالة التي يجب ان تقوم عليها فقط ،بل انها اشاعت مناخا مشككا، او حتى معاديا، للدين الذي جاءت باسمه الى السلطة.(8)

قد لا يشكل الالحاد ظاهرة كبيرة في العراق لكن الاكيد ان منظومة الفساد المرتبطة بالتسلط باسم الدين والاستبداد السياسي ستفتح الطريق الى المزيد من الانهيارات النفسية والاجتماعية عند العراقيين والى غرس المزيد من بذور الشر في المجتمع العراقي وهي كلها عوامل تصب في مجرى عملية انهيار العراق وتفكيكه.

 

 

                        هوامش ومراجع ومصادر الفصل الخامس عشر

 

1-انظر،” في دوافع الالحاد، موقع الجزيرة” ، ميدان، 25 تموز 2017

استعراض لثلاثة كتب وهي:

“الإلحاد في الغرب”، رمسيس عوض

و”سيكولوجية الإلحاد” بول فيتز

و”الإلحاد وأسبابه: التاريخ الأسود للكنيسة”  زينب عبد العزيز

http://midan.aljazeera.net/intellect/sociology/2017/7/25/%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D9%88%D8%A7%D9%81%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AF

2-انظر:”موت الإله في العراق، 32% يعتقدون انه غير موجود و11% غير متأكدين” مدونة خوان كول، (بالانكليزية)، بلا تاريخ

 https://www.juancole.com/2014/02/death-iraqis-exists.html

3-انظر:”عراقيون:الإلحاد ينتشر بسبب الفساد الحكومي والموت المجاني”، موقع ايلاف،  12/8/2017

http://elaph.com/Web/News/2017/8/1162319.html

انظر كذلك:”العنف يجعل الشباب في العراق يشككون في رجال الدين، نيويورك تايمز، 4/3/2008

http://www.nytimes.com/2008/03/04/world/middleeast/04youth.htm

انظر ايضا:”الالحاد في العراق بين الواقع والمبالغة، عماد جاسم، طريق الشعب،5 تموز 2017

http://www.iraqicp.com/index.php/sections/2016-04-17-20-22-47/60689-2017-07-05-18-07-44

4- انظر:”المجتمع العراقي اسلامي وليس علمانيا”، علي الاديب، المسلة

http://almasalah.com/ar/News/110333/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D9%8A%D8%A8-%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%81%D8%B9-%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82

انظر ايضا:”العلمانية دخيلة على العراقيين والشعب العراقي هو اصلا شعب اسلامي”، علي الاديب ، الحوار 8 آب 2017

http://ahewar.org/rate/ys.asp?yid=2766672

 5-انظر:”الحكيم يحذّر من شيوع الإلحاد في المجتمع العراقي، جريدة الصباح الجديد 30 آيار 2017

http://newsabah.com/newspaper/123513

6-انظر:”شبكة اخبار العراق، غالب الشابندر:زيادة نسبة الإلحاد في العراق نتيجة ظلم وفساد الأحزاب الإسلامية، موقع العراقية نيوز،  2 اذار 2017

http://aliraqnews.com/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%AF%D8%B1%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82

انظر ايضا: “ممثل السيستاني:من نتائج الأخطاء الحكومية انحراف الشباب وانتشار الإلحاد، موقع سومر نيوز، 29/12/2017

http://sumer.news/ar/news/24712/%D9%85%D9%85%D8%AB%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AF

7-“مستقبل العلمانية في العراق”، مركز الحريري لدراسات الشرق الاوسط، المجلس الاطلسي، واشنطن

http://www.achariricenter.org/future-of-secularism-in-iraq-ar/

8-انظر:”هل يستطيع العراق الانتقال الى ما بعد الطائفية، صلاح النصراوي ، الاهرام ويكلي، 3/8/2017

http://weekly.ahram.org.eg/News/22086.aspx

 

دولة علي بابا

 cover 5

(14)

                      … وحين يصبح الفساد في العراق قضية دولية

نهاية شهر أذار (مارس)  2016 وبينما كانت بغداد تعيش ساعات حرجة بانتظار ما سوف تسفر عنه محاولات اخراج سنياريو لانقاذ البلاد من الأزمة الوزارية الطاحنة جراء اخفاق حكومة “حيدر العبادي” في الاستجابة لدعوات الإصلاح التي اطلقها الحراك الشعبي الواسع ضد الفساد فوجئ العالم بنشر تحقيق صحفي استقصائي دولي عن وقائع الفساد في العراق، وخاصة في قطاع النفط.التحقيق الذي ظهر على موقع “هافغتن بوست” (The Huffington Post) الأمريكي ودورية العصر(The Age) الاسترالية سرعان ما  تناقلته الصحف العالمية باهتمام بالغ وتم اعادة نشره في وسائل اعلامية اخرى تحت عناوين مثيرة مثل: “اكبر فضيحة رشاوي عالمية في العراق”.

كان ابطال الفضيحة المعنية مسؤولين عراقيين كبار في الدولة وعلى رأسهم “حسين الشهرستاني” وزير التعليم العالي في حكومة العبادي ووزير النفط اثناء حصول وقائع دفع تلك الرشاوي وخليفته “عبد الكريم لعيبي” و”ضياء جعفر الموسوي” رئيس شركة نفط الجنوب والعديد من قيادات الوزارة ومسؤولي “شركة نفط الجنوب”.وملخص القضية التي اصبح الرأي العام العالمي والعراقي مطلع على تفاصيل كثيرة متعلقة بها ان شركة اقامها شخص من اصول ايرانية وولديه في “امارة موناكو” كواجهة لعمليات الصفقات المشبوهة عملت خلال سنوات طويلة في العراق كانت خلالها تدفع رشاوي على هيئة تحويلات مالية مباشرة، او شراء لشقق، او رحلات سياحية، وخدمات اخرى متنوعة، لمسؤولين في وزارة النفط لقاء تسهيلات للشركات النفطية الدولية العاملة في العراق، وخاصة للحصول على عقود الاستثمار والتشغيل في حقول النفط الكبرى التي ذهبت بدورها الى كارتيلات عالمية.

ومن خلال البريد الإلكتروني الذي تم اختراقه لشركة (Unaoil) وهي الوسيط في عمليات الرشى مقابل العقود بدأت تتضح صورة بشعة للشبكات العنكبوتية من كبار المسؤولين في الحكومة والقطاع النفطي العراقي الذين استطاعت شركات النفط اقامتها داخل العراق بهدف نهب الثروات الوطنية بواسطة مسؤولين ليسوا فقط من قادة الجماعات الحاكمة واتباعهم، وانما ايضا ممن ادعوا انتمائهم الى مدرسة آل البيت والى مشروع دولة العدل والحق الإلهية العلوية.

التقرير الصحفي متوفر الآن على مواقع الشبكة العنكبوتية، مما لا حاجة بي هنا الى اعادة سرد تفاصيله، وهو بالتأكيد نتيجة جهود استقصائية بحثية ممتازة استغرقت اشهرا طويلة، لكن ما لا يعرفه الكثيرون ان خروج هذا التقرير الى النور يعود بشكل ما الى مساهمات وجهود عراقية بذلت خلال السنوات الماضية لفضح الفساد والفاسدين في “دولة علي بابا” ومن بين ذلك المقالات والتحقيقات التي نشرتها انا شخصياً باللغة الانكليزية على مدار السنوات الماضية ضمن مشروعي لكشف فساد “دولة علي بابا” ورموزها.(1)

كنت مدركا بان نقل المعركة ضد فساد زمر الحكم في “دولة علي بابا” الى الاعلام الخارجي سيساعد على خلق رأي عام دولي ضاغط بامكانه ان يساند العراقيين في معركتهم ضد الفساد.كان الهدف هو دفع اجهزة الاعلام الدولي الى الاهتمام بقضية الفساد في العراق والعمل على كشف المزيد من الجوانب المتلعقة بارتباط الفاسدين في العراق بشبكات الفساد العالمية.وفي سبيل زيادة الاهتمام الدولي كان لابد من ربط الفساد ونتائجه بقضيتي فشل العملية السياسية واستمرار الارهاب، وحث الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية على التعامل مع الموضوع بجدية نظرا للتأثيرات الخطيرة للارهاب على المستوى العالمي.(2)

وجاء الكشف عما سمي بـ “اوراق بنما” عن الحسابات المصرفية في بنوك مناطق الملاذات الضريبية بعد ايام قليلة من فضيحة الرشاوي الكبرى لتكشف عن اوجه اخرى لفساد زمر “دولة علي بابا” حيث اتضح حسب صحيفة “الغارديان” ووكالات انباء عالمية ان احد مؤسسي هذه الدولة وواضعي ركائزها وهو “اياد علاوي” يمتلك حسابات عديدة  في تلك الملاذات استمر في الايداع فيها حتى عامي 2014 و2015 اي في الفترة التي كان يعمل فيها نائبا لرئيس الجمهورية.ولم يقتصر الأمر على هذه الفضيحة، بل تلاها بعد شهور الكشف عن حسابات علاوي في ملاذات ضريبية اخرى عبر التقرير الاستقصائي “اوراق الفردوس” حيث اتضح ان لعلاوي حسابات مسجلة في “برمودا” والتي اكد هو للمجموعة الصحفية التي كشفت عنها ان الأموال المسجلة فيها متأتية من استشارات “قانونية وأمنية” كان قد قدمها في فترة الثمانينات من القرن الماضي دون ان يفصح لمن كان قد قدم تلك الاستشارات المخابراتية، لكنه باقراره ذلك كان قد اكد ما كان متداولا منذ زمن طويل عن علاقاته المشبوهة بالاجهزة السرية في عدة دول عربية وأجنبية.(3)

ويعلم كل خبراء الاستثمار وكذلك الاجهزة التي تعمل في مكافحة الجرائم الاقتصادية ان الأموال والشركات المسجلة فى تلك الملاذات تتأتي، في اغلب الحالات، من طرق غير مشروعة كالفساد والرشاوي والعمولات غير القانونية وتجارة المخدرات والبشر والاسلحة، كما انها تستخدم لتنفيذ أنشطة غير شرعية كغسيل الأموال والتهرب من الضرائب، على سبيل المثال، بسبب غياب الرقابة الوطنية والدولية على تلك الحسابات والتحويلات المالية التي تجري عبر مافيات اجرامية متخصصة.

في رده على ما كشفته وثائق “اوراق بنما” التف علاوي، الذي يمتلك الجنسية البريطانية، ودار طويلا لكي يركز في جوابه على “ان القانون البريطاني يسمح بتشكيل شركات خارج المملكة المتحدة، وهو اجراء معمول به في القانون البريطاني”.واكد ان “موقفه الضريبي في بريطانيا سليم ونظامي وقانوني، كما انه ليس هناك اي تهرب ضريبي”.وبطبيعة الحال فان طبيبا ارسل للدراسة في بريطانيا في سبعينات القرن الماضي قبل ان ينشق ويبدأ رحلة تعاون مع اجهزة مخابرات اجنبية عديدة ومن ثم يلعب دورا بارزا في عملية اسقاط النظام السابق، لا يكشف عن مصادر ثرواته الباهظة وشركاته التي يدفع عنها الضرائب، كما انه لايدافع عن حاجته الى حسابات سرية في مصارف الملاذات الضريبية، كما يتفادى اي اشارة الى امكانية التعارض بين موقعه السياسي وعمله في مجالات البزنيس التي قد تخفى تفاصيلها على الشعب العراقي ولكنها لا يمكن ان تخفى على الاجهزة والمؤسسات الدولية.

وبالرغم من ان تلك قصة اخرى بابعاد وتفاصيل مختلفة عن قصص الرشاوي التي كشفها تحقيق “هافغتن بوست” و”العصر” الا انها تبقى من قصص الفساد الكبرى التي جرت في العراق رغم انها تكشف فقط عن جزئيات تتعلق بالمصب الذي تودع فيه اموال الفساد دون معرفة المنبع.لكن وفق المثال الذي توفره فضيحة شركة “اناويل” فلربما سنرى في وقت لاحق الكشف عن الكثير من تفاصيل المنبع الذي مكن مثل هذه النماذج في “دولة علي بابا” ان تكون امبراطوريات مالية واقتصادية تنتشر في العالم وتتولى في الوقت نفسه المواقع الحكومية والسياسية العليا وتتلاعب بمقدرات العراق.

ما تؤكده هذه التقارير وغيرها، من بين اشياء عديدة هو ان قدرة لصوص “دولة على بابا” في اخفاء الحقائق بشأن عمليات نهبهم للمال العام واوجه فسادهم المختلفة وتهربهم من المسؤولية اصبحت اضيق مما كانوا يعتقدون وان امكانية الكشف عن كل تفاصيل عمليات النهب والسرقات وطرق التصرف بالأموال اصبحت ممكنة لأسباب عديدة من بينها الامكانات التي توفرها الاجهزة الدولية المعنية بالشفافية ومحاربة الفساد والطرق الحديثة التي تتبعها الصحافة الاستقصائية للوصول اليهم.

الرسالة الضمنية التي ينطوي عليها الكشف عن هذه الوقائع هو ان الفاسدين قد يستطيعون من خلال السلطة والقوة الغاشمة التي بين ايدهم من اسكات اصوات العراقيين في الداخل وارهاب الصحفيين العراقيين الذين يسعون للتحقيق في قضايا الفساد (كما فعلوا طيلة هذه السنين) ولكنهم لن يستطيعوا ذلك في عالم اصبحت فيه هذه القضايا متشابكة مع بعضها وتخضع باستمرار لقوانين الشفافية والنزاهة والرقابة، سواء من قبل الحكومات او الهيئات الدولية، اومن قبل الصحافة المهتمة بنقل الحقائق للرأي العام الدولي.

من الطبيعي ان تثار أسئلة بخصوص الجهات التي تقف وراء تسريبات تتعلق بمعلومات سرية وفائقة الأهمية مثل هذه، وايضا التوقيتات التي جرت بها عمليات نشر هذه التقارير، والشخصيات العراقية التي جرى انتقائها من دون آخرين لكشفها، وهي بالتأكيد ترتبط بعمليات ابتزاز من قبل القوى والأجهزة التي يتعاملون معها والتي تعلم تفاصيل كل حساباتهم واستثماراتهم في العالم.الا ان ذلك لن يغير من حقيقة الموضوع شيئا باعتبار ان هؤلاء وغيرهم من مسؤولي “دولة علي بابا” اصبحوا معرضين للفضائح والكشف عن تفاصيل سرقاتهم واماكن ايوائها مهما طال الوقت او قصر.

لم تكن جميع التقارير التي نشرت عن فساد المسؤولين العراقيين في الخارج قد أتت عن طريق الصحافة الأجنبية، فبعض تلك التقارير جاءت من شخصيات عراقية بذلت جهدا خاصا لتقصي المعلومات عن مشاريع ومقاولات وردت الى اسماعهم عن شركات في دولهم مما اثارت شكوكهم فبادروا للعمل كصحفيين استقصائيين لمعرفة الحقيقة.ومن اشهر القضايا التي تم فضحها هو مانشره الوزير العراق الأسبق “جواد هاشم” عن شركة وهمية كندية منحت مشروعا للطاقة بملبغ  1.5 مليار دولار وما نشره المهندس “مثنى كبة” عن شركة وهمية في سويسرا منحت هي الاخرى عقدا لبناء محطات طاقة بمبلغ 6 مليار دولار.(4)

ولم تذهب جهود الشخصين العراقيين سدى فقد ادى الكشف عن الشركتين الوهميتين الى الغاء العقود المعنية على الرغم من ان ذلك لم يكن يعني امكانية الالتفاف على تلك القرارات وتوقيع عقود اخرى باسماء شركات وهمية غيرها.غير ان الفضيحة سلطت، من ناحية اخرى، الأنظار على الدور الذي يمكن ان تلعبه الجاليات العراقية في مكافحة الفساد في بلادها من خلال نشاطات مختلفة، وعن طريق استغلال حقوق المواطنة المكتسبة في بلدانها والحقوق الدستورية والقانونية للوصول الى المعلومات لمتابعة تفاصيل هذه القضايا بدءاً من تقصي الحقائق، ووصولا لملاحقاتها قانونيا في محاكم بلدانهم تلك.

وبهذا الصدد تتحمل الجاليات العراقية في الخارج مسؤولية كبيرة في مهمة تعزيز المقاومة ضد الفساد من خلال تنظيم نفسها في فعاليات، وبرامج، ومنظمات تضامنية مع الحراك الشعبي المناهض للفساد في الداخل.وتأتي على رأس اولويات عمل الجاليات العراقية في الخارج رصد الأموال المنهوبة وحركة نقل الأموال وتبيضها والتدقيق في العقود المزيفة الموقعة مع الشركات الوهمية وهي كلها ممارسات لعبت الدور الأبرز في عمليات الفساد خلال المرحلة السابقة.ان للجاليات العراقية في بعض دول المهجر فرصة كبيرة من خلال استغلال القوانين المحلية والدولية والثغرات القانوية لملاحقة الفاسدين اضافة الى الفرص المتوفرة لهم في الوصول الى المنظمات الوطنية والدولية المعنية والمحامين المعنيين بملاحقة الفساد.

من الضروري بها الصدد تشكيل منظمة وطنية من عراقيين في الداخل والخارج تقوم بتسجيل وتوثيق كل ما يتعلق بالنشاطات الاجرامية المتعلقة بالفساد لزمر عصابات “دولة علي بابا” والأموال المسجلة باسماء عوائلهم واقربائهم وكل من له علاقة بهم في دولهم، وغيرها، وانشاء ارشيف وطني تتحمل الأجيال العراقية القادمة مهمة متابعته مستقبلا وملاحقة الأموال المنهوبة واستعادتها.هناك تجارب معروفة في هذا المجال، ومنها تجارب الجماعات اليهودية في العالم التي نجحت من خلالها في ملاحقة واستعادة الأموال والثروات اليهودية بعد سنين وعقود طويلة من نهبها.وتأتي على رأس قائمة المهمات التي يجب ان تقوم بها جماعات عراقية متخصصة ومؤهلة الاتصال بالأمم المتحدة والهيئات الدولية المعنية بهدف تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية بشأن الأموال العراقية المنهوبة اعمالا للقرارات الدولية التي اتخذها مجلس الامن منذ عام 1991 واثناء الغزو الامريكي والتي لا تنتهي  بالتقادم.

كان بامكان اي مواطن كندي من اصل عراقي، مثلا، ان يتابع الاتهامات الموجهة لـ”حسين الشهرستاني” سواء في قضية “اونياويل” او العقود الاخرى التي كان للشهرستاني ايضا ضلع فيها ويلجأ للقضاء هناك لاجراء التحقيقات اللازمة باعتبار الشهرستاني مواطنا كنديا ايضا.كما كان بامكان اي مواطن عراقي يتمتع بالجنسية البريطانية ان يطالب الجهات البريطانية بالتحقيق في ادعاءات “اوراق بنما” بشأن علاوي وآخرين من المسؤولين من مزدوجي الجنسية العراقية البريطانية الذين هربوا اموالهم الى بريطانيا.من الطبيعي ان تكون الدوافع التي حركت الفريق الاسترالي تتعلق بمشاركة شركة “لايتن” الاسترالية في تلك الوقائع وانتهاكها للقوانين في بلادها مثلما كانت “اوراق بنما” تمثل مسعى لكشف الحجم المهول من محاولات التهرب من دفع الضرائب على المستويات الوطنية والعالمية من قبل شخصيات كبيرة.الا ان المحاولتين تكشفان اهمية العمل الدؤوب على كشف قضايا الفساد في “دولة علي بابا” من قبل العراقيين بكل الطرق والوسائل الممكنة، ودون اية استهانة بما ينشر من معلومات، او شعور بالاحباط بعدم جدوى ذلك.ما يجب ان يدركه كل عراقي بان هناك دائما بعد دولي في عمليات الفساد ابتداء من الرشاوي الى العقود والمقاولات وانتهاءً بالمكان الذي ترسو فيه اموال الفساد، وهو عادة بنوك ومصارف خارجية، سواء اكانت في ملاذات ضريبية، او في دول او تبيضها على شكل استثمارات وعقارات ومن ثم اعادة تدويرها واستغلالها في مشاريع باسماء اصحابها او عوائلهم او شركائهم.

ان مهمة ملاحقة الأموال المنهوبة هذه بقدر ما هي نبيلة وتشكل مسؤولية وطنية واخلاقية وسياسية، فانها ليست بالمكلفة كثيرا ويستطيع ان ينهض بها مجموعة صغيرة من الشباب العراقيين المتواجدين في الدول الأوربية والولايات المتحدة والذين يحملون جنسيات هذه البلدان.ان كل ما يتطلبه الأمر هو توفر الارادة والحمية الوطنية والقليل من الجهد في العمل والتنظيم والاستعانة بالخبرات العالمية المتوفرة.ان العديد من العراقيين في الخارج يكتفون بالفرجة او بالتنفيس عن غضبهم من ممارسات الفساد عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومجالس النميمة والثرثرات الفارغة ولكنهم يتقاعسون عن القيام بعمل بناء في ملاحقة الفاسدين الذي يعيشون في اوساطهم في عقارات تم شراءها بالأموال العراقية المنهوبة ويقومون باستتثمارات ويفتحون حسابات مصرفية مكتنزة بتلك الأموال.

وفي لجة الغضب المتصاعد ضد حيتان “دولة علي بابا” اهتم العالم بقضية الفساد المستشري في العراق حيث شكلت تقارير ودراسات “منظمة الشفافية الدولية” و”الاكاديمة الدولية لمناهضة الفساد” وغيرهما بعض المصادر المهمة التي سلطت الأضواء على الفساد في العراق كقضية عالمية.كما تنبهت المنظمات الدولية المعنية وخاصة “منظمة الامم المتحدة” وهيئاتها المختلفة الى الحجم المريع للفساد في العراق واطلقت التحذيرات عن الأثار الخطيرة التي يمكن ان يتركها الفساد على مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.وكان اهم ما تم الانتباه اليه تأثير الفساد المباشر على سؤ الادارة والعجز عن اعادة بناء الدولة، والفشل في العملية السياسية، والأخطر من كل ذلك هو دور الفساد في استمرار الارهاب وتفاقم العنف المجتمعي.(5)

وشكلت الأزمة المالية التي تسبب بها تدهور اسعار النفط بعد عام 2012 فرصة لـ”الأمم المتحدة” ولـ”صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” كي تتدخل في دعوة الحكومات العراقية الى مكافحة الفساد.ووفق اتفاق وقع مع “برنامج الأمم المتحدة الانمائي” عام 2016 وبعد ضغوط مارسها “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” لتضمين ذلك ضمن شروط المساعدات والقروض التي قدمت للعراق سواء لاعادة البناء او لتحسين ميزان المدفوعات، فقد تم انشاء آلية مشتركة بين الحكومة والبرنامج يقوم من خلالها خبراء دوليون في مكافحة الفساد بمساعدة “هيئة النزاهة” والجهاز القضائي في العراق في تدريب وتطوير مهارات المحقيقين العراقيين في قضايا الفساد وبالذات في طرق الكشف عن هذه القضايا والتحقيق فيها واحالتها الى المحاكم.(6)

كانت هناك امال كبيرة ان تقوم هذه الهيئات الدولية والامم المتحدة بالكشف عن نتائج عمل المحققين الدولين بعد انتهاء عملهم ربيع عام 2018 عملا بمبادئ الشفافية والنزاهة وامتثالا لمسؤوليتها امام الشعب العراقي والرأي العام الدولي الا انها لم تفعل علما انها تمكنت خلال فترة عملها من جمع بيانات ومعلومات في غاية الاهمية والدقة عن حجم الفساد في العراق والمتورطين فيه من الاطراف العراقية والاجنبية.ان عدم الاعلان عن نتائج عمل المحققين الدوليين لا من قبل برنامج الامم المتحدة الانمائي يفضح الاهداف الحقيقية من وراء الاتفاق الذي وقع في آب (اغسطس) 2016 في عدم وجود ارادة حقيقية ولا نية في مكافحة الفساد في العراق واجتثاثه من منبعه.

بعد عقد ونصف من الغزو الأمريكي لم يحقق التدخل الدولي، سواء من قبل “الأمم المتحدة” او من خلال البرامج المدعومة من بعض الحكومات، ومن بينها الولايات المتحدة، اي اختراق مهم يذكر في جهود مكافحة الفساد في العراق، سواء على صعيد دعم الحملات المحلية لوقف إستنزاف الفساد للمال العام ودعم برنامج وطني شامل لمواجهة الفساد، او على صعيد استرداد الأموال المنهوبة في الخارج، او جلب المدانين الهاربين لمحاسبتهم امام القضاء العراقي.فعلى الرغم من الإتفاقيات الدولية الخاصة بتبيض الأموال، وعمل المصارف المركزية في العالم في الرقابة، ودور المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع الدولي في تعزيز الشفافية ودور اجهزة الاعلام في كشف وملاحقة انواع الفساد المختلفة على الصعيد الدولي، الا ان جهود مكافحة الفساد في العراق لم تحظ الا بالقليل من الاهتمام، وكأن هناك اتفاق، او تفاهم، على السماح لهذه الشبكة العنكبوتية ان تعمل بحرية في الاطار الدولي المعولم.ومثلها مثل جهود “هيئة النزاهة” و”لجنة النزاهة البرلمانية” والقضاء فقد خلفت برامج المساعدة الدولية في مجال مكافحة الفساد الكثير من خيبات الأمل لدى المواطن العراقي الباحث عن لقمة عيشه وسط ركام الأزمات التي خلقها الفساد وعززت القناعة لديه بان الحلقات الخارجية للفساد والمستفيدة منه قد تكون اشد خطورة من الحلقات الداخلية التابعة.

ان ابرز مثال على تقاعس العالم على العمل بشكل جدي في مكافحة الفساد في العراق هو استمرار تهريب الاموال العراقية المنهوبة الى الخارج وانتهائها في بنوك دول الجوار والملاذات العالمية وفي استثمارات عقارية في مختلف انحاء العالم وفي عمليات اعادة تدويرها وتبيضها لاستثمارها في اقتصاد النهب داخل العراق وخارجه.ان نظرة سريعة على الارقام المتعلقة بالاستثمارات العراقية منذ عام 2003 في العالم وخاصة في دول الجوار تفصح عن حجم الفساد الذي ترعاه مافيات دولية واقليمية هي في حقيقة الامر شريكة لزمر الحكم في “دولة علي بابا” وضالعة في عملية الفرهود الأكبر لثورات العراق.

                    هوامش مراجع ومصادر الفصل الرابع عشر

 1-انظر:”كيف ظهرت اكبر فضيحة رشاوي عالمية في قطاع النفط في العراق”، تحقيق على موقع هافنغتين بوست الامريكي، 30/3/2016

http://www.huffingtonpost.com/entry/unaoil-bribe-scandal_us_56fc3e7de4b0a06d5804a532

2-انظر:”فساد هائل في العراق، صلاح النصراوي، الاهرام ويكلي، (بالانكليزية) 20/9/2012

https://sites.google.com/site/weeklyahramorgegissue1115/region/huge-corruption-in-iraq

انظر كذلك:”الكشف عن عقد مزيف اخر في العراق”، الاهرام اون لاين، (بالانكليزية) 15/12/2013

http://english.ahram.org.eg/NewsContent/2/8/89177/World/Region/Another-bogus-contract-in-Iraq-revealed-.aspx

3-انظر:”اوراق بنما كيف يخبء اغنياء العالم ومشاهيره اموالهم في الملاذات”، صحيفة الغاردين (بالانكليزية)، 3/4/2016

https://www.theguardian.com/news/2016/apr/03/the-panama-papers-how-the-worlds-rich-and-famous-hide-their-money-offshore

انظر كذلك:”تسمية نائب الرئيس اياد علاوي في اوراق بنما، موقع رادو (بالانكليزية ، 10/4/2016

http://www.rudaw.net/english/middleeast/iraq/10042016

انظر ايضا :”حان الوقت لتنظيف الملاذات الضريبية”، موقع منظمة الشفافية العالمية، 6/11/2017

https://www.transparency.org/news/feature/paradisepapers_time_to_clean_up_the_offshore_financial_havens

4-انظر:”فضح قضية فساد مزعومة في العراق”، تقرير صحفي في موقع بريس ريدر الكندي (بالانكليزية)،12/8/2012

https://www.pressreader.com/canada/vancouver-sun/20110812/285825780002620

انظر كذلك:”الكشف عن عقد مزيف اخر في العراق”، الاهرام اولاين (بالانكليزية) ،15/12/2013

http://english.ahram.org.eg/NewsContent/2/8/89177/World/Region/Another-bogus-contract-in-Iraq-revealed-.aspx

5-انظر:”دراسة للامم المتحدة تكشف عن التحديات التي يمثلها الفشاد وانعدام النزاهة في القطاع العام العراقي”، صندوق الامم المتحدة الانمائي (بالانكليزية) ،21/6/2013

https://www.unodc.org/unodc/en/frontpage/2013/June/un-study-underlines-corruption-and-integrity-challenges-among-the-public-sector-in-iraq.htm

6-انظر:”برنامج الامم المتحدة الانمائي فخور بمساعدة العراق في مكافحة الفساد، بيان مكتب البرناج في بغداد، 11/8/2017

http://www.iq.undp.org/content/iraq/en/home/presscenter/pressreleases/2016/08/11/undp-is-proud-to-support-the-fight-against-corruption.html

انظر كذلك:”هيئة النزاهة توضح اللبس بشأن الاستعانة بخبراء دوليين للتحقيق بقضايا الفساد” ،16/8/2016

http://www.alsumaria.tv/news/176829/%D9%87%D9%8A%D8%A6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B2%D8%A7%D9%87%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D8%B6%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D8%B3-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%86%D8%A9-%D8%A8/ar

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دولة علي بابا

 cover 5

 (12)

                                 التدليس الوجه الآخر للفساد 

كانت المخاوف من فرض نظام حكم ديني قائمة منذ اليوم الأول للغزو الامريكي للعراق على رغم كل الشعارات البراقة عن الديمقراطية والتعددية التي بشر بها المحتلون ومن اتوا بهم معهم من المعارضين لـ”صدام حسين” ونظامه.ففي اول خطاب له بعد عودته من ايران يوم 10 آيار (مايو) 2003 ابلغ “السيد محمد باقر الحكيم” زعيم “المجلس الأعلى للثورة الاسلامية”، وابرز شخصية في الحكم الجديد “ان مستقبل العراق رهن باتباع تعاليم الدين الاسلامي.” صحيح ان الحكيم اشار الى ان النظام الذي يتطلع اليه هو ان يكون “نظاما اسلاميا عصريا ينسجم مع أساليب هذا العصر والزمان” الا انه بالتالي وضع تصوره الأساس للدولة التي يراها، اي قائمة على تعاليم الاسلام، وهو ما تم تثبيته رسميا في الدستور بعد ذلك.(1)

 منذ استيلائهم على السلطة بعد الغزو الامريكي استخدم العديد من رموز “دولة علي بابا” وانصارهم مسألتين اثنتين حاولا من خلالهما نسج اسطورة خيالية تصاحب انتقالهم من المنفى الى الوطن، وتتيح لهم تأسيس شرعية اخلاقية وسياسية في الحكم.هاتان المسألتان تستحقان التوقف عندهما والنظر فيهما بامعان؛ الأولى هي الادعاء اللحوح، وبالذات من الجماعات الاسلامية، بالتدين والورع والفضيلة والخشية من الله، والثانية هي التشديد على انتمائهم الى ماض جهادي، او نضالي، تليد في  صفوف المعارضة العراقية التي عملت على اسقاط صدام.(2)

ولم يكن ذلك الأمر غريبا بطبيعة الحال، فاي جماعة جاءت بالطريقة ذاتها التي قدمت بها احزاب سلطة “دولة علي بابا”، اي محمولة على دبابات، او بطائرات الغزاة الأجانب، او في ظل احتلاله، وليس عن طريق يستند الى الشرعيتين الوطنية والديمقراطية، لابد ان تدرك حجم الورطة الاخلاقية والسياسية التي وقعت فيها، وبالتالي حاجتها الماسة الى اغطية شرعية مجتمعية تاريخية ووطنية يمكنها ان تبرر بهما أحقيتها في السلطة.وخلال سنوات ترسيخ حكم “دولة علي بابا” ظلت تلكما الاسطوانتان المشروختان؛ التدين، والماضي الجهادي، من بين الحجج التي ساقها ابطال مسرحية تحرير العراق من صدام دائما، وظلتا من الوسائل الدعائية التي استخدموها منذ اليوم الأول الذي خططوا له للاستيلاء على الدولة والمجتمع والسلطة والثروة في العراق بعد الغزو الامريكي، من اجل صناعة صورة ذهنية لدى البسطاء من العراقيين، وتسخيرها لتتنفيذ غايات الهيمنة على السلطة، ولتحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم السياسية، واجنداتهم الفؤية والمشروع الذي يحملونه.

الغريب ان هذا الاصرار اللجوج، والتكرار الممل، في طرح مسألتي التدين والجهاد في فترة عمل المعارضة ضد صدام المزعومتين ظل متواصلا في خطاب هذه الجماعات حتى بعد ان افتضح كذبهما وتكشف للعراقيين انهما مجرد شعارين من شعارات استراتيجة الهيمنة على الدولة واحتكار الحكم واقصاء الآخرين عنها.لم يتوقف أرباب هذه الدولة وحاشيتهم عن اختلاق تلك المزاعم وجعلها قاعدة تراتبية للسلطة يجلسون هم فوق هرمها حتى بعد ان تعالت صيحات غضب العراقيين ازاء ما وصل اليه بلدهم من فساد انتج كل ذلك الخراب والدمار، ووسط المخاطر التي بدأت تحيق به من كل حدب وصوب على يد نفس الزمر التي تدعي الطهارة الدينية والتاريخ النضالي.كان التبجح بالماضي الجهادي والالتزام الديني بالتأكيد ايضا جزءاً من استراتيجيات الدفاع الذاتي ازاء تلك الانتقادات واللوم الواسع الذي اصبحوا يتعرضون له بسبب الفشل المزري لمشروع العراق الجديد بعدما افتضاح الحجم الهائل للفساد وعمليات النهب التي قاموا بها، والانهيارت الأمنية الكبرى التي ادت الى سقوط نحو ثلث الاراضي العراقية بيد تنظيم داعش الارهابي عام 2014، والأهم من كل ذلك التهديدات المستمرة المحيطة بالعراق والتي اصبحت تنذر بنهايته كدولة بعد ان انهار وتشظى كمجتمع.

بداية لابد من القول ان هذا النوع من الخطاب المراوغ والمخاتل ليس جديدا في تاريخ الشعوب التي استلبت ثوراتها وحركات التغير والاصلاح فيها على يد مدعين وآفاقين ولصوص ثورات، فتاريخ البشرية حافل بهذه النماذج التي لجأت الى التزيف والكذب والدجل لسرقة التحولات السياسية الكبرى مستغلة ثغرات عديدة تحصل في مجرى هذه العمليات الانتقالية من خلال التضليل والخداع، وخاصة من خلال مداعبة عواطف العوام واستغلال الجهل والتراجع الثقافي، ورفع شعارات خلابة تستثير بها الغرائز والنزعات الكامنة في النفوس.

ان رموز سلطة “دولة علي بابا” الذين شروعوا بالعزف على نغمة التدين لا يخترعون هنا خطابا سلطويا جديدا بادعاء الطهورية والتضحية من اجل ترسيخ مفهموم ما يدعى بالشرعية التاريخية فتلك تكتيكات واستراتيجيات مارستها قبلهم حركات وقيادات ميكافيلية، او شعبوية، او وصولية، سجلها التاريخ الانساني في تجارب معروفة.غير ان ان كل ما في الأمر الآن وفي التجربة العراقية فان الطبقة القابضة على زمام السلطة تعيد انتاج ذلك بشكل كوميديا سوداء مغرقة في التفاهة، ولكنها ايضا مفعمة بالقدرة الكبيرة على التدمير.

ينطوي القول بالتدين على محاولة التبجح بان طهوريتهم وعفتهم وتقربهم الى الله يمنحهم ميزة استثنائية تعلو بهم فوق غير المتدينين والمؤمنين، وايضا العامة من الشعب، ليس فقط بهدف الاستحواذ على السلطة وقيادتها، بل ايضا في محاولة فرض هيمنتهم على الفضاء المجتمعي والتحكم في مقدرات البلاد والعباد معا.فطالما هم متدينون فهم سينطقون باسم الدين كما ينبغي اذن على الآخرين ليس فقط التنحي عن طريقهم ومحاولة منافستهم وان يدعوهم يفعلون ما يشاؤون، بل ان ينصاعوا لهم كلية باسم العلاقة التي يدعون امتلاكها، من خلال تدينهم، مع الله.

لا يحدد الدستور العراقي ولا القوانين على وجه التحديد ما الذي يقصده زبانية الحكم في “دولة علي بابا” حين يدعون التدين ويجعلون من ذلك الادعاء شرطا امام المواطنين، ليس فقط في المجال الاخلاقي، او ما يسمونه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ايضا في ممارسة العمل في الفضاء السياسي، او المجال العام، وحين يفاضلون به انفسهم ووزمرهم على الآخرين الذين هم من غير المتدينين، حسب وجهة نظرهم.وفي عراق “دولة علي بابا” الذي هيمن عليه الاسلام السياسي الشيعي، لم يعد ما يقصد بالتدين هو ممارسة العبادات الظاهرة كالصلاة والصوم وعدم حلق اللحية، وربما ايضا الالتزام بالتكليف الشرعي بتقليد المرجعية الدينية، وانما اصبح ذلك ميزان تحديد إلانتماء الى الوطن والى الجماعة والمعيار الذي يتم بموجبه مكافئة وثواب المواطنين، والأهم من كل ذلك، توظيفهم في اجهزة الدولة وترقيتهم ومكافئتم دون اعتبار للكفاءة، والمهارة، وشروط الوظيفة العامة من تساو الفرص والعدالة وغيرها.وعلى الرغم من ان فتاوى واجابات من رجال دين ومراجع للجماعات الدينية التي في السلطة روجت لمثل هذه الاساليب، الا ان الهيمنة على الفضاء الاجتماعي من قبل الاتجاه الاسلامي وتحكم الأحزاب الدينية بالحكومة، وعلى اجهزة الدولة المختلفة، كانت هي المدخل لكل ذلك عندما جعلت من الانتماء اليها، او الولاء لها، المعبر الرئيسي للتوظيف وللترقية في الخدمة العامة، في حين ظلت الرشاوي هي المعبر الآخر.(3)

ان العبادات والطقوس المصاحبة لها هي ممارسات يومية لملايين المؤمنين من العراقيين من مختلف الاديان والمذاهب الذين لا يرون فيها امتيازا سياسيا، او معنويا، او ماديا خاصا، بل تقربا خالصا لخالقهم والتزاما طوعيا بأهداب الدين.اما التشدق المفرط، كما هي الحالة عند افراد الطبقة الحاكمة، في “دولة علي بابا” فانه يأخذ ابعادا رمزية وسياسية، القصد من ورائها، واضح وهو الحصول على المزيد من الشرعية، وفي نفس الوقت حرمان خصومهم الافتراضيين، من غير المتدينين، من المساحات التي تتيحها فضاءات الدولة المدنية من المنافسة معهم في المجالات العامة كافة.(4)

بطبيعة الحال فان الدستور والقانون يبقيان حكما في تأكيدهما على مبدأ عدم التميز بين المواطنين على اساس ممارستهم الطقوسية، او ماضيهم السياسي، ولذلك فان وضع معيار التدين كشرط من شروط  الولاء او العمل في جهاز الدولة، او النشاط في الحقل العام، حتى لو كان امرا او قانونا غير مكتوب، هو أمر لا معنى له في عالم اليوم القائم على أساس ان سياسات الهوية تتعارض مع أخلاقيات السياسة التي تصر على ان مشروعية معايير العمل تكون على قاعدة الكفاءة ووفق أخلاقيات المهنة، وليس معايير الانتماء الهوياتي كشرط من شروط الأداء الوظيفي.

بالطبع هناك اتفاق بين المفكرين والفلاسفة بان السياسة بدون اخلاق تنحط بالمجتمع الى مستوى البهيمية والفوضى، وان على السياسي، او من يتولى السلطة، ان يتصرف بمبدأية ووفق قواعد الأخلاق والنزاهة التي يجب ان يتم تشريعها لكي تصبح قواعد للسلوك والالتزام والانضباط.وعبر التاريخ اثبتت الوقائع ان الدول والمجتمعات التي حققت نجاحا في مسيرة تقدمها هي تلك التي التزمت فيها نظمها وسياسيوها وشعبها بالمعايير الاخلاقية العامة، وبالنزاهة، وباساليب الادارة العلمية والالتزام بالمصلحة الوطنية، وليس باية دوافع دينية.

هناك اتفاق ايضا بين المشتغلين في المجالات الفلسفية والفكرية المختلفة بان الدين والاخلاق ليسا مترادفين بالمعنى السوسيلوجي، اي انهما لا يحملان المضامين السلوكية، او النماذج الاجتماعية ذاتها.وتشير المعاجم الفلسفية الى تعريفين مختلفين لكل من الدين والأخلاق ولا تقيم هذه التعريفات اي رابط مباشر بينهما.وبموجب هذه التعريفات فالأخلاق لا تقوم على الدين على الرغم من الاقرار بان الجانب الاخلاقي الذي يقوم عليه الدين هو من المسلمات التي لا تحتاج لاقامة الدليل عليها.وبالاضافة الى ذلك فان الدراسات في الحقلين تحدد منظومات قيم مختلفة لكل من الدين والاخلاق، مثلما تحدد لكل منهما خارطة طريق او مرشد للعمل مختلف عن الآخر.(5)

ومع هذا فالأكيد ان الأخلاق (الوازع الأخلاقي) نزلت منزلة سامية في المنظومة القيمية الاسلامية وكانت صفات مثل العدالة والانصاف والصدق والاحسان والخير ركائز فطرية اساسية وحيوية جامعة في البعدين الديني والاخلاقي. بل ان التشيع ذهب ابعد من ذلك فانزلها منزلة النبوة والامامة اللذين جعلهما معصومين، ليس بالمستوى التبليغي الإلهي فقط، وانما على المستوى الانساني، اي العصمة من الذنوب والمعاصي.واذا كان  اصل العصمة، كما يرى الشريف المرتضى هي المنع، “حين يقال اذا عصمت فلانا من السؤ اذا منعت حلوله به” فان العصمة هي الخصلة التي يتصف بها كل من يراد تحصينه من الخطأ ووسمه بالفضيلة وبالأخلاق العالية وهي تنطبق على  الفرد مثلما تنطبق على الجماعة.(6) وكما دلت التجربة المريرة لـ”دولة علي بابا” فلا يبدو ان زعماءها كانوا يدركون المعنى الحقيقي للعصمة عند الشيعة، كتوجيه وأمر للمكلفين انفسهم بنبذ المعاصي، وعلى رأسها الفساد وسرقة المال العام.

ما يعنينا هنا هو التأكيد بان التجارب التي خاضتها البشرية والتي انشأت من خلالها مجتمعات عادلة ومتطورة قد اثبتت ان بامكان منظومات القيم الدينية ان تتعايش في المجال السياسي العام مع القيم العلمانية مثل التنوير، والانسانية، وحرية الفكر والمعتقد، وغيرها، وضمن اطار التقاليد الاخلاقية الواسعة.فالنظر في تجارب العديد من البلدان يثبت ان هناك العديد من منظومات القيم الدينية باختلاف الديانات تحدد الصواب من الخطأ وفق الشرائع التي اختطتها الكتب المقدسة لديها او التقاليد او قراءات رجال الدين بما يتناسق مع المبادئ الكونية الشمولية، كالمساواة والعدالة والحرية.

صحيح ان الفلاسفة والمفكرين منذ الأغريق ربطوا بين الاخلاق والسياسة باعتبار الأولى وصفا لطبيعة الحياة الخيرة للفرد، في حين ان الثانية تصف الحياة الخيرة للجماعات، الا ان ما تؤكده التجربة الانسانية العميقة الجذور ان التدين على الرغم من القيم الروحية العليا التي يستهدف ترسيخها في البشر كقيم الحق والخير والجمال، الا انه في الواقع المادي لا يعتير معيارا او ميزة في الحقل السياسي القائم اساسا على المنافسة والصراع والتوازنات والمساومات والتي تخضع جميعها لطرق ضبط ومنهجيات عمل وقوانين خارج السياق الديني الاخلاقي، مما يجعل الادعاء بالتدين في ممارسة العمل السياسي نوعا من الاستغلال السيء للدين وللنفاق والدجل المبتذل.

اما من ناحية السلوك الفعلي فليس هناك ما يثبت ان المتدينين هم اكثر التزاما بمعايير الحق والعدالة والصواب والخطأ والفضيلة والمنفعة والحقوق اكثر من غير المتدينين على الرغم من الالتزامات الأخلاقية والاعتبارات التي تضعها بعض الاديان على منتسبيها.وفي اخلاقيات العناية فان هناك بالتأكيد الكثير من الأدلة والشواهد اليومية في التجربة الإنسانية ما يشير الى وجود درجة عالية من الكرم والأريحية يبديها غير المتدينين، بدءاً من مساهماتهم السخية في الجمعيات الخيرية، وانتهاء بالتنازل عن مقعد لعاجز او كبير السن في حافلة.فالسياسيون المتدينون العراقيون ليسوا اكثر كرما وحاتمية من اشخاص مثل “بيل غيتس” و”ليوناردو دي كابريو” و”انجيلينا جولي” المعروفين بتبرعاتهم السخية، او تطوعهم في العمل العام من أجل الخير.

فعلى ارض الواقع فان نظرة فاحصة لما يجري في العراق توضح عجز دعاة التدين الذين يتصدرون النشاط السياسي، او العمل العام، في اقامة المؤسسات التي تعني بالفقراء والأيتام والأرامل على مستوى واسع يتناسب مع حجم المآسي التي تتعرض لها هذه الشرائح الاجتماعية والتي هي ضحايا السياسات المتبعة، من ناحية، وحجم الموارد المالية التي اصبحت بيدهم نتيجة الفساد واستغلال المال العام، من ناحية ثانية.ان ما هو متوفر من ادلة ومؤشرات يدل على العكس من ذلك تماما وهو السعي للحصول على موارد الدولة لتغطية نشاطات تحت لافتات العمل الخيري، او التطوعي، او للنقابات ومنظمات المجتمع المدني، في حين انها تذهب مع الأسف الى جيوب القائمين عليها، او لكي توضع في خدمة مصالحهم ونشطاتهم السياسية، او الفؤية.لقد بلغ عدد المنظمات والجمعيات التي تستفيد من المنح الحكومية من “مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية” المرتبط بالأمانة العامة لمجلس الوزراء اكثر من 1000 هيئة يتبع معظمها الجماعات السياسية الحاكمة او من يدين لها بالولاء مما حول العديد منها الى بؤر فساد وافساد داخل المجتمع العراقي.(7)

ان مسؤلية دعاة التدين عن المصائب التي حلت بالعراق منذ 2003 كاملة الأركان، ذلك انهم سعوا للهيمنة على السلطة من خلال جماعاتهم، واحزابهم، وعملوا، ولا يزالون، على ابعاد كل من لا يتفق مع هوسهم بذريعة التدين تلك.فسواء تعلق الأمر بفشل بناء الدولة، وعدم الكفاءة، والعجز، وانتشار الفساد بكل انواعه، او في استمرار الارهاب والمخاطر المحيطة بالعراق نتيجة لذلك، فانهم بالتأكد يتحملون المسؤولية الأولى في ما يجري.ولا تقف اسباب ذلك في كون دعاة التدين الممسكون بزمام الحكم في العراق هم الأكثر فسادا والأكثر ايغالا في سرقة المال العام، او في التستر على هذه الجرائم وايجاد الذرئع، لها وانما ايضا في احتكارهم  للسلطة وللمجال السياسي العام، واستبعادهم لكل العقول النيرة والخبرات والمهارات الوطنية والخيرة بدعاوي افضلية المتدينيين على غيرهم في الوظيفة العامة.

وليس الهدف من الإدعاء بالتدين لدى هذه الزمر هو مجرد استخدام الدين كغطاء يخفون وراءه اطماعئهم الدنيوية، او محاولة التأكيد على علاقة اخلاقية لا اساس لها بين التدين والسياسة، ولكن الأهم من ذلك اشاعة ثقافة استسلام يتم تعميمها في المجتمع تتيح لهم هيمنة مطلقة ودائمة على السلطة والفضاء الاجتماعي.ان الامر يتعدى ذلك ايضا الى محاولة اقامة نظام ثيوقراطي يحكم باسم الله ويرفض اي نوع من الممارسات الديمقراطية، وهو ما يجعل التحدث عن التدين كشرط من شروط ممارسة السياسة والعمل العام مقدمة للاستيلاء الكامل على الدولة، واقامة مشروعهم المذكور.

وفي مسعاهم هذا يبقى جوهر عملية منح صكوك العفة، والفضيلة، وغايتها الأساسية هو استلاب الخصوم السياسيين او المعارضين والمنتقدين من غير المتدينين والعلمانيين، او حتى من بين المتدينيين الرافضين للحكم الثيوقراطي من حقهم في النقد، او من المشاركة  في العمل العام، او في الوظيفة العمومية، واقصائهم من خلال دمغمهم بشتى انواع التهم، ومن بينها دعم الارهاب، او العمالة لأطراف خارجية، او حتى بالفسق والفجور، كما حصل في موضوع الهجوم على مقر “اتحاد الادباء والكتاب العراقيين” والبيانات والمواقف التي خرجت بعد ذلك تتهم ليس القائمين على المقر فقط، بل جموع الادباء بتشجيع تناول الخمور.(8)

فتحت ذريعة التدين ومحاربة العلمانيين وعزلهم يجري بناء ثقافة معادية للمثقفين والمفكرين تضاف الى كل سياسات الهيمنة والاستحواذ الأخرى الهادفة الى عدم تشجيع التفكير النقدي والبناء وهو ما يؤدي بالتالي الى جمود عقلي وسيادة ثقافة اتكالية لا تشجع المبادرات ولا شأن لها بالذكاء او الابداع او التأملات الواعية التي تستهدف ايجاد حلول بارعة للمشكلات التي يعاني منها العراقيون.ان هذا النوع من السياسات العدوانية الحقت اشد الضرر بالمجتمع وعملية تطوره ذلك لانها لم تستهدف فقط تعميم ثقافة الاقصاء والعزل والتهميش، وانما ايضا اشاعة وعي زائف يحمل في احشائه بذور الفتنة وفي جوانبه شحنات الانفجار.

ان التدين شيء فطري عند العراقيين مثل الكثير من الشعوب، ولكن محاولة جعله شرطا من شروط التمتع بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو بعيد عن الدين قبل ان يكون اجحاف بحقوق المواطنة وما شرعه الدستور من التزامات وواجبات على الدولة.صحيح ان المؤمنين على يقين ان للعبادت ثواب وأجر عند الله يوم الحساب، ولكن الميزان الحقيقي للعمل العام هو المواطنة والانتماء والمعيار الأساس هو الشخص نفسه، واخلاقه، وعمله، وسلوكه، وواجباته نحو الوطن، وليس اشتراطات يضعها الحاكمون باسم الله للاندماج في الجسم السياسي وفقا لرؤاهم ومرجعياتهم الفكرية والسياسية.

اما الادعاء الآخر الذي استخدمه الكثير ممن تولى زمام الامور في “دولة علي بابا” وهو التاريخ الجهادي والنضالي فهو لتعظيم الذات من خلال التبجح بماضي سياسي وطني مزعوم.فخلال السنوات التي اعقبت الغزو برزت الشخصيات، او الجماعات التي تصدرت المشهد، للحديث عن تاريخ جهادي يبدأ من النضال ضد نظام صدام في الداخل، ثم الهروب الى خارج العراق، وبعدها يسطرون حكايات وروايات عن سلسلة من المغامرات الجهادية التي قاموا بها في المنفى لاسقاطه.قد تختلف تفاصيل المشهد بين شخصية واخرى حسب الظروف ودرجة تضخم الأنا التي بلغتها في العهد الجديد، الا انها تبقى جميعها روايات تفتقد للدقة وتعوزها المصداقية، وكثيرا ما تبدو قصصا خيالية او مجرد تدليس محض على التاريخ.

هناك الآلاف من القصص التي رواها رفاق سابقون وشهود وباحثون في السير عن الكثير من شخوص “دولة علي بابا” ملئت اوراق الكتب والصحف وصفحات المواقع على الإنترنيت والتي تروي بالشهادات حكايات عن ماض شديد التواضع، ليس عن خلفيات اجتماعية او طبقية، بل عن التجارب والخبرات السياسية والحياتية لهؤلاء، واحيانا عن فضائح يندى لها الجبين حاولوا طمسها بادعاءات جوفاء عن بطولات وصولات في النضال ضد نظام.ويأتي بوح الإسلاميين السابقين “سليم الحسني” و”غالب الشابندر” عن رفاقهم في الأحزاب الدينية مثالا على تلك الشهادات بالغة الأهمية في الكشف ليس فقط عن خلفيات هؤلاء الأشخاص وخططهم ونواياهم، بل عن تاريخ مرحلة تولوا فيها المسؤولية وستصوغ فيها لاحقا قدر العراق ومستقبله.(9)

ويوفر الباحث “عادل رؤوف”، وهو اسلامي آخر عاش مرحلة العمل المعارض ووثق تاريخه، في سلسلة من كتبه وخاصة كتابه “عراق بلا قيادة” معلومات هائلة عن القيادات الاسلامية التي عاشت في المنفى مستله من تجاربه الشخصية ومن وثائق وشهادات معاصرة وهي لاغنى عنها لتكوين صورة عن ماضي الأشخاص والجماعات التي حملتها رياح الاحتلال البغيضة للتربع على كراسي الحكم في دولة ما بعد صدام، فاستباحته خلافا لكل القيم الدينية والاخلاقية والنضالية.(10)

ما يجري من خلال التبجح بالموروث الجهادي والنضالي هو عملية سرد لنسخة مختلفة من التاريخ النضالي للشعب العراقي وللحركات والشخصيات الوطنية التي قارعت دكتاتورية صدام لعقود طويلة ووفق حس وطني واجندة عراقية.وما يقوم به هؤلاء هو تقديم عرض مغاير لذلك التاريخ في محاولة لاعادة كتابته وفق هواهم، وبالذات لطمس التضحيات الكبيرة التي قدمها العراقيون جميعا في صمودهم، او في نضالهم ضد نظام صدام لصالح قصص خرافية متهافته عن مجاهدين ومناضلين كان ثمرة جهادهم الأوحد هو القفز الى السلطة من فوق دبابات الاحتلال الاجنبي التي اسقطت ذلك الصنم.

من السهولة ان تنجح زمر “دولة علي بابا” بتمرير الروايات والقصص التي ينسجونها عن بطولاتهم الوهمية الى جمهور ممن لا يعرف الكثير عن تلك الفترة وما جرى فيها وخلالها، الا ان من الصعوبة ان تمر مرور الكرام على اولئك الشهود الأحياء الذين عاصروا تلك المرحلة وعاشوا تفاصيلها ودونوها.ما يستهدفونه هو استلاب التاريخ، والذاكرة الثقافية العراقية، ومحاولة كتابة تاريخ مغاير لمرحلة مهمة في تاريخ العراق، مستغلين الفوضى والالتباس لسرد رواية يضعون انفسهم فيها في ادوار البطولة متجاهلين الأبطال الحقيقين، او يضعونهم موضع الكومبارس.ان الهدف هنا ليس فقط مجرد تجريف تاريخ راسخ واحداث قطيعة معرفية واعادة تشكيل المشهد العراقي برمته، بل ايضا تكريس احتكار السلطة والهيمنة على الثروة الوطنية، من خلال محاولة فرض شرعية حكم لا مسوغ دستوري او قانوني او سياسي او اخلاقي لها، مثلما تفتقد للدليل التاريخي الملموس.فادعاءات السجل النضالي الذي يتشدق به القابضون على زمام السلطة والتي يرددونها بطريقة ممجوجة ايضا كوسيلة لاثبات احقيتهم بالسلطة، وبالاستئثار بها، ولجم اي انتقاد ممكن لممارساتهم غايتها تكريس الأوهام بشأن امتلاكهم لشرعية تاريخية مقابل شرعية انجاز حقيقية لم يحصلوا عليها، او يتمكنوا من تحقيقها.

ومثلما مارسوا غواية التدين ليمنحو انفسهم امتيازات رسالية، فان احد اسباب لجوئهم الى تاريخ جهادي ونضالي مبالغ به، او موهوم، هو محاولة بائسة لتوجيه تاريخ النضال الذي قام به الشعب العراقي وقواه وشخصياته الوطنية خلال عقود طويلة ضد دكتاتورية صدام الى حيث يمكنهم البقاء في السلطة اطول فترة ممكنة، وذلك بالعمل على إقصاء الأخرين.وسيمضون بعيدا الى اكثر من ذلك حين يدعون ان الشعب قد انتخبهم لانه اولاهم ثقته من خلال صناديق الاقتراع استنادا لسرديات تمزج هذه المرة بشعارات الديمقراطية التي لقنها لهم المحتلون الأمريكيون مع ادعاءات التدين تلك والروايات المفبركة عن تاريخ جهاد وهمي اخترعوه.

لكن بالتأكيد ان الشعب العراقي ليس جماعة من المغفلين والبلهاء الذين يمكن ان تنطلي عليهم كل هذه الادعاءات والأكاذيب والتكتيكات السياسية القذرة للوصول للسطة والبقاء على كراسيها اطول فترة ممكنة.فالعراقيون يعرفون اليوم تمام المعرفة ان مسؤولية تدمير بلادهم تقع بالأساس على عاتق هذه الطغمة العاجزة والفاشلة وغير الكفوءة التي انشغلت بالفساد والنهب وليس ببناء دولة ادعت انها جاءت لتحريرها من قبضة طاغية.ما تؤشر اليه مسألة التبجح بالتدين والماضي الجهادي والنضالي هو ليس فقط الانحدار الاخلاقي من خلال محاولة التدليس والافتراء على الدين والتاريخ وعلى العراقيين، او اعتبار ذلك مجرد عارض مرضي لفئة دوغمائية او انتهازية تسعى للوصول الى السلطة، والاحتفاظ بها، بل هو مفهوم سياسي قائم على الخداع يحمل في داخله بذور الفناء للعراق كدولة وكمجتمع ،بعد ان اوصلوه الى هذا الحد المدمر بفضل فسادهم وعجزهم وسؤ ادارتهم للبلد. 

لم يكن القادمون من حاضنات المعارضة لصدام هم وحدهم الذين روجوا لماض زائف بغية الظهور بأشكال جديدة تتناسب مع المرحلة، فقد التحق بهم الكثيرون من زبانية صدام وفلوله الذين خضعوا ايضا لعمليات تجميل للماضي وتبيض السمعة من اجل الانظمام لجوقة “دولة علي بابا” والاستمتاع بما توفره من مناصب وثروات ومزايا وحماية.اذ على الرغم من قوانين اجتثاث البعث وحل الجيش والأجهزة الأمنية وغيرها من مؤسسات صدام القمعية فان اعدادا لا تحصى من منتسبيها ومن اعضائها التحقوا باجهزة الدولة الجديدة والعديد منهم في مناصب عليا.كان الأمر سيظل مفهوما ومقبولاً لو جرى في اطار مصالحة وطنية تتحقق فيها مبادئ الحقيقة والعدالة والمساءلة، ولكن الأمر كما هو دائما في “دولة علي بابا” تم ضمن صفقات واتفاقات، سواء فردية، او في إطار نظام المحاصصة، الذي اصبح قانون الدولة الأساس.

وفي الواقع فان التطبيق العشوائي لقانون اجتثاث البعث والاستثناءات الممنوحة التي بقيت محصورة بيد قادة الجماعات المتنفذة كانت تهدف اساسا لتوثيق العلاقة بين المجموعتين لا على اساس نبذ الصراعات  السياسية والمجتمعية وتحقيق المصالحة الوطنية في اطار توافقي جديد، ولكن لخلق شراكة قائمة على الفساد وتقاسم الغنائم كثمن لاستقرار لم يتحقق اطلاقا.ان معظم أزلام النظام السابق الذين شاركوا في السلطة الجديدة اختاروا ان يلفقوا لهم ماض جديد ينأون بواسطته عن الويلات والفضاعات التي شاركوا باقترافها، او شجعوا عليها، او صمتوا عنها، وهم بذلك لم يفلتوا من المحاسبة عن تلك الجرائم ولا اعتذروا عنها مثلما لم يطلبوا الصفح، لكنهم طرحوا انفسهم كضحايا مطالبين بالمساواة مع الضحايا الفعليين لنظامهم.

ومرة اخرى فقد كانت تلك الشراكة بين “المجاهدين المتدينيين” ومضطهديهم السابقين دليلا اضافيا على تهافت الإدعاءات بالتدين والخلفية الجهادية ومروقا عن كل القيم الدينية والاخلاقية التي تدعوا للمحاسبة والعقاب.ان خطورة ما جرى بهذا الشأن يتجاوز شراكة الفساد والتي وسعت من حجم ممارسات نهب المال العام والثروة الوطنية الى الفشل في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية وانهاء الصراع الأهلي وتحقيق الأمن والاستقرار وبالتالي اعادة بناء الدولة.فما حصل لم يكن انهاء للاقصاء والتميز والتهميش الذي ظلت تشتكي منه فئات داخل المجتمع العراقي، بل كان تقاسما وظيفيا ومصلحيا على طريقة اللصوص والمافيات.(11)

واليوم وبفضل هذه الممارسات ونتائجها المروعة اصبح بالامكان تسجيل هذه المرحلة تاريخيا باعتبارها امتدادا طبيعيا لمنهج “دولة علي بابا” الذي يجمع الى الفساد الحيلة والكذب والإفتراءات والخداع والتدليس كقاعدة للحكم وتكريسها بالنهاية كفلسفة واسلوب لادارة السلطة.غير ان ما لايدركه هؤلاء هو ان تاريخا حقيقيا عن الزمن العراقي الأغبر الذي عشناه سوف يكتب بعيدا تماما عن تلك السرديات البائسة وعن ذلك التاريخ الملفق الذي حاولت ان تسوقه زمر رثة بلا أخلاق، او ذمة، او ضمير.

                     هوامش مراجع ومصادر الفصل الثاني عشر

 1-انظر:”الحكيم يعلن رفضه لأي حكومة تفرض على العراق من الخارج”، موقع بي بي سي العربي، 10/5/2003

http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_3016000/3016027.stm

2-هناك نماذج لا تحصى لهذا النوع من الخطاب، لكن:

انظر:”شھید المحراب آیة الله العظمى السید محمد باقر نجل الإمام الحكیم”، موقع مركز آل الحكیم الوثائقي، بلا تاريخ

http://www.alhakeem-iraq.net/print.php?id=96

انظرايضا:”اياد علاوي يكشف تفاصيل عن محاولة اغتياله بعهد صدام حسين”، موقع سي ان ان عربي، 19/2/2017

https://arabic.cnn.com/middleeast/2017/02/19/ayad-allawi-assassination-attempt

3-انظر:”الازمة الطائفية في العراق، ارث من الاقصاء”، مؤسسة كارنيجي، دراسة، (بالانكليزية) نيسان 2014

http://carnegie-mec.org/2014/04/23/ar-pub-55405

 3-انظر:”الازمة الطائفية في العراق، ارث من الاقصاء”، مؤسسة كارنيجي،دراسة، نيسان 2014

http://carnegie-mec.org/2014/04/23/ar-pub-55405

 4-انظر:”شواهد على أصولية دينية عراقية وتقاعس القوى المدنية”، موقع ايلاف، 29/1/2016

http://elaph.com/Web/News/2016/1/1069436.html

5-انظر:”دوركهايم، اميل، علم اجتماع وفلسفة، ترجمة د. حسن انيس القاهرة، الدار الانجلو مصرية 1966

6-انظر:”اشكالية منزلة الأخلاق في المدونة الاصولية”، حمادي ذويب، مجلة تبين، المركز العربي  للابحاث ودراسات السياسات، عدد 22 2017

7-انظر:”دائرة المنظمات غير الحكومية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء اصدار أكثر من 1050 شهادة تسجيل لمنظمات المجتمع المدن، موقع مجلس الوزراء،بلا تاريخ

http://www.ngoao.gov.iq/ArticleShow.aspx?ID=74

انظر ايضا:”منظمات المجتمع المدني في العراق: بُؤرُ فساد وسياحة”، موقع ايلاف، 17/1/2015

http://elaph.com/Web/opinion/2015/1/974658.html

انظر ايضا:”لا تهملوا فساد النقابات والمنظّمات” ..!، عدنان حسين، موقع صحيفة المدى، 10/10/201

7http://www.almadapaper.net/ar/news/536557/%D9%84%D8%

A7-%D8%AA%D9%87%D9%85%D9%84%D9%88%D8%A7-%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%

85%D8%A7%D8%AA#.Wdu_Quwo44g.facebook

8-انظر:”مجلس بغداد يؤكد استمرار حملة اغلاق النوادي والملاهي الليلية”، موقع جريدة المدى، 17/8/2017

http://www.almadapaper.net/ar/news/534777/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%8A%D8%A4%D9%83%D8%AF-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%A7

9-انظر:”اياد علاوي من جاسوس صدام الى رجل الامريكان في العراق” ج1، فيديو على موقع يوتيوب،بلا تاريخ

https://www.youtube.com/watch?v=YWmMPAPxzvQ

انظر كذلك:موقعي سليم الحسني وغالب الشابندر على الفيسبوك والمئات من المدونات التي نشراها في مواقع اخرى عن تاريخ رفاقهم في حزب الدعوة وفي الجماعات الدينية

https://www.facebook.com/dailyiraq/

https://www.facebook.com/%D8%BA%D8%A7%D9%84%D8%A8-%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%AF%D8%B1-403114893104943/

10-انظر:”عراق بلا قيادة” ،عادل رؤوف، المركز العراقي للاعلام والدراسات، دمشق، الطبعة الاولى 2002

11-انظر:”البحث عن العدالة في فترة ما بعد الصراع في العراق”، مجلة بروكلين للقانون الدولي، دانا هوليود، 2007 (بالانكليزية)

http://brooklynworks.brooklaw.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1221&context=bjil

 

 

 

دولة علي بابا

cover 5

(11)

                            والآن يبيعون العراق بعد ان نهبوه

كما كان متوقعا فان نتائج عمليات النهب المنظمة لأموال الدولة العراقية وثرواتها الطبيعية التي مارستها الطغم التي استولت على الحكم منذ عام 2003 وسؤ ادارتها وتخبطها ادت في نهاية المطاف الى استنزاف الموارد التي تتأتي من بيع النفط ووضعت العراق على حافة هاوية اقتصادية سحيقة.لقد ادت الأزمة المالية التي جاءت على ضوء انخفاض اسعار النفط بنحو 50 بالمائة عام 2014 والاخفاق في توفير المصادر المالية لموزانتي الدولة التشغيلية والاستثمارية لأعوام 2015 و2016 و2017 و 2018 الى ان يوضع العراق على حافة الافلاس المالي بسبب تضخم العجز في الميزانية واتساع الهوة بين الموارد والنفقات وبالتالي زيادة الديون.

ولم يكن السبب الرئيسي للأزمة تدهور اسعار النفط وتكاليف الحرب على تنظيم داعش الارهابي بين عامي 2014 و2017، كما ظلت ابواق الحكومة تكرر، بل استمرار نهب وسرقة ثروات البلد والفساد بأنواعه المستحكم في ادارة الدولة، والفشل في وضع خطط مالية واقتصادية سليمة تأخذ بنظر الاعتبار كل ما يتعلق بالسياسات النفطية، والعوامل التي تتحكم في السوق الدولية، والتذبذبات المتوقعة في الاسعار التي هي من بديهيات التخطيط  في الاقتصاديات الريعية.ما حدث هو ان حصيلة عقد ونصف من استنزاف الموارد النفطية التي تجاوزت ثلاثة ارباع تروليون دولار، كما ذكرت تقارير عديدة، ذهب أغلبها الى الهدر والى جيوب الفاسدين دون ان تقوم الحكومات المتعاقبة باية احتياطات او استعدادات حقيقية لمواجهة هذه الاحتمالات التي يدركها اي بقال يدير محل بقالة صغير، وليس حكومة مسؤولة عن دولة وعن حياة اكثر من 35 مليون من البشر.

كان واضحا ان الاجراءات التي اعلن عنها لتخفيف العجز من خلال التقشف وتقليص النفقات وزيادة الموارد الضريبية وغيرها لن تنفع في مواجهة الانفاق المتزايد، وخاصة الذي استجد بسبب الحرب على داعش من أسلحة وعتاد، وكذلك نفقات الحشد الشعبي والنازحين، وغير ذلك من متطلبات مواجهة استمرار حالة عدم الاستقرار والتدهور الأمني.لم تكن في الخزينة من موارد كافية، ولا لدى الحكومة من وسائل توفير، او تدبير للأموال، بعد ان ابتلع الفساد وسؤ الادارة كل موارد السنوات الماضية مما ادى بعد بضعة شهور الى مواجهة أزمة مالية حقيقية وصلت الى تأخير موازنات المحافظات والميزانية العامة بكل ما يعنيه ذلك من وقف عمليات التنمية والاستثمار، بل تعرضت حتى رواتب الموظفين والجنود الى التأخير ومن احتمالات تقليصها، او حتى توقفها.

ما واجهه العراق في الفترة التي اعقبت انهيار اسعار النفط وتقلص الموارد هو السؤال:كيف ستستطيع حكومة مفلسة ان تواجه نفقاتها التشغيلية والاستثمارية حين يصل عجز الميزانية الى نحو 20 بالمائة كما سجلته موازنة عام 2015، ثم يرتفع بعد ذلك الى اكثر من 30 بالمائة قبل نهاية العام المالي نفسه ويظل في حدود مماثلة في الأعوام التالية.(1)

كان من المأمول ان تلجأ الحكومة الى اجراءات لايقاف الفساد واستنزاف موراد الدولة مثلما تكثف من نشاطها لاسترداد الأموال المنهوبة في الداخل والخارج.كان من المتوقع ان تتخلي عن الاعتماد الكلي على الاقتصاد الريعي وتقوم بضخ الدماء في القطاعات الاقتصادية والخدمية الانتاجية بغية وقف او الحد من الاستيراد من الخارج الذي يستنزف العملية الصعبة.كان من المتوقع ايضا ان تضع الحكومة سياسات مالية رشيدة بهدف وقف الهدر لتوفير موارد اضافة.لكن ما تفتقت عنه عبقرية الحكومة ووزير ماليتها انذاك “هوشيار زيباري” ومستشاريها الإقتصاديين يومئذ هو اللجؤ الى سلسلة من الاجراءات المالية والنقدية الاستثنائية التي طالما كانت هناك خشية من ان يدفع اليها العراق دفعا بسبب عملية التدمير المنظم للاقتصاد وسياسات غض النظر عن الفساد وتشجيعه.

كان الخيار الاسهل الذي لجأت اليه الحكومة هو الاقتراض من الخارج لسد العجز وتمويل بعض القطاعات الرئيسية كالنفط وشراء الاسلحة.وكان معروفا منذ البداية ان هذه الاجراءات رغم خطورة ما يترتب عليها من نتائج، وعلى رأسها رهن ثروات العراق الى المصالح الأجنبية وعملائها المحليين، لن تكون الحل لاي من المشكلات الاقتصادية العويصة التي كان يواجهها العراق بقدر ما ستزيد من الطين بلة.في شهر نيسان عام 2015 اعلن زيباري وفي سلسلة من التصريحات المفاجئة التي اطلقها من واشنطن ومن الكويت عن سلسة الاجراءات التي يقترحها لمعالجة الازمة التي وصفها بانها “مشكلة جدية في التدفقات المالية” ( a serious cash flow problem.) متجنبا تسميتها بمخاطر الافلاس.(2)

في الأشهر اللاحقة اجرى زيباري مفاوضات مكثفة في واشنطن مع “صندوق النقد الدولي” بشأن قروض جديدة اضافة الى اللجؤ الى حقوق السحب الخاصة في الصندوق، وهي الائتمانات الطارئة التي توفر للدول الأعضاء لمواجهة أعباء العجز في الموازنة.كما كشف زيباري النقاب بان الاتفاقات مع الصندوق تتضمن قيام العراق باصدار سندات حكومية دولارية تطرح في الخارج وفي الداخل ببلايين الدولارات.ورغم ان كل ذلك يأتي في اطار مواجهة تبعات فساد القائمين على “دولة علي بابا” والتي خلفها على الأوضاع المالية والاقتصادية، الا ان النشاط الحثيث لزيباري في اغراق العراق بالديون كان ينطوي على دلالات اخرى للمهمة التي اخذها زيباري على عاتقه منذ تولى وزارة الخارجية، وهي الدفع بالعراق للسير في طريق الخراب والتشظي، خدمة للمشروع الكردي بقيام دولة كردية على انقاض العراق المدمر.(3)

وفي نفس السياق بدأت الحكومة اتصالاتها مع “البنك الدولي” للحصول على قروض ومساعدات بغية دعم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها في مواجهة اعباء الديون.ولم تكن نتيجة الاتفاق مع البنك هي المزيد من الأعباء المالية فقط وانما ايضا السماح للبنك بالهيمنة على سياسات العراق الإقتصادية والمالية وادارتها بطريقته وفق شروطه المعهودة في رفع الدعم وفرض ضرائب وروسوم جديدة وخدمة السياسات اللبرالية الاقتصادية الجديدة التي عادة ما تهدف لخدمة الاستثمارات الأجنبية والمحلية التابعة لها هلى حساب افقار وتجويع الطبقات الأوسع في المجتمع.(4)

 ولكن القادم كان اسؤ بكثير اذ تم الاتفاق مع “البنك الدولي” ومع “صندوق النقد الدولي” على الاشراف على اعداد وتنفيذ الميزانية وفقا لشروط حددها الاثنان تتعارض مع السيادة العراقية وحق البرلمان في ان يحدد تفاصيل الميزانية.كما تم تكليف البنك من قبل الدول المعنية بادارة ملف اعادة الاعمار في المدن المدمرة بعد تحريرها من داعش بالعمل ايضا مع “برنامج الامم المتحدة الانمائي” وبذريعة الفساد المستشري في الاجهزة الحكومية العراقية، مما ادى الى تعزيز دور الدول الكبرى المتنفذة في الوضع العراقي، وبكل ما يعنيه ذلك من تدخلات وتأثيرات ونزع للسيادة العراقية.(5)

الا ان من بين اكثر الاجراءات المثيرة للجدل التي قال زيباري ان الحكومة كانت تفكر فيها هي بيع جزء من احتياطات البلد النفطية الهائلة للشركات الراغبة وكذلك اعادة النظر بعقود الخدمة التي وقعتها الحكومات العراقية مع الشركات الأجنبية لاستخراج النفط.(6) ومما كشفه زيباري ايضا خطط للحكومة لبيع اصول المئات من الشركات التابعة للدولة من موروثات القطاع العام في عهد نظام صدام والتي حولتها سلطة الاحتلال الى ادارة التمويل الذاتي، او حصص الدولة ضمن شركات القطاع المختلط والتي ادت سياسات الاهمال والتدمير المخطط خلال الفترة التي اعقبت الغزو الى تعطل الانتاج فيها.ولان غالبية هذه المصانع معطلة وغير صالحة للانتاج بدون استثمارات كبيرة فقد اصبح من المؤكد ان التخلي عنها سيؤدي ليس فقط الى تبديد اموال الدولة وثرواتها، وانما ايضا تعرض حياة ومستقبل مئات الالاف من العوائل من العاملين فيها للضياع  وستضطر الى الانظام الى طوابير الفقراء والجياع التي صنعها الفساد والفشل.

ادى طرد زيباري من الحكومة بعد استجوابه من قبل البرلمان واتهامه بالفساد اثناء عمله كوزير للمالية الى توقف الحديث العلني عن تلك الخطوات رغم عدم اعلان الحكومة عما اذا كانت تلك هي مجرد اجتهادات للوزير المقال ام انها من بين الاجراءات التي فكرت بها ايضا.اما الخطوة التي لم يجر الكلام بشأنها علنا كثيرا فهي اللجوء الى الإحتياطي من النقد الاجنبي المتوفر لدى البنك المركزي والذي تشير ارقام البنك نفسه المنشورة على صفحته على الانترتيت ببدء تأكله منذ عام 2014 حيث بدأ المؤشر بالهبوط من نحو 100 مليار دولار الى نحو 49 مليار دولار عام 2017، اي انه فقد  خلال ثلاثة اعوام نحو ثلث موجوداته من العملات الاجنبية.(7)

ولم يقتصر اللجوء الكثيف الى السحب من الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي في توجيه ضاربة قاتلة للدينار العراقي بكل ما يعنيه ذلك من انخفاض في اسعار صرف العملة الوطنية، وارتفاع التضخم، واسعار السلع المستوردة، بل وجه ضربات مباشرة الى الاقتصاد العراقي برمته نظرا لخليط الضغوطات التي مارسها انخفاض قيمة الدينار على التحويلات الخارجية وانعكاسات ذلك على قوى السوق وخاصة عمليات الاستيراد والخدمات والاختلالات الهيكلية التي احدثها.

مالذي يعنيه كل هذا؟اولا لا بد من التذكير بان العراق كان اساسا مثقلا بالديون التي تراكمت عليه منذ العهد البائد والتي بلغت في نيسان 2003 ما يقارب 140 مليار دولار من ضمنها ديون دول الخليج العربي.وكان العراق قد تمكن عبر مفاوضات شاقة وطويلة مع “صندوق النقد الدولي” و “مجموعة نادي باريس” من إطفاء نحو 80 بالمائة منها في حين لم يتم اطفاء بعض القروض وتم ربطها بتنفيذ مشاريع في العراق، في حين بقيت ديون دول الخليج وتعويضات حرب الكويت بانتظار تسديدها.

غير ان العراق سرعان ما بدأ يغرق بالديون الخارجية نتيجة للفساد والسياسات الرعناء التي اتبعتها زمر الحكم في كل المجالات المالية والنقدية والادارة الاقتصادية.فمنذ عام 2006 بدأت تتراكم الديون الخارجية على الرغم من الايرادات العالية من تصدير النفط حيث ربطت الحكومات المتعاقبة منذ 2003 نفسها بقروض جديدة مع الكثير من الدول ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا والمانيا وفرنسا واليابان وغيرها بهدف استخدامها في مشاريع متوسطة المدى في قطاعات الموانئ ومشاريع المياه والطاقة وكذلك لاغراض التسلح.

ونتيجة لذلك سرعان ما وصل الدين الخارجي العراقي الى حوالي 45 مليار دولار في 2010  ثم بدأ رحلة صعوده الى بلغ نحو 100 مليار دولار نهاية عام 2016 ثم الى 120 مليار دولار نهاية عام 2017 وهو ما يمثل نحو 64 بالمائة من الناتج القومي الاجمالي للعراق، وهي نسبة عالية جدا بكل المقاييس.(8)

ان ما انتجته سياسات النمو السرطاني في الحصول على القروض، وما ستنتجه لاحقا، هي كوارث حقيقية لا يمكن تخيل مداها وتبعاتها ليس فقط على الاقتصاد العراقي، وانما على مسقبل العراق برمته ابتداء من رهن الاقتصاد والثروة الوطنية بالمؤسسات وارادات الدول الاجنبية وانتهاء بتأثيرات ذلك على السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني.ففي الحقيقة فان الاقتراض في العراق لم يكن لسد العجز في ميزان المدفوعات او توفير تكاليف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل كان بالأساس تغطية لنفقات الفساد والنهم في سرقة المال العام.ان نتائج الاقتراض لم تكن فقط تحويل الطبقة الوسطى العراقية الى كبش فداء لفساد الحاكمين وزيادة افقار الطبقات الفقيرة وانما تمهيد الطريق لكي تدفع الإجيال القادمة من العراقيين ثمن الفساد مثلما دفعه اباؤهم واجدادهم من قبل.

لقد انتظم كل ذلك التخبط في السياسات النقدية والمالية وادارة الاحتياطي الاجنبي وللانظمة المصرفية التي اتبعتها عصابات “دولة علي بابا” مع محاولات التدمير المتعمد للاقتصاد الوطني ولجهود التنمية من خلال النفاذ الى مكامن موارد النفط بغية استنزافها.كانت احدى اهم الوسائل لذلك هي مزادات العملة التي يقيمها “البنك المركزي العراقي” والتي ابتكرتها سلطة الاحتلال الامريكي، واستمرت عليها الحكومات المتعاقبة.وعلى مدار السنوات الطويلة تلك اصبحت منافذ المزاد التي افتتحها البنك بهدف توفير الدولار لتغطية قوائم الاستيرادات من السلع والحاجات الأساسية منفذا لواحدة من اكبر قنوات الفساد في العراق التي خرجت من خلالها بلايين الدولارات المتأتية من تصدير النفط لكي تصب في جيوب والحسابات المصرفية للجماعات المتنفذة واعوانهم ومحاسيبهم في الخارج.(9)

وفي شهادة نادرة من داخل أجهزة دولة الفساد كشف رئيس “ديوان الرقابة المالية” السابق و”محافظ البنك المركزي العراقي” السابق “عبد الباسط تركي” يوم 1 آيار (مايو) 2015 في مقابلة مع تلفزيون البغدادية بان معظم هذه البنوك هي واجهات، او مجرد محلات صرافة، يمتلكها سياسيون ورجال اعمال فاسدون مقربون منهم هدفهم مجتمعين هو الحصول على الأموال بمختلف الطرق وتهربيها للخارج.وكشف تركي، الذي أقر بانه لم يستطع اتخاذ اي اجراء للحد من هذه الجريمة، انه خلال فترة رئاسته للبنك المركزي من 2011 الى 2015 هرب نحو 12 مليار دولار من الاحتياطي العراقي عن طريق مستندات ووثائق وهمية.(10)

وطبعا لا يصح القول هنا بانه “ولا ينبئك مثل خبير” اكثر مما يصح عن “احمد الجلبي” الذي طالما طالته الاتهامات بالفساد منذ كان مديرا لـ”بنك البتراء” في الأردن في اعوام الثمانينات من القرن الماضي.فشهاداته المثيرة عن الفساد التي ادلى بها قبل موته الغامض في تشرين الأول (اكتوبر) 2015 تكشف تفاصيل مذهلة عن نشاطات هذه البنوك في مجال تحويل العملات الأجنبية الى خارج العراق بعد الحصول عليها من خلال مزاد الدولار الذي يقيمه البنك المركزي.وفي واحدة من تدويناته ذكر الجلبي، ممستخدما وثائق بحوزته بصفته رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب، ان تاجرا واحدا فقط قام بتحويل 1.2 مليار دولار الى شركة صرافة في دولة الإمارات العربية المتحدة خلال فترة عام واحد فقط.وفي مقابلات وتصريحات عديدة قدم الجلبي تفاصيل وافية عن عمليات بيع العملة من قبل البنك المركزي والتي وصلت مجموعها، خلال عهد “نوري المالكي” بين عام 2006 و2014 نحو 312 مليار دولار ذهب اكثر من ستة بلايين دولار منها الى مصرف واحد هو “بنك الهدى” المقرب من مجموعة المالكي الذي حولها بدوره الى فروع للصرافة تتبع له في الأردن.(11)

لقد كان معروفا لدى العديد من الاقتصاديين والمتابعين منذ البداية ان العراق سيصل حتما الى هذه المنحدر الخطير من التدهور الاقتصادي والانهيار المالي بسبب السياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة على مدار السنيين الماضية وبسبب فسادها ونهبها للثروات الوطنية.الأمر الأسوء هو ان تبعات كل ذلك ستستمر سنوات ان لم يكن عقودا طويلة.فوفقا لمنظمة الأوبك ليس هناك امكانية لعودة اسعار النفط الى سابق عهدها او حتى الى مستوى 100 دولار ربما حتى عام 2025 في حين ان تقديرات وتوقعات مبنية على اساس ازدياد اللجؤ الى استخدام السيارات الكهربائية والالكترونية  في الدول الغربية ومنع استخدام الوقود خلال السنوات القادمة ستؤدي الى ضربات قاصمة للدول المصدرة للبترول، مما يعني ان امام العراقيين الكثير والكثير من السنين العجاف الاخرى.(12)

لا تبدو ان هناك حلول سهلة وميسرة للازمة المالية المستعصية في العراق والتي ستبقى دائرة ويتم ترحيلها من حكومة الى حكومة.ما هو مطروح من اجتهادات تتماشى مع توجهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كاعادة النظر بالرواتب وبالدعم الحكومي للسلع والخدمات وزيادة الضرائب والرسوم، كلها حلول تأتي على حساب مصلحة المواطن وتتجاهل الاسباب والعلل الاساسية وعلى رأسها الفساد ونهب المال العام  والهدر وسؤ الادارة الاقتصادية وتعطل عجلة الانتاج.ان حكومات قائمة على المحاصصة في نهب الثروة الوطنية وسرقة موارد البلد لا يمكنها ابدا حل المعضلات الاقتصادية ومعالجة الازمات المالية لان زمر الحكم تدرك انها غير مستعدة على تحمل تكلفة الاصلاح الاداري والاقتصادي، وعلى رأس ذلك وقف الفساد.

وبطبيعة الحال فان الاخفاق في ادارة الازمة المالية ستترك اثارا خطيرة على الأوضاع السياسية والأمنية المتردية، وخاصة في ما يتعلق بالحرب على الارهاب وعلى منظومة المحاصصة الإثنو-طائفية التي تتحكم في ادارة حكم العراق، وعلى مستقبل العلاقة بين الجماعات المتصارعة على اقتسام السلطة والثروة.ان افلاس الخزينة العراقية، او التهديد بأزمة مالية طاحنة، سيشعل المزيد من النار في الصراعات العراقية الحالية، بل ربما تتعدى شراراتها الى دول الجوار، ويكفي ان نتذكر هنا احتلال صدام للكويت عام 1990 انه كان بذريعة تجويع العراق وتركيعه، وقصة “قطع الاعناق ولا قطع الارزاق” لا يزال يتذكرها معاصرو تلك الفترة جيدا.اليس من الطبيعي بعد كل ذلك ان تثار شكوك جدية عما اذا كان هناك من دوافع وحسابات واجندات، قد لا تكون خافية عن كثيرين، وراء المضي وراء هذه الحلول المدمرة التي لن تزيد فقط من تفاقم الأوضاع المالية والاقتصادية برمتها، بل ستدفع بالعراق الى السقوط في مهاوي الافلاس والخراب مما سيسهل بالتالي من عملية تقسيمه.هل من الغرابة بعد ذلك ان نرى ان اولئك الذين ساهموا في عمليات الفساد والسرقات والنهب هم انفسهم الذين يقومون الآن على بيع إقتصاده وثرواته الطبيعية بعدما افقروه واذلوه وتركوه لتنهش به قطعان الارهاب.

                          هوامش ومراجع ومصادر الفصل الحادي

 

1-انظر:” 26.6 مليار دولار العجز التقديري للموازنة العراقية في 2017″، موقع روداو الاخباري، 25/8/2016

http://www.rudaw.net/arabic/business/250820161

2-انظر:”وزير المالية العراقي:مفاوضات مع صندوق النقد الدولي ولكن لا قرار بعد”، وكالة انباء رويترز( بالانكليزية) ،7/4/2015

http://www.reuters.com/article/iraq-imf/iraq-finance-minister-in-discussions-with-imf-no-decision-on-aid-request-idUSL6N0X42CA20150407

3-انظر:”زيباري: العراق يبحث مع بنوك إصدارا محتملا لسندات بقيمة 6 مليارات دولار”، 3/3/2015

http://www.rudaw.net/NewsDetails.aspx?pageid=109777

انظر ايضا :”صندوق النقد الدولي ينقذ العراق، ليس تماما”، صلاح نصراوي، صحيفة الاهرام ويكلي، (بالانكليزية) 6/10/2016

http://weekly.ahram.org.eg/News/17483.aspx

4-انظر: “مستشار العبادي يكشف عن شروط البنك الدولي لاقراض العراق” 25/12/2015

https://www.iraqpressagency.com/?p=176781&lang=ar

5-انظر:”البنك الدولي يربط دعمه للعراق بالشروع في المصالحة الوطنية”، موقع أن ار تي، بلا تاريخ  

http://www.nrttv.com/Ar/Detail.aspx?Jimare=40278

انظر ايضا:”نائب: صندوق النقد أبدى ملاحظات وتحفظات على موازنة عام 2018″ ، موقع اس.ان. جي  الاخبار ي، 26/123/2017

http://sngiq.net/wordpress/?p=105243

6-انظر:”زيباري:العراق يخطط بيع احتياطاته النفطية وحقول الانتاج الجديدة”، وكالة انباء رويترز (بالانكليزية)، 25/3/2015

http://www.reuters.com/article/2015/03/25/us-iraq-economy-zebari-idUSKBN0ML20M20150325

7-انظر:”رسم بياني لمؤشرات اكثر من عشر سنوات”، موقع البنك المركزي العراقي، بيانات واحصاءات

http://cbiraq.org/SeriesChart.aspx?TseriesID=341

انظر ايضا:”احتياطي العراق من العملة الصعبة يبلغ 49 مليار دولار، موقع السومرية، 19/2/2017

http://www.alsumaria.tv/news/195636/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A-%D8%AD%D8%AC%D9%85-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D8%B7%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B9%D8%A8%D8%A9/ar

8-انظر:”موقع تريدنغ ايكونمست المتخصص  بالتقارير الاقتصادية

http://www.tradingeconomics.com/iraq/government-debt-to-gdp

انظر كذلك :”اتجاه برلماني عراقي لإقناع الحكومة بتغيير آليات صرف القروض الأجنبية” جريدة الحياة، 3/10/2017

http://www.alhayat.com/Articles/24435766

انظرايضا:” نائبة تكشف حجم ديون العراق”، موقع روسيا اليوم، 5/7/2017

https://arabic.rt.com/business/887002-%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%A8%D8%A9-%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%AD%D8%AC%D9%85-%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82

انظر ايضا: “ديون العراق بلغت 120 مليار دولار.. والفساد في مقدمة الأسباب”

موقع راداو، 15/8/2017

9-انظر:”استنزاف خزين العراق من الدولار بسبب الفساد في مزاد العملة، موقع ان ار تي الاخباري ،بلا تاريخ

http://www.nrttv.com/Ar/Detail.aspx?Jimare=35077

10-انظر:مقابلة مع عبد الباسط تركي على قناة البغدادية على يوتيوب

ttps://www.youtube.com/watch?v=hsZXHdCt4MU

11-انظر: وثائق بيع العملة تفجر معركة حتمية على الفساد في العراق،جريدة العرب،18/11/2015

http://www.alarab.co.uk/?id=66599

12-انظر:اوبك ترى ان اسعار النفط ستصل الى 100 دولار العقد القادم،ولستريت جورنال، 12/5/2015

https://www.wsj.com/articles/opec-sees-oil-price-below-100-a-barrel-in-the-next-decade-1431347035

انظر ايضا:”زيادة استخدام السيارات الالكترونية يتحدى عطش العالم للنفط، جريدة الفاينانشال تايمز، 8/8/2017

https://www.ft.com/content/3946f7f2-782a-11e7-a3e8-60495fe6ca71

دولة علي بابا

cover 5 

10)

                 شدوا الأحزمة على بطون العراقيين وارخوها عن بطونهم

 لاشيء يمكنه ان يوضح بشكل جلي ويكشف عن مدى تمادي الزمر التي تمكنت من رقاب العراقيين من خلال سياسات النهب المنظم واللصوصية اكثر من الاساليب التي لجؤا اليها في التعامل مع موازنة الدولة المالية السنوية خلال عقد ونصف من عمر الحكومات التي تسلموا ادارتها بعد عام 2003.ان تحليل نصوص قوانين الموازنة السنوية خلال هذه الفترة ومتابعة الطريقة التي تم من خلالها اعدادها واقرارها وتنفيذها يكشف عن منهجية متعمدة في نهب المال العام وفي تخريب أية محاولة لاعادة بناء الدولة العراقية والتعامل مع الحكم باعتباره مجرد وسيلة من وسائل الهيمنة والاستئثار بالموارد والثروات كأسلاب حرب وليست كثروة وطنية.

تقول ادبيات المالية العامة بان الموازنة المالية هي الخطة التنظيمية للدولة التي تتضمن تقديرات بالواردات التي من المتوقع أن تحصل عليها الدولة، من جهة، والنفقات المترتبة عن التزاماتها السنوية في تشغيل مفاصلها المختلفة، اضافة الى المشاريع الاستثمارية التي يتم تدويرها من عام الى آخر، من جهة ثانية.ان اصل المالية العامة هو ما كانت تجبيه الدولة القديمة من أموال من الرعايا من ضرائب ورسوم بالطريقة والكمية التي يحددها حكامها، لكنها اصبحت في دولة المواطنين في العصور الحديثة اداة من ادوات الحكم التي تخضع للمساءلة من قبل المحكوم وفق العقد الاجتماعي الذي اصبحت تحدده القواعد الديمقراطية التي يخضع اليها الحاكم.

ان فلسفة الموازنة السنوية في الدولة الحديثة ترتكز الى كونها الفرصة التي تتاح للمواطنيين عبر ممثليهم الذين انتخبوهم في المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيرهم والتي تتخذها اجهزة الدولة، وخاصة في ما يتعلق بطريقة ادارة المالية العامة ومصادر الثروات.والموازنة هي بالتالي اداة من ادوات ممارسة السلطة، وفي نفس الوقت مراقبة تلك الممارسة عبر تحديد الأهداف والمهمات والبرامج المطلوبة خلال عام واحد يدعى بالسنة المالية.وجوهر عملية اعداد الموازنة هو العمل بروح الجماعة والتعددية والتوازن والشفافية والنزاهة مثلما يتظمن الاعداد والتنفيذ الناجح لها التواصل مع المواطنين والمشاركة المجتمعية والالتزام العالي بتحقيق اقصى درجات الفاعلية لبنودها والبحث عن حلول خلاقة للمشكلات التي تواجه تطبيقها، وكل ذلك بهدف خدمة الخطة التنموية والعمل على تحسين نوعية الحياة لجموع المواطنيين بالموارد المتوفرة وبكلفة معقولة.

فهل كانت كل هذه المبادئ هي ايضا فلسفة الجماعات السياسية التي تمكنت من الوصول الى الحكم منذ عام 2003 في العراق، ام ان الموزانات التي اعدت منذ ذلك الحين كانت مجرد غطاء تشريعي وفرته لنفسها من خلال البرلمان الذي تهيمن عليه كي تمضي في عمليات النهب والسلب المنظمة التي جرت منذ ذلك الحين والتي اوصلت البلد الى كل هذا الخراب وحولته بالتالي الى مغارة لصوص “علي بابا” الجدد؟

تعود بداية مشكلة موازنة الدولة الى فترة الاحتلال الامريكي حيث كانت عملية تنظيم الشؤون المالية خلال السنوات الأولى من الاحتلال مضطربة بسبب الاندماج الذي حصل في موارد الموازنة بين الأموال التي كانت تضخ من الجانب الامريكي، في ما دعى حينها باموال “برنامج اعادة الاعمار”، وبين الأموال العراقية المتحصلة من بيع النفط عبر الصندوق الخاص الذي وضع تحت اشراف “مجلس الامن الدولي” بسبب استمرار بقاء العراق حيئنذ تحت بنود الفصل السابع لـ”ميثاق الامم المتحدة” بموجب القرارات الأممية التي اتخذت اثر غزو الكويت عام 1990.

شهدت تلك الفترة خروقات مهولة سجلتها تقارير “مكتب المحاسبة الحكومية الامريكي” ومنظمات دولية اضافة الى  مارصده الاعلام الدولي ضاعت من جرائها مليارات من الدولارات نتيجة الفساد والهدر وعمليات نهب الأموال التي جرت في ظل ادارة الاحتلال، او ما كان يسمى بـ”سلطة الائتلاف المؤقتة”.وتحفل تلك التقارير بالكثير من المعلومات عن ضياع تلك المليارات من الدولارات خلال تلك الفترة، والتي لم يجر التحقق بشكل جدي من كيفية ضياعها، ولا عمن يقف خلف ذلك، ولا الى الجهات التي تسربت اليها.فعلى مدى السنوات الماضية تواصلت التقارير بشأن البحث عن مصير مليارات الدولارات التي خصصت للاعمار والتي وصلت بعض الأرقام التي نشرت بشأنها الى حوالي 88 مليار دولار ولكن لم يتم ابدا الافصاح عن القنوات التي تسربت اليها ومن هم المستفيدون من ذلك.ومن المرات القليلة التي تمت الاشارة فيها الى السرقات التي جرت في “صندوق الامم المتحدة للاموال العراقية” هو ما ذكر عن قيام “لجنة النزاهة البرلمانية” بالطلب الى “الامم المتحدة” بالتدقيق في ضياع نحو سبعة عشر مليار دولار من تلك الأموال خلال فترة عمل “سلطة الائتلاف الموقتة” والتي كانت تتمتع بحق مطلق، ودون اية رقابة، في الحصول على حصة العراق من الاموال والتصرف بها.(1)

 اضافة الى ذلك فقد سجلت الفترة الممتدة من الغزو عام 2003 حتى عام 2007، اي مع البدء بوضع موازنة لاول حكومة منتخبة، غيابا كاملا للاحصاءات والمعلومات الحقيقية عن كميات النفط المصدرة والأموال المتحصلة من التصدير، حيث تشير التقارير الصادرة عن مختلف الجهات الى ارقام متضاربة مما يكشف عن فوضى عارمة في عمليات بيع النفط وفي عمليات الرصد والتحقق من الكميات المصدرة ومن الأموال المتحصلة من التصدير وطرق توزيعها وصرفها.لقد كان شائعا حينها ان حقول النفط وموانئ التصدير تعمل دون عددادات يمكنها ان تسجل كميات النفط المنتجة والمصدرة.لقد استمر هذا الوضع اي عدم وجود رقابة وشفافية على تصدير النفط حتى النهاية بشهادة منظمة “مبادرة الشفافية العالمية في الصناعات الاستخراجية” التي اصدرت تقريرا في شهر تشرين الاول (اكتوبر) 2017 اشارت فيه الى استمرار عدم ايفاء العراق بالتزاماته بالافصاح الدقيق عن صادراته النفطية والذي قررت بناء عليه تعليق عضوية العراق في المنظمة، وهي ضربة ساحقة لمصداقية الحكومة العراقية في عالم الاعمال الدولي.(2)

والحاصل، هو ان هذه الممارسات التي جرت بمباركة وتشجيع، وربما تخطيط امريكي ايضا، هي التي ارست حجر الاساس لكل ما جرى في العراق بعد ذلك من ممارسات في الاستهانة بعمليات وضع الخطط المالية والمتابعة والمراقبة والتدقيق في عمليات التصرف في الثروة النفطية والاموال المتحصلة من الضرائب والرسوم مما فتح ابواب الفساد على مصراعيها.وعندما كانت روائح الفساد قد بدأت تزكم الأنوف وشرعت الصحافة العالمية في فضح الكثير من قصص السرقات والهدر حاولت الادارة الأمريكية ان تتظاهر بانها تفعل شيئا لمعالجتها فاوكلت عام 2007 الى “الوكالة الأمريكية للتنمية” تدريب نحو 500 موظف عراقي على عمليات ادارة ومتابعة تنفيذ الموازنة المالية، غير ان الوقت كان قد فات حينها واصبح العراق غارقا حتى قمة رأسه في الفساد بكل انواعه.

 وعلى الرغم من شحة التفاصيل وغياب التقارير الموثقة والدراسات عن موزانات العراق المالية خلال هذه الفترة بسبب تقاعس الاجهزة المعنية كـ”مجلس النواب” و”ديوان الرقابة المالية و”هيئة النزاهة” في توفيرها الا ان الصورة الكلية التي توفرها التقارير المختلفة تشي بفلتان وتخبط رافق كل مراحل تشريع الموازنات من اعداد الخطط مرورا بمراحل التنفيذ وحتى المتابعة.واذا كان ذلك للوهلة الأولى يعطي انطباعا عن حجم الفوضى والعشوائية السائدة في محاولات بناء الدولة الا ان التعمق في دراسة الظاهرة المستمرة طيلة كل تلك السنوات اصبح يدل على عمل ممنهج ومتعمد يهدف الى تدمير الدولة من خلال نهبها واشاعة ثقافة الفساد وممارساته في مفاصلها المختلفة، كل ذلك تحت غطاء القانون والتشريعات البرلمانية.

وكما هو متوقع، فلا توجد ارقام كلية عن مجموع الايرادات النفطية منذ الغزو الامريكي وحتى اللحظة، الا انه حسب ما هو متداول من معلومات وما وفرته الموازنات المالية منذ عام 2003 من مؤشرات فان هناك حوالي 800 مليار دولار سجلت كايرادات رسميا حتى عام 2016، وهي اموال بامكان اي انسان، وليس باحث متخصص، ان يخمن انها كانت ستحول العراق الى مصاف دول متقدمة في المنطقة من حيث التنمية والعمران والتطور في المجالات المختلفة.اما اذا كنا قد اضفنا الى ذلك المليارات التي ذهبت دون حسابات، او متابعة، من خلال نهب النفط وبيعه بصورة غير مشروعة، او من خلال الصفقات السرية وعمليات تبيض الأموال وطرق الفساد الأخرى فقد كان بامكان العراق ان يتحول من خلالها الى مرتبة الدول المتقدمة عالميا.لكن ما وصلنا اليه على ارض الواقع بعد كل هذه السنين هو ان العراق وبعد اكثر من عقد من الزمان يقبع الان في اسفل قوائم معظم المؤشرات الاقتصادية والتنموية الدولية في حين ان مجرد نظرة سريعة الى شوارع المدن العراقية كافية لكي تكشف عن واقع شديد البؤس والتخلف والانحدار.

ان هذه الصورة البائسة التي تتجلى فيها “دولة علي بابا” من خلال الميزانية تبدأ من طريقة صرف الايرادات في باب الميزانية التشغيلية حيث يظهر منذ البداية مفهوم الدولة كبقرة سائبة حلوب، او ان تجري عملية نهب موارد الدولة وتوزيعها كغنائم واسلاب، وكأن القائمين عليها يعتبرونها عدوا يبنغي استنزافه حتى آخر قطرة دم في عروقه، وليس وطناً مدمراً يبنغي اعادة اعماره.هكذا بدأت مليارات الدولارات تصرف على بيروقراطية تم بناؤها من خلال توظيف مئات الألوف من الاشخاص لاسباب سياسية وطائفية لا علاقة لها بالحاجات الأساسية لجهاز الدولة ومن خلال وزارات وهيئات وصناديق تم انشاؤها لضخ المليارات من الدولارات الى جيوب مستفيدين من الأزلام والمنتفعين تحت ذرائع التعويضات المختلفة.وما الهيئات التي انشأت لتعويض المهاجرين وذوي الشهداء والمساجين السياسيين وتعويضات المادة 140 في الدستور الخاصة بالأراضي المتنازع عليها الا ابوابا من ابواب الفساد والنهب التي تسلل منها مئات الآلاف، بل ربما الملايين ممن لا يستحقون تلك التعويضات وعلى حساب الضحايا الحقيقيين الذين استبعدوا منها.

وخلال كل هذه الاعوام لم تتقدم الحكومة بتقارير الحسابات الختامية للسنة المالية المنصرمة للبرلمان لمناقشتها واقراها كما ينص على ذلك الدستور العراقي، وكما هو متبع في كل دول العالم، كممارسة رقابية ديمقراطية من قبل البرلمان على عمل الادارة الحكومية وطرق تصرفها بالمال العام.لقد حرم العراقيون طيلة هذه السنوات من الاطلاع والتعرف على تفاصيل صرف الميزانية العامة ومجريات الانفاق العام التي اوكلت للحكومة ومن مراقبة الاداء الحكومي، ولكن الأهم من ذلك انهم عجزوا عن ان يضعوا حدا لعمليات النهب المستمرة لموارد البلاد.(3)

ما يلفت النظر في هذا الاطار ان رئيس الوزراء الثاني “حيدر العبادي” كان رئيسا لللجنة المالية في البرلمان خلال الدورة السابقة على انتخابه مما يعني انه كان يتحمل مسؤولية كبيرة في هذا المجال وعدم قيامه بمحاسبة الحكومة السابقة عن عدم تقديمها الحسابات الختامية للموازات السابقة مما اثار أسئلة كثيرة عن مدى جدية التزاماته تجاه اعداد وتنفيد ومتابعة موازنات حكومته خلال السنين المالية لعهده وفق السياقات المعهود دوليا وتقديم حسابات المراجعة بصورة شفافة.

وتلخص ميزانية عام 2015 والتي اقرت في 29 كانون الثاني (يناير) 2015 اي في السنة الاولى لحكمه المعضلة الاساسية التي واجهت العراق في قضية ادارة موارده المالية حيث كشفت جهود اعداد الموازنة عن حقيقة الأوضاع المزرية التي عليها الوضع المالي للعراق رغم كل المليارت التي حصل عليها خلال السنين السابقة.ما اتضح من اعداد موازنة التقشف تلك والتي جاءت بعد الانهيار الكبير في اسعار النفط ان العراق  يقف عاريا تماما من اية استعدادات وضمانات تمكنه من مواجهة تقلبات السوق النفطية وحماية شعبه من الانعكاسات السلبية لانخفاض الاسعار وذلك بسبب طبيعة الاقتصاد الريعي الذي اقامه القائمون على الحكم وعدم بنائهم لقاعدة اقتصادية منتجة ومتينة وغياب الاحتياطي المالي اللازم والصناديق السيادية، مثلما تفعل باقي الدول النفطية.

واذا كانت تلك هي عين الكارثة الكبرى فان ما كشفت عنه النقاشات والجهود التي صاحبت اعداد موازنات السنين التالية التي تأخر اقرارها اشهرا عن موعدها الدستوري هو الغياب التام للخبرة والكفاءة الاقتصادية في اعداد الموازنة، وخاصة ما اتضح جليا من الطريقة التي اتبعت في حساب اسعار البرميل الواحد من النفط، مما كشف عدم كفاءة وزارتي النفط والمالية في تقديم تقديرات وتصورات واقعية عن دور النفط في موارد الموازنة.ونتيجة لذلك فقد استعيض عن الاساليب المنهجية في تخطيط الموازنة باساليب الفهلوة والترقيع اضافة الى سيادة السياسات التي تتعامل مع الموازنة من منطق المحاصصة الاثنو-طائفية في تقسيم الموارد وليس على اساس المصالح العليا للبلد وهو ما دلت عليه التفاهمات التي تمت بشأن صادرات النفط مع اقليم كردستان.

ما نتج عن ذلك هو العجز الذي ظلت تكشف عنه الموازنات تلك الذي بلغ أكثر من 20 بالمائة واضطرار الحكومة ليس الى تقليص الميزانيتين التشغيلية والاستثمارية فقط بل اللجؤ الى سياسات شد الأحزمة والى سلسلة اجراءات مالية حساسة شملت اللجوء الى احتياطي “البنك المركزي العراقي” واصدار سندات حكومية والاقتراض من البنوك المحلية والدولية وغير ذلك من الوسائل بهدف سد العجز وتوفير الأموال اللازمة لادارة عجلة الدولة.واذا ما ظلت تأثيرات كل تلك الاجراءات على المواطن العراقي العادي ومستوى معيشته خلال تلك الفترة ملمومسة، فان نتائجها على المدى البعيد ستكون كارثية.

ومع ان “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” كانا من الجهات التي روجت لخرافة انعكاس ارتفاع مؤشرات الناتج القومي الايجابية على التنمية، الا انهما اقرا من خلال تقاريرهما الدورية بالحالة المزرية للاقتصاد العراقي نتيجة الاداء الحكومي خلال العشرية الماضي وطالبا بالاصلاحات الهيكلية المالية والنقدية اللازمة لوقف تدهور الاقتصاد العراقي وخاصة ازالة الأسباب التي ادت الى ظاهرة الفقر في بلد هو واحد من اغنى بلدان العالم بثرواته الطبيعية.ففي احدى تقاريرها تلخص “مجموعة البنك الدولي” ما وصل اليه العراق عام 2012 من حالة مزرية حيث يعيش نحو 20 في المائة من السكان فيه بمستوى تحت خط الفقر.وكشف التقرير الذي اعتبر اول تحليل معمق للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في العراق منذ  الاحتلال ان الفئات الأكثر ثراء من السكان حصدت النسبة الأكبر من المكاسب على حساب الأغلبية من العراقيين التي ظلت مستوياتها المعيشية تترواح بين الاكتفاء وبين الفقر او حتى الوقوع تحت مستوى خط الفقر.وليست الفئات الثرية هنا بطبيعة الحال سوى جماعات “دولة علي بابا” وحلفائهم من الطبقة الطفيلية التي تكونت من خلال الإعتياش على الفساد وليست الفئات التي كسبت اموالها عن طريق النشاطات الاقتصادية الطبيعية والقانونية المعروفة.

ما يدعم نتائج هذا التقرير وما يؤكد على استمرار حالة التدهور المعيشي هو ما جاء في تصنيف العراق في المرتبة الـ87 عالمياً في مؤشر الجوع العالمي لعام 2017  ليتقدم بذلك العراق على العديد من البلدان المعروفة عالميا بارتفاع مؤشرات الفقر نظرا لأسباب تتعلق بانعدام، او شحة الموارد.ولكي تتضح صورة موقع العراق في هذا المؤشر فانه يعني بتصنيف البلدان على اربعة مرتكزات اساسية هي: نقص التغذية، ووفيات الاطفال، وهزال الاطفال، وتقزمهم.(4)

هناك تقارير اخرى عديدة صدرت عن المؤسسات الدولية خلال الفترة المدروسة تشير الى ان هناك ارث صعب من الفساد وسؤ الادارة والهشاشة والضعف المؤسسي في العراق مما يجعل الاقتصاد العراقي يواجه تحديات هائلة على المدى البعيد قد تستغرق وقتاً طويلاً للتغلب عليها.ففي تقرير لـ”برنامج الأمم المتحدة الانمائي” تشير المنظمة الى عجز المؤشرات الكمية المتأتية من وفرة المصادر النفطية على تنمية القدرات البشرية وتمكينها من ادارة الموارد الضرورية لبناء اساليب حياة كريمة ومعززة.كما يشير الى ان العديد من المشكلات المتراكمة تهدد التمنية الشاملة وتضعف من جهود احراز تقدم حثيث في جهود التنمية.ولعل اهم استنتاجات هذا التقرير هو ان التشويهات التي انتجها الاعتماد الكلي على موارد النفط ادت الى تعثر برامج التنمية الاقتصادية، وخاصة لجهة تدهور نسبة نمو النشاطات الاقتصادية التي توفر فرص العمل والتي عملت بدلا عن ذلك على خلق سوق عمل غير متجانس اصبح مستودعا للبطالة والبطالة المقعنة.(5)

ومع كل هذه الصور البشعة للأوضاع المعيشية للعراق فقد جاءت ميزانيات الدولة منذ عام 2014 تقشفية وتفتقر الى تخصيصات استثمارية بسبب العجز الهائل الذي كانت تعانيه والذي عزي ظاهريا الى تدهور اسعار النفط، ولكن واقعيا كان ذلك بسبب الفساد الذي ابتلع موارد الدولة، والنزيف في احتياطاتها النقدية، واستمرار سرقة المال العام.فعلى مدى السنوات اللاحقة تظمنت الميزانيات استقطاعات من رواتب الموظفين والمتقاعدين ووقف التعينات في دوائر الدولة وتعليق الدعم للكثير من السلع والخدمات وزيادة اسعار الكهرباء والماء وفرض ضرائب ورسوم جديدة اثقلت كلها اعباء الحياة على المواطن، وخاصة الفئات الأكثر حاجة.وفي نفس الوقت فقد توقفت، او كادت، كل المشاريع التنموية التي توفر  للمواطنين الخدمات الأساسية ولتطوير البنية التحيتة التي من شأنها ان تحسن من الاداء الاقتصادي العام.ولعل اسوء نتائج التقشف هو تعرض المستشفيات والمدارس الى ازمات مالية ادت الى تعثر الخدمات الصحية والتعليمية حتى خلت العديد من المراكز الصحية من الأدوية والمعدات والأطباء مثلما افتقرت المدارس الى ابنية لائقة والى المعلمين والكتب الدراسية.ان خير دليل على الأثار التدميرية للاجراءات التقشفية هو انحدار مؤشرات جودة الحياة في العراق مثل الصحة والسكن والحياة الاجتماعية والرفاه المادي والأمن الوظيفي، والتلوث والبيئة، والتعليم والثقافة، ورعاية الطفولة والمسنين والايتام واصحاب الحاجات الخاصة، وغير ذلك مما يتطلبه الإنسان من مواجهة متطلبات الحياة وضغوطها.

وفي الوقت الذي خلفت الميزانيات التقشفية الكثير من التشوهات في البنى الاقتصادية والاجتماعية وعمقت من معاناة العراقيين استمرت زمر الحكم تمارس فسادها الذي اعتادت عليه والذي كشفت عنه المزيد من الفضائح وقصص الفساد التي ظلت تتوالى خلال السنوات التي تم اللجؤ خلالها للميزانيات التقشفية.لقد ظل اكبر منفذ للفساد، وهو مزاد العملة في “البنك المركزي العراقي” مفتوحا على مصراعيه ممثلا المصدر الاكبر لاستنزاف موارد البلد من العملة الصعبة من النفط، بل واستنزاف الاحتياطي النقدي للبنك ذاته.ومثلما هو الأمر منذ احلال هذا النظام بعد الاحتلال فقد استمرت البنوك وشركات الصيرفة التي تمتلكها الجماعات الحاكمة وحلفاؤها من الأوليغاركية المتنفذة في شفط مليارات الدولارات سنويا والتي يجري تحويلها بعدئذ الى خارج العراق ثم يجري تبيضها في عمليات تتم عبر مافيات دولية واقليمية.(6)

وعلى نفس المنوال الذي كانت عليه منذ 2003 فقد استمرت عمليات نهب المال العام والفساد المالي والاداري للجماعات المتسلطة واعوانها بالرغم من معاناة الناس من الغلاء وشحة الموارد والفقر والعوز نتيجة سياسات شد الأحزمة على البطون التي اعلنتها الحكومة لمواجهة العجز في الموازنة.لقد كانت تلك ايضا رسالة تيئيس من تلك الجماعات للعراقيين عن أية امكانية حقيقية لوقف الفساد مهما كانت ظروف البلد الاقتصادية، حتى ان رئيس “هيئة النزاهة” “حسن الياسري” اقر في تصريحات له ان مهمته بمحاربة الفساد هي بمثابة محاولة “إفراغ مياه البحر بملعقة.”(7)

                        هوامش ومراجع ومصادر الفصل العاشر

 

1-انظر:”هيا يا سيد بريمر، اين ذهبت أموال العراق؟” صحيفة الغاردين البريطانية (بالانكليزي)، 7/7/2005

https://www.theguardian.com/world/2005/jul/07/iraq.features11

انظر ايضا:”البحث عن 17 مليار دولار من اموال العراق ضاعت بعد الاحتلال الامريكي”، وكالة انباء رويترز (بالانكليزية)، 19/6/2011

https://www.reuters.com/article/us-iraq-usa-money/iraq-hunting-17-billion-missing-after-u-s-invasion-idUSTRE75I20S20110619

2-انظر:”مبادرة الشفافية الدولية تعلق عضوية العراق”، موقع عراق بزنيز نيوز، 6/11/2017

http://www.iraq-businessnews.com/2017/11/06/transparency-initiative-suspends-iraqs-membership/

3-انظر:”ديوان الرقابة المالية عاجز عن تقديم الحسابات الختامية للحكومة، 17/12/2012

http://www.almadapaper.net/ar/news/4388/%D8%AF%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D8%AC%D8%B2-%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9

4-انظر:”الفقر في العراق بين عامي 2012-2014″، مجموعة البنك الدولي (بالانكليزية) ،1/1/2016

http://documents.worldbank.org/curated/en/239351468915807676/Poverty-in-Iraq-2012-2014

انظرايضا:مؤشر الجوع العالمي عام 2017

http://www.globalhungerindex.org/pdf/en/2017.pdf

5-انظر:تقرير التنمية البشرية في العراق 2014، برنامج الامم المتحدة الانمائي (بالانكليزية)

http://www.iq.undp.org/content/dam/iraq/img/Publications/UNDP-IQ_IraqNHDR2014-English.pdf

6-انظر:”الفساد ينخر في مزاد العملة العراقية”، موقع العربي الجديد، 14/12/2015

https://www.alaraby.co.uk/supplementeconomy/2015/12/13/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D9%8A%D9%86%D8%AE%D8%B1-%D9%85%D8%B2%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9

انظر كذلك:”بسبب فساد مزاد بيع العملة.. انخفاض احتياطي العراق الى 43 مليار دولار”، موقع بغداد بوست، 26/5/2016

http://www.thebaghdadpost.com/ar/story/8610/%D8%A8%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D9%85%D8%B2%D8%A7%D8%AF-%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AE%D9%81%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D8%B7%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A5%D9%84%D9%89-43-%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1

7-انظر:”لوفيغارو:سرطان الفساد ينهش العراق”، موقع الجزيرة، 30/11/2017

http://www.aljazeera.net/news/presstour/2017/10/5/%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%84%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%BA%D8%A7%D8%B1%D9%88-%D8%B3%D8%B1%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D9%8A%D9%86%D9%87%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82

 

cover 5

Analysis & views from the Middle East