10)
شدوا الأحزمة على بطون العراقيين وارخوها عن بطونهم
لاشيء يمكنه ان يوضح بشكل جلي ويكشف عن مدى تمادي الزمر التي تمكنت من رقاب العراقيين من خلال سياسات النهب المنظم واللصوصية اكثر من الاساليب التي لجؤا اليها في التعامل مع موازنة الدولة المالية السنوية خلال عقد ونصف من عمر الحكومات التي تسلموا ادارتها بعد عام 2003.ان تحليل نصوص قوانين الموازنة السنوية خلال هذه الفترة ومتابعة الطريقة التي تم من خلالها اعدادها واقرارها وتنفيذها يكشف عن منهجية متعمدة في نهب المال العام وفي تخريب أية محاولة لاعادة بناء الدولة العراقية والتعامل مع الحكم باعتباره مجرد وسيلة من وسائل الهيمنة والاستئثار بالموارد والثروات كأسلاب حرب وليست كثروة وطنية.
تقول ادبيات المالية العامة بان الموازنة المالية هي الخطة التنظيمية للدولة التي تتضمن تقديرات بالواردات التي من المتوقع أن تحصل عليها الدولة، من جهة، والنفقات المترتبة عن التزاماتها السنوية في تشغيل مفاصلها المختلفة، اضافة الى المشاريع الاستثمارية التي يتم تدويرها من عام الى آخر، من جهة ثانية.ان اصل المالية العامة هو ما كانت تجبيه الدولة القديمة من أموال من الرعايا من ضرائب ورسوم بالطريقة والكمية التي يحددها حكامها، لكنها اصبحت في دولة المواطنين في العصور الحديثة اداة من ادوات الحكم التي تخضع للمساءلة من قبل المحكوم وفق العقد الاجتماعي الذي اصبحت تحدده القواعد الديمقراطية التي يخضع اليها الحاكم.
ان فلسفة الموازنة السنوية في الدولة الحديثة ترتكز الى كونها الفرصة التي تتاح للمواطنيين عبر ممثليهم الذين انتخبوهم في المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيرهم والتي تتخذها اجهزة الدولة، وخاصة في ما يتعلق بطريقة ادارة المالية العامة ومصادر الثروات.والموازنة هي بالتالي اداة من ادوات ممارسة السلطة، وفي نفس الوقت مراقبة تلك الممارسة عبر تحديد الأهداف والمهمات والبرامج المطلوبة خلال عام واحد يدعى بالسنة المالية.وجوهر عملية اعداد الموازنة هو العمل بروح الجماعة والتعددية والتوازن والشفافية والنزاهة مثلما يتظمن الاعداد والتنفيذ الناجح لها التواصل مع المواطنين والمشاركة المجتمعية والالتزام العالي بتحقيق اقصى درجات الفاعلية لبنودها والبحث عن حلول خلاقة للمشكلات التي تواجه تطبيقها، وكل ذلك بهدف خدمة الخطة التنموية والعمل على تحسين نوعية الحياة لجموع المواطنيين بالموارد المتوفرة وبكلفة معقولة.
فهل كانت كل هذه المبادئ هي ايضا فلسفة الجماعات السياسية التي تمكنت من الوصول الى الحكم منذ عام 2003 في العراق، ام ان الموزانات التي اعدت منذ ذلك الحين كانت مجرد غطاء تشريعي وفرته لنفسها من خلال البرلمان الذي تهيمن عليه كي تمضي في عمليات النهب والسلب المنظمة التي جرت منذ ذلك الحين والتي اوصلت البلد الى كل هذا الخراب وحولته بالتالي الى مغارة لصوص “علي بابا” الجدد؟
تعود بداية مشكلة موازنة الدولة الى فترة الاحتلال الامريكي حيث كانت عملية تنظيم الشؤون المالية خلال السنوات الأولى من الاحتلال مضطربة بسبب الاندماج الذي حصل في موارد الموازنة بين الأموال التي كانت تضخ من الجانب الامريكي، في ما دعى حينها باموال “برنامج اعادة الاعمار”، وبين الأموال العراقية المتحصلة من بيع النفط عبر الصندوق الخاص الذي وضع تحت اشراف “مجلس الامن الدولي” بسبب استمرار بقاء العراق حيئنذ تحت بنود الفصل السابع لـ”ميثاق الامم المتحدة” بموجب القرارات الأممية التي اتخذت اثر غزو الكويت عام 1990.
شهدت تلك الفترة خروقات مهولة سجلتها تقارير “مكتب المحاسبة الحكومية الامريكي” ومنظمات دولية اضافة الى مارصده الاعلام الدولي ضاعت من جرائها مليارات من الدولارات نتيجة الفساد والهدر وعمليات نهب الأموال التي جرت في ظل ادارة الاحتلال، او ما كان يسمى بـ”سلطة الائتلاف المؤقتة”.وتحفل تلك التقارير بالكثير من المعلومات عن ضياع تلك المليارات من الدولارات خلال تلك الفترة، والتي لم يجر التحقق بشكل جدي من كيفية ضياعها، ولا عمن يقف خلف ذلك، ولا الى الجهات التي تسربت اليها.فعلى مدى السنوات الماضية تواصلت التقارير بشأن البحث عن مصير مليارات الدولارات التي خصصت للاعمار والتي وصلت بعض الأرقام التي نشرت بشأنها الى حوالي 88 مليار دولار ولكن لم يتم ابدا الافصاح عن القنوات التي تسربت اليها ومن هم المستفيدون من ذلك.ومن المرات القليلة التي تمت الاشارة فيها الى السرقات التي جرت في “صندوق الامم المتحدة للاموال العراقية” هو ما ذكر عن قيام “لجنة النزاهة البرلمانية” بالطلب الى “الامم المتحدة” بالتدقيق في ضياع نحو سبعة عشر مليار دولار من تلك الأموال خلال فترة عمل “سلطة الائتلاف الموقتة” والتي كانت تتمتع بحق مطلق، ودون اية رقابة، في الحصول على حصة العراق من الاموال والتصرف بها.(1)
اضافة الى ذلك فقد سجلت الفترة الممتدة من الغزو عام 2003 حتى عام 2007، اي مع البدء بوضع موازنة لاول حكومة منتخبة، غيابا كاملا للاحصاءات والمعلومات الحقيقية عن كميات النفط المصدرة والأموال المتحصلة من التصدير، حيث تشير التقارير الصادرة عن مختلف الجهات الى ارقام متضاربة مما يكشف عن فوضى عارمة في عمليات بيع النفط وفي عمليات الرصد والتحقق من الكميات المصدرة ومن الأموال المتحصلة من التصدير وطرق توزيعها وصرفها.لقد كان شائعا حينها ان حقول النفط وموانئ التصدير تعمل دون عددادات يمكنها ان تسجل كميات النفط المنتجة والمصدرة.لقد استمر هذا الوضع اي عدم وجود رقابة وشفافية على تصدير النفط حتى النهاية بشهادة منظمة “مبادرة الشفافية العالمية في الصناعات الاستخراجية” التي اصدرت تقريرا في شهر تشرين الاول (اكتوبر) 2017 اشارت فيه الى استمرار عدم ايفاء العراق بالتزاماته بالافصاح الدقيق عن صادراته النفطية والذي قررت بناء عليه تعليق عضوية العراق في المنظمة، وهي ضربة ساحقة لمصداقية الحكومة العراقية في عالم الاعمال الدولي.(2)
والحاصل، هو ان هذه الممارسات التي جرت بمباركة وتشجيع، وربما تخطيط امريكي ايضا، هي التي ارست حجر الاساس لكل ما جرى في العراق بعد ذلك من ممارسات في الاستهانة بعمليات وضع الخطط المالية والمتابعة والمراقبة والتدقيق في عمليات التصرف في الثروة النفطية والاموال المتحصلة من الضرائب والرسوم مما فتح ابواب الفساد على مصراعيها.وعندما كانت روائح الفساد قد بدأت تزكم الأنوف وشرعت الصحافة العالمية في فضح الكثير من قصص السرقات والهدر حاولت الادارة الأمريكية ان تتظاهر بانها تفعل شيئا لمعالجتها فاوكلت عام 2007 الى “الوكالة الأمريكية للتنمية” تدريب نحو 500 موظف عراقي على عمليات ادارة ومتابعة تنفيذ الموازنة المالية، غير ان الوقت كان قد فات حينها واصبح العراق غارقا حتى قمة رأسه في الفساد بكل انواعه.
وعلى الرغم من شحة التفاصيل وغياب التقارير الموثقة والدراسات عن موزانات العراق المالية خلال هذه الفترة بسبب تقاعس الاجهزة المعنية كـ”مجلس النواب” و”ديوان الرقابة المالية و”هيئة النزاهة” في توفيرها الا ان الصورة الكلية التي توفرها التقارير المختلفة تشي بفلتان وتخبط رافق كل مراحل تشريع الموازنات من اعداد الخطط مرورا بمراحل التنفيذ وحتى المتابعة.واذا كان ذلك للوهلة الأولى يعطي انطباعا عن حجم الفوضى والعشوائية السائدة في محاولات بناء الدولة الا ان التعمق في دراسة الظاهرة المستمرة طيلة كل تلك السنوات اصبح يدل على عمل ممنهج ومتعمد يهدف الى تدمير الدولة من خلال نهبها واشاعة ثقافة الفساد وممارساته في مفاصلها المختلفة، كل ذلك تحت غطاء القانون والتشريعات البرلمانية.
وكما هو متوقع، فلا توجد ارقام كلية عن مجموع الايرادات النفطية منذ الغزو الامريكي وحتى اللحظة، الا انه حسب ما هو متداول من معلومات وما وفرته الموازنات المالية منذ عام 2003 من مؤشرات فان هناك حوالي 800 مليار دولار سجلت كايرادات رسميا حتى عام 2016، وهي اموال بامكان اي انسان، وليس باحث متخصص، ان يخمن انها كانت ستحول العراق الى مصاف دول متقدمة في المنطقة من حيث التنمية والعمران والتطور في المجالات المختلفة.اما اذا كنا قد اضفنا الى ذلك المليارات التي ذهبت دون حسابات، او متابعة، من خلال نهب النفط وبيعه بصورة غير مشروعة، او من خلال الصفقات السرية وعمليات تبيض الأموال وطرق الفساد الأخرى فقد كان بامكان العراق ان يتحول من خلالها الى مرتبة الدول المتقدمة عالميا.لكن ما وصلنا اليه على ارض الواقع بعد كل هذه السنين هو ان العراق وبعد اكثر من عقد من الزمان يقبع الان في اسفل قوائم معظم المؤشرات الاقتصادية والتنموية الدولية في حين ان مجرد نظرة سريعة الى شوارع المدن العراقية كافية لكي تكشف عن واقع شديد البؤس والتخلف والانحدار.
ان هذه الصورة البائسة التي تتجلى فيها “دولة علي بابا” من خلال الميزانية تبدأ من طريقة صرف الايرادات في باب الميزانية التشغيلية حيث يظهر منذ البداية مفهوم الدولة كبقرة سائبة حلوب، او ان تجري عملية نهب موارد الدولة وتوزيعها كغنائم واسلاب، وكأن القائمين عليها يعتبرونها عدوا يبنغي استنزافه حتى آخر قطرة دم في عروقه، وليس وطناً مدمراً يبنغي اعادة اعماره.هكذا بدأت مليارات الدولارات تصرف على بيروقراطية تم بناؤها من خلال توظيف مئات الألوف من الاشخاص لاسباب سياسية وطائفية لا علاقة لها بالحاجات الأساسية لجهاز الدولة ومن خلال وزارات وهيئات وصناديق تم انشاؤها لضخ المليارات من الدولارات الى جيوب مستفيدين من الأزلام والمنتفعين تحت ذرائع التعويضات المختلفة.وما الهيئات التي انشأت لتعويض المهاجرين وذوي الشهداء والمساجين السياسيين وتعويضات المادة 140 في الدستور الخاصة بالأراضي المتنازع عليها الا ابوابا من ابواب الفساد والنهب التي تسلل منها مئات الآلاف، بل ربما الملايين ممن لا يستحقون تلك التعويضات وعلى حساب الضحايا الحقيقيين الذين استبعدوا منها.
وخلال كل هذه الاعوام لم تتقدم الحكومة بتقارير الحسابات الختامية للسنة المالية المنصرمة للبرلمان لمناقشتها واقراها كما ينص على ذلك الدستور العراقي، وكما هو متبع في كل دول العالم، كممارسة رقابية ديمقراطية من قبل البرلمان على عمل الادارة الحكومية وطرق تصرفها بالمال العام.لقد حرم العراقيون طيلة هذه السنوات من الاطلاع والتعرف على تفاصيل صرف الميزانية العامة ومجريات الانفاق العام التي اوكلت للحكومة ومن مراقبة الاداء الحكومي، ولكن الأهم من ذلك انهم عجزوا عن ان يضعوا حدا لعمليات النهب المستمرة لموارد البلاد.(3)
ما يلفت النظر في هذا الاطار ان رئيس الوزراء الثاني “حيدر العبادي” كان رئيسا لللجنة المالية في البرلمان خلال الدورة السابقة على انتخابه مما يعني انه كان يتحمل مسؤولية كبيرة في هذا المجال وعدم قيامه بمحاسبة الحكومة السابقة عن عدم تقديمها الحسابات الختامية للموازات السابقة مما اثار أسئلة كثيرة عن مدى جدية التزاماته تجاه اعداد وتنفيد ومتابعة موازنات حكومته خلال السنين المالية لعهده وفق السياقات المعهود دوليا وتقديم حسابات المراجعة بصورة شفافة.
وتلخص ميزانية عام 2015 والتي اقرت في 29 كانون الثاني (يناير) 2015 اي في السنة الاولى لحكمه المعضلة الاساسية التي واجهت العراق في قضية ادارة موارده المالية حيث كشفت جهود اعداد الموازنة عن حقيقة الأوضاع المزرية التي عليها الوضع المالي للعراق رغم كل المليارت التي حصل عليها خلال السنين السابقة.ما اتضح من اعداد موازنة التقشف تلك والتي جاءت بعد الانهيار الكبير في اسعار النفط ان العراق يقف عاريا تماما من اية استعدادات وضمانات تمكنه من مواجهة تقلبات السوق النفطية وحماية شعبه من الانعكاسات السلبية لانخفاض الاسعار وذلك بسبب طبيعة الاقتصاد الريعي الذي اقامه القائمون على الحكم وعدم بنائهم لقاعدة اقتصادية منتجة ومتينة وغياب الاحتياطي المالي اللازم والصناديق السيادية، مثلما تفعل باقي الدول النفطية.
واذا كانت تلك هي عين الكارثة الكبرى فان ما كشفت عنه النقاشات والجهود التي صاحبت اعداد موازنات السنين التالية التي تأخر اقرارها اشهرا عن موعدها الدستوري هو الغياب التام للخبرة والكفاءة الاقتصادية في اعداد الموازنة، وخاصة ما اتضح جليا من الطريقة التي اتبعت في حساب اسعار البرميل الواحد من النفط، مما كشف عدم كفاءة وزارتي النفط والمالية في تقديم تقديرات وتصورات واقعية عن دور النفط في موارد الموازنة.ونتيجة لذلك فقد استعيض عن الاساليب المنهجية في تخطيط الموازنة باساليب الفهلوة والترقيع اضافة الى سيادة السياسات التي تتعامل مع الموازنة من منطق المحاصصة الاثنو-طائفية في تقسيم الموارد وليس على اساس المصالح العليا للبلد وهو ما دلت عليه التفاهمات التي تمت بشأن صادرات النفط مع اقليم كردستان.
ما نتج عن ذلك هو العجز الذي ظلت تكشف عنه الموازنات تلك الذي بلغ أكثر من 20 بالمائة واضطرار الحكومة ليس الى تقليص الميزانيتين التشغيلية والاستثمارية فقط بل اللجؤ الى سياسات شد الأحزمة والى سلسلة اجراءات مالية حساسة شملت اللجوء الى احتياطي “البنك المركزي العراقي” واصدار سندات حكومية والاقتراض من البنوك المحلية والدولية وغير ذلك من الوسائل بهدف سد العجز وتوفير الأموال اللازمة لادارة عجلة الدولة.واذا ما ظلت تأثيرات كل تلك الاجراءات على المواطن العراقي العادي ومستوى معيشته خلال تلك الفترة ملمومسة، فان نتائجها على المدى البعيد ستكون كارثية.
ومع ان “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” كانا من الجهات التي روجت لخرافة انعكاس ارتفاع مؤشرات الناتج القومي الايجابية على التنمية، الا انهما اقرا من خلال تقاريرهما الدورية بالحالة المزرية للاقتصاد العراقي نتيجة الاداء الحكومي خلال العشرية الماضي وطالبا بالاصلاحات الهيكلية المالية والنقدية اللازمة لوقف تدهور الاقتصاد العراقي وخاصة ازالة الأسباب التي ادت الى ظاهرة الفقر في بلد هو واحد من اغنى بلدان العالم بثرواته الطبيعية.ففي احدى تقاريرها تلخص “مجموعة البنك الدولي” ما وصل اليه العراق عام 2012 من حالة مزرية حيث يعيش نحو 20 في المائة من السكان فيه بمستوى تحت خط الفقر.وكشف التقرير الذي اعتبر اول تحليل معمق للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في العراق منذ الاحتلال ان الفئات الأكثر ثراء من السكان حصدت النسبة الأكبر من المكاسب على حساب الأغلبية من العراقيين التي ظلت مستوياتها المعيشية تترواح بين الاكتفاء وبين الفقر او حتى الوقوع تحت مستوى خط الفقر.وليست الفئات الثرية هنا بطبيعة الحال سوى جماعات “دولة علي بابا” وحلفائهم من الطبقة الطفيلية التي تكونت من خلال الإعتياش على الفساد وليست الفئات التي كسبت اموالها عن طريق النشاطات الاقتصادية الطبيعية والقانونية المعروفة.
ما يدعم نتائج هذا التقرير وما يؤكد على استمرار حالة التدهور المعيشي هو ما جاء في تصنيف العراق في المرتبة الـ87 عالمياً في مؤشر الجوع العالمي لعام 2017 ليتقدم بذلك العراق على العديد من البلدان المعروفة عالميا بارتفاع مؤشرات الفقر نظرا لأسباب تتعلق بانعدام، او شحة الموارد.ولكي تتضح صورة موقع العراق في هذا المؤشر فانه يعني بتصنيف البلدان على اربعة مرتكزات اساسية هي: نقص التغذية، ووفيات الاطفال، وهزال الاطفال، وتقزمهم.(4)
هناك تقارير اخرى عديدة صدرت عن المؤسسات الدولية خلال الفترة المدروسة تشير الى ان هناك ارث صعب من الفساد وسؤ الادارة والهشاشة والضعف المؤسسي في العراق مما يجعل الاقتصاد العراقي يواجه تحديات هائلة على المدى البعيد قد تستغرق وقتاً طويلاً للتغلب عليها.ففي تقرير لـ”برنامج الأمم المتحدة الانمائي” تشير المنظمة الى عجز المؤشرات الكمية المتأتية من وفرة المصادر النفطية على تنمية القدرات البشرية وتمكينها من ادارة الموارد الضرورية لبناء اساليب حياة كريمة ومعززة.كما يشير الى ان العديد من المشكلات المتراكمة تهدد التمنية الشاملة وتضعف من جهود احراز تقدم حثيث في جهود التنمية.ولعل اهم استنتاجات هذا التقرير هو ان التشويهات التي انتجها الاعتماد الكلي على موارد النفط ادت الى تعثر برامج التنمية الاقتصادية، وخاصة لجهة تدهور نسبة نمو النشاطات الاقتصادية التي توفر فرص العمل والتي عملت بدلا عن ذلك على خلق سوق عمل غير متجانس اصبح مستودعا للبطالة والبطالة المقعنة.(5)
ومع كل هذه الصور البشعة للأوضاع المعيشية للعراق فقد جاءت ميزانيات الدولة منذ عام 2014 تقشفية وتفتقر الى تخصيصات استثمارية بسبب العجز الهائل الذي كانت تعانيه والذي عزي ظاهريا الى تدهور اسعار النفط، ولكن واقعيا كان ذلك بسبب الفساد الذي ابتلع موارد الدولة، والنزيف في احتياطاتها النقدية، واستمرار سرقة المال العام.فعلى مدى السنوات اللاحقة تظمنت الميزانيات استقطاعات من رواتب الموظفين والمتقاعدين ووقف التعينات في دوائر الدولة وتعليق الدعم للكثير من السلع والخدمات وزيادة اسعار الكهرباء والماء وفرض ضرائب ورسوم جديدة اثقلت كلها اعباء الحياة على المواطن، وخاصة الفئات الأكثر حاجة.وفي نفس الوقت فقد توقفت، او كادت، كل المشاريع التنموية التي توفر للمواطنين الخدمات الأساسية ولتطوير البنية التحيتة التي من شأنها ان تحسن من الاداء الاقتصادي العام.ولعل اسوء نتائج التقشف هو تعرض المستشفيات والمدارس الى ازمات مالية ادت الى تعثر الخدمات الصحية والتعليمية حتى خلت العديد من المراكز الصحية من الأدوية والمعدات والأطباء مثلما افتقرت المدارس الى ابنية لائقة والى المعلمين والكتب الدراسية.ان خير دليل على الأثار التدميرية للاجراءات التقشفية هو انحدار مؤشرات جودة الحياة في العراق مثل الصحة والسكن والحياة الاجتماعية والرفاه المادي والأمن الوظيفي، والتلوث والبيئة، والتعليم والثقافة، ورعاية الطفولة والمسنين والايتام واصحاب الحاجات الخاصة، وغير ذلك مما يتطلبه الإنسان من مواجهة متطلبات الحياة وضغوطها.
وفي الوقت الذي خلفت الميزانيات التقشفية الكثير من التشوهات في البنى الاقتصادية والاجتماعية وعمقت من معاناة العراقيين استمرت زمر الحكم تمارس فسادها الذي اعتادت عليه والذي كشفت عنه المزيد من الفضائح وقصص الفساد التي ظلت تتوالى خلال السنوات التي تم اللجؤ خلالها للميزانيات التقشفية.لقد ظل اكبر منفذ للفساد، وهو مزاد العملة في “البنك المركزي العراقي” مفتوحا على مصراعيه ممثلا المصدر الاكبر لاستنزاف موارد البلد من العملة الصعبة من النفط، بل واستنزاف الاحتياطي النقدي للبنك ذاته.ومثلما هو الأمر منذ احلال هذا النظام بعد الاحتلال فقد استمرت البنوك وشركات الصيرفة التي تمتلكها الجماعات الحاكمة وحلفاؤها من الأوليغاركية المتنفذة في شفط مليارات الدولارات سنويا والتي يجري تحويلها بعدئذ الى خارج العراق ثم يجري تبيضها في عمليات تتم عبر مافيات دولية واقليمية.(6)
وعلى نفس المنوال الذي كانت عليه منذ 2003 فقد استمرت عمليات نهب المال العام والفساد المالي والاداري للجماعات المتسلطة واعوانها بالرغم من معاناة الناس من الغلاء وشحة الموارد والفقر والعوز نتيجة سياسات شد الأحزمة على البطون التي اعلنتها الحكومة لمواجهة العجز في الموازنة.لقد كانت تلك ايضا رسالة تيئيس من تلك الجماعات للعراقيين عن أية امكانية حقيقية لوقف الفساد مهما كانت ظروف البلد الاقتصادية، حتى ان رئيس “هيئة النزاهة” “حسن الياسري” اقر في تصريحات له ان مهمته بمحاربة الفساد هي بمثابة محاولة “إفراغ مياه البحر بملعقة.”(7)
هوامش ومراجع ومصادر الفصل العاشر
1-انظر:”هيا يا سيد بريمر، اين ذهبت أموال العراق؟” صحيفة الغاردين البريطانية (بالانكليزي)، 7/7/2005
https://www.theguardian.com/world/2005/jul/07/iraq.features11
انظر ايضا:”البحث عن 17 مليار دولار من اموال العراق ضاعت بعد الاحتلال الامريكي”، وكالة انباء رويترز (بالانكليزية)، 19/6/2011
2-انظر:”مبادرة الشفافية الدولية تعلق عضوية العراق”، موقع عراق بزنيز نيوز، 6/11/2017
http://www.iraq-businessnews.com/2017/11/06/transparency-initiative-suspends-iraqs-membership/
3-انظر:”ديوان الرقابة المالية عاجز عن تقديم الحسابات الختامية للحكومة، 17/12/2012
4-انظر:”الفقر في العراق بين عامي 2012-2014″، مجموعة البنك الدولي (بالانكليزية) ،1/1/2016
http://documents.worldbank.org/curated/en/239351468915807676/Poverty-in-Iraq-2012-2014
انظرايضا:مؤشر الجوع العالمي عام 2017
http://www.globalhungerindex.org/pdf/en/2017.pdf
5-انظر:تقرير التنمية البشرية في العراق 2014، برنامج الامم المتحدة الانمائي (بالانكليزية)
http://www.iq.undp.org/content/dam/iraq/img/Publications/UNDP-IQ_IraqNHDR2014-English.pdf
6-انظر:”الفساد ينخر في مزاد العملة العراقية”، موقع العربي الجديد، 14/12/2015
انظر كذلك:”بسبب فساد مزاد بيع العملة.. انخفاض احتياطي العراق الى 43 مليار دولار”، موقع بغداد بوست، 26/5/2016
7-انظر:”لوفيغارو:سرطان الفساد ينهش العراق”، موقع الجزيرة، 30/11/2017