حيث الاعلام لا يزعج الفاسدين
لم تكن تلك هي المرة الاولى التي يهاجم فيها “نوري المالكي” أجهزة الاعلام لتصديها للفساد في “دولة علي بابا” التي جلس على كرسي رئيس وزرائها دورتين متتاليتين لمدة ثمانية اعوام، الا انه في كلمته امام احتفالية “هيئة النزاهة ” بمناسبة اسبوع النزاهة الوطني يوم 27 تشرين الاول (اكتوبر) 2013 حذر من ان تلك الانتقادات ستنعكس على نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة والتي توقع ان تكون بدورها “سيئة” هي الأخرى، على حد تعبيره.ما قصده المالكي دون ان يفصح عن ذلك بصراحة ان فضائح الفساد التي اصبحت مهيمنة على مشاغل الناس وهمومها ربما ستطيح بأماله العريضة في إعادة تنصيبه للمرة الثالثة، وان الفضل بذلك سيعود الى وسائل الإعلام التي جعلت من مهمة فضح الفساد الذي غرقت به حكومته قضية رأي عام ملحة.(1)
فحوى تذمر وشكوى المالكي هو ادراكه لدور وسائل الاعلام العراقية المختلفة والناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي في الكشف عن فضائح الفساد وهو الدور الذي اصبح محورياً، وبدأ يؤتي ثماره، بالاقل، في لفت انتباه الفاسدين والمفسدين بان الجرائم التي يرتكبونها لن تمر من دون تسليط الأضواء عليها اعلاميا وفضحها، وانه لم يعد ممكنا بعد الآن طمس معالمها بالطريقة التي كان يلجأ اليها ذلك “القواد” الشهير في بغداد الخمسينيات والستينيات في الحكاية التي مر ذكرها.
وفي الحقيقة فان ما قاله المالكي يومئذ لم يكن فقط تعبيرا عن الضيق الذي اصبح يبديه هو وغيره من المسؤولين من الدور الذي يقوم بالاعلام والنشطاء على مواقع الإنترنيت في كشف الفساد، وفي تشكيل جبهة شعبية واسعة لمواجهته، بل تعدى ذلك ليكون تحريضاً سافراُ على الاعلاميين والناشطين من خلال تحميلهم مسؤولية فشل حكومته في تقديم الخدمات الضرورية للناس كالكهرباء والماء والخدمات الصحية وفي توفير الأمن والاستقرار وعجزها عن حل الازمة الوطنية، وعموما سوء ادارة الدولة ذاتها.
ان اكثر ما اثار غضب المالكي هو ان صيحات اجهزة الاعلام والنشطاء ضد الفساد قد بدأت تتعدى الحدود العراقية وبدأت تصل الى العالم الخارجي، وخاصة الولايات المتحدة التي كانت لا تزال ناشطة في العراق لمساعدته في الخروج من مأزقه من خلال المعاهدة التي ارتبطت بها مع حكومته قبل خروج قواتها من العراق، والأهم من ذلك، الدعم الذي قدمته له لتنصيبه رئيسا للحكومة في المرة الثانية.وفعلاً كما توقع المالكي فان دور الإعلام في كشف الفساد المفرط لحكومته ساهم في افشال الزيارة التي قام بها المالكي الى واشنطن نهاية شهر تشرين الاول (اكتوبر) عام 2013 حيث واجهته انتقادات حادة من الجهات الامريكية، وخاصة في الكونغرس، وفي اوساط النخب السياسية والاعلام والتي ركزت جميعها على الفساد وسؤ الادارة والمحسوبية والاحتكار والهيمنة باعتبارها تقف جميعا وراء العجز السياسي والأمني للحكومة، بل ووراء احتمالات انهيار العملية السياسية برمتها.
والواضح الآن انه بفضل تلك الحملات ضد فساد حكومته وسؤ ادارته ظهر المالكي في واشنطن كرئيس وزراء ضعيف وفاشل وعاجز وفاسد يصعب منحه التأييد، او حتى التعاون معه، وهو ما ادى الى تبلور الموقف الامريكي الذي ساعد بعد شهور على سقوط حملة المالكي من اجل الحصول على ولاية ثالثة بعد انتخابات ربيع 2014 على الرغم من تبؤ قائمتة المرتبة الاولى في تحالف الكتلة الفائزة، مما يدل على اهمية الدور الذي لعبه الاعلام في كشف فساد حكومة المالكي وتحريض العراقيين على مقاومته.(2)
في التجربة السياسية العالمية المعاصرة والدور الذي تلعبه وسائل الاتصال الجماهيرية فيها يقف الاعلام في الخط الامامي في جبهة الحرب على الفساد، وفي مساعي تعزيز الشفافية، وتشجيع الحكم الصالح والادارة النزيهه والراشدة للشؤون العامة.ان هذا دور الاعلام هذا حاسم واساسي في منح الناس القدرة على التعرف على حجم الفساد الذي يعانون منه ويدفعون ثمنه كما انه المنبر الذي يوفره للناس والذي من خلاله سيكون بامكانهم ان يشاركوا هم ايضا في جهود مقاومة الفساد والفاسدين.ولا يقتصر دور الاعلام في ان يقدم الحقائق والمعطيات من خلال التغطية الصحفية او البرامج الإذاعية والتلفزيوينة ليكشف بها قضايا الفساد ويفضح مرتكبيها واطلاع الناس على الوقائع المتعلقة بحالات الفساد، ولكن ايضا المساهمة في عملية تثقيف الناس وتوعيتهم وحثهم على المشاركة فعليا في الكشف عن قضايا الفساد وقيامهم بدورهم في تعرية الفاسدين بانفسهم.
لذلك فان من الضروري لأي مجتمع ان تتوفر لاجهزة اعلامه امكانية القيام بدوره هذا وبكل حرية واستقلالية لفضح ممارسات الفساد وتحريض الرأي العام على الابلاغ عن قضايا الفساد ومتابعتها في الميدان القضائي كي لا يفلت الفاسدون من العقاب وحتى يلقوا الجزاء المناسب.واضافة الى مهمة محاربة الفساد فان اجهزة الإعلام تعمل على بلورة اتجاهات للرأي العام توضح مساؤ الفساد على التنمية ومخاطره على الادارة في العمل الحكومي وعلى تدمير القيم والمعايير الإخلاقية السائدة في المجتمع وضععة فرص التقدم الديمقراطي وتنمية ممارسات حقوق الانسان ومواجهة منتهكيها.
ان دور الاعلام هذا يتطلب توفير الظروف الملائمة لعمل الصحفيين في ملاحقة قضايا الفساد ومحاسبة المفسدين لكي يتمكنوا من العمل في اجواء الحرية اللازمة ومنها حرية الوصول الى المعلومات والشفافية والضمانات القانونية الضرورية للعمل بحرية واستقلالية وعدم التعرض للتهديدات ووجود نظام تشريعي سليم يوفر لهم غطاءً قانونيا للعمل.من الناحية الآخرى لابد من توفر شروط واجواء مناسبة لعمل الصحفيين والاعلامين في هذا المجال وخاصة الرواتب المجزية والدعم المعنوي وضمانات الحماية المؤسسية والتدريب الهادف الى الارتقاء بالمستوى المهني للصحفيين لكي يكون عملهم احترافيا وابداعيا.
وفي هذا المجال تقدم الصحافة الاستقصائية نموذجا بارزا في الجرأة والدقة والمصداقية والشجاعة في العمل على ملاحقة وكشف قضايا الفساد نظرا لما تسعى اليه من توفير الأدلة والحقائق والتفاصيل والتي تتجاوز طرق جمع المعلومات الصحفية التقليدية او السريعة.لقد اصبح العمل الذي تقوم به الصحافة الاستقصائية في هذا الميدان بمثابة تحقيق متكامل الاركان يقدم اضافة الى الحقائق صوراً ومشاهد بلاغية تكشف الجوانب الاخرى للفساد وتبعاته السياسية والاقتصادية والاخلاقية.
وقدمت الصحافة العراقية نماذج قليلة من التحقيقات الاستقصائية، وخاصة ما يتعلق بقضايا الفساد، وهو أمر مفهوم تماما اما بسبب الظروف الأمنية الصعبة التي يعمل بها الاعلاميون العراقيون والمخاطر التي يواجهونها او بسبب تدني مستويات العمل المهني لدى الصحفيين في مؤسسات تواجه بدورها تحديات لحظات النشؤ والبناء، او ضغوطات ناشئة عن الملكية والادارة والعلاقات الملتبسة مع السلطة واطراف العمل السياسي.ومن بين هذه النماذج ما قدمته الصحفية العراقية “ميادة داود” من خلال تقريرها عن امتيازات البرلمانيين في العراق وغيرها من التقارير الاستقصائية والتي فازت عنها بجوائز اقليمية وعالمية استحقتها بجدارة لما اظهرته شجاعة ومن جهود معمقة تستند الى البحث والتقصي عن الحقائق الموثقة والمدعومة بالمصادر المتعددة وثيقة الصلة بالموضوع قيد الكشف.(3)
وميادة التي استقبلها الأمين العام للامم المتحدة “بان كي مون” في شهر تشرين الاول (اكتوبر) 2013 تثمنياً لدورها في نشر ثقافة صحافة الإستقصاء والتي هي جوهر العمل على كشف الفساد والتجاوزات، كانت قد نشرت بعض تقاريرها تحت اسم مستعار خشية من محاولات التهديد او الايذاء التي لا يتورع الفاسدون عن محاولة القيام بها ضد الصحفيين، الا ان قيمة اعمالها تكمن في مواكبتها للتقنيات الحديثة والقواعد المهنية في الاستقصاء عن المعلومات والأسلوب السلس في الكتابة الصحفية على الرغم من حداثة تجربتها وخبرتها الصحفية.(4)
ولم تقتصر مشاركات الصحفيين العراقيين في العمل الاستقصائي داخل العراق فقد شارك “منتظر ناصر” في واحد من اهم التحقيقات الاستقصائية العالمية التي تم الكشف فيها عن بلايين الدولارات التي تم تهريبها من قبل سياسيين في مختلف بلدان العالم الى الملاذات الضريبية وهي اموال جاءت من خلال الفساد وبالذات الرشاوي ونهب الاموال العامة.ولعل مقتل الصحافية المالطية “دافني كاروانا غاليزيا” احدى المساهمات الرئيسيات في تلك التحقيقات في انفجار سيارتها في تشرين الاول (اكتوبر) 2017 والذي ذهبت الاتهامات بالضلوع فيه الى مسؤولين مالطيين متورطين بالفساد هو دليل على خسة ودناءة هؤلاء مثلما هو دليل على قدرة الصحافة ودورها في فضح الفساد.وكشفت التحقيقات التي سميت بـ”اوراق بنما” عن اسماء العديد من الشخصيات العراقية التي لجأت الى اخفاء اموالها في هذه الملاذات وعلى رأسهم “آياد علاوي”.عراقيا، حيث القت التحقيات الضؤ على بعض جوانب ما كان يعرف سابقا عن اعمال علاوي في المجالات التجارية والاستثمارية التي ازدهرت الى حد كبير منذ الغزو الامريكي للعراق والتي انتجت ثروات طائلة راح يخبئ بعضها في بنوك الملاذات الضريبية باسمه واسم زوجته وافراد آخرين من عائلته.وتكمن اهمية المعلومات التي توفرت عبر الحصول على مراسلات البريد الالكتروني والتحققيات الاستقصائية الموازية في انها كشفت عن جانب من القنوات التي يجري من خلالها تحويل اموال الفساد في العراق عبر شبكات من المافيات المصرفية العالمية واجهزة الاستخبارات التي ترعى مصالح الفاسدين وتتستر عليهم.(5)
ان مايلفت الانتباه هو ان ميادة ومنتظر والعشرات من الصحفيين العراقيين الآخرين الذي ابدو شجاعة في هذا النوع من العمل الاحترافي وتوظيفه في محاربة الفساد سرعان ما اختفوا من الساحة الصحفية والاعلامية بعد حملات المضايقات التي تعرضوا لها وعدم حصولهم على فرص عمل في الاجهزة الاعلامية التي يمتلكها، او يديرها، حيتان الفساد وبذلك خسر الرأي العام العراقي والعالمي الفرصة للتعرف على قضايا الفساد بشكل مهني واحترافي وترك الباب لصحافة الأقاويل المرسلة التي يمكن عادة التشكيك بمصداقيتها بسهولة.
لقد وقفت معظم اجهزة الاعلام العراقية بمختلف انواعها المكتوبة والمرئية والمسموعة او تلك التي تستخدم الاعلام الرقمي عاجزة عن ملاحقة الفساد بطريقة حرفية ومهنية فعالة.وفي حين ان ضعف وتردي الجوانب المهنية كانت من ضمن العوامل التي ساهمت في ذلك الا ان طبيعة ملكية تلك الوسائل واساليب ادارتها لعبت دورا اساسيا في فشلها في مواجهة الفساد ان لم يكن المساهمة في تفاقمه.ان نظرة سريعة على مالكي الأجهزة الاعلامية من صحف وقنوات واذاعات ومواقع الإنترنيت تكشف ان اغلبها يعود الى الاحزاب والجماعات والقيادات السياسية ورجال اعمال والتي توظفها لخدمة مصالحها واجنداتها والتغطية على فسادها.(6)
والأدهى من ذلك ان بعض الوسائل الاعلامية، وخاصة بعض قنوات التلفزيون والمواقع الألكترونية التي تدعي الاستقلالية، تشارك في عمليات الفساد وانتشاره، حتى لو ادعت غير ذلك، وحتى لو تظاهرت بانها تقوم بعمليات الكشف عن الفساد عبر نشر بعض الاخبار او البرامج الحوارية التي تستظيف شخصيات من الواضح ان لديها اجندات خاصة.ان ابرز المؤشرات على ذلك هي الطريقة العشوائية التي تدار بها قضايا الفساد اعلاميا والتي هي اشبه بحملات دعائية مبرمجة، او ضجيج، وليست عملا صحفيا احترافيا مثلما ينبغي لكي يحقق المصداقية المرجوة منه.
ان عمل بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الألكترونية والصحف العراقية في هذا الاتجاه ليس عشوائيا فقط، بل يفتقد للمهنية، ولا ينتمي الى عالم الصحافة، وانما هو نشاط موسمي يستبطن اهدافاً مشبوهة مثل الارتزاق والابتزاز والصراع على فتات من الكعكة.وكل من يتابع هذه الوسائل وطريقة تناولها لقضايا الفساد وهو على دراية بخلفية اصحابها وبعض العاملين فيها يدرك تماما الانتقائية والقصدية التي تتحكم في نشاطاتها والأجندات الشخصية والتجارية التي تقف وراءها.ان بعض البرامج التي تقدم تلفزيونيا غير مكتملة الاعداد مهنيا ولذلك فهي تتحول الى ميادين للسخرية والاستخفاف مما يؤدي الى نتائج معاكسة لانها تعطي الفرصة للفاسدين في التشكيك في مصداقيتها وبالأهداف التي خلفها.
ان ادعاء بعض القنوات، او المواقع الالكترونية، بانها تستقي اخبارها ومعلوماتها من منظمات للشفافية وهمية او من اختلاقها، اوعن تقارير او كلام منسوب لمصادر مجهولة ترفض تسميتهم لحجج واهية، هو بحد ذاته فساد مستشر لا يمكن ان يخفى على المشاهدين او المتابعين.ان اول مستلزمات العمل الصحفي في كشف الفساد هو الشفافية وبث المعلومات الموثقة والأكيدة والحقائق الدامغة واللجوء الى المصادر المعلومة، وليس نشر انصاف الحقائق او الكلام المرسل او التسريبات المنقوصة والتي لا تخفي دوافع الابتزاز والتكسب التي تقف ورائها والتي تتيح الفرصة للفاسدين بالتشكيك بعمل الصحافة والإعلام النزيه في محاربة الفساد.
أهمية الإعلام في المعركة ضد الفساد هي انه يخلق رأيا عاماً متنوراً ومطلعا على تفاصيل هذه المسألة الحيوية، ويقدم الأدلة التي تقنع الناس بما هو مطروح من معلومات ازاء قضايا محددة، وتعزز دورهم الرقابي والتي بموجبها سيجري ملاحقة المتورطين وتقديمهم الى القضاء.وعلى هذا الأساس لا ينبغي ان تستغل الاجهزة الاعلامية من صحف، او قنوات تلفزيونية، او شبكات تواصل اجتماعي على الإنترنيت بإستخدام قضايا الفساد من اجل التسلية والاثارة او ان تصبح جزءاً من استراتيجيات الحرب النفسية بين الأطراف السياسية لأغراض الابتزاز او تصفية الحسابات، او الكيد، او تلطيخ السمعة، او تغذية الصراعات الطائفية او السياسية وتأجيجها.
ما كشفت عنه الخريطة الإعلامية العراقية خلال عقد ونصف من الزمن هو تورط الكثير من الجهات السياسية في عملية تشويه مقصودة لجهود مناهضة الفساد من خلال استخدام وسائل الاعلام التي تحت سيطرتهم في بث الفبركات والمبالغات والاكاذيب في اطار صراعاتهم البينية، مما شكل احيانا ضربة موجعة لحركة مواجهة الفساد.ان الكثيرين ممن كانوا يدلون بدلوهم في قضايا الفساد كانوا من المنغمسين بالفساد على مدى سنوات، بل عقود طويلة، مما كان يثير الشبهات في مصداقية مكافحة الفساد.اذ لا يعقل ابدا ان سياسين متورطين، بل ومدانيين في عمليات فساد، واصحاب صحف ومواقع وقنوات فضائية يعرف القاصي والداني بمصادر ثرواتهم وتمويلهم المشبوهة، ورجال اعمال اياديهم ملوثة بالأموال المنهوبة، يفتحون تلك المنافذ الاعلامية لإغراض خيرية، او نتيجة صحوة ضمير، او لدوافع وطنية او اخلاقية، وانما بهدف واضح وهو الابتزاز والبحث عن نصيبهم في كنز “مغارة علي بابا.”
هناك ارقام وتقديرات مخيفة عن الأموال التي صرفت على الوسائل الإعلامية هذه في العراق والتي يملك اغلبها رجال السلطة والأحزاب المشاركة فيها وحلفائهم من رجال المال والاعمال والتي انشأوا من خلالها امبراطوريات سياسية وإعلامية تتشابك علاقاتها مع مؤسسات ومافيات ومليشيات ومصالح فؤية واقتصادية محلية واقليمية ودولية.ان جزءاً كبيراً من عمل هذه المؤسسات مخصص اما لغسيل سمعة اصحابها، او لتشويه سمعة خصومهم، في حين ان القاسم المشترك الذي يجمع بين هذه الأطراف مجتمعة هو الفساد ذاته.ان مثل هذا الأخطبوط السياسي والاعلامي اضافة الى النفوذ المالي الذي يمتلكه يجعل من مهمة مقاومة الفساد شديدة الصعوبة ان لم تكن انتحارية.
صحيح ان بعض المحاولات الخجولة لنشر الغسيل القذر والكشف عن خيوط تتعلق بقضايا الفساد تبقى مفيدة الا انه لا يبنغي ان نتوقع ان يكون العمل باتجاه محاربة الفساد في وسائل الاعلام هذه مستداماً ولا معمقاً ولا متكاملاً، مما يضع على عاتق النشطاء والمتطوعين عبر الشبكات الاجتماعية العبء الأكبر في جهود مكافحة الفساد وتعزيز اخلاق النزاهة ونشر ثقافة الشفافية. ففي “دولة علي بابا” التي تهيمن الزمر المتسلطة فيها على الفضائين السياسي والاعلامي وتغيب مظاهر الديمقراطية الحقيقية لا يبقى الا امام الناشطين والمثقفين الملتزمين بقضايا الوطن والناس ان ينهضوا بمهمة الدفاع عن الحقوق والمصالح المجتمعية والفردية.
قدمت قناة الشرقية والمؤسسة الإعلامية التي خرجت عنها والتي يمتلكها الاعلامي “سعد البزاز” منذ البداية نموذجا صارخا للفساد في الإعلام العراقي الجديد، بل ان بالامكان القول ان ممارسات القناة التي كانت من اوائل المؤسسات الاعلامية التي تأسست بعد الغزو الامريكي اصبحت القدوة التي اتبع خطاها الكثير من اجهزة الاعلام التي جاءت بعدها وجسدت الفساد الاعلامي والسياسي المتمثل بالابتزاز والتحريض والتلفيق والرشى وهي اتهامات تجسدت بقضايا قانونية مروفعة ضدها في المحاكم العراقية وفي خارج العراق.لقد تعدت تلك الممارسات القناة ذاتها لكي ترسي نموذجا لمدرسة متكاملة في اعلام الفساد في العراق الجديد قائمة على الابتزاز والتسقيط الاعلامي والسياسي لم يشهدها بلد آخر.لقد استطاع هذا النوع من الاعلام والذي كان يتم تمويل بعضه من دول واجهزة عربية واجنبية ان يبتز معظم السياسيين والجماعات النافذة الذين دفعوا ملايين الدولارات على مر سنوات هذه الحقبة اللعينة من تاريخ العراق مما خلق فضاء اعلامياً موبؤا ترك أسوء الأثر على الحياة السياسية العراقية كما ساهم في تأجيج الصراعات الطائفية والارهاب.(7)
وفي “دولة علي بابا” فمن الطبيعي ان يكون للاعلام الذي تمتلكه وتديره الدولة نصيبه الواسع من الفساد المالي والاداري والسياسي.ومنذ بداية عملها كبديل لوزارة الثقافة والاعلام التي قامت سلطة الاحتلال بحلها فقد مثلت “شبكة الاعلام العراقي” التابعة لـ”هيئة الاعلام والاتصالات” احد اسوء الأمثلة على سوء الإدارة والفشل والتخبط والفساد في الدولة العراقية الجديدة.وفي حين ان قانون تأسيسها الذي صدر عام 2004 يحملها مسؤوليات جسام في ادارة وتطوير قطاعي الاعلام والاتصالات وفق قواعد مهنية ومعايير عالمية الا انها عجزت خلال نحو 15 عاما عن ان تواكب عمل اجهزة الاعلام الوطنية والاقليمية رغم الميزانيات الخيالية التي خصصت لها خلال كل هذه السنين والتي فاقت احيانا ميزانيات مؤسسات إعلامية عربية كبرى حققت نجاحات باهرة.(8)
ويعود السبب الأساس في فشل الشبكة الى حالة الفساد الفضيعة المتفشية والتي جاءت بالدرجة الاولى نتيجة وضع المؤسسة تحت قيادة اعضاء وانصار واصدقاء القادة السياسيين وتنظيماتهم الحزبية وعلى اساس المحاصصة الطائفية المتبعة في كل مكان وفي كل شأن في العراق.واضافة الى سؤ الادارة والفشل فقد اصبحت الهيئة حسب شهادات من داخلها واحدة من اكثر المؤسسات التي تضم موظفين فضائيين حيث ضمت آلافا من العاملين الذين يعيشون بطالة مقنعة تم توظيفهم لمجرد الحصول على رواتب وامتيازات وعقود عمل مجزية دون عمل حقيقي.(9)
وخلال تلك السنوات تتابع على ادارة الهيئة والشبكة العديد من الرؤساء الذين استقالوا، او اقيلوا، بعد فضائح فساد مدوية ولكن لم يتم محاسبة اي منهم بالرغم من مسؤوليتهم عن ضياع ملايين الدولارات من الميزانية العامة للدولة.ونالت الهيئة والشبكة اكبر نصيب من التقارير الصحفية والبلاغات النيابية عن الفساد في مكاتبها مما افقدها اية مصداقية لدى الرأي العام الذي رأى فيها واجهة اخرى من واجهات “دولة علي بابا” وليس قناة اعلامية تشارك بحكم مسؤوليتها المهنية في مهمة كشف الفاسدين وفضحهم.لكن الانتشار الواسع للفساد وسؤ ادارتها تجاوز استغلال المال العام وتبذيره وكذلك الاخفاقات الإدارية الى فشل العراق بان يكون له اعلام منافس للاعلام الخارجي الذي كانت بعض أجهزته وقنواته من ادوات الصراع على العراق وفي تأجيج الصراعات السياسية والطائفية فيه.(10)
وفي مؤسسات ضربها وباء الفساد في جميع مفاصلها ما كان ممكنا ان ينجوا العاملون فيها من تلك الجرثومة الخبيثة وتعطلهم عن اداء مهمتهم الحقيقية في نقل الحقائق وتنوير الرأي العام، خاصة في بلد يعاني من ازمات ومشاكل تكاد ان تعصف به.ومثلما فعلوا في مؤسسات الدولة ومفاصل المجتمع فقد ساهم اقطاب دولة علي بابا في افساد الصحفيين، او على الأقل محاولة ذلك باستماتة، حتى ان الأمر كاد ان يكون شبه علنيا، من خلال تقديم الرشى والهدايا للصحفيين الذي يقومون بتغطية مؤتمراتهم الصحفية ونشاطاتهم الرسمية او السياسية.ففي اشهر حادثة تم تداولها على صعيد عالمي وفي وقت مبكر من بدء الحكم الجديد تم ضبطها كشف النقاب عن قيام مساعدين لـ”اياد علاوي” بتقديم هدايا نقدية للصحفيين في احدى المناسبات التي اقامها هذا السياسي الذي سيظهر اسمه لاحقا في وقائع فساد تعود الى سنوات سابقة خلال فترة نشاطه في صفوف المعارضة.(11)
وفي نموذج آخر، فقد كشف تسجيل فيديو تداوله ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي ان رئيس الوزراء انذاك “نوري المالكي” كان يمنح كل صحفي مائة دولار مقابل طرح أسئلة هادئة ومناسبة وغير مزعجة.ويظهر المالكي في التسجيل وهو ينهي مؤتمرا صحفيا عقد خلال ولايته الاولى في العام 2006، ليقوم بعد ذلك أحد مستشاريه بالحديث مع المالكي ويعود ليبلغ الصحفيين موافقته على منح 100 دولار لكل صحفي.واشار ناشطون وشهود عيان حضروا المؤتمر الى أن منح المائة دولار الى الصحفيين جاء كهدية من رئيس الوزراء بعد التزام الصحفيين بطرح “اسئلة هادئة” وغير محرجة بشأن الوضع السياسي والتي سبق ان كتبت في أوراق وزعت عليهم قبل خروج المالكي اليهم في قاعة المؤتمر.(12)
واذا كان أمر هاتين الحادثتين قد افتضح بسبب تسجيل وقائعهما وبث احداهما صوريا فان العديد من قصص رشاوي المسؤولين للصحفيين كانت موضع احاديث الناس بعد ان بدأت روائحهما العفنة تزكم الانوف.وبلا ادنى شك، فان مثل هذه الممارسات تتجاوز ما يعرف في عالم السياسة والاعمال من محاولات افساد للصحفيين الى خطة ممنهجة من زمر دولة اللصوص لاذلال الصحفيين وتحطيمهم معنويا باظهارهم مجرد مرتزقة يمكن شرائهم باثمان بخسة.وبالاضافة الى تقديم الرشاوي بهذه الطريقة الفجة فان محاولات شراء الذمم استمرت عبر طرق اخرى كالحصول على قطع الأراضي السكنية والامتيازات، وكلها بهدف اخضاع الصحافة والهيمنة على الحقل الاعلامي بما يكفل ان يكون الاعلاميون شركاء في الفساد.
ولم تنجو “نقابة الصحفيين العراقيين” من الاتهامات بالفساد التي طالت إدارتها خلال اكثر من خمسة عشر عاما وشملت تلقيها أموالا طائلة من حكومة “دولة علي بابا” ومن الأحزاب والجماعات الحاكمة والتصرف بها بطرق بعيدة عن الرقابة والاشراف من الجهات الرقابية.ومن البدع التي سنتها “دولة علي بابا” هي منح الصحفيين من اعضاء النقابة عطايا مالية سنوية سخية يتم صرفها وفق ترتيبات معينة يتم الاتفاق بشأنها مع ادارة النقابة.ولم تكن تلك الأموال والمنح والمكافئات وتوفير الوظائف في أجهزة الدولة تدفع الى النقابة والى الصحفيين الا لمحاولة شراء ذمم الصحفيين واخراس السنتهم من التعرض للفساد الهائل في مختلف اوجه الحياة في العراق.(13)
ولم تكن ادارة “نقابة الصحفيين العراقيين” فقط مرتعا للفساد، بل وساهمت هي ايضا بنشر ثقافة وآليات الفساد من اوسع ابوابه داخل الجسد الصحفي من خلال ادراج اشخاص ممن لا يعملون فعليا في مهنة الصحافة في سجلات الصحفيين العاملين.وخلال سنوات قليلة ارتفعت عضوية النقابة الى الآلاف ممن هب ودب من اشخاص لا عمل صحفي حقيقي لهم في خطوة اضرت بمصداقية الصحفيين الحقيقيين وبسمعة الاسرة الصحفية.كما استخدمت ادارة النقابة القوانين المتعلقة بالحقوق التقاعدية للصحفيين لكي تساهم هي ايضا في عملية نهب اموال الدولة من خلال منحها بطرق غير شرعية شهادات الخدمة الصحفية لأغراض تحديد الرواتب والخدمة التقاعدية لمن هم من غير العاملين في الصحافة مما ساعدعم على الحصول على ترقيات وظيفية سريعة وتلقي رواتب تقاعدية مجزية من غير وجهة حق، في حين ان ادارتها استخدمت نفوذها ومركزها ذلك في حرمان الصحفيين الحقيقيين ممن لم يمشوا في تيار دولة الفساد وعصاباتها الحاكمة من حقوقهم التقاعدية والمالية الطبيعية.
مقابل كل هذا الحجم الهائل من الفساد في المؤسسات الإعلامية فقد ادى الصحفيون والاعلاميون العراقيون دورهم المهني بالشكل الذي يقدرون على تحمل تكلفته في كشف قضايا الفساد والتصدي للمفسدين بالرغم من الظروف الصعبة والتحديات الجسام التي واجهتهم ودفعوا من اجل ذلك ثمنا باهظا، كان في بعض الأحيان حياتهم.فخلال هذه السنوات قتل المئات من الإعلاميين العراقيين وتعرض آخرون للاعتداءات وللتهديد، كما اضطر غيرهم للهروب من مدنهم، او حتى الخروج من العراق الى المنافي، وكانت دوافع الكثير من تلك الإتتهاكات والتهديدات ضد الصحفيين هي نشاطهم في محاولة كشف الفساد.(14)
بالامكان القول ان احد نتائج الفساد في القطاع الاإعلامي في “دولة علي بابا” هو ذلك التشوه الذي حصل في الوعي العراقي الذي كان قد انتقل من زمن الخطاب القمعي والاستلاب الفكري والسياسي لنظام صدام الشمولي، الى حالة من سيادة الاوهام والاضطراب الفكري والتشوش وغياب الوعي وشيوع السرديات المراوغة التي جاء بها، او شجعها، الحكام الجدد.لقد ادعوا ان الفوضى الاعلامية جاءت نتيجة الحرية والديمقراطية التي جاء بها الغزو الامريكي كي تمنح العراقيين مساحات للتنفيس وتعويضا عن عقود الكبت والقهر والاستبداد الصدامي لكنهم في الواقع احلوا مناخا من الجهالة وتغيب الوعي والتعصب والفرقة والنفور واذكاء للصراعات بما يتناسب برغبتهم في تشكيل وعي يتلائم مع السرديات التي حاكوها عن نظامهم الجديد.ولم يكن ذلك ممكنا الا من خلال تلويث العقول من خلال اشاعة الفساد في المنظومة التي تعمل على تشكيل الوعي السياسي والإجتماعي في العراق.
هوامش ومراجع ومصادر الفصل الرابع
1-انظر:” المالكي يتهم معارضيه بإستغلال الفساد لاسقاطه، موقع كتابات، 27/11/2013
%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7/
2-انظر:”المالكي في واشنطن”، صلاح نصراوي، الاهرام ويكلي، 6/11/2013
http://weekly.ahram.org.eg/News/4502.aspx
انظر كذلك:”بينما يتدهور الامن في الداخل الزعيم العراقي يصل واشنطن طلبا للعون”، نيويورك تايمز، 31/10/ 2013
http://www.nytimes.com/2013/11/01/world/middleeast/iraqi-leader-on-fighting-terrorism.html
3-انظر:”امتيازات سنوية بـنصف مليار دولار تورط البرلمان العراقي في أوسع ظاهرة فساد شرق اوسطية”1-2 موقع شبكة الصحافة الإستقصائية العراقية (نيريج)
4-انظر:”الأمين العام للامم المتحدة يلتقي الصحافية العراقية ميادة داود بعد فوزها بمنحة عام 2013″، موقع شبكة اريج
5-انظر:”اوراق بنما: 370 صحافياً مشاركاً…من هم العرب التسعة بينهم؟”، المرصد العراقي للحريات الصحفية، 7/4/2016
انظر كذلك:”اوراق بنما تفضح شركات علاوي الخفية”، اريج، الصحفيون العرب من اجل صحافة إستقصائية،11/5/2016
http://en.arij.net/report/panama-papers-reveal-allawis-hidden-companies/
6-انظر:”مِنْ أينَ تُموَل أربعين فضائية عراقية ؟، موقع الحوار المتمدن، 28/10/2009
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=189735
انظر ايضا:”العراق، السعودية:الرياض تدعم ساحات المواجهة الاعلامية”، موقع ستراتفور الاستخباري، 16/2/2018
https://worldview.stratfor.com/article/iraq-saudi-arabia-riyadh-backs-media-battleground
7-انظر: “بالوثائق.. مذكرات قبض بحق البزاز ومدراء في قناة الشرقية”، موقع سومر نيوز 5/12/2016
انظر كذلك:”بالوثائق.. القضاء الاردني يصدر أمرا بأعتقال سعد البزاز”، 14/10/2015
8-انظر:”ميزانية الإعلام 28 مليون والرواتب 44 مليون دولار والعتب على الحكومة”، موقع دار بابل للدراسات والاعلام، 28/5/2009
http://www.darbabl.net/akhbarshow.php?id=575
9-انظر:”الكاتب الصحفي عبد المنعم الأعسم: تشوهات في حالة الاعلام العراقي“، موقع مؤسسة الحوار الانساني، 24/2/2017
10-انظر:”عضو بشبكة الإعلام العراقي: فساد وهدر عشرات الملايين من الدولارات، بغداد بوست، 14/6/2017
انظر ايضا:”ابو الهيل مؤامرة على الاعلام ورئيسها لا يستطيع كتابة جملة واحدة مفيدة”، موقع المسلة، 19/12/2017
11-انظر: “جماعة علاوي توزع اموالا على الصحفيين الذي يغطون الانتخابات”، موقع ديموكراتيك اندرغرواند نقلا عن تقرير لصحيفة الديلي تلغراف (بالانكليزية)،12/1/2005
https://www.democraticunderground.com/discuss/duboard.php?az=view_all&address=132×1488675
12-انظر:”فيديو يفضح سياسة المالكي بالتعامل مع الصحفيين بالمؤتمرات وطريقة طرح الاسئلة”، موقع الوكالة الاخبارية، 13/10/2015
http://www.ikhnews.com/index.php?page=article&id=142047
13-انظر:”حول آلية منح العضوية في نقابة الصحفيين العراقيين” مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي، عن مجلة الحرية، 14/6/2008
http://www.ssrcaw.org/ar/print.art.asp?aid=137712&ac=24- ايضا
انظر ايضا: “بالوثائق: نقابة الصحفيين تطالب الخارجية بمراجعة قرارات اضافة خدمة وظيفية لعشرات الدبلوماسيين“، موقع عواجل بريس، 30/10/ 2017
14-انظر:”مقتل 455 صحفياً عراقياً منذ 2003، الخليج اونلاين، 27/12/2016، نقلا عن تقرير لنقابة الصحفيين العراقيين
-/
انظر ايضا: “للفساد أذرع تمتد لتطال الصحفيين في العراق”، جريدة العرب اللندنية،15/9/2015
انظركذلك: “نشطاء:الحادث مدبر.. وفاة صحفية تهاجم الفساد في العراق”، موقع الخليج اونلاين،22/3/2017