(2)
لا حياء في الفساد
في ذاكرة الكثيرين من البغداديين الذين عاشوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حكاية متداولة ينسبونها الى احد اشهر سماسرة الجنس في مدينتهم يومئذ وخلاصتها انه دعا يوما واحدا ممن عرفوا بالتشهير به في مقاهي واسواق المدينة وطلب منه ان يكتب كلمة “قواد” على ورقة بيضاء قدمها له مع قلم.وما ان انتهى ذلك الرجل من كتابة تلك الكلمة المذمومة حتى وضع فوقها الديوث “نوطا”، وهي اكبر ورقة نقدية من اوراق العملة واعلاها قيمة يومئذ، وسأله باستنكار وتعجب: اين هي الآن تلك الكلمة التي اراك تدور بها على الناس كي تعيرني بها؟
لا اجد بنفسي ثمة حاجة لكي ابرر استخدام هذا التعبير الذي قد يبدو للبعض قاسيا، او جارحا، او غير مألوف في الحديث عن مسألة هي في صميم الكلام السياسي حين اتناول ما وصل اليه الفساد في العراق، فالمسألة تتجاوز السقوط في غواية الهجاء، او الثلب، او الوقوع في لجة اللغة النقدية اللاذعة، حيث لا يعكس اللفظ هنا الا المعنى الحقيقي للممارسة، اي الفساد السافر، التي تفوح بالعطن والنتانة.فالتفسير، او الشرح اللغوي لكلمة “قواد” كما وردت بالمعاجم العربية هي ان القواد هو “سمسار، او انه مجرد “مُنَظِّمُ شُؤُونِ الْمَرْأَةِ البَغِيِّ وَالْحَرِيصُ عَلَى تَصْرِيفِ أُمُورِهَا” في بزنيس المتعة.(1)
وسواء اخذ الأمر هنا بإعتباره تورية، او كناية، او تشبيها، او غيرها مما يمكن استعارته من اساليب البلاغة العربية، فان الأدبيات اللغوية والسياسية الحديثة تناولت موضوع الدعارة، او السمسرة، او “القوادة” السياسية باعتباره “المساومة على المبادئ وخاصة في اطار الترويج وحفظ المصالح والمكتسبات الخاصة”، وهو تعبير واف وجامع لحالة الانحطاط الاخلاقي في الممارسات السياسية في عراق ما بعد الغزو الأمريكي.(2)
ان المخيلة الجمعية العراقية التي تحفل بكل صور فساد الطبقة السياسية، والتي تعيش مآسيها في كل لحظة، صاغت الكثير من الردود الغزيرة بالسخرية والتندر والتشنيع والازدراء والاحتقار والنفور من كل تلك الشخصيات الفاسدة التي تسيدت المشهد العراقي بما وصل الى درجة الرفض والتمرد على هذه الزمر عديمة المرؤة والأخلاق والضمير.بل هي سخرت كل طاقات اللغة وقدراتها المعرفية والبيانية وتراثها الشعبي الغني في اذكاء وشحن الرغبة التي بداخلها لتدمير وتصفية صورة تلك الزمر المصطنعة الزائفة، وكل ما تمثله من خديعة، وخيانة، لشعارات المظلومية التي رفعتها ورايات العقيدة التي استظلوا بها.
اما مغزى حكاية “القواد” البغدادي التي لا يزال يرددها ابناء ذلك الجيل حتى يومنا هذا بنسخ متعددة، فهو واضح ولا يحتاج لتفسير، وهو ان بإمكان اصحاب الثروة والسلطة ان يشتروا اي شيء، وكل شيء، وحتى بعض الناس، بالمال، وان الأوراق النقدية بامكانها، لو وضعت فوق الطاولة، ان تغطي او تمحوا اية لطخة او تهمة، بل ان تقلب الرذائل الى فضائل وان يصبح العار مصدراً للعزة والفخر والجاه.وفي الحقيقة ان التاريخ العربي والاسلامي في عصور الامبراطوريات والممالك يحفل بالقصص والحكايات عن دور المال في عمليات غسيل السمعة حتى ان الأمر بدأ كجزء من ثقافة الأداب، او الأحكام السلطانية، وادب الدنيا والدين، ونصائح الملوك، وغيرها من العناوين البارزة في ادبيات الحكم التي زخرت بها المكتبة العربية الكلاسيكية.عرفت هذه العادات بالعطايا والمنح والهدايا والمكرمات وكانت تذهب اكثر مما تذهب الى الشعراء، وهم صحفيو ومراسلوا الزمن الغابر، حتى ان واحدا من كبار الشعراء العرب واغزرهم مدحا وذما وهو المتنبي اقر بان “عَداوَةُ الشّعَراءِ بِئْسَ المُقْتَنى”، وهو بلا شك تحذير وانذار لم يكن السلاطين بحاجة اليه لتكذيرهم بالآلة الإعلامية التي كان يشكلها الشعراء انذاك.
في العصر الحديث الذي هيمنت فيه أجهزة الإعلام والإعلان والدعاية المختلفة في مجال صناعة الصورة فان الأمر اصبح يتعلق باعمال تدار من قبل مؤسسات تدعى شركات العلاقات العامة.هنا اصبحت هذه الأجهزة بادواتها ووسائلها المختلفة تتضافر لكي تقوم بعمليات اقناع الرأي العام بشخص، او بشيء ما، وبالذات في عوالم السياسة والمال والنفوذ والسلطة من خلال بناء صورة جديدة ايجابية مغايرة لماهو عليه بالحقيقة، وهو ما اصبح يطلق عليه بعمليات غسيل، او تبيض السمعة.
ما يجري في عراق “دولة علي بابا” هو شبيه تماما بحكاية ذلك “القواد” حيث تحاول الطبقة الفاسدة بشتى الطرق والوسائل ان تقنع نفسها بانها من خلال ما بحوزتها من اموال ان تلجم اي صوت يمكن ان يعلوا لفضح فسادها، او يتجرأ على الكشف عن فضائحها.غير ان الركون الى هذا الإسلوب الذي يبدو للوهلة الأولى فطري، ينطوي على عناصر من نظريات الإتصال التي اصبحت قاعدة العمل في الترويج والإعلام في المجالات المختلفة.وتمثل “نظرية الاشباع” احدى ركائز هذا الاسلوب في التلاعب بالعقول والتي تتلخص بهدف صرف، او خفض الانتباه، او الاهتمام بموضوع ما مطروح باي شكل من اشكال الاتصال الجماهيري، او التداول الاجتماعي.ومن الطبيعي فان ما هو مطروح في هذه الحالة العراقية هو الفساد الذي رسخه قادة الدولة كمنهج للسلطة ونظرية في الحكم وكاسلوب في الادارة الذي يحتاجون ايضا الى تكريسه وتسويغه عبر الخطابات السلطوية المراوغة.
هناك جانب اخر لجأت اليه زمر الفساد والنهب وهو “حالة الانكار”، وخاصة على ثلاثة مستويات، الأولى انكار حقيقة فسادها، والثانية انكار مسؤوليتها عنه والقاء اللوم على الآخرين او على اشباح، والثالثة التقليل من شأن تأثيرات الفساد وانكار النتائج المترتبة عليه.وتذكر ابحاث علم النفس ان “حالة الانكار” هي السعي للتأكيد على ان ما يقال تجاه شخص ما، او مجموعة ما، او الاتهامات الموجهة له، او لهم، هي ليست حقيقية وانها واحدة من الآليات الحجاجية والسايكولوجية التي يستخدمها الفرد، او المجموعة، حين توجه اليه، او اليهم، اتهامات مزعجة مما يستوجب رفضها ومواجهتها والإصرار على انها غير صحيحة، بالرغم من وجود ادلة دامغة على صحتها.وتتنوع حالات الانكار من إنكار الحقيقة برمتها او انكار المسؤولية عنها، او انكار النتائج المتحققة والتأثيرات، او التقليل من شأنها كل ذلك باستخدام اللغة ومهاراتها واداوتها البلاغية المختلفة.
ان أسوء تجليات حالة الانكار هي في الأفكار والأفعال التي تعزز مشاعر الثقة بالنفس والاقتناع بان ليس هناك اي حاجة لتغير السلوكيات لدى الفرد، وهي حالة تجمع كل حالات الانكار المذكورة، وغيرها، كي تصل باصحابها الى الاصابة بالوهم وخداع الذات وغيرها من اضطرابات التفكير، مما يؤشر الى مخاطر محتملة جمة على المستويين الشخصي والاجتماعي.غير ان الأساليب الدفاعية هنا تنطوي ايضا على حالات هجومية، كما هي في الحروب وفي الألعاب الرياضة، مما يستوجب في حالات الانكار السياسي التعرض الهجومي للمنتقدين، او موجهي الاتهامات.فالهجوم المعاكس، مثلما يتضح من تجربة الفساد في العراق هو قيام الفاسدين بالادعاء بعجز المنتقدين عن اثبات التهم، او الانحياز وعدم الموضوعية، او حتى تلفيق اتهامات مضادة كالعمالة والخيانة، وكل ما من شأنه تسخيف الاتهامات والحط من شأن اصحابها بهدف بث الشكوك لدى الجمهور وإيقاف الجدل الدائر بشأنها، او تغير الموضوع وتحويل وجهة النقاش الى قضايا اخرى ثانوية، او حتى مختلقة للتغطية على قضايا الفساد.(3)
ويتطلب الهجوم المضاد عادة تكتيكات ووسائل دعائية تتلاعب بالحقيقة مثلما يتطلب اجراءات على الأرض لحرف الانتباه عن الهدف الأساسي.ولعل اهم وسيلة يجري استخدامها هنا لطمس الاهتمام بقضية مواجهة الفساد في العراق باعتباره أس البلاء المحاولة المتعمدة لجر الناس للسجال الطائفي بهدف تغير مسار النقاش العام عن بلوى الفساد واللجوء الى الارهاب كوسيلة مصممة، لا لدفع الجمهور فقط الى الشعور بالخطر الدائم، وانما تشجيعهم ايضا على الإنخراط في الصراع، كي يتم الهائهم نهائيا عن قضايا الفساد ومكافحته.ولعل خير مثال على الإنزلاق الى الحضيض الطائفي في قضايا الفساد هو ماجرى اثناء قيام البرلمان باجرءات استجواب وسحب الثقة من “خالد العبيدي” عضو القائمة السنية ووزير الدفاع في وزارة “حيدر العبادي” حيث طغت الإتهامات باستهدافه من دون الوزراء الشيعة في قضايا الفساد، كما يجري ذلك كلما كانت الإتهامات موجهة لمسؤولين شيعة، حيث يكون الرد جاهزا بانهم مستهدفون طائفيا.(4)
ما يجري الآن في العراق هو حملة منظمة من كل الجماعات التي استولت على الحكم للتلاعب لاشاعة اجواء الاحباط واليأس في نفوس العراقيين وكبح نضالهم ضد الفساد والمفسدين مثلما يجرى ضد المتظاهرين منذ اكثر من ثلاثة اعوام وضد الناشطين في الحملة الوطنية المطالبة بإلغاء امتيازات النواب، وقبل ذلك تخريب عمل “هيئة النزاهة” وتعطيل جهود القضاء في محاسبة الفاسدين، بل وإفساد ذات المؤسستين اللتين ينبغي ان تكونا الحصن الاخير للعدالة والدفاع عن المال العام وحقوق الناس.
ان كل ذلك الترفع السلطوي، الذي لا يخفي انزعاجا متعاليا، يهدف الى إسكات الآلسن، وفرض الصمت على ممارسات حيتان الفساد، وبالتالي ترسيخ ذلك كمنهج للحكم بالرغم من انف كل عراقي، وخاصة اولئك الذين يجاهرون بفضح قضايا الفساد عبر مختلف الوسائط الاعلامية.وفي سبيل ذلك فان هذه الجماعات لا تعمل على التنصل من المسؤولية فقط، وانما تسعى للافلات من العقاب، وكذلك الاستمرار في عمليات النهب المنظم للثروات الوطنية مع الاحتفاظ بما قامت بنهبه خلال السنوات الماضية والتي مكنها من وضع يدها على كامل مصادر الثروة في البلد الذي تم تحويله الى ضيعة لهم وللابناء والاقرباء والاصحاب والمحاسيب.
ان الرسالة المضمرة التي يسعى الى ان يبثها الفاسدون في سلطة “دولة علي بابا” من خلال الاستخفاف بمنتقديهم وبمن يتجرأ على فضح ممارساتهم هي نفس رسالة استخفاف ذلك الديوث البغدادي وكل الفاسدين في كل زمان ومكان، وفي كل مهنة وميدان: اذهبوا واشربوا من ماء البحر، او اضربوا رؤوسكم في اول جدار يقابلكم، فنحن لانبالي، بل ولن نهجع حتى نشفط أخر برميل من النفط، ونمتص آخر دولار في خزائن البنك المركزي، ثم نعود الي حيث كنا في منافينا السابقة، منعمين بحساباتنا في البنوك العالمية، وفي الملاذات الآمنة، وباستثماراتنا في شركاتنا وعقاراتنا وقصورنا التي تنتشر في كل قارات العالم.
هي رسالة تثبيط الهمم وتحدي اذن لكل الجهود الرامية لمقاومة الفساد، مما لا يترك اية إستجابة لها غير رفض الاذعان لنهج التجاهل واحتقار رأي الشعب و ارادته ، ولمحاولات استلاب الحقوق الشرعية للناس، او استحلال ثروات الوطن، بكل ما تنطوي عليه من نوايا الانتقام والثأر التي تنطوي عليها تلك النزعة التدميرية للفاسدين.ان اتساع الحملات الجماعية المنظمة والفردية في التصدي لفساد زمر الحكم في العراق، رغم قلتها ومحدوديتها، تعني ان هناك إدراكا متنامي بان مهمة محاربة الفساد هي قضية حياة او موت للعراقيين، فلا أمن ولا إستقرار ولا تنمية ولا كرامة ولا حرية ولا عدل ولا مستقبل في ظل غول الفساد المتفشي في العراق.
هوامش ومراجع ومصادر الفصل الثاني
1-انظر:تعريف ومعنى قواد في معجم المعاني الجامع –
https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%AF/
2-انظر:معنى تعبير القوادة السياسية في القاموس الانكليزي على الانترنيت
3-انظر:”المالكي يتهم المعارضين للعملية السياسية بإستغلال الفساد الإداري والمالي في الدعاية الإنتخابية”، موقع وكالة الإعلام العراقية (واع)
انظر:” المالكي يتهم معارضيه بإستغلال الفساد لإسقاطه، موقع كتابات، 27/10/2013
4-انظر:”الفساد في العراق.. كرة نار يتقاذفها السياسيون، موقع العربية سكاي نيوز، 7/8/2016