عندما كنت جندية
                                          فاليري زيناتي
                                                 ترجمة                       
                                         صلاح النصراوي

ج2 ف10

                             مهمة سرية جداً ولم شمل في الجو
قادني عريف في الفيلق الجوي إلى الخيمة.
“ستنامين هنا”، قال لي.”سوف تبلغين ببعض التفاصيل يوم غد.”
هناك ستة أسرة داخل الخيمة، ثلاثة منها تبدو مشغولة.يشير العريف إلى أماكن الحمام والمقصف، ويتمنى لي ليلة سعيدة.
لم أعد أستغرب من الرقة في بعض المحادثات في الجيش.الظريف أيضاً أن أنام في قاعدة مختلفة.لا أعرف أحداً فيها ولست مكلفة بأية واجبات هنا.أبدو كسائحة.
في المقصف لا أكترث بالحديث إلى أي أحد.مالذي يمكنني أن أخبرهم عن مهمتي هنا؟في نفس الوقت أثني على براعة الطاهي، يبدو أنه يريد أن تكون معاناة الجنود الذين يطعمهم أقل من تلك التي يريدها الطاهي في قاعدتنا.
كنت على وشك الإنتهاء من كيكة الفاكهة، أفكر بالغد، حين توقفت فجأة عن التنفس.أحد ما يضع كلتا يديه على عيني.يبدو أن هناك من يمزح في قواعد الفيلق الجوي أيضاً.كرد فعل شكلي أقاوم، ثم أنهار بينما أسمع صوتاً مألوفاً يهمس.”هل فرت “أي-كيو 625” من الخدمة وطلبت اللجوء عندنا؟”
“إيانيت” صديقتي من الدورة الأولى، أكثر الصديقات جنوناً اللواتي قابلتهن.
“لكن مالذي تفعلينه هنا؟” أسئلها بإستغراب.
تبرطم قليلاً.
“علي أن اسألك هذا السؤال، ألست في قاعدتي؟”
“أسمك ليس مكتوباً عليها”، أرد عليها.”مالم يدعوك الآن ام.كي 1086.”
تتنهد وترنوا إلى السماء.
“حسناً، لاتعبثي معي، إعطيني جواباً والا سأضعك في واجب المراحيض منذ الآن.لا بد أن تعرفي أن لدى بعض السلطة هنا.”
أقف بإستعداد واؤدي لها التحية.
“تحت أمرك، أيتها الرقيبة.”
تضع يديها الإثنتين حول عنقي وتتظاهر بأنها تخنقني.أومئ نحو إشارة الخدمة السرية التي على كتفي وأهمس،”ليس بوسعي أن أنبس ببنت شفة.سري للغاية.
“بالطبع”، تقول بإستفهام بينما تطقطق أصابعها،”أنت هنا من أجل الغد، يا عزيزتي نحن في نفس القارب، أو دعيني أقول في نفس الطائرة.”
تعبيرات مرتبكة مني.
“هل نسيت أني أرسلت إلى وحدات الرادار.رادار!هل نسيت العلاقة مع الطائرات، أم تريدنني أن أرسم لك صورة؟”
أخذها من ذراعيها وأهزها.
“حسناً، دعينا نحتظن احدانا الأخرى وأن نحتفل بلم شملنا، أم تريدين أن نقضي الليل نتشاجر مثل جنديتين في حافلة في طريقيهما إلى الدورة الأولى.”
تأخذني إلى غرفتها، تطبطب على ظهري، تأتي ببعض البسكويت وعصير البرتقال من الدولاب، أشعر وكأنه حفل شاي.
تضطجع على سريرها.
“حسناً.”
“أنت أولا”، أقول لها، إحتراماً لسيدة الدار.
“لا، أنت اولاً.ماذا عن قلبك المفطور؟”
“أصلحته.”
“ماذا؟”
“نعم، تقابلنا بالكاد مرة واحدة، ثم هجرني بكل صراحة في المرة الثانية.
“أنت مجنونة، لا يجب أن تعودي للصديق السابق بأي حال من الأحوال، ابداً ابداً، ابداً.اذا لم تنجحي في المرة الأولى فمالذي يجعلك تظنين أنك ستنجحين في المرة الثانية؟”
أظن أن كلامها منطقي جداً.وفي الحقيقة لم يكن الحديث عن “جين-ديفيد” مؤلماً.
تسألني أسئلة أخرى، أسئلة من نوع إستجوابات الأصدقاء.
“كيف هي مهمة التنصت.”
“أنه أمر روتيني، لكن هناك الكثير من المفاجئات أيضاً، مثل اليوم.”
وصديقاتك في بئر سبع؟”
“نرى بعضنا أقل من السابق، بطبيعة الحال.أظن بأن كل واحدة منا لاتزال معجبة بالأخرى، أو ربما نحن مغرمون بما كان يجمعنا في الماضي.كل واحدة منا الثلاث تسير في طريق مختلف تماماً.لم نعد نحلم بنفس الأحلام.”
“والأخريات في وحدتك؟”
“متغطرسات، وطنيات، رافضات للخدمة العسكرية، ولكن لسن بسيئات، على أي حال.الضابطة المسؤولة، بنت رائعة.”
أخبرها عن “غالي” أيضاً وكذلك عن تل أبيب والقدس.ومن ثم يأتي دوري لكي أمطرها بالأسئلة.
تتظاهر باللامبالاة حين تقول، “حسناً، منذ المرة الأخيرة التي رأينا بعضنا فيها… متى كان ذلك؟، تذكرت، ذلك كان أمام حروف النار، أنشدنا القسم.عموماً، تورطت منذ أيام ما قبل تلك..”
“تورطت؟”
“بمعنى الجنس.كنت في ثلاث قواعد مختلفة:في دورة مشغلي الرادارات، تعيني في الجنوب، ومن ثم نقلي إلى الشمال.أعتقد أني تركت لدى شخص ما في كل قاعدة ذكرى طيبة…”تقول ذلك ببعض الرضا.
“لكنك لم، تقيمي علاقة، لم تقعي في الحب؟”أسئلها بتعجب.
“لا، كنت مرتاحة حينها، ذلك كل شيئ.سأقع في الحب حين أكون ناضجة وواثقة من أن ليس هناك المزيد الذي يمكني أن أتعلمه عن الصبيان.”
“والآن؟” أسئلها بعد أن لطمتني ببرودها.
“لا أحد.لقد انتقلت إلى هنا منذ فترة قصيرة، ولكن يطول الوقت..”، تقول بينما تغمز بعينها. وتضيف.”تعرفين كنت أفكر بك دائماً.”
“وأنا أيضاً.وبما أنني وجدتك في طريقي ثانية فأني أقسم بأن لن أدعك تفرين مني مرة أخرى حتى نهاية عمرك، أو عمري.” ثم أضيف بشيء من الجدية، “مالذي تعرفينه عن يوم غد؟”
“ليس الكثير، ربما ليس أكثر مما تعرفينه أنت.ستكون هناك حركة بالإتجاه الشرقي.شيء حول الأردن، سوريا والعراق.تعرفين أن هناك الكثير يدور بشأن العراق.”
“نعم، التوجيهات التي لدينا أن نكون أكثر حذراً، خاصة اثناء الإنصات إلى الطيارين الذين يتكلمون العربية-العراقيون، على عكس الأردنيين، لا يستخدمون الانكليزية.”
“غداً، سيكون هناك في الطائرة جنود من خدمات التجسس الجوي الثلاث، المنصتون، مشغلو الرادار والمصورون.سيكون هناك العديد من الضباط المهمين الذين لن يهتموا حتى بالنظر إليك.لديهم تلك الطريقة بالتركيز الشديد، شيء مثير للإعجاب.”
لبرهة نستغرق بالأحلام جنباً لجنب.فجأة تنهض فزعة.
“إنها العاشرة، دعينا نرتب سريرك، علي النهوض باكراً.أنت هنا في إجازة، اذ ليس لديك الكثير لتعمليه غير أن تحضري إيجازاً عند العاشرة وآخر في الظهيرة.لكن أنا لدي الكثير من المهمات.”
اؤدي لها التحية مرة أخرى.ننفجر بالضحك، كلانا سعيدتان بأننا إلتقينا مجدداً.
في العاشرة كان هناك حوالي ثلاثون منا مجتمعين في قاعة دراسية كبيرة.يرسم عقيد شيئاً أشبه بالحوت على السبورة، إنها الطائرة التي سنستقلها.يري كل واحد منا المكان المخصص له، كما يؤشر إلى المحطات التي سنرسل إليها المعلومات.كما يعطينا حوالي عشرين اسماً مشفراً لم نسمع بها من قبل، علينا أن نطلق الإنذار حالما نسمع بأي منها( ومن المفترض أن نهرب أيضاً).
أشعر بإنتشاء.سأكون حقاً في قلب عملية، و”إيانيت” إلى جانبي.لا يمكنني أن أجلس لكي أقرأ أو أكتب.أتجول في القاعدة، أغني وأعد الساعات.الإقلاع سيكون عند الساعة العاشرة مساءً.
في الرابعة يكون موعدنا مع الإيجاز الثاني والذي كان محبطاً للأمال.يقول لنا العقيد أن العملية تأجلت، التنبؤات الجوية سيئة.لكن السماء فوقنا زرقاء.أعزي نفسي بأني سأقضي يوماً أخر مع “إيانيت”
في اليوم التالي وعند الساعة الرابعة يؤكدون أن العملية ستبدأ كما كان مقرراً.لدينا متسع من الوقت لكي نهيئ أنفسنا.تأخذني “إيانيت” إلى غرفتها وتفرغ دولاب ملابسها على السرير.
“هل ستأخذين حماماً الآن؟” أسألها، مستغربة أن كان الوقت مناسباً لذلك.
“هل سبق وأن ركبت طائرة إستطلاع؟”لا، اذن لا يمكنك مقارنتها برحلة بطائرة بوينغ من باريس إلى تل أبيب.ليس هناك مقاعد مريحة، لا مضيفات يأتونك بالحلوى، ليس هناك سجاد فوق الأرضية، والطائرة تكاد تكون خالية.
“اذن؟”
“اذن، إنها شديدة البرودة هناك، ستتجمدين حتى أن أسنانك لن تتوقف عن الاصطكاك.في كل عملية ذهبت إليها كنت أضع طبقة إضافية من الملابس، ومع ذلك كنت أموت من البرد.”
“كم طبقة ستلبسين؟”
“أربعة.”
لا يمكنني الا أن أنظر بإعجاب إلى تلك الخبرة الواسعة التي تتمتع بها.
ثم أرتعب.
لكني لم أجلب شيئاً لي عدا الانوراك!لم يخبرني أحد بذلك.”
تشير إلى كومة من القمصان والبلوزات.
“ماذا عن كل هذا؟، هل تعتقدين أنها من أجل الطاهي؟”
بينما نمضي بإتجاه الطائرة نبدوا مثل بيض عيد الفصح باللون الخاكي.ارتديت سروالا داخليا وثلاثة أزواج من الجواريب، قميصا بنصف كم وإثنين بكم كامل، بلوزتين، بزتي العسكرية والانوراك.
“أبدو كبطل مسلسل “جاسوس طائر فوق السحاب”، أهمس لـ”إيانيت”، محتجة.
“نعم، ولكن مثل بطل فلم “الجاسوس القادم من البرد”، أنت على أفضل ما يرام”، ترد بحبور.
تمدني بقطعتين من الشكولاتة.
“ستحتاجينها عندما تشعرين بالجوع.عادة ما يعدون لنا شيئاً لنأكله، لكنه شحيح.من الواضح أن مغامرتنا بحياتنا لا تعني أن من حقنا الحصول على طعام أفضل.”
“أنت تتصرفين كأم أو كجدة، إيانيت هايموفيتش.”
في الطائرة يسلموننا، رزمة كبيرة، سترة نجاة، ومظلة.بعد الظهر علمونا كيفية عمل المظلة.رفعت يدي لكي أقول أني لم أقفز بالمظلة من قبل.
أحدهم يرد بمزاح.”لايهم، فأن سقطتي في أرض العدو فمن الأفضل الا تفتح مظلتك.”
الجميع ينفجر بالضحك لكني أرتجف من الرعب.
وانا أرتجف الآن مجدداً في الطائرة التي حلقت لتوها، من الخوف، من الإثارة ومن البرد.لكني أهتز.
هناك ثلاثون وجهاً صارماً يركزون في واجباتهم.أضع سماعاتي وأدون الملاحظات، نفس الملاحظات التي أدونها في القاعدة، لكنها على هذا الإرتفاع تبدو شيئاً مختلفاً.هل نحن ببساطة نحاول أن  نحمي أنفسنا من عملاء يحاولون إختراقنا؟هل هذه هي مهمة تجسس محمولة جواً؟.لدي شعور بأن هناك طائرات تنطلق في نفس الوقت مثلنا.
نبقى في الجو لساعتين دون أية حادثة.عندما نهبط يقول العقيد المسؤول عن العملية”لقد قمتم بعمل جيد.شكراً لكم جميعاً.”
في اليوم التالي هناك مقالات عن آلاف الأشياء ولكن ليس عن تلك العملية.أعود إلى قاعدتي بتلك النظرة الغامضة في عيني.
****

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *