دولة علي بابا
         في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق
(3)
                                          الفساد انتقام امريكا من العراق
منذ الغزو الامريكي للعراق عام 2003 والسؤال الذي يتردد على الالسن هو ما هي الاسباب الحقيقية للغزو غير الاكاذيب بشأن اسلحة صدام والكلام الاجوف عن تحرير العراق منه.الجواب كان دائما هو حتى تفتح ملفات الارشيف الامريكي فلن يكون بالامكان التعرف على تلك الاسباب او الدوافع ومعرفة مكنوناتها الحقيقية.تلك هي الاجابة من وجهة نظر التاريخ الذي بامكانه ان ينتظر ما يشاء من الزمن، ولكن من وجهة نظر الحاضر فان الاجابة قائمة في شواهد الواقع الذي عليه العراق الان الذي هو ليس الا خرابة تقوم على انقاض دولة وكيان ومجتمع بشري وركام من المعاناة والالالم والمخاوف والقلق.
السؤال الثاني الذي يستتبع التساؤل الاول هو:هل كانت هذه النتيجة اي تدمير العراق كدولة وكيان، عملية مقصودة ومبيتة ومنظمة، ام كانت ناتجا عرضيا بسبب الاخطاء العديدة القاتلة التي ارتكبت سواء بطريقة تنفيذ الغزو او في ادارة الاحتلال؟هنا ايضا تقف كل شواهد الحاضر لتؤكد بما يقطع اي شك باليقين بان تلك كانت جريمة تدمير شامل، ان لم تكن ابادة جماعية لوطن، مع سبق الاصرار والترصد مكتملة الاركان ارتكبها مخططون ومنفذون ومبررون اصبحوا الان معروفين كل بالدور الذي قام به.
هناك الكثير من الوقائع والنتائج المتحققة التي تثبت وقوع تلك الجريمة الا ان الفساد بكل انواعه يقف كاحد ابرز تلك الادلة الدامغة لان نتائجه وتبعاته واضحة العيان كما انها ستبقى تعيش مع العراقيين سنوات، بل عقود، طويلة وستترك اثارها على اجيال عديدة منهم.ان الشاهد على ذلك يتجلى بنظام المحاسيب (cronyism) الذي اقامه الاحتلال وتركه لزمر من الخانعين والمتعاونيين معه والذين لا يزالون يقبضون على ناصية الحكم ويقيمون نظاما تنعدم فيه الفضائل الاخلاقية ومغرق بالفساد الذي يغذي بدوره حالة الفوضى والعنف المستشرية بالبلاد.
ان وراء مفهوم “دولة علي بابا” الذي روجه الاحتلال منذ اول لحظة له على الارض العراقية تقوم صناعة امريكية متكاملة سعت لاقامة هيكل اقتصادي لاعادة توزيع شامل للدخل والملكية والادارة والانتاج عبر خلق اوليغاركية تابعة تركت لكي تغرس جذورها عميقا في التربة العراقية الى فترة طويلة.ونظرة متفحصة للواقع العراقي ترينا كيف ان نظام المحسوبية والشللية والزواج بين السياسة والمال الان هو الذي يهيمن على العقود والمقاولات والتجارة والبنوك والاستثمار مع ارتباط  مركينتلي كامل بالمنظومة الاقليمية والدولية.
 في الفترة الاخيرة افتضحت احدى “حكايات علي بابا” واصبحت اكثرها شهرة بسبب ما كشفت عنه ايضا من ارتباط عنكبوتي بقضية الامن وادارة الدولة وهي حكاية نمير العقابي.كان عالم المال والسياسة والمخابرات في دول المنطقة واوربا وامريكا يعلم بحكاية العقابي ويتابعها بتفاصيلها غير المسلية في حين كان المسؤولون العراقيون يمارسون عاداتهم بالخداع والتضليل حتى دب الخلاف داخل “مغارة علي بابا” وانكشف المستور بتبجح نوري المالكي بدور ابنه في القاء القبض المزعوم على العقابي.
في 18 آيار 2011 كتبت نيويورك تايمز تقريرا عن حركة الاعمار في العراق كجزء من عمليات غسل سمعة الاحتلال قبيل الانسحاب كان احد ابطاله نمير العقابي الذي وصفته بانه واحد من اغنى اغنياء العراق.اما كيف كون تلك الثورة فالجريدة الامريكية العريقة لا تترد بالقول انه الاحتلال الذي جعل منه “رجلا غنيا جدا جدا.”في مستهل التقرير تنقل الصحيفة عن العقابي قوله للكاتب “يا صديقي، ان العراق غني وبكر” وهي عبارت دالة تفضح النهم للمال وشهوة الاغتصاب وهي سمة كل من شارك في مشروع “دولة علي بابا”.
من اين أتى اول مليون؟في 11 تشرين الثاني 2007 كتب نوريس جونز في النشرة الداخلية للقوات المسلحة الامريكية تقريرا يتحدث فيه ايضا عن جهود اعمار العراق وخاصة تلك التي يقوم بها فيلق المهندسين في الجيش الامريكي للاشراف على 541 مشروع بقيمة ملياري دولار وهي مشاريع ترميم للمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والصرف الصحفي وغيرها.كان الفيلق قد انجز حسب ذلك التقرير 3700 مشروع مماثل بقيمة 5,8 مليار دولار كان نصيب شركة العقابي 80 مشروعا منها كان مبلغ مناقصة مشروع واحد منها وهو مشروع  معالجة مياه الرصافة 50 مليون دولار.
وهكذا بدأت رحلة الملايين لعراقي غادر بلده وعمره سبع سنوات وجاب العالم في رحلة بحث عن الرزق ولكن لم يحالفه حظه الا بعد عودته مع الاحتلال.
هناك مثال اخر عن منظومة الفساد التي اقامها الاحتلال مبكرا.
يروي زياد قطان الذي اشتهر في حكاية اخرى من حكايات علي بابا كانت هي الابرز في قصص الفساد الخيالية وهي صفقة الاسلحة البولونية الشهيرة والتي كان احد ابطالها وزير الدفاع حازم الشعلان في مقابلة مع جريدة لوس انجلز تايمز يوم 6 تشرين الثاني 2005 انه قبل عمله كرئيس قسم المشتريات في وزارة الدفاع كان يعمل في بيع المياه والزهور والاحذية والسيارات  في بولونيا التي عاش فيها.” اما الاسلحة فلا”.ومع ذلك فان هذا الشخص الذي عمل مع المحتلين منذ الايام الاولى للاحتلال ككبير مستشاري وزارة الدفاع ومسؤول المشتريات فيها فقد وقع 89 عقدا لشراء الاسلحة بكلفة قدرها 1,3  مليار دولار لاعادة بناء الجيش الذي دمروه باعتباره جيش صدام.
مالذي تقوله الصحيفة عن تلك الصفقة؟انها جرت بسرية تامة وبدون مناقصة وان الدولارات كانت تحول نقدا على شكل رزم عبر وسطاء هم اصدقاء لقطان يقبضون عمولة سمسرة على ذلك وان بعض قطع الاسلحة هي مجرد خردة وغالية الثمن والادهى من ذلك ان بعض المعدات لم تصل الى العراق اساسا.
قصة قطان كما ترويها الصحيفة  لجمهورها الامريكي منذ عودته الى بغداد بعد خمسة وعشرين عاما من الغربة قبل الغزو بيومين وتعينه في ذلك المنصب الكبير هي الاخرى تصلح كحكاية مسلية للامريكيين من “حكايات الف ليلة وليلة” و”علي بابا والاربعين حرامي” ولكنها بالنسبة للعراقيين هي قصة مأساوية من مسلسل التخريب المتعمد للعراق وتدمير ارادة شعبه سنجد ملفاتها في اقبية الاجهزة السرية التي حاكت ذلك المشروع الجهنمي والذي اولد النموذج الحالي.
من ناحيته، يقدم شاهد من اهلها وهو علي عبد الامير علاوي وزير المالية ووزير الدفاع في تلك الفترات في كتابه “احتلال العراق، ربح الحرب وخسارة السلام” تفاصيل مروعة عن ما يدعوه بملحمة السرقات الكبرى التي ابطالها حسب وصفه “وزراء انتهى امرهم بالهرب من وجه العدالة متهمين بالنصب والاختلاس والسرقة” او “مغامرين لايردعهم رادع” او “افراد كانوا يعملون في محلات بيع البيتزا”.الذين عملوا في زواريب ادارة الاحتلال من عراقيين واخرين يتحدثون بشهادات تفصيلية مؤلمة عما كان يدور حول تلك الصفقات التي كانت تجري في مكاتب سلطة الاحنلال والسفارة الامريكية ومعسكرات الجيش والتي لم تجر بشأنها حتى الان اي تحقيقات او يحال اصحابها الى القضاء.
ان العديد من قادة المعارضة لصدام الذين تبنتهم الولايات المتحدة كانوا معروفين بفسادهم وانغماسهم بعمليات اجرامية مثل التهريب وتجارة السلاح وسرقة الاموال، بعضها من معونات الدول التي كانت ترعاهم، او من اموال خيرية او من نهب اموال السفارات والوفود العراقية قبل انشقاقهم، كما ان بعضهم ممن صدرت بحقهم احكام قضائية مشهورة.ان مجرد وجود هؤلاء في صدارة المشهد بعد الاحتلال كان يمثل صورة وقوة مثال تبعث برسالة لكل من لديه الاستعداد للانظمام لـ “دولة علي بابا” الاتية على انقاض دكتاتورية صدام.  
كانت هذه الممارسات بالذات التي انفقت من خلالها مليارات الدولارات على مشاريع تافهة او وهمية ولا وجود لها على جماعات اعتبروها صديقة او متعاونة مع الاحتلال هي حجر الاساس في منظومة الفساد التي اقيمت في دولة علي بابا لانها كانت تهدف الى بناء ثقافي يقوم على بناء مؤسسي للفساد.كانت السياسة التقليدية الامريكة وللغرب الكولنيالي عموما تلجأ الى المؤامرات والدسائس والانقلابات وتزوير الانتخابات في البلدان التي تحتلها او تلحقها بتبعيتها الا انها الولايات المتحدة لجأت في حالة احتلالها للعراق الى التخريب النفسي عبر الفساد ليس تجريبا بل من خلال قناعة مخططي الاحتلال بانه اذا كان العراق مختلفا في توقعاتهم بشان احتمالات المقاومة فلابد من التعامل معه بشكل مختلف ايضا.
لقد جرى كل ذلك رغم وجود قوانين امريكية تمنع دفع رشاوي او اي من ممارسات الفساد بسبب الحصانة التي توفرت للجيش وباقي المشاركين في عملية الاحتلال من دبلوماسين وموظفين بل وحتى المتعاقدين من خارج هذه الاجهزة.ولكن تلك الحرب كانت اساسا بلا مبادئ وقامت على الكذب والخداع وانتهاكا للقانون الدولي وشرائع الامم المتحدة مما يجعل الجدل بشأن الجانب القانوني وحتى الاخلاقي ضرب من ضروب الثرثرة ما لم يتم تفنيد مشروع الاحتلال من اساسه باعتباره غزوا كولنياليا مدمرا وفقا للحقائق الصارخة امامنا الان واجبار امريكا على الاقرار بانها مسؤولة عن مأساة القرن في تخريب بلد بالكامل وتدمير خيارات شعبه.
ان احد الاسباب التي تقف وراء الاجندة الامريكية في اشاعة الفساد وتخريب الذمم هو ترسخ قناعة لدى المخططين الامريكيين للحرب والغزو ان هناك درجة عالية من العداء لامريكا في العراق التي هي ارث عقود طويلة من نضال الحركة الوطنية ووعي العراقيين بن امريكا لم تأت الى بلادهم لتحريرهم من صدام او بهدف تحقيق الديمقراطية او اي من شعارات التغير والاصلاح التي كانت قد رفعتها في منطقة الشرق الاوسط انذاك.لقد اختبرهؤلاء المخططين ذلك  عمليا حين لم شاهدوا  العراقيين  وهو يأنفون عن استقبالهم بالورود وحين بدأت المقاومة للاحتلال سريعا مما استوجب رد الفعل الانتقامي ذلك الذي جعل العراق على ما هو عليه الان نموذجا منحطا للفساد والخراب الاقتصادي والتردي السياسي.
ان هذا الاستنتاج ضروري للرد على تلك التساؤلات التي سيقول اصحابها ماذا لو كان العراقيون قد رحبوا بالاحتلال وبالسيطرة الامريكية على بلادهم ولم يبدوا مشاعر الكراهية للولايات المتحدة، فهل كانت امريكا ستختار طريقا اخر لمساعدة العراقيين على اعادة بناء بلادهم؟ان احسن رد على ذلك هو ما جاء به “بيتر بيكر” الصحفي في نيويورك تايمز في كتابه “ايام النار” الصادر هذا الشهر نقلا عن مسؤول امريكي بارز في ادارة الرئيس بوش بقوله “لقد ذهبنا للعراق ونحن نبحث عن مؤخرة شخص ما لنركلها”.والحقيقة انهم لم يركلوا شخصا بحد ذاته، بل ركلوا بلدا باكمله.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *