دولة علي بابا
                         في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق
(1)
                                              الفساد قضية حياة او موت
في ذاكرة الكثير من البغداديين الذين عاصروا الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي قول مأثور ينسبونه الى أحد اشهر القوادين في مدينتهم يومئذ، وخلاصته انه دعا يوماً واحداً ممن عرف بالتشهير به في المقاهي والاسواق وطلب منه ان يكتب كلمة “قواد” على ورقة بيضاء قدمها له مع قلم حيث وما ان انتهى ذلك الرجل من كتابة تلك الكلمة البذيئة حتى وضع ذلك الديوث فوقها “نوطا”، وهي اكبر ورقة من اوراق العملة واعلاها قيمة حينئذ، وسأله باستنكار وتعجب:اين هي الان تلك الكلمة التي تعيرني بها؟
مغزى الحكاية التي يرددها الكثيرون من ابناء ذلك الجيل حتى يومنا هذا بنسخ متعددة، واضح ولا يحتاج لتفسير، وهو انك تستطيع ان تشتري اي شيء وكل شيء، وحتى بعض الناس، بالمال، وان الفلوس بامكانها ان تمحوا اية لطخة قد تتعرض لها سمعتك او شرفك، بل ان تقلبها الى فضيلة ومصدراً للعزة والفخر.هذا العمل يناط الان بوكالات العلاقات العامة المنتشرة في عالمي السياسة والمال وهو ما يعرف بحملات التلميع، او صناعة الصورة، او بشكل ادق بمهمة غسيل او تبيض السمعة.الا انه في “دولة علي بابا” يجري بطريقة بدائية وساذجة ومتخلفة عبر الزعيق فوق شاشات الفضائيات او التوحيل من خلال مواقع الانترنيت.
ولان هذا الفن هو من فنون الدعاية الذي يعتمد في جانب كبير منه على الايحاءات والفذلكات والتلاعب بالمسميات، فان الامر لا يحتاج  في صناعة تجميل الصورة سوى الى التفسير او الشرح اللغوي للكلمة كما وردت بالمعاجم بان القواد هو مجرد سمسار، او انه منظم للعمل او ساعي بين الرجل والمرأة البغي في بزنيس المتعة، بل بامكان مكاتب غسيل السمعة العودة الى الجذر اللغوي للكلمة وتسويق الشخص بسخاء بانه الرجل “قوي القيادة” وبذلك يقلبون الصورة ويكسرون حاجز الرفض الاخلاقي والنفسي ويوجدون حالة وهمية للتعايش بين الخسة والطهارة.
ما يجري في العراق الجديد الذي روجت له مختبرات الفكر الكولونيالي ومراكز صناعته منذ الغزو الامريكي بخصوص سرطان الفساد المستشري هو شبيه تماما بحكاية ذلك القواد حيث يصم الفاسدون والمفسدين اذانهم عن كل التقارير والمعلومات والاتهامات الموثقة بشأن فسادهم الذي فاق كل حدود معروفة ويغطون الكلام بدفاتر الدولارات، وليس بـ “النوط ابو العشرة” ، في استراتيجة انكار مزدوجة تنحو، من جانب، الى تجاهل ما يرونه مجرد ضجيج مثار، ومن جانب اخر، الى التلويح بالدولارات لشراء الذمم والضمائر لاسكات الالسن التي تتجرأ على الكشف عن فضائحهم بنفس طريقة السمسار سالف الذكر.
تذكر ابحاث علم النفس ان حالة الانكار هي السعي للتأكيد على ان ما يقال تجاه شخص ما او مجموعة او الاتهامات الموجهة له، او لهم، هي ليست حقيقية وانها واحدة من الآليات الدفاعية السايكولوجية التي يستخدمها الفرد او المجموعة حين توجه اليه، او اليهم، اتهامات غير مريحة، مما يستوجب رفضها والاصرار على انها غير صحيحة، بالرغم من وجود ادلة دامغة.وتتنوع حالات الانكار من انكار الحقيقة برمتها او انكار المسؤولية عنها او انكار النتائج المتحققة منها والتأثرات او التقليل من شأنها.
ان اسوء تجليات حالة الانكار هي في الافكار والافعال التي تعزز مشاعر الثقة بالنفس والاقتناع بان ليس هناك اي حاجة لتغيرالسلوكيات لدى الفرد، وهي حالة تجمع كل حالات الانكار المذكورة وغيرها كي تصل باصحابها الى الاصابة بالوهم وخداع الذات وغيرها من اضطرابات التفكير مما يؤشر الى مخاطر محتملة جمة على المستويين الشخصي والاجتماعي.
غير ان الاساليب الدفاعية هنا تنطوي ايضا على حالات هجومية، كما هي  في الحروب وفي الالعاب الرياضة، مما يستوجب في حالات الانكار السياسي التعرض للمنتقدين او موجهي الاتهامات، مثلما في حالة الاتهامات بالفساد توجيه (تلفيق) اتهامات مضادة، مثل العجز عن اثبات التهم او تبيان الحقيقة، او الانحياز وعدم الموضوعية، او العمالة والخيانة، وكل ما من شأنه تسخيف الاتهامات والحط من شأن اصحابها بهدف بث الشكوك لدى الجمهور وايقاف الجدل الدائر بشأنها، او تحويل وجهة النقاش الى قضايا اخرى ثانوية، او حتى مختلقة للتغطية على قضايا الفساد.
ويتطلب الهجوم المضاد عادة تكتيكات ووسائل دعائية تتلاعب بالحقيقة مثلما يتطلب اجراءات على الارض لحرف الانتباه عن الهدف الاساسي.ولعل اهم وسيلة يجري استخدامها هنا لطمس الاهتمام بقضية مواجهة الفساد في العراق باعتباره اس البلاء المحاولة المتعمدة لجر الناس للسجال الطائفي بهدف تغير مسار النقاش العام عن بلوى الفساد  واللجوء الى الارهاب كوسيلة مصممة لا لدفعهم فقط بالشعور بالخطر الدائم وانما تشجيعهم ايضا على الانخراط في الصراع  كي يجري الهائهم نهائيا عن قضايا الفساد ومكافحته.
ما يجري الان في العراق هو حملة منظمة من كل الجماعات التي استولت على الحكم للتلاعب لاشاعة اجواء الاحباط واليأس في نفوس العراقيين وكبح نضالهم ضد الفساد والمفسدين مثلما يجرى ضد المتظاهرين منذ اكثر من عامين وضد الناشطين في الحملة الوطنية المطالبة بالغاء امتيازات النواب وقبل ذلك تخريب عمل هيئة النزاهة وتعطيل جهود القضاء في محاسبة الفاسدين، بل وافساد ذات المؤسستين اللتين ينبغي ان تكونا الحصن الاخير للعدالة والدفاع عن المال العام وحقوق الناس.
ان كل ذلك يهدف الى فرض الصمت على ممارسات حيتان الفساد وبالتالي ترسيخها كمنهج للحكم بالرغم من انف كل عراقي وخاصة اولئك الذين يجاهرون بالكشف عن قضايا الفساد عبر مختلف الوسائل.وفي سبيل ذلك فان هذه الجماعات لا تعمل على التنصل من المسؤولية فقط، وانما محاولة الافلات من العقاب والاستمرار في عمليات النهب المنظم للثروات الوطنية مع الاحتفاظ بما قامت بنهبه خلال السنوات الماضية والتي مكنها من وضع يدها على كامل مصادر الثروة في البلد وتحويله الى ضيعة لهم وللابناء والاقرباء والاصحاب.
الرسالة التي يريد ان يبعث بها الفاسدون في “دولة علي بابا” لمن يتجرأ على فضح ممارساتهم هي نفس رسالة استخفاف ذلك الديوث وكل الفاسدين في كل زمان ومكان، وفي كل مهنة وميدان: اذهبوا واشربوا من ماء البحر او اضربوا رؤوسكم في اول جدار يقابلكم، فنحن لانبالي، بل ولن نهجع حتى نشفط أخر برميل من النفط  ونمتص اخر دولار في خزائن البنك المركزي ثم نعود الي حيث كنا منعمين بحساباتنا في البنوك العالمية وبشركاتنا وعقاراتنا وقصورنا التي تنتشر في كل قارات العالم.
هي رسالة تحد اذن لكل الجهود الرامية لمقاومة الفساد مما لا يترك اية استجابة لها غير رفض الاذعان لنهج التجاهل واحتقار ارادة الشعب، ولمحاولات استلاب الحقوق الشرعية للناس او استحلال ثروات الوطن، وامام نوايا الانتقام والثار التي تغذي تلك النزعة التدميرية للفاسدين.ان اتساع الحملات الجماعية المنظمة والفردية في التصدي لفساد زمر الحكم في العراق، رغم قلتها ومحدوديتها، تعني ان هناك ادراكا متناميا بان مهمة محاربة الفساد هي قضية حياة او موت للعراقيين، فلا أمن ولا استقرار ولا تنمية ولا كرامة ولا حرية ولا عدل ولا مستقبل في ظل غول الفساد.
في الحلقات القادمة سنتناول كل هذه القضايا من خلال تجربة الحكم في “دولة علي بابا” منذ نشوئها كمشروع قبيل الغزو الامريكي عام 2003 الذي اسس لها مستعرضين الافكار والمفاهيم والاشخاص والدول والاجندات والاستراتيجيات التي وقفت وراءها ثم التطبيقات العملية لمنهج “مغارة علي بابا” من خلال سياسة النهب المنظم للثروات العراقية التي ادت الى فشل تجربة اعادة بناء الدولة وستؤدي بالنتيجة، ان لم يتم  التصدي لها وكبح جماحها، الى انهيارما تبقى من اسس الدولة العراقية وتفكيك تام لبنية المجتمع العراقي.
*

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *