صفوة القول (22)
مختارات من اراء وقضايا
مساهمة في النقاش بشأن قضايا المصالحة والوفاق الوطني في العراق دروس من تجارب الآخرين
ورقة مقدمة لندوة وزارة شؤون المصالحة الوطنية في بغداد في تشرين الاول 2009
صلاح النصراوي
بعد ست سنوات من إسقاط نظام صدام حسين الدكتاتوري والغزو الامريكي لا يزال العراق يعاني من أزمة وطنية خانقة تتمثل سماتها الرئيسية بإنسداد أفق العملية السياسية القائمة على أسس التقاسم الوظيفي الأثني والطائفي، وإستمرار مناخ العنف؛ وهما عاملان يعيقان عملية إعادة بناء الدولة والمجتمع اللذان دمرا، نتيجة لسياسات النظام الشمولي ولممارسات الإحتلال الأمريكي، على أسس جديدة، قوامها المواطنة والتعددية والديمقراطية والشراكة والعدالة.إن إستمرار الأزمة الوطنية وتعمقها بسبب السياسات التي تتبعها الجماعات المختلفة، وفي ظل غياب مشروع وطني جامع، سيؤدي لا محال إلى المزيد من المحن والكوارث الإنسانية وإلى إنزلاق البلاد إلى مهاوي خطيرة، ولن يكون بعدها بمنجى من الحرب الأهلية ومن التقسيم والتجزئة.ومن دون الإقرار بحقيقة المأزق، وتشخيص أسبابه بدقة ومسؤولية، وإدراك التحديات الخطيرة التي يشكلها أمام جميع العراقيين، سيكون من الصعب، بل من المستحيل التوصل إلى حلول ناجعة، أو حتى قواسم مشتركة، للخروج من المحنة الوطنية.
لقد دلت الأحداث التي شهدها العراق ربيع 2009، ومن بينها التوترات السياسية التي نشأت على خلفية إنتخابات مجالس المحافظات، والتي أدت بدورها إلى عملية تفكيك واسعة النطاق للكيانات السياسية المشاركة، والخلافات المستمرة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، سواء بشأن كركوك أو باقي المناطق المحاذية للإقليم، أو بسبب الصلاحيات المتعلقة بتقاسم السلطة والثروة، إضافة إلى عودة أعمال العنف والإرهاب في بغداد وعدد من المحافظات والمدن، بأن حالة الإستقرار الأمني التي تحققت خلال عامي 2007 و2008 ما هي إلا حالة شديدة الهشاشة، تفتقد إلى الكثير من المقومات التي تسندها لكي تتحول إلى حالة إجتماعية وسياسية صلبة ودائمة.والواقع أن هذه الأحداث والتطورات المرتقبة خلال الأشهر القادمة المرتبطة بإنتخابات مجلس النواب المقررة نهاية العام، وإقتراب مواعيد الإنسحاب الأمريكي، أولاً من المدن، وبعدها من كامل الأراضي العراقية، ستجعل المشهد العراقي أكثر سخونة نظراً لكونها مرتبطة بالصراع السياسي حول المستقبل.
تشكل المصالحة الوطنية احدى أساسيات عملية إعادة البناء في المجتمعات الناهضة من الأزمات والكوارث الوطنية، وهي مهمة لكي تصل إلى نتيجة ناجحة ينبغي أن تجري على المستوين الوطني العام والمحلي، كما أن من أهم سماتها وخاصة في المجتمعات الفسيفسائية والمتعددة الأثنيات والأديان هي الحساسية المفرطة للقضايا التي تتناولها، بسبب تعلقها بقضايا الهوية وبالجماعات والتشكيلات القومية والمذهبية والعشائرية والإجتماعية، وما يرتبط بكل ذلك من قيم وعادات وتحيزات فؤية، تنعكس دائماً على فرص التوصل إلى تسويات وحلول وسط مطلوبة.إن احدى التحديات التي تواجه عملية المصالحة في مجتمعات لاتزال تعيش تحت تأثير العنف والنزاعات المسلحة هي ضرورة، لا كسر حلقة العنف وإنهائه فقط، بغية فتح الباب أمام حلول تفاوضية، بل أيضاً العمل قبل الولوج في العملية التصالحية ذاتها في عملية اخرى تستهدف تضميد الجراح وإبداء الإستعداد لتقبل المسؤولية المشتركة عن أعمال العنف، والبدء في إظهار بعض إجراءات بناء الثقة المهة.
هناك ثلاث قضايا رئيسية ينبغي لأية عملية مصالحة وطنية عراقية أن تعالجها في سبيل تحقيق عملية توافق وطني حقيقية وناجعة وإعادة بناء العراق؛ وهي ملف حزب البعث، والطائفية، والأبعاد والتدخلات الإقليمية.إن معظم مشاكل العراق الحالية، ومن ضمنها إستمرار العنف وغياب الأمن وإنعدام الإستقرار، وتعثر العملية السياسية والبناء الديمقراطي، وهيمنة القوى الفؤية وإحتكارها للسلطة وللمعارضة، وتغول الفساد الإداري والمالي، وإنهيار منظومات القيم الإجتماعية، وتعزز النفوذ الإقيلمي، تعود لإستمرار تلك القضايا دون حل، كما أن هناك خشية حقيقية من أن بعض الجماعات المشاركة في العملية السياسية تجد في ذلك مرتعاً خصباً يتيح لها الإستمرار في لعبة السلطة، مثلما يجد فيها خصومها وسيلة للقفز عليها، مما يجعل من عملية المصالحة تدور في حلقة طويلة مفرغة.
اولا: ملف البعث:
تأتي ضرورة معالجة مشكلة “حزب البعث” على رأس جدول أعمال عملية الوفاق الوطني بعد أن أثبتت أنها تشكل العقبة الرئيسية بوجه المصالحة، بسبب الإختلافات الجذرية في مواقف الفرقاء العراقيين، بين من هو رافض تماماً لأية حلول تتيح للحزب العودة إلى الحياة العامة وحجر نشاطاته، وإجتثاثه ومعاقبة مرتكبي الجرائم من أعضاءه السابقين، وبين اولئك الذين يصرون لا فقط على عودة البعث للعمل السياسي، بل وأيضاً على إلغاء كامل العملية السياسية، وإعادته الى قيادة العراق والثأر من كل من يرون بانه ساهم بإسقاطه.هناك طبعاً بين الموقفين مواقف أكثر ليونة تدعوا اما إلى التميز بين البعث والبعثيين، أو حتى إلى التسامح مع الماضي كله وغفران جرائم من أخطأ منهم وإلى البدء من جديد على قاعدة عفا الله عما سلف.وتشكل هذه المواقف خلافات مجتمعية شديدة الحدة لم تتمكن الإجراءات التي اتخذت لحد الان، سواء التي جاء بها الدستور، أو قانوني إجتثاث البعث والعدالة والمساءلة من حلها، كما لم تقدم خلال عملية الحوار الدائرة بشأن المصالحة مقترحات واقعية يمكن من خلالها التوصل إلى حلول وسط ترضي الأطراف المعنية جميعها، وليست مجرد إتفاق محاصصة آخر يميع القضية الاساسية، الا وهي تحقيق العدالة لضحايا البعث وإنصافهم للمعاناة التي تكبدوها، من ناحية، وتعبيد الطريق نحو إقامة عراق جديد دون أحقاد وضغائن، من ناحية ثانية.
إن أية مصالحة في الظروف التي يمر بها العراق لا يمكنها أن تقوم من دون معالجة أخلاقية وسياسية وقانونية ودستورية جذرية لأثار كلا الفترتين؛ الدكتاتورية التي قادها حزب البعث، والصراع الأهلي الذي تلى سقوطه.فعلى الصعيد الأخلاقي ينبغي أن يكون هدف أية مصالحة معالجة الجروح العميقة التي خلفتها هاتين الفترتين، وتعويض الضحايا مادياً ومعنوياً، ومحاولة تسليط الضوء على كامل الجريمة وحتى التفاصيل المؤلمة فيها وإتاحة الفرصة للعدالة أن تأخذ مجراها في محاسبة كل من ارتكبها، ومن أعطى الأوامر لتنفيذها، أو من تستر عليها.واذا كان الجزء الأخلاقي من هذه العملية يرمي إلى مراعاة الجانب الإنساني والقضائي، أي إلى إنصاف الضحايا، وإقامة العدل، فان الجزء السياسي والدستوري يهدف إلى ضمان الا تكون هناك عودة إلى تلك الممارسات المدمرة في المستقبل، والعمل على إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة.
إن الإخفاق في حل هذه المشكلة عبر مشاريع واقعية وقوية ومنسقة سيصعب من عملية المصالحة وسيديم آمد الأزمة الوطنية ويضع العراق من جديد على طريق العنف، ان لم يكن الحرب الأهلية، لان إستراتيجيات وآليات إدارة الصراع الاخرى ستبقى عاجزة عن التعامل مع جذور الصراع في العراق وخاصة محاولة إعادة اللحمة الوطنية وتماسك النسيج الوطني.إن مايصعب من التوصل إلى قواسم مشتركة بهذا الشأن هو أن مشكلة البعث يتماثل فيها البعدان السياسي والطائفي، حيث لا يزال يجد البعض في المكون السني العربي أنفسهم متماهين مع البعث ومدافعين لا عن ماضيه فحسب، بل عن حقه بالعودة إلى حكم العراق، في حين تقف أغلبية المكونين الشيعي والكردي بالضد من ذلك، رافضين أية إمكانية لإعادة تأهيله، بل حتى وجوده في الحياة السياسية.
هناك تجارب تاريخية مماثلة عديدة تمت فيها معالجة أثار الدكتاتوريات والأنظمة التسلطية والحروب الأهلية بهدف تحقيق وفاق وطني تميز نجاحها، أو إخفاقها، بدرجات متفاوتة وفقاً للظروف التي تمت فيها ومدى إستعداد كل طرف لتقبل نتائجها.لقد لجأ الحلفاء والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إلى إجتثاث النازيين والقوميين في كل من المانيا واليابان، كإجراء عقابي على الجرائم التي أرتكبوها، سواءاً بسبب شنهم الحرب، أو بسبب السياسات الشمولية والقمعية ضد شعوبهم وشعوب أخرى.وإضافة إلى الإجراءات الدستورية التي اتبعت في ذلك فان إجراءات عقابية أيضاً اتخذت بحق المسؤولين المباشرين، كما أن الاديولوجيا والفكر النازي والقومي ظلا محرمان حتى يومنا هذا.غير ان هذا لم يمنع من محاولات جرت بعد ذلك في إعادة تأهيل القوميين الألمان واليابانين وتلين مواقفهم والسماح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية بتسميات أخرى، لأسباب عدة، على رأسها الحرب الباردة ومحاولة إيجاد توازن محلي وإقليمي مع القوى الشيوعية واليسارية الصاعدة يومذاك.لقد توفرت للتجربتين الألمانية واليابانية ظروف محلية ودولية عديدة ساعدت على بلوغهما أهدافهما، منها ما يتعلق بمستوى التطور الإقتصادي والإجتماعي للبلدين، ومنها ما يتعلق بالقيود التي وضعتها تحالفاتهما الدولية الجديدة في دعم بناء ديمقراطي يمنع العودة إلى الأنظمة الشمولية والفاشية، وهي ظروف غير متوفرة في العراق، ومن غير المتوقع أن تنضج خلال الفترة القادمة لإسباب داخلية وإقليمية.
وفي فترات لاحقة حصلت تجارب مهمة في بلدان عديدة خرجت من تجارب الحكم الدكتاتوري والصراعات الأهلية وفي إطار عمليات إيجاد نقطة التوازن بين العدالة والحقيقة ومتطلبات إعادة البناء، كما جرى في شيلي والبرازيل والارجنتين والسلفادور وسيراليون وغيرها.الا أن تجربة جنوب أفريقيا تبقى هي الأبرز بسبب حجم وفضاعة الإنتهاكات التي إرتكبها نظام الأقلية البيضاء العنصري ضد المواطنين الأصليين من الأكثرية السوداء، إضافة إلى أنها توفر احدى الدروس السياسية والاخلاقية المهمة في كيفية الوصول إلى المصالحة الوطنية وإعادة بناء دول ومجتمعات مرت بفترات حالكة من تاريخها.واذا كان الهدف الذي وضعه الجنوب الأفريقيون هو معادلة تحقيق العدالة وإظهار الحقيقة، فلم يكن مجدياً أن يتم ذلك دون آلية تشريعة محكمة والتي تمثلت ب”قانون الوحدة والمصالحة الوطنية” و”لجنة الحقيقة والمصالحة” التي اخذت على عاتقها مهمة الإستماع إلى ضحايا النظام العنصري وإلى جلاديهم في القضايا المرفوعة، بهدف أساسي، وهو محاولة البحث عن الحقيقة ومنح الفرصة للضحايا أن يكشفوا عن المعاناة التي ظلت حبيسة في نفوسهم سنوات طويلة، في الوقت الذي منحت فيه الفرصة للجناة أن يقروا بالجرائم التي إرتكبوها، ويعتذروا عنها، ويطلبوا العفو والمغفرة عنها، في عملية هي أشبه بعلاج نفسي للطرفيين من أن تكون إنتقاماً أو مجرد محاولة لإثبات الجريمة وتقرير العقوبة بحق الجناة.كان الأمر متروكاً بعدئذ لللجنة التي تمتلك مطلق الصلاحيات القانونية بان تدرس طلبات العفو التي يتقدم بها المدانون وأن تقرر بعد ذلك أن تعفو أو لا تعفو عن المجرمين.وعلى الرغم من أن تشكيل اللجنة كان يرتكز على جوانب قانونية وشرعية لتحقيق العدالة، من بينها القانون الإنساني العالمي واتفاقيات جنيف الدولية، الا أن جوهر عملها كان يقوم على الجانبين الإخلاقي والسياسي، من خلال وضع حد لسلسة الأحقاد والضغائن التي كانت ستبقى مفتوحة الجروح دون تسليط الضوء على الجريمة وتضميد جراح الضحايا، من جهة، وتوفير الفرصة للجلادين لكي يظهروا ندماً حقيقيا ًعلى ما إرتكبوه، من جهة ثانية.
وعلى الرغم من أن المقاربة الجنوب أفريقية تبقى ملهمة بكل المقايس، إلا أنها كتجربة معيارية قد لاتخلو من عيوب ومشاكل كشفت عنها ومن بينها:
-إن محاولة التوفيق بين مقتضيات الحقيقة ومتطلبات العدالة من خلال العمل على كشف الجرائم التي أرتكبت تؤدي إلى إثارة الأحقاد والضغائن والثأر بشكل يمكن أن يعصف بعملية المصالحة وإحلال السلام الإجتماعي.
-إن العفو الذي توفره آليات اللجنة لمن يكشف دوره في إرتكاب الجرائم كجزء من مقتضيات الكشف عن الحقيقة تتعارض مع مقتضيات العدالة، أي ضرورة إنزال العقوبة على الجناة مادامت التهم قد ثبتت بحقهم، مما يؤدي الى التشكيك بمقتضيات العدالة من قبل الطرفين، أي الضحايا والمجرمين.
-تؤدي جلسات الإستماع العلنية إلى الضحايا، الذين يكونون عادة مستعدين لسرد قصصهم، وإلى الجناة الذين من المؤكد كذلك أنهم يشعرون بالخزي والإحراج إلى تناقضات في مشاعر وأهداف الطرفين، مما يجعل العملية تبدو وكانها إنتقام وثأر من مجمل مرحلة الأبارتايد ومن رجالها.
-أوضحت التجربة ان كشف الجريمة لوحده غير كاف لغرض تحقيق العدالة ما لم يصاحب ذلك عملية لمعالجة الجراح التي ولدتها وتعويض الضحايا تعويضاً مادياً ومعنوياً كافياً.
-من الضروري أن تكون إدارة عملية الكشف عن الحقيقة وإقامة العدل نزيهة ومحايدة وبعيدة عن كل أنواع التحيزات بهدف إيجاد نقطة التوازن بين الحقيقة كما هي، وليس الحقيقة كما يراها القائمون على المصالحة من خلال مشاعرهم.
-من المهم ايضاً الا يبقى عمل اللجنة حبيس المستوى السياسي الوطني، بل يجب أن تكون فاعلة على المستوى المحلي أيضاً.
ومن المؤسف القول أن العراقيين لم يتعلموا كثيراً من هذه التجربة الفريدة في تاريخ الإنسانية، ولا من غيرها، وهم يصيغون تجربتهم الخاصة في المصالحة الوطنية بعد سقوط نظام البعث الشمولي الدكتاتوري على الرغم من تشابه كثير في المعاناة والآلم بين الشعبين، مما جعلهم يدفعون الثمن مرتين.من المفهوم أن جزءاً من مسؤولية ذلك يتحمله الإحتلال الأمريكي ضمن الأخطاء والخطايا الكثيرة التي إرتكبها، ولكن جزءاً آخر تتحمله الأطراف العراقية التي حاولت، ولا تزال، أن تتعامل مع هذه المسألة المصيرية بخفة، ودون أي إحساس بالمسؤولية تجاه المبادئ والقيم الأخلاقية والسياسية التي ينبغي أن يبنى عليها العراق الجديد، أي الحقيقة والعدالة والحرية.
هناك ضرورة لمعالجة قانونية وسياسية تتناول جذور مشكلة البعث في إطار المصالحة الوطنية وإعادة البناء، ولكن دون التضحية بتلك القيم النبيلة ولا بالواقعية السياسية التي تحتاجها ظروف العراق.من الناحية القانونية يجب إدراك الا مفر من تحقيق العدالة وعدم إفلات أي شخص من العقاب، مع إمكانية توفير حلول توافقية سواء عن طريق آليات الحقيقة والمساءلة، أو عن طريق الأحكام والأعراف والتقاليد الدينية والإجتماعية.هناك حاجة لتطبيق مفاهيم العدالة الإنتقالية وعلى رأسها ان صفحات القمع والإضطهاد والدكتاتورية وخروقات حقوق الإنسان الفضيعة يجب الا تطوى دون حساب أو مساءلة، بل لابد من توفر استراتيجية شاملة ليس لتحقيق العدالة ورد المظالم، فقط، بل لمنع تكرار تلك الإنتهاكات والممارسات وردع كل من تسول له نفسه من القيام بها.
إن ما يعيب العملية السياسية الجارية وما سيظل يلحق الضرر بها هو غياب أية رؤية أو إستراتيجية واضحة سواء في الدستور أو في القوانين والتشريعات بشأن تحقيق العدالة الإنتقالية، بل وحتى غيابها من الخطاب السياسي للجماعات الحاكمة، مما يثير تساؤلات عديدة، بل الريبة والظنون بشأن نوياها واهدافها في ذلك.من الضروري أن يعالج الدستور والتشريعات القانوينة ذلك الخلل إضافة إلى ضرورة قيام الحكومة بالإنضمام إلى إتفاقية روما الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية (حتى لو كان نظامها لا يشمل الفترة السابقة لإنشائها) والتوقيع على كافة الإتفاقيات الدولية الخاصة بحماية وضمان حقوق الإنسان والأمن الإنساني والعمل على أن تكون التشريعات الدولية بهذا الشأن جزءاً أساسياً من النظام القانوني العراقي.
أما من الناحية السياسية فهناك حاجة لعمل جاد بهدف تفكيك الكثير من المفاهيم والأوهام والمواقف والإشتراطات التي تحاول إقامة ربط تعسفي بين معالجة أثار الفترة البعثية والحكم الدكتاتوري الذي اقامه الحزب وبين المصالحة وإعادة توزيع السلطة والثروة في العراق الجديد.من الضروري أولاً رفض النهج الذي يحاول ربط البعث بالمكون السني العربي، سواءاً من ناحية تحميل هذه المكون مسؤولية جرائمه، أو من ناحية محاولة التماهي به.ومن الضروري ثانياً التميز بين قضية إجتثاث حزب البعث وبين تحقيق العدالة، على إعتبار أن الأولى نسبية ويمكن أن تعالج سياسياً بإطر الجدل العام، في حين أن الثانية مبدأية وتحتاج لمعالجات قانونية.وثالثاً هناك واجب أخلاقي وتاريخي في الحاق الإدانة بالسياسات الشريرة لحزب البعث وعدم السماح لها بان تتكرر مرة أخرى مما يعني أنه يجب الوقوف بحزم ودون تردد ضد انصاف الحلول التي ستسمح للجناة ليس فقط من الإفلات من العقاب، بل بالحلم أيضاً بإمكانية العودة إلى تلك الممارسات.ورابعاً هناك ضرورة لعدم إستخدام دعوات محاسبة البعث في عمليات الثأر والإنتقام، مما يستوجب إقامة نقطة توازن دقيقة لا تسمح بالإفراط من قبل أولئك الذين عانوا لكي يمنحوا أنفسهم مرتبة القداسة والحق بان يفعلوا ما يشاؤون لمجرد أنهم عانوا في الماضي، ولا لبقايا البعث أن تستخدم السجالات المتعلقة بمستقبله منصة إنطلاق لتخريب عملية المصالحة وإعادة البناء.
ثانيا:الطائفية:
تعتبر القضية الطائفية في العراق احدى العقبات الرئيسية التي تقف أمام التجانس الإجتماعي والإجماع الوطني، أو حتى الوفاق، السياسي والتي تعرقل التوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية تنهي إلى الأبد الأزمة الوطنية العميقة وإلى إعادة بناء الدولة والمجتمع.والطائفية بمعنى المذهبية العقائدية بحد ذاتها، كتعبير عن إجتهاد أو رؤية محددة في الدين، قد لا تكون هي المشكلة، اذا ما تم النظر إليها في حدود التنوع والتعدد المذهبي في إطاري الإسلام والوطن العراقي، لكنها تغدو مشكلة خطيرة حين تتحول إلى نظام سياسي يلغي أو يضعف الهوية الوطنية ويقوم على أساس المحاصصة دون إعتبار لمفهومي المواطنة والشراكة وحقوقهما وواجباتهما.ولقد أثبتت التجارب أن نظاماً قائماً على المحاصصة الطائفية السياسية يؤدي لا محالة إلى خلق حالة طائفية بكل أشكالها الفردية والمؤسساتية والثقافية والإجتماعية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من سلوكيات وتحيزيات وإسطفافات، تتجاوز الحياة الشخصية والخيارات الفردية لكي تنعكس في النشاط العام وميادين العمل على شكل إحتكاكات وتوترات وأحياناً صراعات قاتلة.
وكبداية، فمن الضروري عند تناول التجربة العراقية عدم تحميل مبدأ إعادة توزيع الثروة والسلطة في النظام السياسي الجديد كل أوزار المشكلة الطائفية المستجدة، وخاصة مسؤولية خلق الصراع الطائفي، اذ لم يكن هناك بد من أن تكون السمة الأساسية لمخرجات هذا النظام في التعامل مع المشكلة الأثنية هي إقتسام السلطة والثروة سواءاً بصيغة توافقية أم بصيغة إندماجية.فلا يمكن إنكار أن الحالة الطائفية لها جذورها العميقة في تشكيل الدولة العراقية الحديثة منذ 1923 حيث ولدت ككيان هش ومتصدع لم يمتلك أسساً للإندماج الوطني الداخلي، مما إنعكس في ممارسات ذات طبيعة طائفية تم التعبير عنها بشتى سبل الحرمان والإحتكار والإقصاء، انبتت في جسد الدولة ونخرت في نسيجه الوطني وضععت من وحدة المجتمع وإستقراره.إن الإقرار بذلك هو البداية الصحيحة للحل المتمثل في إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة من المواطنة العامة ونظام حكم ديمقراطي يلتزم بتحقيق المساواة بين مختلف العراقيين والعراقيات بغض النظر عن إنتمائهم الديني والقومي والسياسي، كما يمنع التفرقة على أساس العرق والجنس، مثلما يقوم على أسس الوحدة الوطنية والعدالة ودولة القانون والمساءلة.
وفي هذا المجال هناك أيضاً تجارب غنية في العديد من مناطق ودول العالم والتي تم من خلالها، وأيضاً بدرجات متفاوتة من النجاح والإخفاق، حل المشكلة الأثنية من خلال الآليات الدستورية ووفقاً لمبادئ التوافق الديمقراطي.لقد حققت دول كثيرة نجاحات باهرة في هذا المجال، مثل كندا وهولندا وبلجيكا وسويسرا وماليزيا وسنغافورة، كما أن هناك تجارب أخرى واعدة مثل تجربة ايرلندا الشمالية وجنوب أفريقيا، بينما فشلت تجارب قبرص ونيجريا، في حين أن تجارب أخرى، لا تزال تتعثر، وخاصة في دول الجنوب، كالسودان مثلاً، لسبب واضح، وهو إرتباط مشاكل الهوية بالتخلف السياسي والثقافي وضعف التنمية الإقتصادية والإجتماعية.
إن احدى أبرز التجارب في هذا المجال هي الحالة اللبنانية والتي تضاهي الحالة العراقية إلى حد كبير، سواء من ناحية التركيبة الأثنية، أو من ناحية تأثيراتها في عملية بناء الدولة.فقد تطلبت الحالة اللبنانية قبيل الإستقلال التوصل إلى عقد شراكة بين الجماعات الدينية والمذهبية التي يتكون منها المجتمع كوسيلة لتوزيع السلطة في الدولة الجديدة يتيح توازناً معقولاً بين القوى النافذة يومها، أي المسيحين الموارنة والمسلمين السنة، وفي ظل تغيب للمسلمين الشيعة، وغياب الإتفاق على هوية وطنية موحدة.وتمثل عقد الشراكة ذلك بالميثاق الوطني لعام 1943 الذي خدم هدف تحقيق إتفاق الحد الأدنى وكإطار للتعاون السياسي والتعامل مع متطلبات إقامة إدارة الدولة الوليدة.كان الميثاق اللبناني نتيجة عمل دؤوب إستمر سنين عديدة إستهدف إستنباط شكل لتنظيم دولة مسيحية-مسلمة بمنتهى الدقة والتوازن في عملية توزيع السلطة بين الطوائف إبتداءاً بالرئاسات الثلاث، أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب، ثم توزيع المقاعد في المجلس على أساس ستة للمسيحين وخمسة للمسلمين، وكذلك حصص الطوائف في الحكومة ومن ثم تقاسم الوظائف الكبرى في الدولة.
غير أن الميثاق، غير المكتوب، لم يقتصر على أن يكون آلية للمحاصصة فقد حاول أيضاً أن يعبر عن هوية الدولة الجديدة التي كانت تخضع قبل ولادتها إلى ضغوط تبادلية بين الداخل والخارج بسبب طبيعة تشكيل لبنان سياسياً وجغرافياً وأثنياً المتأثرة بمحيطها الإقليمي والدولية والعلاقات التي صاغتها الجماعات اللبنانية مع الدول المجاورة والدول الكبرى حتى قبل الإستقلال.كان لبنان تحت تاثيرات القومية السورية والقومية العربية والتطلعات إلى الغرب بحضارته وأيضاً عقيدته الدينية، وهي كلها اديولوجيات ضاغطة على دولة لم يكن بإمكانها أن تصطبغ بأي من هذه الاديولوجيات دون سواها.لذلك فلم يكن أمام الأباء الأول للإستقلال، وفي سبيل إنجازه سوى إبتداع صيغة تتعايش بها تلك المؤثرات الضاغطة والتي جاءت بالعبارة المشهورة التي أطلقها أول رئيس وزراء لبناني وهو رياض الصلح في بيان وزارته، الذي اعتبر بمثابة الإعلان عن الميثاق، وهو قوله ان ” لبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب.”
لقد دافع مؤيدو الميثاق عنه كونه دليلاً على الإعتدال والواقعية ومرتكزاً للتوافق في الحدود المتاحة يومئذ سواءاً بالنسبة لتوزيع السلطة بين الطوائف أو لجهة هوية البلد التي كانت تخضع لضغوط من كل الجهات.والنظرة التاريخية للبنان وصراعات الملل والنحل فيه والظروف التي كان يمر بها بعد الحرب العالمية الأولى لتحديد مستقبله، ربما تؤيد هذا التحليل بإعتبار أن الميثاق كان الصيغة الوحيدة لتلاقي الطوائف على أرضية وطنية في ظل إنعدام الهوية الوطنية الجامعة.غير أن السنوات القليلة اللاحقة بينت العيوب والشوائب التي انطوت عليها تلك الصيغة بإعتبارها خلقت وكرست نظاماً طائفياً قائماً على المحاصصة الضيقة يديره زعامات ونخب طائفية يضعون كما يشاؤون أطراً ومعادلات وسقوفاً متحركة حسب الأهواء والظروف، دون أي إكتراث أو مسعى لبناء دولة مواطنة ومؤسسات ديمقراطية حقيقية.وفي ظل التوترات المستمرة بين الطوائف والإختلال بعلاقات الداخل والخارج والتأثيرات الإقليمية والدولية كانت الصيغة اللبنانية أشبه بوصفة لأزمات دائمة وخاصة كلما اختلت المعادلات بين القيادات والرموز بالداخل والتغيرات والعلاقات الإقليمية والدولية بالخارج.
وتمثل أبشع فشل للميثاق الوطني اللبناني في الحرب الأهلية التي إستمرت خمسة عشر عاماً والتي حصدت آلاف الارواح ودمرت ما تبقى من روح الثقة بين الطوائف اللبنانية ووضعت لبنان من جديد على طريق لا نهاية له من الإنقسامات المجتمعية والخلافات السياسية وعدم الإستقرار.ولا يشكل كلاً من اتفاق الطائف، الذي انهى الحرب الاهلية عام 1989، وإتفاق الدوحة الذي منع حدوث حرب أهلية عام 2008 إلا مثالين ساطعين على هشاشة التوافق الوطني اللبناني وحاجته الدائمة إلى الإختبارات الصعبة والتدخلات لمنع إنهياره.إن أبرز أسباب فشل المواثيق اللبنانية المتتابعة هو الجرعات الطائفية الكبيرة التي تضمنتها في المضمون، حتى لو أنها حاولت أن تغطي ذلك بقشرة الإنتماء الوطني في الشكل، وإلى هيمنة النخب الطائفية على القرار السياسي وتوجيهها دفة الحياة السياسية بما يخدم مصالحها الشخصية والإجتماعية بإسم الطائفة، إضافة طبعاً إلى إستقدامها الطرف الخارجي، كلما ألمت بالتوافق الوطني مشكلة ما.
وبالنسبة للعراق الذي يخوض تجربة الوفاق الوطني على إنقاض دولة مهدمة، ومجتمع واهن القوى يقوم بمحاولات متسميتة للحفاظ على وحدته، وعلى إيقاع عنف وصراع طائفي وأثني دامي، فان الأمر يبدو تحدياً هائلاً لقدرات العراقيين؛ أولاً على إمكانية الإندماج الوطني في إطار مجتمع تعددي، وثانياً أن يقدموا بدورهم مثالاً ملهماً للآخرين على كيفية حل مشكلات المجتمعات المنقسمة أثنياً في إطار توافقي.هناك حاجة لدعم الهوية الوطنية وتكيفها مع الظروف العراقية، وهو مطلب لا يتحقق إلا بإعادة تأويل الهوية السياسية ومنحها الشرعية الدستورية اللازمة يوازن بين مبدأي التوافق والإندماج.وهنا فمن الضروري التفكير في الهوية الوطنية من وجهة نظر التعددية الثقافية والتنوع والتحول والمرونة والديناميكية، بدل التأويل التقليدي الذي يجسد الهوية في لغة وثقافة ودين وطائفة وأثنية ويحصرها ضمن أطر ثابتة ونوعية.إن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى آليات على المستوين الوطني والمحلي، وعلى الصعيدين السياسي والإجتماعي تقوم بوضع خطط وبرامج لتمتين مختلف أشكال العلاقات بين المكونات، وحل النزاعات التي تواجهها بطرق تفاوضية وسلمية، وخاصة من خلال هيئات المجتمع المدني.
إن احدى فضائل الدستور الحالي هو أنه ابتعد عن المحاصصة الطائفية والاثنية في السلطة في النصوص، كما حاول أن يرسم إطاراً لهوية الدولة قائم على قواسم مشتركة وحلول وسط مقبولة في بعديها الداخلي والإقليمي، ولكنه من ناحية ثانية لم يوفر الكثير، أو تجاهل، ما يمكن أن يزيل تلك الطائفية في النفوس.هناك الكثير في إطار المبادئ الدستورية والقانونية، وفي سياق تجربة السنوات الأخيرة والممارسة الفعلية، الذي ينبغي فعله، سواء في إقامة دولة واحدة ذات سيادة عامة، ونظام حكم ديمقراطي فاعل، وعلى صعيد تحديد دقيق للسلطات الحصرية لكل من الحكومة الوطنية وحكومات الأقاليم والمحافظات، في إطار من الإقرار بضرورة الوحدة مع التنوع ضمن الحكم الذاتي أو في الإلتزام بتحقيق المساواة بين كافة الأفراد وعلى أساس المواطنة، ومن ضمن ذلك أن يكون معيار الكفاءة والفاعلية في إداء الخدمة هو الحكم في إسناد الوظيفة العامة.وعلى هذا الأساس فان مراجعة الدستور وتنقيحه وإعادة كتابته هي ضرورة إستثنائية، ليس فقط لأنه أعد على عجل وفي ظروف خاصة، لم يتح للجميع لا المشاركة في كتابته، ولا في التصويت عليه، بل أيضاً لأن تجربة السنوات الماضية وفرت المزيد من الخبرات والمعرفة التراكمية التي بإمكانها أن تضف الكثير إلى استراتيجيات العمل الوطني وتغني وحدته وتعدده وشموليته.
ثالثا:الارتباطات او التداخلات الاقليمية:
إن احدى خصائص الأزمة العراقية هو إمتداداتها الإقليمة، سواء بسبب الوضع الإستراتيجي الذي يحتله العراق داخل الإقليم، أو بسبب الإرتباطات الدينية والمذهبية والقومية العابرة للحدود مع دول الجوار.وتتمثل هذه المشكلة في التدخلات التي تقوم بها بعض الدول في الوضع العراقي بهدف التأثير، أو حتى تغير نتائج أي عملية مصالحة، قد تعتقد دولة معينة، أو مجموعة دول، أنها ضد مصالحها أو أنها تخدم مصالح طرف إقليمي آخر، كما هو عليه الأمر في الإتهامات الموجهة إلى ايران الشيعية بانها تسعى لمد نفوذها في العراق على حساب الجوار العربي السني، أو الإتهامات الموجهة إلى بعض دول الجوار العربية بأنها تؤوي وتساعد جماعات المقاومة المسلحة، أو أنها تغض النظر عن تسلل الجماعات الإرهابية إلى العراق.ويحتم هذا الوضع اللجوء إلى التعاون وطلب مساعدة أو تدخل هذه الدول، أو بعضها، أو دول أخرى مؤثرة، لكي تعلب دوراً في الوساطة والتحكيم وتقريب وجهات النظر، أو إستخدام النفوذ، بهدف التوصل إلى تسويات وحلول وسط.إن مثل هذا الطلب لا يعبر عن خضوع أو تنازل، بل عن متطلبات الضرورة وأحكام الواقع الذي تفرضه امكانيات هذه الدول بالتأثير السلبي والتدخل لخدمة مصالحها وأهدافها.
وفي هذا المجال أيضاً هناك أمثلة عديدة جرت فيها المصالحات الوطنية والتسويات من خلال التدخل الخارجي، بعضها بشكل إيجابي، وبعضها سلبي، غير أنها جميعاً تعكس العلاقة الوثيقة بين المشكلات الوطنية والصراعات الإقليمية والدولية، لإسباب معظمها يتعلق بتوازنات القوى الإقليمية والبحث عن أدوار.هناك أمثلة عديدة في هذا المجال، منها التجربة اللبنانية، سواء في التوصل إلى الميثاق الوطني عام 1943، او اتفاق الطائف عام 1991 او اتفاق الدوحة عام 2008، وكذلك في يوغسلافيا السابقة والصومال وايرلندا الشمالية، غير أن التجربة السودانية ربما كانت احدى التجارب الأقرب للحالة العراقية، سواء ما يتعلق بإرتباط الداخل بالخارج، أو بسبب تشابه الصراعات الإقليمية في منطقتي الخليج العربي والشرق الأوسط مع منطقة القرن الأفريقي والتي تقوم على أساس تنازع النفوذ بين القوى الأقليمية المختلفة.
تعود محاولات المصالحة السودانية إلى عام 1965 حيث عقد ممثلو الشمال والجنوب أول مؤتمر على شكل مائدة مستديرة في جوبا، جنوب السودان، بهدف مناقشة العلاقات الدستورية بين الطرفين، ولكنه أخفق بسبب الإختلافات العميقة في وجهات النظر.وعلى مدى نحو ثلاثين عاماً خاض الطرفان محاولات شتى للوصول إلى تسويات سلمية، الا أنها فشلت جميعاً مما أدت إلى العودة إلى الحرب الأهلية وإلى المحاولات العبثية لحل القضية عبر السلاح.ولم يكن غائباً عن وعي الطرفين أن بعض مسببات الفشل تعود إلى الشكوك المتبادلة عن دعم خارجي متمثل بالعرب ويقدم للشمالين، وآخر يقدمه الأفارقة للجنوبين، مما أضاف بعداً خارجياً للمأزق الوطني، وإستدعى تدخلاً إقيليماً.وعلى هذا الإساس إضطرت حكومة جعفر النميري عام 1972 أن تقبل بدور أفريقي لحل النزاع توج بإتفاقية أديس أبابا، التي توسطت بها اثيوبيا، وتم بموجبها الإتفاق على حكم ذاتي للجنوب.
غير أن فشل الإتفاق وكل المحاولات التي بذلتها أطراف عربية، كمصر وليبيا، أدى مرة ثانية إلى جولات جديدة من المفاوضات برعاية أفريقية في كوكادوم (اثيوبيا) عام 1986 وأبوجا (نايجريا) عامي 1992 و 1993 والتي توجت بعد ذلك بمبادرة دول الإيغاد عام 1994 والتي نتج عنها إتفاقيات مشاكوس (كينيا) عام 2002 ونيفاشا (كينيا) عام 2003 اللذان ظلا صامدين لحد الأن.ولم يقتصر الدور الأفريقي على محاولات حل مشكلة الجنوب، بل أنه امتد أيضاً إلى الأزمات السوادنية في دارفور وشرقي السودان وجبال النوبة وباقي المشكلات التي يواجهها السودان، في مؤشر على مدى إرتباط جهود الوفاق والمصالحة بالدور الذي تلعبه أفريقيا مجتمعة عن طريق الإتحاد الأفريقي، أو منظمة الإيغاد، أو بشكل فردي، عن طريق دور الجوار.إن سبب دخول أفريقيا كوسيط مباشر في الأزمة السودانية يعود إلى حقائق جيوسياسية ذات علاقة بقضايا الهوية، يتعلق بعضها بالإنعاكسات التي يشكلها الطابع الصراعي بين العروبة والإسلام والهوية الأفريقية الذي اتخذته مشكلة الجنوب على مشاكل الأمن والإستقرار والتي فتحت باباً للتدخلات الإقليمية، وبالتبعية الدولية، نظراً لتعلق ذلك بحسابات المصالح والنفوذ في المنطقة، وهو الأمر زاد تأكيده في مسألة دارفور.
ليس المقصود من التركيز على التجربة السوادنية هو أبرازها كقصة نجاح في عمليات المصالحة فذلك منوط بالنتيجة النهائية التي سيقررها الإستفتاء في الجنوب بشأن حق تقرير المصير المقرر عام 2011، وكذلك مستقبل الوضع في دارفور وباقي المناطق الساخنة في السودان، ولكن الهدف هو إظهار التعقيدات المحيطة بها من ناحية علاقة الداخل بالخارج، وأيضاً سياسات التدويل المتعلقة بها كونها تتشابه إلى حد كبير مع الوضع العراقي.لكن في نفس الوقت لا يمكن إستنساخ التجربة السوادنية، ولا غيرها من التجارب لأسباب عديدة، مما يعني ضرورة البحث عن أساليب وأشكال جديدة من الإستعانة بالتأثير الإقليمي والدولي للمساعدة في عملية المصالحة في العراق.لا محال من الإقرار بأن إستمرار التأثيرات والتدخلات والضغوط التي تمارسها دول الجوار يجعل من المستحيل إنهاء الأزمة الداخلية في العراق دون مساعدة ودور ما تقوم به دول الجوار.كما أن هناك مسؤولية إخلاقية وسياسية تتحملها المجموعة الدولية ودول الجوار عن المأساة العراقية بسبب الدور الذي لعبته سواءاً خلال الفترة الدكتاتورية أو تسهيل الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق أو الفترة التي تلت ذلك.غير أن تضارب المصالح والمنافسة الحامية بين دول الجوار يحتم أن تتم أي محاولة لضبط هذه التدخلات وتشجيع دور بناء لهذه الدول عبر صك ضمانات دولية لمنع أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية العراقية وحماية العراق من التهديدات الآتية من الخارج، مما يتطلب عقد مؤتمر دولي-إقليمي وبإشراف ورعاية الأمم المتحدة يضع إتفاقية دولية ملزمة تضمن عدم التدخل الخارجي وعبر وضع آليات محددة بهذا الشأن.هناك أسس ينبغي البناء عليها في هذا المجال وهي قرارات مجلس الامن ذات الصلة بالغزو وخاصة قرار رقم 1483 وكذلك مقررات مؤتمري شرم الشيخ والعهد الدولي الخاص بالعراق وآلية اجتماعات دول الجوار.
إستنتاجات وآليات مقترحة:
بالرغم من التطورات السلبية التي شهدها الوضع خلال المرحلة الأخيرة المتمثلة بالإنتكاسة الأمنية وإستمرار حالة التعثر السياسي يمكن القول أن عملية المصالحة لا تزال ممكنة، بل هي ضرورية بنفس القدر الذي كانت عليه منذ الغزو الامريكي للعراق عام 2003 والتحلل الذي أدى إليه في بنية الدولة والمجتمع في العراق.غير أن ذلك يتطلب جملة إشتراطات لإنجاح العملية يأتي على رأسها:
-يجب الإدراك منذ البداية أن عملية المصالحة هي بين المكونات الاثنية، أي المصالحة بين الأهداف والتوقعات والمصالح التي تعبر عنها هذه الجماعات وبين المصادر المتوفرة للسلطة والثروة في الدولة، وهي ليست تسويات أو صفقات بين أحزاب أو جماعات أو نخب أو أفراد تحتل موقع القيادة حالياً أو على أسس عقائدية أو توجهات سياسية.
-أن يكون الحوار هو الوسيلة لتحقيق المصالحة وفق شروط وآليات الحوار وأخلاقياته، وعلى رأسها القبول بالآخر، والمعرفة الصحيحة به، وبأهدافه ومصالحه وعدم إصدار أحكام مسبقة.
-توفر نية حقيقية وصادقة للحوار والمصالحة من جميع الأطراف المعنية وليست مجرد إطلاق شعارات هدفها اما سد الذرائع أو النيل من الخصوم وإحراجهم أو قتل الوقت بهدف تحسين موازين القوى أو لأهداف قصيرة المدى توفر الفرصة لفرض شروط ومواقف مغايرة في فترة لاحقة.
-على المتحاورين أن يتخلوا قبل الدخول في عملية الحوار عن إستخدام القوة والعنف والإرهاب بهدف التأثير على عملية المصالحة أو تعطيلها وأن يقبلوا على الحوار بنوايا طيبة وبهدف إنجاحه.
-يجب أن تجري أية المصالحة وفق أسس واضحة متينة هدفها إنهاء الأزمة الوطنية والعمل عل إعادة بناء الدولة والمجمتع خاصة وان هناك ميل للإعتقاد بان إتفاقات المصالحة يجب أن تنحو في صياغاتها نحو العمومية وتجنب الوضوح والمباشرة وربما حتى الإبهام بهدف تجنب الإختلافات الحادة.
-لاغنى عن وجود آليات محددة أولاً للبدء بعملية الحوار والمصالحة وثانياً لتنفيذ أي إتفاق يتم التوصل إليه ولمتابعة تنفيذه.
-أن تكون الحاجة إلى الحوار نابعة من إحساس وقناعة بالضرورة الوطنية وليس بإملاءات وأهداف خارجية.
-أن لا يقتصر الحوار على الأطراف المشاركة بالعملية السياسية وخصومها، بل أن يكون شاملاً وبمشاركة أوسع قطاعات مجتمعية ممكنة وعلى كل المستويات المحلية.لقد دلت تجربة السنوات الماضية على أن القوى السياسية المتصدية ومن طرفي الصراع تحاول إحتكار عملية المصالحة وتفرض شروطها مع تهميشها وإقصائها للقوى الاخرى وللتيار الوطني العام وهو نزوع خطير لانه يعتقد أن المصالحة اذا ما تمت بشكل فوقي بين محتكري العملية السياسية يمكنها أن تتم كذلك على المستوى التحتي المحلي وفي الإطار الوطني العام.
-لا ينبغي أن يكون هناك خطوط حمراء أو ضوابط يرتقي بها إلى مصاف المقدسات في عملية الحوار، كما لا ينبغي أن توضع على طاولة النقاش إشتراطات تهدف إلى نسف الحوار من بدايته أو لمنع الوصول إلى قواسم مشتركة للمصالحة.
-من الضروري التخلي عن الميل للإقتناع بأن المصالحة تعني أن يقدم طرف على التنازلات أو أن يتحمل المسؤولية في حين يرفض الطرف الآخر ذلك وينأي بنفسه من تحمل أي نوع من المسؤولية أو الإلتزام والإستعداد للمساومة.
-على المتحاروين تجاوز الماضي والأمور الثانوية والتركيز على الأمور الجوهرية وعلى المستقبل.
-من المهم توظيف المشتركات في المواقف دون المساس بما هو مختلف عليه.
على الصعيد العملي والاجرائي يتطلب الحوار توفير آليات دقيقة لمعالجة المسائل الانفة كما يلي:
-تشكيل لجنة مستقلة دائمة للحوار تقوم بالاشراف الإدراي والتنظيمي على عملية المصالحة برمتها وفتح نقاشات أولية والإعداد لمؤتمر المصالحة ووضع ضوابط المشاركة فيه ووضع أجندة محددة له.
-عقد مؤتمر وطني جامع للمصالحة بأوسع مشاركة ممكنة بهدف الإتفاق والمصادقة على إصدار ميثاق وطني يتضمن المبادئ العامة للمصالحة ويكون بمثابة رديف للدستور الذي قد يتطلب الأمر تعديلاً عليه خلال الفترة الإنتقالية.
-تجميد العملية السياسية الحالية وكذلك بعض القرارات والخطوات التي تفتقد للتوافق وتأجيل الإنتخابات البرلمانية القادمة وتشكيل حكومة مستقلة مؤقتة تأخذ على عاتقها الإشراف على تطبيق مبادئ الميثاق وإجراء إنتخابات جديدة.
-تأسيس معهد للحوار والمصالحة يأخذ على عاقته دراسة وبحث قضايا المصالحة وتقديم الدراسات والأفكار والمقترحات بشأن العقبات التي قد تنتج عن تطبيق الميثاق.
****