قوة الحشود
الاهرام 6 يوليو 2013
في معرض احد تعليقاته الأخيرة حول الانتقادات الموجهة لادارته بشأن طريقة تعاملها مع تطورات الاوضاع في مصر علي ضوء خروج الملايين من المصريين المطالبين برحيل رئيسهم قال الرئيس الامريكي باراك اوباما ان سياسة الولايات المتحدة الخارجية لا تتغير بالاستناد الي عدد الرؤوس المشاركة بمسيرات التظاهر.
كلام اوباما, بطبيعة الحال, والذي بدا وكأنه يتحدث عن رؤوس في مزرعة بصل, كان يعكس دون مواربة, وايضا بفضاضة, نظرة التندر او حتي الاحتقار, التي تنظر فيها السياسة الخارجية الامريكية للحشود الجماهيرية والارادة الشعبية في عملية التغيير, علي الرغم من ان الانتفاضات والحركات الجماهيرية استقرت منذ زمن طويل في الفكر والعمل السياسي باعتبارها اداة اساسية من ادوات النضال والتغير.
هذه النظرة الامريكية الاستعلائية ليست جديدة فصناع السياسة الخارجية والاعلام في واشنطن دأبوا منذ زمن طويل علي توجيه النعوت السلبية والشتائم, كالغوغاء والرعاع والحثالة, للحشود الجماهيرية التي لا تأتي تطلعاتها او مطالبها علي هوي التوجهات والسياسات الامريكية, لاسباب يطول شرحها هنا, لكن يمكن اختصارها بكراهية هؤلاء للطابع الثوري والوطني الذي عادة ما تنطبع به هذه التحركات ازاء المصالح الامريكية وتجاه حلفائها المحليين.
في الادبيات المتعلقة بالثورات فان ما من ظاهرة تاريخية اهملها التاريخ الغربي كما يقول المؤرخ البريطاني والمرجع في تاريخ الثورات جورج رودي مثل ظاهرة الحشود التي يراها صانعة التغير الحقيقي من اسفل.هذه الملاحظة بشأن تجاهل الحشود تنطبق بشكل خاص علي الطريقة الاستشراقية التي تتناول بها السياسة والاعلام في الغرب شئون الشرق الاوسط, كما رأها الباحث الايراني يرفند ابراهميان وهو يسجل تاريخ الحشود في بلاده التي نجحت بالاطاحة بنظام الشاه عام.1979
يجدر التنبيه هنا بأن الحشود كوسيلة تعبيرعند الجماهير من اجل التغير وكبنية اجتماعية متماسكة ومتوافقة علي اهداف وطنية هي غير اعمال العصيان او الشغب العفوية او حملات الشحن والتعبئة الهستيرية التي تندرج ضمن استراتيجيات التهيج الجماهيري التي اعتادت عليها الانظمة والحركات الشمولية والفاشية في تجيش انصارها او العوام مستثمرة سيكولوجية القطيع في معاركها وفي تصديها للمقاومة, في حين ان التحشيد هو فعل ادراكي واستراتيجية ايجابية للتغير والنهوض.
لكن بغض النظر عن الموقف الامريكي, الذي لا تخفي عنا دوافعه, فان السؤال الذي يواجه المحللين اليوم, وبالتأكيد المؤرخين غدا, هو هل ان الحشود المصرية التي توجت سلسلة انتفاضاتها منذ ثورة25 يناير بالهبة الجماهيرية الكبري الحالية هي فعلا شيء مجرد وانها لا تصنع سياسة بقدر ما تثير الكثير من الهياج وما يصاحبه من غبار قد يحجب الرؤية الحقيقية للوقائع, ام انها فعل ثوري حقيقي مؤسس للسياسة والتاريخ.
أهمية هذا السؤال تأتي ايضا من السجالات والمحاججات التي انطلقت مباشرة بعد اعلان القوات المسلحة المصرية عن عزل الرئيس السابق محمد مرسي, وخاصة في الاعلام الغربي وبالذات الامريكي, عما اذا كان ذلك انقلابا عسكريا ضد رئيس منتخب ديمقراطيا في مسعي للنيل من الشرعية الثورية التي مثلتها مطالب التحشيد وفي تأجيج ردود افعال مضادة.
لعل نظرة فاحصة للجهود التي خططت ونظمت وادارت الهبة الجماهيرية التي فجرت الموجة الجديدة للثورة المصرية في30 يونية, واقصد بذلك حركة تمرد, تبين لنا انها كانت تراهن بالدرجة الاولي علي حشد الجماهير ودفعها للنزول للشارع للدفاع عن ثورتها وانقاذها قبل فوات الآوان.بالتأكيد ان تاريخ الثورات العالمية سيدون ذلك في سجلاته ولكننا نحن الاحياء قد شهدنا كيف ان المصريين بكل انتماءاتهم وخلفياتهم قد توحدوا في كتلة صلبة, وفي ظروف شديدة التعقيد, في عملية تحشيد جبارة كانت هي الوسيلة الوحيدة المتبقية للتعبيرعن وجودهم.
ان اللجوء للحشد الجماهيري في الحالة المصرية الاخيرة كان الخيار الاخير بعد حالة الاستعصاء التي واجهتها العملية الانتقالية بسبب محاولات الهيمنة التي مارسها الفريق الذي اعتبر ان نجاح مرشحه بانتخابات الرئاسة هو بمثابة تفويض شعبي للتمكين من كامل السلطة في الدولة والمجتمع, كما انه كان مسعي ضروريا لادامة الروح الثورية واستكمال تحقيق اهداف الثورة.
والحقيقة ان الحشود الجماهيرية كانت الاسلوب الامثل والانبل الذي اتبعته الثورة المصرية منذ البداية كأداة جديد وفريدة في حركات التغير والنضال في مصر وفي المنطقة عموما في نهج مغاير لذلك الذي استحكم في الفكر والعمل السياسي العربي لعقود طويلة والذي كان دائما ما يلجأ الي التغير من اعلي كالتغير بالغلبة او بالانقلابات او حتي بالغزو الاحتلال الاجنبي وليس التغير من اسفل من خلال المشاركة الجماهيرية.
ما قامت به عملية التحشيد في الثورة المصرية في صفحتها الثالثة هو تأصيل مشروع الثورة ليس باعتبار ذلك صراعا علي السلطة بين حكام ومحكومين, بل باعتباره ايضا صراعا علي روح وهوية وقيم المجتمع المصري التي واجهت جميعا تهديدا وجوديا علي يد التيار الذي تمكن من الحكم في الفترة الانتقالية والذي لم يخف نيته في تغير كل ذلك وفق برنامجه الذي كان بالتأكيد مغايرا, ان لم يكن نقيضا لاهداف الثورة وبرنامجها.
وما لا يقل اهمية عن النجاح الباهر الذي حققته الحشود في تحقيق هدفها المعلن في اسقاط الرئيس هو اسقاط اخطر مشروع للمنطقة وللعالم كانت عرابته الولايات المتحدة الامريكية وذيولها والذي كان يستهدف اعادة صياغة المنطقة بما يمكن من صعود تيار الاسلام السياسي الي سدة الحكم ليس حبا فيه بل كاستراتيجية جديدة يأتي علي قمة اهدافها تدجين هذا التيار والحاقه بالتبعية الامريكية ودمجه بجهود ما يسمي بعملية السلام مع اسرائيل وتحويله بالتالي الي حارس لاسرائيل وضامن لامنها.
ان خير دليل علي فعالية الحشود وقوتها في هذا السياق هو ان الولايات المتحدة التي استهانت في البداية بحملة تمرد وسخر رئيسها من عدد رؤوس المشاركين في الزحف الذي خرج يوم30 يونية هي التي عادت بعد ثلاثة ايام الي تغير موقفها بعد ان ادركت ان وراء هذه الحشود ارادة شعبية عارمة لن يفل عضدها اي شئ الا بعد ان تنتصر وتضمن تحقيق مطالبها.
هناك كثيرون سيدعون فضلا فيما جري خلال الاشهر والاسابيع والايام الماضية الا ان الحقيقة الاكيدة هي ان الملايين من المصريين التي لبت نداء نزل الي الشارع هي التي استطاعت بالتالي اسقاط مرسي والمشروع الذي جاء به برمته.هناك حقيقة اخري يؤكدها المؤرخ البريطاني جورج رودي في كتابه االحشد في التاريخ وهي تتعلق بموقف الجيش والذي علي اساسه يتحقق مصر الحشد, وهو ما اثبته الجيش المصري حين انحاز للحشود ولخياراتها.