صفوة القول (20)
مختارات من اراء وقضايا

من النفط مقابل الغذاء الى النفط مقابل العراق
صلاح النصراوي
جريدة الحياة 19 ديسمبر 1999
 تفرض أحداث الحاضر احياناً ضرورة العودة الى أحداث الماضي لمحاولة إجلاء غموضها وفك طلاسمها، سواء من خلال تفكيكها الى عناصرها التاريخية أو من خلال ربط المقدمات بالنتائج، أو حتى من خلال قوة المثال الذي يطرحه الماضي على الحاضر والذي طالما يجعلنا نردد في أوقات وحالات المقارنة هذه مقولة ما أشبه اليوم بالبارحة.
لعل من الأمثلة الحية التي نعيشها وتجد لها شبيهاً في التاريخ هي المحاولات التي بذلت طوال عام في مجلس الأمن لإصدار قرار في شأن تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق والتي اصطدمت تباين وجهات النظر بين الدول دائمة العضوية ليس في شأن موضوع نزع اسلحة العراق غير التقليدية ونظام الرقابة المقترح عليها، كما هو معلن، بل بسبب آخر مختلف تماماً يتمثل في نيات هذه الدول ومخططاتها في شأن استثمار الثروة النفطية العراقية الهائلة، التي باتت “جوهر” و “لب” عملية الصراع في المنطقة.
في ربيع العام 1920 كان مستقبل العراق حُسم وفقاً للمخططات البريطانية التي حددت استناداً الى نص المادة 22 من معاهدة السلام في فرساي، على أساس خضوع العراق للانتداب البريطاني. ففي 25 نيسان ابريل 1920 اصدر مجلس التحالف الأعلى قرار فرض الانتداب إثر سلسلة من الاجتماعات عقدها في منتجع سان ريمو الايطالي بحضور ممثلي الدول الرئيسية في التحالف عدا الولايات المتحدة التي هالها أن ترى في ما بعد أن حلفاءها البريطانيين والفرنسيين ضربوا بعرض الحائط مبادئ اتفاق “فرساي” الذي نص على اتباع سياسة الباب المفتوح أمام المصالح الاقتصادية للدول المتحالفة في الاراضي تحت الانتداب حين أقروا لأنفسهم امتيازات وحقوقاً هائلة في المصالح النفطية، مستبعدين تماماً الولايات المتحدة التي كانت وقفت معهم للتو في الحرب التي خرجوا منها منتصرين.
فماذا فعلت الولايات المتحدة حينذاك؟ في 12 آيار مايو 1920 أي بعد أقل من ثلاثة اسابيع على اتفاق “سان ريمو” كتب السفير الاميركي في لندن جون ديفز الى وزارة الخارجية البريطانية رسالة شديدة اللهجة محتجاً على ما دعاه ب “الاتفاق التعيس” الذي اعطى فوائد كبيرة للمصالح النفطية البريطانية والفرنسية على حساب المصالح النفطية الاميركية، كما اتهم بريطانيا بمحاولة فرض “هيمنتها المطلقة” على الموارد النفطية في المنطقة التي وصفها بأنها سـتكون “مصدراً للتوتر والخلافات” بين الطرفين.
لم تقبل بريطانيا بالتنديدات الاميركية، وكتب وزير خارجيتها اللورد كيرزن رداً نفى فيه الشكوك التي اثارها السفير الاميركي ووصفها بأنها حساسية غير مفهومة. كما ذكّر الولايات المتحدة بأنها تسيطر على حوالي 80 في المئة من مصادر النفط في العالم، في حين ان ما في حوزة الشركات البريطانية من مصادر للنفط لا يتجاوز 5،4 في المئة. كما ذكّر الخطاب بالمحاولات المستميتة للولايات المتحدة لمنع بريطانيا من استثمار امتياز نفطي في هايتي كانت حصلت عليه العام 1913، وصادقت عليه حكومة هايتي قبل الاحتلال الاميركي للجزيرة. وهو أمر تكرر، على حد تعبير اللورد كرزن، في كوستاريكا، وبعد ذلك، كما عبّر في رسالة لاحقة، في الفيليبين التي كان صدر فيها تشريع في 31 آب اغسطس عام 1920، يشترط أن تحصر كل الاراضي التي تحتوي على النفط والزيوت المعدنية الاخرى بمواطني الولايات المتحدة او الفيليبين.
استمرت هذه المجادلات عبر رسائل متبادلة بين اللورد كيرزن ووزير الخارجية الاميركية بينبرغ كولــبي ووصفت حينذاك بأنها إحدى أهم المواجهات الديبلوماسية التي حدثت بين القوتين الجبارتين في مطلع هذا القرن، إن لم تكن أهم مجابهة في دنيا الاستـــعمار الاقتصادي حصلت في التاريخ الحـــديث. حاولت الولايات المتحدة عبر الصراع ان تؤكد نيتها بأن تضع نفسها في موقع الشريك الاساسي للقوى الاستعمارية التقليدية في ذلك الوقت وبخاصة بالنسبة الى موادر النفط التي أخذت تحل محل الفحم كوسيلة رئيسية للطاقة. ولعل ما سهل للولايات المتحدة الظفر بعد ذلك بحصة مهمة في امتيازات النفط العراقية هو ارتباط الصراع بمشكلة ولاية الموصل التي لم تكن حسمت حينئذ بسبب استمرار ادعاء تركيا تبعيتها لها وحاجة كل من بريطانيا، بلد الانتداب، والعراق البلد المنتدب، للتأييد الاميركي، داخل عصبة الأمم لتمرير صك الانتداب وحل مشكلة الموصل بعيداً عن الاطماع التركية.
نتيجة كل ذلك كانت اتفاقاً وقعته الحكومة العراقية تحت الانتداب وشركة النفط التركية صاحبة امتياز نفط العراق في 14 آذار مارس 1925، والذي حصلت بموجبه الولايات المتحدة على حصة مساوية لحصص بريطانيا وفرنسا وهولندا في شركة “نفط التركية” التي تحولت بعد ذلك لتصبح “شركة نفط العراق المحدودة” التي منحت امتيازاً للتنقيب في كل الاراضي العرقاية لمدة 75 عاماً، إذ انجزت الولاذات المتحدة اتفاقات التراضي بينهما كان صراعاً آخر أخذ ينفتح للتو على مصراعيه مع اول برميل تدفق في منطقة حقوق بابا كركر في كركوك يوم 13 تشرين الاول اكتوبر 1927، إذ بدأت الانظار تتركز على هذه البعة من الارض باعتبارها اصبحت من ذلكح التاريخ بؤرة الصراع الدولي من أجل الطاقة شريان الحياة وعصب الاقتصاد الحيوي.
لو انتقلنا الآن أكثر من سبعين عاماً الى الأمام لرأينا صورة أخرى لكنها ليست مختلفة تماماً في جوهرها عن صورة الصراع الذي جرى مطلع هذا القرن حول نفط العراق، ولو ألقينا نظرة فاحصة الى مكونات هذه الصورة لاتضح لنا بعض تفاصيلها على الشكل الآتي: يتكون احتياط النفط العراقي المؤكد من نحو 200 بليون برميل، بينما كانت تقديرات احتياط منطقة ولاية الموصل عند بداية الاستثمار نحو أربعة بلايين برميل فقط، وهو فرق يوضح الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها النفط العراقي على خارطة الاستثمار الدولي. من بين تفاصيل الصورة الأخرى نرى كيف ان الولايات المتحدة تقف في الموقف نفسه، الذي كانت تقف فيه بريطانيا بداية هذا القرن، كقوة مهيمنة متحكمة بينما تقف كل من فرنسا وروسيا والصين كقوى متطلعة للمشاركة في استثمارات النفط التي لا تخفي الولايات المتحدة حرصها على فرض سيطرتها عليها واحتكارها. ولكي تكتمل المقارنة، فلا بد من توضيح أن كلاً من فرنسا وروسيا والصين وقعت فعلاً عدداً من اتفاقات الاستثمار المهمة مع العراق وتنتظر للبدء في تنفيذها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ العام 1990، وهو قرار الذي لا تزال ترفضه بشدة الولايات المتحدة الامـــيركية وتماطل فيه من أجــل تأخــــير تنفيذه.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ذلك هو: هل يعيد التاريخ نفسه وتتكرر تجربة سان ريمو وما تلاها في ضوء المشاورات التي جرت لتبني القرار الجديد لمجلس الامن في شأن العقوبات المفروضة على العراق ونظام جديد لمراقبة التسلح؟ هناك من المعطيات ما يشير إلى أن الصعوبات التي مرّت بها جهود إقرار القرار الجديد ليست فقط تبايناً في وجهات النظر بين الدول المعنية حول الموقف من نظام الرقابة على التسلح العراقي بمقدار ما هو تباين في النظرة الى مستقبل العراق ككل والاقتناع المتزايد لدى معظم الأطراف بأن الأوان حان لحسمه من خلال صيغة توافق عامة، أو بعبارة أوضح صفقة مع الولايات المتحدة باعتبارها أكثر الأطراف اهتماماً بالوضع العراقي، وأصراراً على تحديد مستقبلة.
لقد كُشف النقاب فعلاً عما سمي بـ “صفقة الشيشان مقابل العراق” بين واشنطن وموسكو والتي بموجبها تغض الولايات المتحدة النظر عن الهجوم الروسي الشامل على الشيشان مقابل تأييد روسيا للقرار الجديد. لكن واقع الحال يشير إلى أن الصفقة المرجوة، في نظر روســيا، تتجاوز قضية الشيشان لتشمل مستقبل الاستثمارات النفطـــية الروسية بموجب العقود التي وقعتها شركة “لوك اويل” الروسية مع العراق وتغطي حقول غرب القرنة الجبارة جنوبي العراق، واذا كانت هذه اجزاء الصــفقة التي تخـــص روســــيا فماذا عن شركتي “الف اكيتان” و”توتال” الفرنسيتين والامتيازات التي حصلتا عليها في حقول “مجنون” و”نهر عمر” وأيضاً شركة النفط الوطنية الصينية والامتيازات التي نالتها في حقلي “الحلفاية” و”الاهدب”… ان مجموع الاحتياطي الذي تسعى هذه الشركات التابعة للدول الثلاث للهيمنة عليه، بموجب الاتفاقات التي وقعتها مع العراق، يبلغ 50 بليون برميل بينما تبلغ الطاقة الانتاجية المتوقعة للحقول 1،2 بليون برميل يومياً، وهي أرقام يمكنن ان توضح حجم الصراع المنتظر الذي لن يكون أقل شراسة من ذلك الذي جرى بين بريطانيا والولايات المتحدة بسبب اشتراطات اتفاقية “سان ريمو“.
لقد وافقت حكومة ياسين الهاشمي حينها على اتفاقية الامتيازات رغم الاعتراضات الشعبية واستقالة اثنين من أبرز اعضائها، رشيد عالي الكيلاني ومحمد رضا الشبيبي بسبب ما قيل من حاجة العراق حينئذ لدعم الحلفاء في قضية الموصل التي كان الصراع من أجلها مع تركيا دخل في مرحلة حاسمة. السؤال الآن هل سيجد العراق نفسه مضطراً الى قبول الصفقة النفطية التي طبخت على نار النقاشات الجارية في مجلس الأمن وخارجه كما حصل عام 1925؟.. الجواب عن ذلك سيكشف اذا كان التاريخ سيعيد نفسه فعلاً، وإذا كان العراقيون تعلموا من دروسه وعبره. ما هو مطروح هذه المرة ليس “النفط مقابل الغذاء” بل “النفط مقابل العراق كله”؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *