إعلام أقوي أفضل للجميع
صلاح النصراوى
في ذكري اليوم العالمي لحرية الصحافة التي صادفت الجمعة الماضية توقفت صحيفة العالم العراقية عن الصدور بعد ان اتهم محرورها الحكومة بالسعي لــ كسر هيبة الجريدة وتوجيهها ضربات جديدة للإعلام المستقل.قبل ذلك بايام اغلقت صحيفة مصر المستقلة الصادرة باللغة الانجليزية عن مؤسسة المصري اليوم لاسباب قال محرروها ايضا انها تتعلق بعدم ارتياح الادارة من السياسة التحريرية للصحيفة التي لاقت نسختاها الالكترونية والورقية قبولا واسعا منذ صدورها قبل اربع سنوات.
قد تختلف ظروف اغلاق الصحيفتين إلا ان ما تكشف عنه الملابسات المحيطة بتوقفهما وكذلك الوقائع التي افصحت عنها تقارير دولية بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة في بلدان عربية عديدة هو ان الصحفيين في العالم العربي لايزالون يتعرضون لمحاولات التدجين والتركيع, بل الترويع التي تستهدف استقلالهم وحريتهم, حتي بعد ربيع الثورات الذي عقدوا عليه آمالهم في نهاية السياسات القمعية التي مارستها الانظمة البائدة ضد الصحافة.
انه لشيء محزن ان الثورات العربية لم تغير كثيرا من حال الصحافة والاعلام في العالم العربي, بل ان الوقائع تشير الي تراجعات وانتكاسات في بعض الاحيان, مما ادي الي تعطيل مهمة الصحافة في ان تصبح اداة من ادوات التغير الثوري, ولعله اكثر من هذا حين يستمر الاعلاميون والكتاب بالتعرض لعقوبات او ضغوط لانهم انحازوا لقضايا الثورة والحرية ورأوا ان ولاء الصحافة والفكر يجب ان يظل للناس وليس للسلطة او للجماعات السياسية المتناحرة او مصالح رجال الاعمال.
كان متوقعا ان تجري في بلدان الثورات اعادة هيكلة للمنظومات الصحفية والاعلامية وتطوير البني التشريعية سواء بما يتلاءم مع التطورات الهائلة في الثورة التكنولوجية الاعلامية العالمية, او بما يمنح العاملين فيها الحرية والاستقلالية التي تمكنهم من اداء عملهم في السياق الجديد الذي يتطلب دورا اكبر للصحافة الحرة, ليس كأداة للاتصال الجماهيري فقط, بل كإطار مرجعي مشترك وأداة للتغيير الديمقراطي الجذري في مجتمعات مابعد الثورات.
لم يتحقق ذلك بعد, بل ان هناك شواهد كثيرة ان قوي سياسية بعينها, بعضها من الحكام الجدد, وبعضها الآخر من فلول وازلام الانظمة البالية, لا ترغب بان تجري اعادة الهيكلة بطريقة تضعف من قبضتها علي اجهزة الاعلام لاستخدامها في معاركها المستمرة.في تونس مثلا اعلن هذا الاسبوع عن تشكيل الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري لكنها لم تحظ بالقبول الواسع من اصحاب المهنة بسبب الشكوك التي تحوم بشأن تركيبتها وقدرتها علي القيام بإصلاح ذاتي وهيكلة داخلية متطورة لاجهزة الاعلام في اثناء المرحلة الانتقالية.
وفي مصر تواجه الصيغ المطروحة لتشكيل المجلس الوطني للإعلام صعاب اعادة هيكلة كامل المنظومة الاعلامية الموروثة من النظام القديم, كما تواجه تحديات تضارب المصالح بين القوي الفاعلة واعتراضات سببها الخشية من افتقاد التوازن بين ضرورات حماية المجتمع ومواجهة الاحتكار والتزام وسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها, وبين الحريات والحقوق التي ينبغي توفيرها للممارسة الاعلامية الحرة.
واذا كانت التجربتان التونسية والمصرية, وما ينتظره بلدان اخري, موضع تشكيك وريبة فان التجربة العراقية وبعد عشر سنوات من اعادة هيكلة المنظومة الاعلامية الموروثة عن نظام صدام حسين تشي فعليا بالكثير من المثالب التي تدل علي فشل ذريع في اطلاق اعلام حر ومستقل ففي حين تخضع هيئة الاعلام والاتصالات العراقية وذراعها شبكة الاعلام العراقي لهيمنة سلطة الاحزاب الحاكمة وتدخلاتها فان اجهزة الاعلام الخاصة والحزبية تعاني من مشكلات جدية من عدم المهنية والفوضي وهيمنة الاحزاب علي المال السياسي, والاسوء استشراء الطائفية بابشع تجلياتها.
ان التجربة العراقية المبنية اساسا علي نموذج هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي التي لا تزال تروج نموذجها بعض المنظمات الدولية التي تساهم بجهود اعادة هيكلة الاعلام في دول الثورات هي ذاتها التي تحولت الحريات الصحفية في ظلها الي الأسوء منذ سقوط نظام صدام عام2003 حسب التقرير الاخير لــ مرصد الحريات الصحافية العراقية مما يستدعي دراسة اسباب فشلها وعجزها عن تحقيق اهدافها والبحث عن بدائل مناسبة.
يكمن مستقبل الحريات الصحفية في صلب عملية التطور الديمقراطي في عالمنا العربي وسيكون الصحفيون في مقدمة صناع التغير, الامر الذي ينبغي ان يوفر لهم الفرصة ان يقوموا بواجبهم في توفير المعلومات وزيادة الوعي الوطني لدي الناس بكل شجاعة واستقلالية ويسر وشفافية.صحيح ان التشريعات والتنظيمات ستبقي ضرورية في معركة الحرية هذه إلا ان هناك جانبا حيويا يبنبغي التركيز عليه ايضا وهو كيفية مساعدة الصحفيين والاعلاميين علي تطوير ادائهم بما يتلاءم مع المتطلبات التي تجعل من ممارسة المهنة ومن اماكن عمهلم مواقع اكثر حيوية وانتاجية وابداعا.
هناك حاجة ملحة لان تكون الصحافة في عالمنا العربي اكثر قوة, وهو ما يتأتي حين تكون اكثر حرفية, الامر الذي يعني ان هناك ضرورة قصوي بالاستثمار في الصحفي نفسه من خلال تدريبه وصقل مواهبه وتطوير مهاراته في مهنة اصبحت تجمع في متطلبات ادائها اضافة الي الدراسة المتخصصة الاستعداد الذاتي والطموح والمعرفة الموسوعية والي مختلف انواع العلوم, كما تستخدم انواع التقنيات الحديثة التي اصبح من الصعب رؤية العالم دونها.
من يتابع الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الصحافة والاعلام من قبل القوي المضادة تحت ذرائع الفوضي والعشوائية وعدم المهنية سيري انها كلمة حق حتي لو اريد بها باطل.فجزء كبير من الممارسات الاعلامية يخلو من اي معايير مهنية واضحة, بل احيانا تنعدم فيه المصداقية والنزاهة ويقترب من حدود الشائعات والكذب والتدليس وهي كلها مثالب تضعف من قوة الاعلام ودوره النبيل وتتيح لاعداء الحرية توجيه ضرباتهم له.
من العراق حتي المغرب سيكون هناك دور محوري للاعلام خلال السنوات والعقود القادمة في عمليات التحول في العالم العربي اكثر من اي وقت مضي نظرا لضعف ادوات التغيير الاخري كالاحزاب ومنظمات المجتمع المدني وقوي الشارع, مما يدل علي ان هذا القطاع الحيوي سيكون ميدان معارك كبري للسيطرة علي العقول والافئدة, من جهة, وفي معارك الحرية, من جهة ثانية.
احد الدروس المستنبطة من تجارب الثورة المصرية هو ان سلميتها جاءت, الي حد كبير, من الدور الذي لعبه الاعلام( برغم عيوبه) في امتصاص موجات الغضب مما يعني ان اعلاما اقوي واكثر تطورا سيكون افضل قدرة علي خلق وعي جماهيري لانجاز متطلبات التحول الديمقراطي سلميا.