قمــة الـلامعنــــي
يزخر المعجم السياسي بمقولات ساخرة عن القمم العربية باعتبارها جزءا من فولكلور أسهم في ادامة حالة العجز والتردي العربي في مواجهة تحديات هائلة واجهتها المنطقة علي مدي نحو سبعة عقود هي عمر جامعة الدول العربية, التي تتولي زمام ما يطلق عليه بمسيرة العمل العربي المشترك.لعل خلاصة خبرة هذه التجربة التاريخية المريرة تتجلي الآن في ما آلت إليه المنطقة العربية من أوضاع تسير بها الي النقيض تماما لما قامت عليه الجامعة, حيث لا دولها عادت دولا ولا مجتمعاتها غادرت قبليتها وطائفيتها لتكون أمة, كما تواجه هويتها القومية الآن تحديات التعصب الديني والانقسام المذهبي.
هذه الحالة هي التي ستضلل ثاني قمة عربية تعقد بعد موجة الهبات الثورية التي أطاحت بعدد من أعتي الأنظمة العربية قبل عامين ووضعت المنطقة برمتها علي أعتاب مرحلة جديدة, ما يجعل من مجرد التئامها نشازا في ايقاع حركة التطور في المنطقة, وكأنها تعقد خارج السياق التاريخي التي أصبحت تسير عليه. والقائمون علي قمة الدوحة يدركون تماما هذه المفارقة ولذلك استعانوا بمحترفي تدبيج الشعارات الذين أطلقوا علي القمة التي تفتتح اليوم قمة الوضع الراهن وآفاق المستقبل وأسبغوا عليها أيضا مهمة وهي انعقادها من أجل غد أفضل للشعوب العربية, وهو ما ينتمي الي منظومة الخداع والتضليل السياسي, وليس إلي الحقيقة.
كل الوقائع المتوافرة تشير الي أن هذه القمة, ومثلها كانت قمة بغداد العام الماضي أيضا, هي مجرد عرض من تلك العروض البائسة التي دأب علي اقامتها النظام العربي سنويا والتي لا هدف لها إلا انعاش مؤسسة تحتضر بعد أن فقدت بوصلتها وانطفأ بريقها وأصبحت عاجزة عن مواجهة متطلبات مرحلة ثورية تسعي لاقامة الحرية علي الأرض العربية التي جرفها الاستبداد والفساد. مؤسسة القمة العربية هذه فقدت حتي عنصر الكوميديا التي كانت توفرها اعلاناتها بالتنديد والاستنكار والشجب, أو مشاهد المناكفات بين المشاركين فيها أو الممارسات المسلية التي كان يضفيها عليها طاغية مهووس مثل معمر القذافي.
فمهما وضع منظمو هذا المهرجان السنوي من شعارات أو ترنموا بخطابات فانهم سيكونون بعيدين عن الواقع الدراماتيكي الذي يمر به العالم العربي اليوم. وما لا يدركونه هو أن العالم العربي لم يعد ذلك الاقليم الذي أسست من أجله الجامعة العربية بهدف حماية دوله وكياناته التي صاغت حدودها اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية وأنه يعيش اليوم وفق حقائق جيوسياسية جديدة ومتغيرات تفرزها وقائع سنين الغليان التي سيظل يعيشها العرب بعد أن حطمت ثورات ربيعهم ذلك الاستثناء العار الذي وصمت به كأمة غير قادرة علي كسر جدران الخوف والانعتاق من الطغيان.
أحد أهم أسباب حالة الفوضي الحالية والثمن الباهظ الذي ندفعه لها والاحتمالات المفتوحة علي تفكيك المنطقة وتشظي بعض دولها هو المؤسسة نفسها, التي تمثلها القمة التي تدعي أنها ستأتي للعرب بمستقبل أفضل. لقد فوتت هذه المؤسسة أهم فرصة توافرت لها قبل عقد من الزمان لاصلاح أنظمتها ومجتمعاتها.
في قمة تونس عام2004 أجهض المشاركون فرصة نادرة للبدء بعملية الاصلاح والتحول الديمقراطي في العالم العربي حين استخدموا كل حيلهم وألاعيبهم وأساليب المماطلة والتسويف بغية افشال مشروع الاصلاح, الذي لو كان انجز لانتشل المنطقة من المستنقع الذي كانت فيه وأنقذها من هذا المصير الذي آلت اليه. وفي تلك القمة تجلت بشكل فاضح شراسة الأنظمة العربية في مواجهة أي محاولة حقيقية للاصلاح.
محاضر جلسات القمة تكشف عن كراهية لا مثيل لها لكلمة الاصلاح نفسها, رفضت بعض الوفود العربية أن تتضمنها أي وثيقة واستبدلوها بكلمة تطوير المطاطة ضمنوها ورقة سموها التطوير والتحديث في الوطن العربي وبيانا أطلقوا عليه وثيقة العهد في ايحاء مزر أن الحرية لن تكون إلا منحة بأيدي الحكام وليست حقا من حقوق الشعوب.
ولم ينج بيان قمة بغداد العام الماضي من هذا الازدراء لكلمة الاصلاح حتي بعد ثورات شعبية في خمسة بلدان عربية, حيث أشار الاعلان الي الاشادة بـ التطورات والتغييرات السياسية وربطها بـ احترام القانون, في حين أصر البعض في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الأخير علي اعادة إحياء وثيقة العهد البائسة بـ اعتبارها الأساس الأمثل الذي ينبغي الانطلاق منه في التطوير برغم ان الوثيقة ؤدت في مهدها لحظة مولدها عام.2004
ولم يقتصر الأمر علي اجهاض تلك الفرصة الذهبية, بل أن الأنظمة العربية ذات الامكانات المالية البترولية والمواقف السياسية المحافظة والتي أخذت مقعد القيادة في غيبة اطراف مؤثرة في النظام العربي, تعاملت مع حركات التغيير والثورات العربية بطريقة تآمرية, كما شاهدنا في العراق وفي مصر وليبيا واليمن وسوريا, لحسابات علي رأسها منع امتداد شرارة التغيير إليها, وأيضا لرغبة دفينة في اضعاف دول رئيسية تزعجهم قدراتها البشرية والجيواستراتيجية.
الطربقة الوحيدة التي يمكن أن تكون فيها القمة العربية هذه نافعة هي أن تقر استراتيجيات ايجابية متكاملة للوقوف الي جانب الثورات العربية وتتبني أهدافها في تحقيق الديمقراطية الحقيقية والحرية والعدالة والمساواة لجميع الشعوب العربية. ومن مستلزمات ذلك توفير دعم مالي سخي لاعادة بناء دول الثورات العربية التي خربت بسبب سياسات الدكتاتورية ونهب الثروات والفساد ومساعدتها علي تعزيز نموها الاقتصادي والاجتماعي في الفترات الانتقالية التي تمر بها.
مثل هذه المساعدات ليست منة, بل هي كفارة عن تلك السياسات التي عرقلت التحول الديمقراطي في العالم العربي لعقد من الزمن دفعت خلاله شعوبه وستدفع اثمانا باهظة, ولكي تكون ترجمة فعلية لشعار القمة من أجل غد افضل للشعوب العربية. إن مؤتمرا يأنف عن دعم الثورات ويجعلها ورقة في المساومات الاقليمية والدولية, ناهيك عن أن يقر بها في بياناته لا يستحق أن يسمي قمة, بل سيكون قمة اللامعني للنظام العربي ولجامعة دوله.