يأخذ الكلام في العلاقات المصرية الايرانية عادة منحي مذهبيا, اي في اطار اعادة انتاج خطاب الفتنة التاريخي بين السنة والشيعة, وهو ما تجلي مؤخرا بشكل سافر في مناسبتين, هما زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد للقاهرة التي صاحبها الكثير من القيل والقال, ونص رسالة منشورة لعدد من المفكرين ورجال الدين الايرانيين معنونة للرئيس المصري محمد مرسي اثير ايضا حول مضمونها ودوافعها الكثير من الجدل الطائفي.
وبالرغم من صعوبة إنكار العامل المذهبي في صراعات المنطقة, سواء كونه حقيقة تاريخية, او عنصرا حاضرا في ازماتها الحالية, الا ان التركيز علي هذا الخطاب ومحاولة منحه الاولوية المطلقة علي العوامل الاقليمية المتفاعلة, يثير تساؤلات عديدة بشأن مبرراته وجدواه, وان كان الامر حقا يتعلق بنزاعات الهوية المتجذرة وقضايا التعايش, ام يتعداه الي مجمل وضع ومستقبل المنطقة في عالم ما بعد الثوارت العربية.
ما يثير المخاوف حقا هو عما اذا كان الخطاب المذهبي سيصب في مقولة الصراع داخل الاسلام الذي يتوقعه البعض كتحصيل حاصل للتغيرات الناتجة من صعود الاسلام السني وهيمنته علي المشهد السياسي وقواعد الحكم في بعض دول الربيع العربي, مقابل تزايد النفوذ الايراني والبزوغ الشيعي في المنطقة الذي تحقق بتميكن شيعة العراق من الدولة اثر الغزو الامريكي له.
ما أريد ان اشير اليه بشكل اكثر وضوحا هنا هو العلاقة الوثيقة بين الصراع الطائفي واحتمال تصاعده ومستقبل الثورات العربية وكيف ان العزف علي الاوتار الطائفية وتأجيج الفتنة السنية الشيعية سيؤدي بالنتيجة الي ضعضعة العملية التاريخية الجارية في عموم المنطقة لتحقيق اهداف الثورات وعلي رأسها وضع اسس الديمقراطية وبناء مجتمعات ودول حديثة متطورة علي انقاض انظمة الاستبداد والاستغلال والتخلف.
من هذا المنظور فان الصراع الحقيقي الجاري في المنطقة الان هو ليس بين اتباع مذهبين في دين واحد ويعبدون إلها واحدا وداخل شعوب تمتلك هوية وطنية وقومية جامعة, كما قد تظهره التشنجات والجعجعات والتطرفات المذهبية, بل هو في الحقيقة بين قوي المستقبل التي تريد ان تبني تلك المجتمعات علي اسس الحرية والعدالة والتقدم, وتلك القوي التي تريد ان تشدنا بعيدا الي وراء, وهي قوي موجودة داخل كل مذهب ودين تتضافر لاعقلانيتها وارتداديتها مع ما تحمله داخلها من اوهام الهوية لكي تنتج ذلك الشحن العدواني تجاه الاخر وللحداثة والديمقراطية.
ويظهر التاريخ الاسلامي عبر قرون طويلة ان قوي الغلو والانغلاق ومحترفي الفتنة المتحالفين مع التسلط والاستبداد بالذات هم الذين أججوا الصراعات واعتاشوا عليها لكي يحولوا الدين الحنيف من رسالة سمحاء قائمة علي اساس العدل الالهي والاحسان وتكريم الانسان واحترام حريته الي ملك عضوض قائم علي بيعة مشتراة, او نيابة ولائية مطلقة لا اساس لها في العقيدة.بل ولعل التاريخ يكتشف اكثر من ذلك وهو ان هلاك الكيانات الاسلامية وخراب العمران لم يأت من التنوع وحتي من الاختلاف المذهبي والعقدي, وانما من فساد الملك وجدب العقل عند اهل الرأي والاستشارة.
بايجاز فإن القضية المطروحة علينا الان كشعوب في هذه المنطقة ليست مواجهة سنية- شيعية بالمعني الفكري والاعتقادي, فذلك اصبح مكانه رفوف الكتب, بل هو صراع سياسي, ان لم يكن مقبولا فهو مفهوم, بين دول وكيانات علي المصالح والثروات والنفوذ والقوة, وهذا ما اثبتته التجربة العراقية وتبرهن عليه التجربة السورية وما يحيط بهما من استقطابات وتحيزات.واذا كان مطلوبا بقوة ايقاف تداعيات هلال الازمة الطائفية المآساوية تلك فمن الاجدر والاولي وقف اتساعه وتوظيفه باستدعاء اطراف ودول اخري في المنطقة وتعميمه لمنع ليس فقط المزيد من تشظي المنطقة وتقسيمها, بل الانهيار النهائي لها ككيان عربي- اسلامي.
ليس لدي أدلة قوية تدعم ما يقوله الرواة من ان هناك مؤامرة خارجية تحاول ان تستغل ثورات الربيع العربي بهدف تأجيج صراع سني- شيعي وتفتيت المنطقة من اجل بقاء اسرائيل وخدمة مصالح الغرب, ولكني مثل غيري لدينا ما يكفي من الحدس وسعة الافق والخبرة بان نري ان هناك تمثلات وممارسات تتيح امكانية الاقتناع بتلك النبوءات الكارثية.ما يمكننا رؤيته ببصيرة هو ان البعض منا قد يعمل, حتي دون قصد ولكن بحمية حاملي مشعل الدفاع عن الهوية, علي تقديم يد العون لمن يعملون علي ذلك السيناريو البغيض.
العلاقات العربية الايرانية بمجملها قضية اشكالية في تاريخ المنطقة المشترك بين الامتين اساسها هو وجود نسختين متعارضتين لديهما من هذا التاريخ.في العصر الحديث ضاعت فرص كثيرة لترميم هذه العلاقة واعادة بنائها علي اسس عقلانية ترتبط بمفاهيم الدولة الحديثة والعلاقات الدولية البناءة وحسن الجوار والشراكة في الاقليم او لم تأت بالنتائج المرجوة.
المرحلة القادمة التي ستختلط وتتشابك خلالها عوامل كثيرة في تلك العلاقات ستكون ضبابية وخاصة لحين حسم مستقبل الحكم وهويته لدي كل طرف. وحتي ذلك الحين سيكون ضروريا مواجهة تحدي العلاقات مع ايران بتفادي اطلاق العنان للوساوس والهذيان الطائفي, بمناسبة او بدونها, والاستعانة بدلا عن ذلك بآليات الحوار والمنابر الدبلوماسية المتوافرة وبالحفاظ علي المصالح المشتركة كجيران في اقليم واحد.