أمريكا ووصفتها السحرية للديمقراطية الإسلامية
بقلم: صلاح النصراوى
الاحد 16 ديسمبر، 2012 
من تابع التصريحات الرسمية وتحليلات الصحافة ومحللي مراكز البحوث الامريكية بشأن ازمة الدستور في مصر لابد وان لفت انتباهه ان الموقف الامريكي كان ميالاً لموقف التيار الاسلامي.فالرئيس باراك اوباما كان صريحا في مكالمته التلفونية مع الرئيس محمد مرسي بدعوته قادة المعارضة اللبرالية الي الانظمام للحوارالذي دعا اليه مرسي “دون اية شروط مسبقة”، في حين ان استنتاجات المحللين الامريكيين الذين هم عادة رسل مراكز صنع القرار كانت بمثابة شهادة جودة (ايزو) للوثيقة باعتبارها ديمقراطية.
هل ثمة جديد في الممارسات والعادات الامريكية البغيضة في التدخل في خيارات الشعوب؟بالطبع لا.فالامريكيون المغرمون بصياغة عقول وقلوب الشعوب لم يخفوا نواياهم منذ انطلاق ثورات الربيع العربي في عزمهم على الاستمرار في المشاركة في رسم صورة المنطقة بذات الجهد الاستشراقي الذي حولوها فيه خلال ما يقارب من قرن الى رقعة شطرنج هم فيها اللاعب الابرز الذي يحدد مسارها.
زبدة الموقف الامريكي ازاء سجالات الدستور المصري هو ان الميثاق “يكاد لا يختلف كثيراً في تدينه عن الدستور القديم” كما عبر عن ذلك مراسل نيويورك تايمز في القاهرة ديفيد كيرباتريك عن لسان “خبراء دوليين” لم يسمهم، او انه “من وجهة النظر الديمقراطية اللبرالية فان هناك الكثير ما هو جيد في الدستور” كما كتب نيثان بروان في دورية الشؤون الدولية، وهي كلها اراء تحمل رسائل تحذير الى التيار المدني واللبرالي اكثر من كونها تحليلات سياسية رصينة تستند الى قراءات دقيقة للدستور، او تستوعب النقاشات الدائرة بشأنه.
الرسالة الاهم هي ان القوى المدنية واللبرالية المصرية هي التي تنقلب على اسس الديمقراطية وترفض شروطها وآلياتها وانها بفعلها ذلك تتحول الى مجرد مجموعات عابثة من معرقلي اقرار الدستور ومن مثيري الشغب.يصعب فهم هذه المفارقة في الموقف الامريكي، الا اذا كنا على اطلاع على تجارب تخريب العمليات الديمقراطية وتدمير اختيارات الشعوب التي مارستها الادارات الامريكية المتعاقبة منذ التخلي عن مبادئ ولسن بعد الحرب العالمية الاولى، مرورا باليابان، التي اعادوا صياغتها على هواهم بعد الحرب العالمية الثانية، وانتهاء بالعراق بعد غزوه واحتلاله قبل نحو عشر سنوات.
 ما نحن بصدده لم يكن سراً ابدا اذ ان السياسات الامريكية بشان ثورات الربيع العربي كانت تدعم منذ البداية صعود تيارات الاسلام السياسي الوسطي في المنطقة، وهي سياسات تعود جذورها الى فترة بزوغ ما اطلق عليه بالصحوة الاسلامية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وترسخت بعد احداث 11 سبتمبر 2001 حيث طرحت ستراتيجية جديدة للمنطقة قائمة على الفرز بين الاتجاهات الاسلامية المتشددة والمعتدلة، بغية عزل الاولى وتمكين الثانية، كحل لمعضلات المنطقة التي رأتها مقبلة على الحكم الاسلامي.
كانت خلاصة استنتاج هذا الفكر السياسي الامريكي هي ان تجيش الجيوش والقيام بالاعمال العسكرية لوحدها لن يؤدي الى القضاء على الارهاب الذي اصبح من الاعراض الجانبية للحالة، وانما المطلوب معالجة جذور الغضب والاحباط عند المسلمين، وكذلك المناخات الثقافية والاجتماعية التي احاطت بالصحوة الاسلامية وما نشأ عنها من تناقضات داخل المجتمعات الاسلامية، سمته مراكز الابحاث الغربية فيما بعد بالصراع داخل الاسلام.
وادت نتائج اعمال العصف الفكري والتخطيط الاستراتيجي قبل تحويلها الى ورشات الهندسة السياسية الامريكية الى شيوع مقبولية خطاب الاسلام السياسي القائم على  ضرورة التلاحم الوثيق بين الدين والسياسية بعدما كان مرفوضا في الثقافة الديمقراطية العلمانية في الغرب.بل ذهب الامر الى اكثر من ذلك وراحت مراكز الابحاث الامريكية ترشد لبراليا فكرة جوهرية، وهي ان الديمقراطية لا تتعارض مع الشريعة ولا تتطلب فصل الدولة عن الدين، وهو استنتاج يضرب عصب التفكير اللبرالي والدولة المدنية، مرتكزا الحداثة التي طالما سعى الغرب الى تصديرها الى المنطقة.
ان ابرز خلاصة اتت بها مساعي التنظير الامريكي بهذا الاتجاه هو ان نشر الديمقراطية في العالم الاسلامي يتطلب ادماج الاحزاب السياسية الدينية والقادة المنتخبين ديمقراطيا في النظام السياسي.وكان دليلهم في ذلك هو وصول الاحزاب الاسلامية الشيعية في العراق وحركة حماس في غزة الى السلطة عبر صناديق الاقتراع في ظل انتخابات نزيهة.اما الخلاصة الرئيسية الثانية التي روجت لها الافكار الجديد فهي ان امتلاك الانظمة الجديدة شرعية سياسية مستمدة من الاسلام سيعكس الاتجاه القائم، وسيسهل عملية القضاء على التطرف والارهاب نهائيا من خلال الشرعية القائمة على الشريعة.
ولكن كما هو الحال دائما في الشرق الاوسط فان الناس الذين خبروا الطريقة الامريكية في وضع المنطقة في مختبرات التجريب لاختراع حلول لمشكلاتها بعيدا عن رغبات واماني اهلها وشعوبها لا يمكنهم بسهولة ابتلاع تلك الترهات التي تقول ان امريكا تسعى لمساعدة شعوب المنطقة لبلوغ نمط ملائم من الديمقراطية.وكما هو الامر دائما فان توقعاتهم تتجه صوب مدى ارتباط اي سياسة امريكية بالموقف التقليدي من الصراع العربي الاسرائيلي لانهم يدركون بالنهاية ان رعاية اهداف اسرائيل ومصالحها بعيدة المدى وضمان مستقبلها يشكل الهم الاكبر لامريكا واستراتجياتها في المنطقة.
وما كان الامر يتطلب الكثير من الجهد والوقت للاستنتاج بان ذلك كان حق يراد به باطل وان ما تبتغيه امريكا حقا هو ان تضع الاسلاميين امام نفس الاختبار الذي وضعت فيه سابقا الانظمة البالية من شبه لبرالية وانقلابية قومية ويسارية، وهو الاعتراف باسرائيل اولا والقبول بمهمة حراستها وضمان أمنها ومستقبلها ثانيا، وهو ما اتضح جليا في اسلوب تعاملها مع مصر في حرب غزة الاخيرة، وما سيتضح لاحقا في تعاملها مع الثورة السورية ومع الحراك الاردني.
ان جوهر هذا التحليل يقوم على فكرة اختبرت تاريخيا وهي ان  سياسات الهيمنة والتبعية التي مارستها الولايات المتحدة في المنطقة خلال اكثر من سبعة عقود كانت ترتكز على نبذ قيام ديمقراطيات حقيقية في المنطقة العربية، وتعطيل بناء مجتمعات عربية حديثة قائمة على العدالة والحرية لصالح قيام دكتاتوريات يسهل مقايضة التعايش معها مقابل انصرافها عن اي جهد وطني او قومي حقيقي لتحرير فلسطين والانصياع بدلاً عن ذلك للارادة الاسرائيلية.وفي سبيل تحقيق ذلك فانها كانت تضحي ايضا بالقيم الامريكية التقليدية وبمصالحها القومية اللتان تشكلان عمودي سياستها الخارجية.
ليس بامكاننا طبعاً الا ان ننتظر لنرى نتائج لعبة القص واللصق التي تحاول مختبرات التجريب الاستشراقي الامريكي ان ترسم من خلالها صورة المنطقة الجديدة، الا ان شواهد المعركة الاخيرة بشأن الدستور المصري والنتائج المتحققة في بلدان اختبرت فيها التجربة، تقدم دلائل كافية على ان الوصفة الامريكية للديمقراطية الاسلامية هي لعبة غير مسلية، وانها بالنسبة للاسلاميين قبل اللبراليين لن تخرج عن كونها روايات خيالية آتية من ورش صناعة الاساطير والاوهام في اجهزة الاعلام والبحث الامريكية.
  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *