صفوة القول (14)
مختارات من اراء وقضايا
مات عرفات لكن أحلامنا اغتيلت قبله
صلاح النصراوي
نشرت في جريدة الحياة 2004/11/24
التقيت ياسر عرفات للمرة الأولى في خريف عام 1972 وكان وقتها يشارك في مؤتمر للتضامن مع العراق بعد تأميمه للنفط. وخلال أيام انعقاد ذلك المؤتمر وجدتني وجهاً لوجه أمام هذا المارد الذي كان حينها تجسيداً حياً لآمالنا وتطلعاتنا نحن الجيل العربي الذي تفتح وعيه على هزيمة حزيران والانكسار المبكر الذي هز وعينا وحفر في ارواحنا اخاديد لا تردم. ولم يكن ذلك افتتان شاب عربي تتفتح آفاقه السياسية بالبطل الاسطوري. فقد كان ابو عمار طوال ايام المؤتمر نجماً ساطعاً تلتف حوله كوكبة من كبار قادة حركات التحرر في العالم المشاركين في المؤتمر والذين بدوا كأنهم يحتضنونه بروح تضامن الضحايا المتطلعة للحرية والانعتاق. كنت اقف الى جانبه في احدى دعوات العشاء احمل سكيناً وشوكة احاول ان التقط قطعاً من سمك المسكوف العراقي الشهير حين داعبني بلهجته المصرية «انت بتعمل ايه يا بني، في حد يأكل السمك كده» ثم غمس يده في السمكة وقطع منها جزءاً ووضعه في صحني. في تلك اللحظات الرومانسية جالت بخاطري صور هوشي منه وتشي غيفارا وابطال آخرين لحروب التحرير الشعبية وتذكرت قصيدة سعدي يوسف التي كان كتبها قبل فترة في الذكرى المئة لوفاة فلاديمير ايليتش لينين والتي يقول فيها «لم تكن نجماً ولا كنا مجوساً، انما انت مناضل معنا جنباً الى جنب تناضل».
هكذا كان مشهد ابو عمار قوياً وآخاذاً، وأخال ان ذلك لم يكن استنتاجي وحدي بل كان وعي جيل عراقي وعربي كامل رأى في الثورة الفلسطينية درب التحرير لا لفلسطين فحسب بل للاوطان الاخرى التي كانت تنهش فيها انظمة الهزيمة والقهر والتبعية. فأنا وأبناء جيلي قامت ثقافتنا السياسية على اسطورة ان فلسطين هي قضيتنا المركزية الاولى كما تربينا على اوهام حاكتها النخب الحاكمة عن الادوار البطولية التي خاضتها الجيوش العربية في حرب عام 1948 والتي لم يخسروها إلا بسبب الاستعمار وتبعية الانظمة الحاكمة حينها للقوى الاجنبية. لكن الحقيقة التي عرّتها الاحداث اللاحقة للنكبة، ومنها هزيمة أنظمة ثورية قامت على انقاض الانظمة الرجعية العميلة السابقة في حرب اخرى مع اسرائيل عام 1967، هي ان العرب بدولهم ومجتمعاتهم وحكوماتهم وجيوشهم مشلولون تماماً وعاجزون عن الفعل وان انبثاق الثورة الفلسطينية لن يكون العمل الذي يحرر فلسطين فقط بل سيحررنا جميعاً مما نحن فيه من تجزئة وموالاة وتخلف وطغيان.
وخلال اكثر من ثلاثين سنة، رأيت عرفات بل عايشته عن قرب، كانت خلالها سيول سياسية جارفة كثيرة قد مرّت تحت جسر العرب المتهاوي. تشظى الحلم العربي خلالها وغرق جيلنا مرة اخرى في واقع عربي اكثر انقساماً وتبعية وارتداداً واستبداداً. كما ان الثورة الفلسطينية، التي ظن جيلي انها كانت الأمل الذي سينتشل الاوطان من المستنقع الآسن الذي رمته فيه انظمتها، انتهت هي الاخرى الى مجرد سلطة تنتظر انطلاق مشروع سلام مقابل بقايا ارض تبتلعها المستوطنات وتسيجها حدود آمنة ليست لها ولكن لاسرائيل. والآن بعدما ودّع ابو عمار دنيانا مخلفاً وراءه ارثاً من تلك الاحلام الجميلة التي تراود اجيالاً جديدة من الفلسطينين والعرب، فإن ما تحتاجه هذه الاجيال ليس تدبيج الرثائيات البالية والغناء على اطلال زمن جميل لم يأت ابداً، بل إن الامر يتطلب منا جميعاً عملية مراجعة معمقة وشاملة ونقدية لتلك المرحلة من تاريخنا القريب ليس لأننا فقط مطالبون بالتعلم من اخطائنا التي دفعنا بسببها اثماناً باهظة بل بسبب مسؤوليتنا تجاه المستقبل الذي ينبغي ان يكون غايتنا وبؤرة اهتمامنا. وكعراقي تثقله اليوم آلام المحنة التي يمر بها بلدي، أجد نفسي، في اطار المراجعة هذه، امام تساؤلات عديدة عن نمط العلاقة التي اقامتها الثورة الفلسطينية وقائدها عرفات بالنظام البعثي في بغداد خلال العقود الثلاثة الماضية والتي لا يمكن لأي باحث جاد ان ينكر انها اثرت تأثيراً جوهرياً في مجريات الاحداث ليس في العراق وفلسطين فحسب بل في عموم المنطقة وفي مجرى تطورها التاريخي والسياسي والاجتماعي. ليس ضرورياً الآن العودة الى ملفات الماضي كلها لاثبات ان علاقات الطرفين كانت معقدة واشكالية إلا أنني لا اعتقد ان هناك من يختلف معي على ان غزو صدام حسين للكويت وحرب الخليج الثانية عام 1991 كانا في أساس ما آلت اليه الآمور الآن في العراق وفي فلسطين وفي عموم المنطقة. فالحقيقة المؤكدة الآن هي ان الحرب الاخيرة، وهي وليدة طبيعية ثانية للغزو، لم تضع المنطقة برمتها تحت الهيمنة الاجنبية فحسب بل انها حسمت والى مدى بعيد جداً الصراع العربي – الاسرائيلي ومكّنت اسرائيل من اقامة مشروعها التاريخي في فلسطين.
مرات عدة سألت ابو عمار لماذا اتخذ موقفاً مؤيداً لصدام في غزو الكويت، وكانت اجوبته تنم عن اقتناع شديد بان نتيجة المواجهة بين صدام والاميركان ستكون لمصلحة قضية الشعب الفلسطيني من دون ان يعطي تفسيراً مقنعاً. طبعاً تبرع العديد من الكتاب والمحللين لتفسير موقف عرفات حينها بأنه جاء انعكاساً لتوقعات الشعب الفلسطيني الذي افتتن بصدام وبتحديه السافر للولايات المتحدة وتهديده بحرق نصف اسرائيل بأسلحته الكيماوية وتوقع انتصاره الباهر مما ادى الى سحب قيادته وعلى رأسها ابو عمار وراء ذلك الموقف الشعبي. ادرك ان اكثر الاستنتاجات صواباً بشأن موقف عرفات من الازمة العراقية – الاميركية تحتاج الى شهادات ووثائق تنتظر من يوفرها، لكني وقد عاصرت ذلك وكنت قريباً من عرفات ايام الازمة بعدما اتخذ بغداد مقراً ثانياً له، اقتنعت دائماً ومنذ البداية بأن العكس كان صحيحاً تماماً وان ابو عمار كان يرمي بموقفه الداعم لصدام الى بلورة رأي عام فلسطيني مسلح بآمال عريضة عن صدام وآلته العسكرية لخدمة هدف آخر كان يدركه منذ البداية وهو دخوله المفاوضات مع اسرائيل والتوصل الى حل سلمي للصراع بعد هزيمة العراق الاكيدة وتدميره. كانت خيبة الآمل الفلسطينية المتوقعة هي بمثابة بساط الريح الذي سينقل عرفات الى مفاوضات السلام، والتي بدأت فعلاً بعد عام في مدريد. وبذلك لم يكن موقف عرفات مبنياً على اساس خطأ في الحسابات وسوء التقدير، كما قيل دائماً في تفسير تأييده لصدام، بل كان موقفاً مدروساً ومبنياً على حسابات دقيقة.
ما حملني على هذا الاستنتاج هو مواقف كثيرة كنت شاهداً عليها مع الرئيس الراحل في مرحلة اقترابه الكبرى من دخول عملية السلام مع اسرائيل والتي ارتبطت بالنشاط الذي دب في عمل القنوات السرية التي كانت بدأت عام 1986 خصوصاً بعد بيان بسام ابو شريف الشهير عام 1987 والذي اقر فيه «بحق اسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها». وهو بيان تابعت صياغته عن قرب في مكتب عرفات في بغداد قبل نشره. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1988. وفي مقابلة صحافية رتبتها مع عرفات اقر الرئيس الراحل بقبوله قرار مجلس الامن 242 للمرة الأولى قبل ان يقبل ذلك رسميا في الاجتماع الاستثنائي الذي عقدته الجمعية العامة للامم المتحدة في جنيف يوم 13 كانون الأول (ديسمبر) 1988 قبل ان يطلق تصريحه الشهير في باريس بأن الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان يدعو الى تحرير فلسطين ليس إلا «كادو»، بالتعبير الفرنسي، وهي خطوات كان من المطلوب اتخاذها شرطاً لدخول المفاوضات.
كان يجب تحويل غزو الكويت الذي فاجأ القيادة الفلسطينية مثلما فاجأ العالم الى فرصة فلسطينية، الا ان عرفات وحده من بين باقي القيادات راهن على ان ذلك يأتي من خلال المضي مع صدام الى الشوط الاخير من مغامرته فيما رأت العديد من القيادات الاخرى ان ذلك سيجر على الفلسطينيين الويلات مثلما افصح لي صلاح خلف (ابو أياد) بعد مقابلته الاخيرة مع صدام في لقاء معه في فندق الرشيد في بغداد وقبل ايام من اغتياله في تونس في 14 كانون الثاني (يناير) 1991، اي قبل الحرب بيومين في ما بدا ثمناً للموقف الذي اتخذه وأشهره في وجه صدام. قبل اسبوع من ذلك كان ابوعمار يقف منادياً صدام في احتفال اقيم في بغداد بمناسبة يوم الشهيد الفلسطيني بفارس العرب الذي سيدخل على حصانه الابيض معه وسوية الى القدس ثم يخاطبه بالآية القرآنية التي طالما رددها بعد ذلك من سورة الاسراء «وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة». سألته بعد الاحتفال الى من تعود واو الجماعة في الآية الكريمة فأجابني بطريقته المعهودة ألا تعرف تاريخك جيداً؟ ألححت عليه بأن يخبرني هو، سألني ثانية، ألم يكن نبوخذنصر عراقيا وهل نسيت صلاح الدين.قلت كلا لم انس وبدا كلامه مثل خطابه منسجما تماما مع رهانه على مغامرة صدام تلك.
ولم يكن من المدهش بتاتا ان يكون ذلك هو نفسه استنتاج بل رهان اعدائه الاسرائيليين.ففي كتابه المعنون «الحروب على صدام» يذكر الكاتب والمراسل التلفزيوني البريطاني الشهير جون سيمسون انه التقى مع بنيامين نتانياهو حين كان نائباً لوزير الخارجية الاسرائيلي بعد غزو صدام للكويت وبعد ان انتهى من التسجيل امام الكاميرا سأل نتانياهو عن وجهة نظر اسرائيل الحقيقية في الغزو وتوقعاته عن نتائجه على اسرائيل، فما كان منه إلا ان طلب التأكد من اقفال الكاميرا اولا ثم ليقول لسيمسون انها فرصه لا يمكن ان تقدر بثمن لاسرائيل. والحقيقة المؤكدة الآن انها كانت كذلك.
ما حصل بعد ذلك لا يزال قائماً امام العيان، اذ يكفي النظر الى ما يجري في فلسطين وفي العراق الآن لكي يستنتج المرء كم كان عرفات واهماً في ذلك الرهان. فلربما حمله حصان صدام الابيض الى سلسلة من المفاوضات لا تزال جارية منذئذ ولكنه لم يحمله الى القدس بينما انتهى صدام الى جحر سحيق والعراق نفسه الى احتلال. ليس هدفي هنا ان اضع موقف عرفات، رحمه الله، من غواية صدام في ميزان حسناته او سيئاته، فتلك مهمة سيتحمل مسؤوليتها التاريخ. كما اني لست بصدد تسجيل شهادتي بالرجل او بقضيته التي حملتها، مثلي مثل اي عربي في وجداني، لكنها فرصة، اراها ليست شخصية، وفرها موته الدرامي للنظر الى الخلف من دون غضب، الى مرحلة والى احلام أمة برمتها، ماتت بل اغتيلت قبل عرفات، بعوامل العجز والاخفاق والفشل الذي انتهت اليه دولها، وانظمتها وحكامها وقبل ذلك كله ثقافتها التي اوصلتها الى هذا الدرك.