صفوة القول (13)
مختارات من اراء وقضايا
هل دقت ساعة العمل العربي في العراق؟
صلاح النصراوي
نشر ت في الحياة في 21 -10-2005
في المرحلة السابقة على الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كان واضحاً لكل صاحب بصيرة أن التغيير الذي سيحدث في بغداد سيضع كامل المنطقة على أعتاب عصر جديد. عصر سيطلق معه عملية تغير شاملة في المنطقة، ربما سيتجاوز دوره هزها وتغيير كثير من القديم السائدة فيها من مفاهيم وأفكار وسياسات ونظم، إلى تحولات جذرية في خريطتها الجيوسياسية. وكان السؤال الذي يتردد بإلحاح هو ما الذي فعله العرب، دولاً وشعوباً وحكومات، استعداداً للتعامل مع المرحلة المقبلة بكل استحقاقاتها، بعيدا من الجعجعات التي ميّزت تعاملهم في قضايا كبيرة واجهتم خلال تاريخهم الحديث وعلى رأسها قضية فلسطين.
كان بديهياً أن أنظمة عربية كتلك، ستبدي تضامناً غير محدود مع نظيرها في بغداد، وهو الأمر الذي عبرت عنه قرارات الجامعة العربية ومؤتمراتها ومواقف أمينها العام عمرو موسى التي ظلت حتى آخر لحظة تقاوم عملية التغيير التي كانت أصبحت حينها أمراً محسوماً على أرض الواقع الدولي، بعدما ظلت سنوات طويلة مطلباً شعبياً عراقياً ملحاً. وإلى جانب التضامن القبلي المعهود بين الأنظمة العربية، كان واضحا أن لدى هذه الأنظمة هواجس حقيقية من الهزات الارتدادية لزلزال التغيير في بغداد كانت تدفع بها إلى إبداء ذلك الرفض القوي لعملية التغيير.
كانت هناك مخاوف من أن يؤدي تغيير النظام بتلك الطريقة العنيفة إلى تقسيم العراق إلى كيانات صغيرة على أسس دينية أو طائفية أو إثنية، ما سيثير تداعيات لا حصر لها على أوضاع مشابهة في الدول المجاورة. كان التخوف قائماً أيضاً من إمكان تدخل دور الجوار بما لها من امتدادات ومصالح، ما سيؤدي إلى مفاقمة الأمور ويستدعي تدخلات إقليمية مقابلة. ومن المخاوف الرئيسة الأخرى هو أن نظاماً جديداً في بغداد آت على ظهر الدبابات الأميركية، سيجعل العراق حليفاً استراتيجياً قوياً للولايات المتحدة في المنطقة ما سيعزز من هيمنتها فيها ويطلق يدها في شؤونها. كانت هناك مخاوف أيضا من تربص إسرائيل لترسيخ وجودها وقوتها في المنطقة، ما سيؤدي إلى تقويض ما تبقى من توازن هش لصالح إسرائيل، ويتيح للدولة العبرية فرض شروطها للتسوية النهائية على العرب والفلسطينيين.
ولعل أهم تلك المخاوف هي التي أتت من توقع انعكاسات التغيير الدرامي في بغداد وتداعياته على الأوضاع السياسية الداخلية في البلدان العربية، خصوصاً أنه ترافق مع هجمة أميركية على المنطقة تستهدف ثورة إصلاحية جذرية في بناها السياسية والثقافية.
ولكن على عادة العرب ظلت مخاوف أنظمتهم تعبر عن نفسها في مواقف إعلامية وبيانات ختامية لاجتماعات استعراضية، بينما عبر سدنة الشارع العربي عنها بمواقف هي مزيج من الجهل والانتهازية السياسية المشبعة بروح القبيلة وعصبيتها وهوجة الغوغاء وزعيقهم. وفي حمى هذه الجعجعة غاب الموقف السياسي الجدي الرشيد المسؤول عما يمكن عمله تجاه العراق، بينما بدأ كثير من هذه المخاوف التي راجت قبل الحرب يتعمق حين أفاق العرب على الزلزال العراقي وهو يحدث الكثير من الارتدادات في منطقة ميزاتها الأساسية أنها هشة، كثيرة العورات… وضعيفة المناعة.
كان طبيعياً إذن أن تصطدم رغبة العراقيين في التخلص من نظام مسخهم وجودياً، كما لم يفعل أي نظام أو حاكم من قبل، مع حاجة النظام العربي إلى الحفاظ على «ستاتيكيته» وخشيته من التغيير. ما لم يكن طبيعياً هو عدم رغبة العرب في التعامل مع حتمية التغير في العراق باعتباره حاجة عراقية ماسة وفقا لخيارات العراقيين أنفسهم وليس حاجات وإملاءات الآخرين، وعدم استعدادهم لقبول الوضع العراقي الجديد بكل تعقيداته التاريخية والسياسية والاجتماعية. على خلفية هذا التناقض الموضوعي جرت الأمور بين العراقيين، وعلى وجه الدقة معظمهم، وبين العرب مما خلق تلك الفجوة النفسية الشبيهة بين الفلسطينيين والعرب بعد الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1948 حين اتهم الفلسطينيون العرب المهزومين بالخيانة والتواطؤ وبادلهم العرب الاتهام بالخيانة وبيع أراضيهم لليهود والهروب من بلدهم بدلاً من المقاومة والصمود.
بعد اكثر من عامين ونصف العام على التغيير في العراق وحال عدم الاستقرار التي أوجدها وحال التناقض بين العرب والعراقيين التي أطلقها، هناك الآن محاولة لبلورة «استراتيجية عربية» تجاه العراق، كما افصح اجتماع وزراء خارجية لجنة الجامعة العربية الخاصة بالعراق. هذه المحاولة تستحق أخذها بجدية فائقة من كلا الطرفين حتى لو جاءت متأخرة، وعلى رغم الألغام التي وضعت في طريقها قبل أن تبدأ. غير أن المؤكد أن فرص نجاحها سترتبط منذ البداية بضرورة المصارحة والمكاشفة والفهم المتبادل لمصالح كل طرف وواقعه وظروفه وتوافر النية المخلصة لإيجاد قواسم مشتركة مبنية على أساس العلاقات والأواصر التاريخية والمصالح الحالية والمستقبلية المشتركة. بغير ذلك فان هناك مخاطر حقيقية أن تأتي هذه «الاستراتيجية» بما لم يكن في حسبان واضعيها وتتحول إلى معول هدم يزيد من حجم الهوة، بل قد تضع المسمار الأخير في نعش العراق الموحد وما يربطه بعالمه العربي.
هناك بعض الأمور التي ينبغي على واضعي هذه «الاستراتيجية» أخذها في الاعتبار قبل أن يشرعوا في العمل.
– أولاً: هل هذه «الاستراتيجية» هدف ومسعى عربي خالص جاء لتحقيق مصالح وغايات عربية – عراقية، أم أنها مجرد استجابة لحاجات أميركية آنية تهدف إلى إنقاذ المشروع الأميركي من الانهيار؟ ليس من الخطأ التنسيق مع الجانب الأميركي، فهو بالتالي القوة المحتلة للعراق والأكثر نفوذا في المنطقة العربية، لكن على هذه «الاستراتيجية» أن تتجنب الانزلاق إلى الخلط بينها وبين علاقة الدول المعنية مع الولايات المتحدة ذاتها، كما حصل في مجرى الصراع العربي – الإسرائيلي. وعليها أيضاً أن تنأى بنفسها عن الاستراتيجيات الأميركية الخاصة بالمنطقة، وبالذات المتعلقة بالدول المجاورة للعراق. بمعنى آخر يجب ألا تُستخدم هذه «الاستراتيجية» لعقد صفقات مع واشنطن على حساب العراق.
– ثانياً: يجب أن يكون لهذه «الاستراتيجية»، طالما سميت كذلك، هدف واضح منذ البداية. فهل هي مجرد مبادرة نيات حسنة للمساعدة في تحقيق المصالحة الوطنية بين الأطراف العراقية المتناحرة أم أنها مسعى اشمل يهدف إلى إعادة ربط العراق بمحيطه العربي؟ ما هو مطلوب في هذه المرحلة هو خطة تحرك تدريجية مبنية على تحقيق أهداف معينة بأسلوب يجمع بين التواضع والموضوعية من دون ضجيج من الشعارات البراقة التي عادة ما تصحب مثل هذه المبادرات.
– ثالثاً: يحب أن تقبل هذه «الاستراتيجية» الوضع العراقي كما هو عليه، أي انه بلد متعدد القوميات والأديان والطوائف، وألا تتجاهل هذه الحقيقة أو أثرها في النتائج السياسية المتحققة أو المرجوة. إن أي محاولة لإلباس «الاستراتيجية» العربية لباس الطهارة أو التعالي على حقائق الواقع سيؤدي إلى انفراطها وربما يقود إلى عكس النتائج المرجوة منها.
– رابعاً: من الضروري أن يكون الدور العربي محايداً إلى أقصى درجات الحياد، وألا يظهر انحيازاً قومياً أو طائفياً إلى أي طرف من أطراف الصراع. إن «استراتيجية» قائمة على أساس الدفاع المطلق عن مصالح السنة العرب العراقيين أو تبني الأساليب المتشددة التي يطرحها بعضهم ستؤدي بالنتيجة إلى إثارة الشكوك والاتهامات من قبل الشيعة العرب والأكراد بالانحياز من قبل عالم عربي سني إلى أقرانه من العراقيين، ما لن يلحق الضرر بالمبادرة العربية فحسب، بلبمستقبل العلاقات العربية مع الأطراف العراقية الأخرى.
– خامساً: هناك حاجة ماسة الى العديد من إجراءات بناء الثقة التي تساعد في إقناع العراقيين بأن هدف «الاستراتيجية» العربية هو مساعدتهم فعلاً، لا مجرد إضاعة الوقت بمبادرات ومشاريع وزيارات لا طائل من ورائها. ويأتي ضمن هذه الإجراءات العمل الجدي على مكافحة الإرهاب في العراق من خلال جهد حقيقي لضبط الحدود والضرب بشدة على الشبكات الإرهابية المغذية في الدول العربية، والمجاورة منها بشكل خاص، وتجفيف منابعه البشرية والمالية والفكرية، ومنع أي شكل من أشكال التحريض من خلال وسائل الإعلام العربية كافة، وإقامة المؤسسات التي تهدف إلى مواساة ومساعدة العراقيين من ضحايا الإرهاب.
– سادساً: يجب التخلي عن النظرة الضيقة إلى العراق كونه مصدراً للصفقات المالية السريعة، وعدم استغلال الأوضاع المأسوية التي يمر بها لجني أرباح اقتصادية آنية على حساب النظرة بعيدة المدى. يجب أن يشعر العراقي بأن ما يقوم به العرب تجاهه مبني على أساس من الاحترام المتبادل والتكافؤ وتوازن المصالح، وليس مجرد توظيف المبادرات السياسية بهدف اغتنام الفرص لجني المكاسب المادية.
– سابعاً: من الضروري أن يكون هناك وجود عربي حقيقي وفاعل في العراق على المستويات السياسية والديبلوماسية والثقافية، وأن تُتبع سياسة الباب المفتوح أمام كل ألوان الطيف العراقي لدخول الدول العربية في أطر الحوار وتبادل الأفكار في شكل حر وموضوعي، بما يغني معارف الطرفين عن بعضهما ويقرب بين مواقفهما. يجب أن تتخلى الدول العربية والجامعة العربية والشارع العربي عن الإصغاء إلى صوت واحد، وأن تصيخ السمع إلى مختلف الأصوات العراقية.
إذا كانت ساعة العمل العربي في العراق دقت فعلاً بعد طول انتظار وتردد، فإن في انتظار العرب جميعاً عملاً شاقاً لكي يكلل هذا العمل بالنجاح. علينا أن نرى أولاً إن كانت هناك حقاً استراتيجية حقيقية وأهداف جلية وخطط مفصلة للتحرك أم إنها مجرد كلام عام في هبة عشائرية، كما جرت العادة العربية في التعامل مع القضية الفلسطينية. قديماً أراح بعض العرب ضمائرهم حين اتهموا الفلسطينيين بأنهم باعوا أراضيهم لليهود رداً على اتهام الفلسطينيين لهم بالتقاعس والتفريط، لكننا لم نسمع أحداً يسأل: ولماذا لم يشتر العرب تلك الأرض، وهم يملكون كل هذه الأموال التي تفوق ما لدى يهود العالم قاطبة؟ اليوم يواجه العرب سؤالاً اكثر حدة، بل اكثر بشاعة، لكنه مع الأسف سؤال المستقبل: كيف سيتعاملون مع الغالبية الساحقة من العراقيين، أي الشيعة والأكراد، بغض النظر عن الوجهة التي سيسير فيها العراق، هل باعتبارهم يهودا أم فلسطينيين؟