9)
وحين ينقلب الفساد الى تنمية
خلال سنوات الاحتلال والفترة القصيرة التي تلت الانسحاب الامريكي من العراق ظل الاعلام الغربي يحتفي كثيرا بالاخبار والتقارير التي تتحدث عن التقدم الاقتصادي في العراق اعتمادا على احصائيات وبيانات تتعلق بزيادة انتاج النفط خلال تلك الفترة وباعتبار ان النمو المتحقق في الدخل القومي الاجمالي جراء تدفقات الأموال النفطية هو مؤشر على تلك التنمية الاقتصادية المزعومة.واذا كان علينا ان نصدق تلك التقارير، كما هو الهدف من نشرها، فقد كان ينبغي ان نصدق ايضا ان العراق كان ينعم بازدهار إقتصادي يؤهله ان يصبح خلال السنين القليلة القادمة احد الاقتصاديات المتقدمة في المنطقة، كما ظل يروج له قادة دولة الفساد، وهي صورة لم تكن قريبة من الحقيقية ابدا بل كانت مضللة وهو ما كان يدركه العراقيون اكثر من غيرهم من خلال ملامستهم للواقع المغاير الذي يعيشونه وسط انعدام للخدمات الاساسية وتهالك البنى التحتية وتوقف تام لعجلة التنمية في القطاعات الاقتصادية الاساسية وخاصة الصناعة والزراعة.(1)
لم يكن الأمر بحاجة لانتظار الانخفاض المريع في اسعار النفط مع نهاية عام 2014 لكي يتضح زيف تلك الاسطورة، بل الخدعة الكبيرة، والتي كشفت كم كان العراق عاريا من كل ما يستر بدنه المتهالك رغم الثروات الهائلة التي حصل عليها خلال السنوات الاثني عشر السابقة بسبب تخلف الاقتصاد والتنمية الناتج عن الفساد المتوحش وسؤ الادارة.كان واضحا منذ البداية ان الأموال الطائلة التي جاءت من موارد النفط، والتي قاربت، او ربما تجاوزت، ترليون دولار لم تذهب الى التنمية وبناء الاقتصاد الوطني، بل الى بطون منتفعين لا تشبع ومثلهم مثل جهنم يسعون دوما للمزيد.ولم يكونوا وحدهم في اقتراف تلك الجريمة الشنعاء في تدمير بلد وشعبه فقط، بل شارك فيها وحرض عليها وادارها من الخارج الشركاء الدوليون المعروفون.
ما كانت تشير اليه التقارير المسربة للصحافة عن مؤشرات عن التقدم الذي يحرزه العراق في المجالات الاقتصادية كانت ترتبط بحملة علاقات عامة تساهم بها مؤسسات العولمة المختلفة لصالح الشركات والمصالح الدولية التي انكبت على الحصول على مختلف انواع المقاولات والعقود والاستثمارات، ومحاولة الحصول على المزيد من خلال الايحاء بان تلك الارقام الزائفة عن نمو الاقتصاد العراقي في تلك الفترة هي مؤشرات حقيقية عن الاداء الاقتصادي لبلد كان كل من يعيش فيه يرى الحالة المزرية التي هو عليها من تخلف وفقر وارتداد.ولم تكن هذه التقارير التي نشر بعضها الجيش الامريكي والتي تروج لأوهام واكاذيب من خلال المحاولات المستميتة لرسم صورة وردية عن ااإقتصاد العراقي تبرر فقط المصالح الجشعة للشركات الأجنبية، بل انها ساهمت مساهمة فعلية في استمرار وتنامي الفساد في العراق.(2)
ان قصصا مضللة من هذا النوع عن المكاسب التي يمكن ان تتحقق في مجالات الاستثمار في مناطق العنف هي ليست بالجديدة في الاعلام الغربي الذي يحاول دائما ان يضفي عليها طابع المغامرة والبطولة والتشويق للترويج لفكرة ان الارهاب والعنف، وحتى الحروب الاهلية، لا يمكنها ان تقف امام عجلة الاستثمار الدولي ونشاط الشركات العالمية، وخاصة شركات النفط والسلاح، بهدف فتح المزيد من الفرص ومن اجل المزيد من الأرباح وتراكمها.وكما هي الحالة في كل مكان روجت فيه هذه الاكاذيب فقد كان الهدف هو التغطية على الجانب المظلم الحقيقي لاداء الدولة وهو الفساد الذي يدمر الاقتصاد.
في شباط 2014 نشرت العديد من وسائل الإعلام تقريرا عن افتتاح فرع لسلسة مطاعم “بيتزاهات” في اربيل مع عنوان براق ان “العراقيين سيتمكنون منذ الان من تذوق البيتزا الامريكية”، كما تبشرهم بالمزيد من فروع هذه السلسة في باقي انحاء العراق.بعد ذلك باشهر تم التطبيل لافتتاح فروع لسلاسل اخرى من المطاعم والمقاهي الامريكية.الرسالة الأولى التي تبعث بها هذه الاخبار كانت موجهة للعراقيين جميعهم بانهم على موعد مع اكثر منتجات العولمة شهرة، اما الرسالة الاخرى التي كانت موجهة للرأي العام العالمي والامريكي فهي ذات الرسالة المعروفة عن منتجات وخدمات الشركات الامريكية العابرة للحدود لنشر ثقافة الاستهلاك المعولمة وامتداد النفوذ الاقتصادي الامريكي في العالم.لاتحدثنا وسائل الاعلام هذه بطبيعة الحال عمن يمتلك هذه السلسلة من المطاعم من العراقيين، ولا عن الطريقة التي حصلوا من خلالها على الرخصة، ولا عن تفاصيل اخرى ضرورية من اجل اعمام الحقيقة والشفافية لكي يعرف العراقيون لماذا ان افتتاح مطعم للبتيزا الامريكية هو اهم من توفير الماء والكهرباء والمدارس والمستشفيات وغير ذلك من المؤسسات التي توفر فرص العمل والسلع والخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن العراق.(3)
ولا يمكن بطبيعة الحال ان تغفل وسائل الاعلام الغربية هذه الحديث خلال هذه الفترة عن نجاحات الشركات النفطية الكبرى مثل “اكسون موبيل” او “رويال دويتش شيل” او “بريتش بتروليوم” في ادارة المشاريع العملاقة التي حصلت عليها في استخراج نفط العراق، فتلك مهمة من مهماتها الاعتيادية في الترويج للرسالة السامية لهذه الشركات في توفير التكنلوجيا المتقدمة لمساعدة الشعوب على الانتفاع من خيراتها الطبيعية.ولكنها مع ذلك تتغافل عن حقيقة ان كل تلك العقود المهولة التي حصلت عليها خلال وزارة “نوري المالكي” كانت كارثية لانها رسمت صورة خيالية مضللة عن قدرات العراق لانتاج 9 ملايين برميل او اكثر من النفط خلال سنين قليلة، مما نتجت عنه خسائر فادحة، بسبب تكاليف الانتاج الباهظة التي ترتبت على العقود بعد ان فشل العراق في انتاج تلك الكميات الكبيرة بسبب الفائض الكبير في سوق النفط العالمية.
اذ كما كان التضليل في حالة مطاعم الـ”بيتزاهات، و”الهارديس”، و”السنامون” فقد تم التطبيل والتزمير للعقود النفطية التي وقعها العراق مع الشركات البترولية الكبرى والتي سببت خسائر فادحة للاقتصاد العراقي وحققت ارباحا طائلة للشركات الاجنبية.لقد كانت عقود التراخيص اساسا عقود خدمة لكنها تحولت فعليا الى عقود للمشاركة ادت الى خسائر كبيرة للاقتصاد العراقي تقاعست الحكومات عن معالجتها خلال كل تلك السنين انصياعا للكارتلات النفطية العالمية، وللمصالح السياسية التي تقف وراءها.ما كان مهما هو التأكيد على اجواء الاستثمار المهيئة في العراق من خلال نموذج العقود النفطية هذه وكذلك التأكيد على ان الاوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية اصبحت مهيئة لاستقبال الاستثمارات وفروع الشركات الأجنبية وبالتالي تقديم البراهين على ان الغزو الامريكي ان كان قد اخفق في الجانب العسكري والأمني فانه حقق نتائج باهرة في مجالات التنمية والاقتصاد.
لا يجري كل ذلك بمعزل عن عمل الحكومات والهيئات الرسمية والشركات الكبرى التي تقوم بتوظيف شخصيات سياسية لها صلات مع القادة العراقيين للحصول على عقود مشاريع وصفقات تجارية وإستثمارية ضخمة مقابل عمولات كبيرة.واذا كانت ابرز هؤلاء الشخصيات هي البارونة البريطانية “ايما نيكلسن” التي عينت الممثلة التجارية للشركات البريطانية مع العراق بسبب علاقاتها المتينة مع شخصيات المعارضة في زمن صدام ودعمها لهم فان عددا كبيرا جدا من رجال السياسة والسفراء والدبلوماسيين والجنرالات الذين اشتركوا في الغزو انخرط في العمل بعد ذلك مع الشركات الأمريكية الكبرى بهدف تسهيل مهماتها في العراق وحصولها على صفقات مجزية.(4)
ولا يتقتصر الامر على البريطانيين والامريكيين، فاليابان مثلا استعانت بدبلوماسيين واكاديميين وخبراء، كما استعانت بشخصيات عراقية بعضهم كتاب وسياسيين، لدعم عمل الشركات اليابانية والتي ضمنت خلال السنوات الاولى للاحتلال الحصول على خمسة عشر عقدا كبيرا لاعادة اعمار وتطوير موانئ ومحطات طاقة بمبالغ تجاوزت 500 مليون دولار.ولجأت كندا واستراليا وغيرها من الدول الى اشخاص من جنسياتها للحصول على فرص استثمار من خلال علاقات هؤلاء الذين ينحدرون من الأصول العراقية مع اقربائهم وأصدقائهم من رجالات الحكم في العراق.في حين ان دولا اخرى مثل روسيا والتشيك والباكستان حصلت على فرص من خلال وسطاء عرب، وخاصة من الشيعة اللبنانيين وعراقيين ضليعين باعمال السمسرة هذه.
ولم تعد محاولات البحث عن فرص الاستتثمار، او الصفقات التجارية، من قبل الدول الأجنبية امرا مثيرا للاستغراب، بل ان بعض الدول اخذت تتذمر وتشتكي من قلة حصتها في الاستثمارات في العراق وتوكل الى صحفييها ان يتبنوا موقفها هذا للضغط على المسوؤلين العراقيين.ففي شهر اذار (مارس) 2014 لم يتردد صحفي الماني يعمل في مجلة “دير شبغيل” من ان يسأل نوري المالكي في مقابلة صحفية عن السبب وراء قلة حصة المانيا من كعكة التجارة والاستثمار في العراق غامزا من طرف لوبيات المصالح الامريكية وغيرها التي تقف وراء ذهاب معظم الصفقات الى الشركات الامريكية.(5)
من بين المؤشرات التي تم التطبيل لها عام 2014 هو زيادة نسبة النمو السنوي الى 9 بالمائة وهو ما يوحي بالنسبة لغير المتخصصين ان وضع العراق التنموي اصبح في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا.ان كل المعنيين بالاقتصاد يدركون ان الحديث عن اي تقدم او نمو اقتصادي في العراق من خلال التركيز على مؤشرات نسبة النمو التي تستند الى موارد النفط الريعية انما يدخل في خانة الدجل اكثر منه من الكلام العلمي الموضوعي.فالناتج القومي الاجمالي في العراق انما يقوم في 95 بالمائة منه على موارد النفط وليس على اقتصاد حقيقي متنوع ومنتج.ثم ان هذه الأرقام المتعلقة بنمو الناتج الاجمالي لا يمكنها ان تكون بحد ذاتها مقياسا للتقدم والنمو الاقتصادي طالما هي لا تتأتى من قطاعات انتاجية فاعلة ومثمرة.وحتى بالنسبة لغير المتخصصين فان المؤشر الفعلي للتنمية الذي يفهمه اي انسان هو ما يلمسه بيده وما يراه امام عينه من انجازات على الارض، او حتى ما يتوقعه وفقا لبيانات حقيقية، وهو ما لم يكن متوفرا تماما.(5)
كيف يمكن الحديث عن معدلات نمو عالية في حين تفتقر مدن العراق الى مساكن ومدراس ومستشفيات وبناء تحتي يليق بالبشر ويتناسب مع ما يحصل عليه العراق من موارد مالية هائلة يمكنها ان تلبي حاجة سكانه المتزايدة من كل الخدمات.كان الحديث عن النمو الاقتصادي من خلال ارتفاع مداخل النفط يجري في حين يعاني القطاع الصناعي العراقي من غياب كامل لاي دور في المنظومة الاقتصادية بسبب توقف معظم المصانع القديمة وعدم بناء مصانع جديدة منذ الغزو.كان الاعلام الغربي يطبل لاسطورة النمو في حين كانت الزراعة في العراق قد اندثرت تماما واصبح العراق بكل اراضيه الخصبة وانهاره الكبرى يعتمد اعتمادا شبه كلي في امنه الغذائي على استيراد المواد الزراعية والغذائية من الخارج.(6)
كانت التقارير الغربية تنشر عن النمو المضطرد في حين ان مؤشرات نوعية او جودة الحياة كانت ترصد إختلالات جوهرية عميقة في كل القطاعات التنموية الأساسية، الاقتصادية والبيئية والبشرية منها.كان ملايين العراقيين، وفقا لتقارير “البرنامج الانمائي للامم المتحدة” وتقارير حكومية ايضا يعيشون في فقر مدقع في حين تعاني ملايين اخرى من النقص في الغذاء والدواء، ودون خدمات صحية وبيئية ضرورية، وسكن لائق، وحيث يعيش اغلب العراقيين في مستويات معيشية متدنية.كان نحو 25 بالمائة من السكان يعانون من البطالة بينما بلغت الأمية نسب عالية بين مجمل السكان في حين ان نصف الأطفال ظلوا محرومين من فرص الذهاب للمدرسة بينما بقي معظم العراقيين يحصلون فقط على 14.6 ساعة من الكهرباء يوميا في حين كان نحو 38 بالمائة منهم فقط يحصلون على الماء النظيف.كان الحديث عن التنمية يجري في بلد لا تنقطع الأخبار فيه عن الانهيارات الأمنية ابتداء من حوادث الارهاب والعنف العشاوئي ونشاط المليشيات الى الاختطاف لقاء فدية وانتهاءً بالجريمة المنظمة وحيث تحيط الشركات الاجنبية مقراتها بالأسوار من كل جانب وتستأجر الشركات الأمنية الخاصة لحراستها كما تدفع الأتوات درءا لهجمات المافيات.ولم يقتصر الأمر على الشركات الصغيرة، بل ان شركات النفط الكبرى العاملة كانت تتعرض للابتزاز لقاء القبول بحمايتها من الهجمات او التفجيرات او اختطاف العاملين فيها من مافيات محلية.
في مقابل كل هذا الحديث عن التقدم كان يتم تجاهل الفساد المستشري في الصفقات والعقود التي تبرم بين الاجهزة الحكومية العراقية والشركات الاجنبية وتأثيرات كل ذلك على موارد العراق وعلى مجمل العملية التنموية فيه.فخلال هذه الفترة لم نسمع الا النزر اليسير عن قضايا الفساد التي جمعت مسؤولين عراقيين وشركات اجنبية والتي جاءت على خلفية مخالفات تتعلق بالقوانيين الوطنية في تلك الدول في حين نجت معظم القضايا التي كان يتم فضحها في العراق من المتابعة والتحقيق والملاحقة.وحتى حين تم الكشف عن تورط مسؤولين عراقيين في قضايا فساد مثل قيام شركة (GlaxoSmithKline) البريطانية للدواء عن دفع رشاوي لأطباء وصيادلة عراقيين يعملون لصالح “وزارة الصحة” العراقية وخضوع شركة (Leighton Holdings) الاسترالية للانشاءات للتحقيق لدفعها رشاوي للحصول على عقود عمل في مشروعات النفط في العراق فان الدول المعنية لم تسع لدفع الجانب العراقي لملاحقة المرتشين العراقيين، وبالطبع لم تفعل الحكومة العراقية ذلك.
لم تقم الجهات المعنية في كندا وسويسرا مع كل الامكانيات الهائلة المتوفرة لديها بملاحقة الفضيحة التي فجرها الوزير العراقي السابق “جواد هاشم” في شهر اب (أغسطس) 2011 بشأن توقيع “وزارة الكهرباء” عقدا مع شركة كندية تدعى( Capgent ) لبناء محطات للكهرباء في عدد من مناطق العراق قيمته حوالي 1.2 مليار دولار امريكي مع العلم انه ثبت ان الشركة لا وجود حقيقي لها حسب تفاصيل كثيرة نشرها هاشم.كما اخفقت سويسرا عن متابعة كشف المهندس العراقي “مثنى كبة” النقاب عن عقد وهمي وقعته الحكومة العراقية مع شركة مقرها في سويسرا لبناء مصفاة للنفط بقيمة 6 مليار دولار ولكن تبين الا وجود لهذه الشركة على ارض الواقع ايضا.(7)
كانت قصص الشركات الوهمية التي توقع عقودا وتقبض المليارات والتي تتداول على السنة العراقيين وعلى مواقع الانترنيت مهولة في تفاصيلها وفي ابطالها من العراقيين ومن الاجانب الا انها لم تكن موضعا للاهتمام من قبل وسائل الاعلام الغربية التي تمتلك مكاتب وفيالق من العاملين وامكانيات هائلة للحصول على المعلومات في الدول المعنية وتدقيقها.كيف يتمكن عراقيان احدهما في كندا والآخر في سويسرا لا يمتلكان خبرات صحفية تحقيقية او مهارات الصحافة الاستقصائية من الوصول الى الشركات الوهمية بالوسائل الشحيحية التي لديهم ولا تتمكن من ذلك وكالات ابناء وصحف دولية عملاقة.
كان الحديث عن النمو والتنمية وربط ذلك بفرص الاستثمار امام الشركات الدولية جزءاً من تلك الأساطير التي حاكتها امريكا عن غزوها للعراق لتبرر الاحتلال وترسم صورة إيجابية عن نتائجه.كانت الآلة الاعلامية الامريكية تسعى لمواجهة الانتقادات المتزايدة للفساد الذي خلفته وراءها في العراق من خلال اظهار المنتقدين بانهم يبثون كل ما هو يدعو لليأس ويبث القنوط حول تجربة الاحتلال التي استنزفت العراق ماليا وانهكته اقتصاديا، بعدما دمرته ماديا وبشريا.اما الزمر الحاكمة فمن الطبيعي ان يستهويها ترويج تلك الصورة الوردية المنافية للواقع المزري مهما انطوت على مبالغات وتدليس واكاذيب وان تشارك هي ايضا في الترويج لها بهدف رسم صورة مغايرة لحقيقة الخرابة التي جلست فوق أنقاضها لتجكم في العراق الجديد.
ان الحقيقة المرة هي ان جزءا كبيرا من هذه النشاطات الاجرامية تقف وراءها مافيات دولية، من شركات، ومصارف، ورجال سياسة ومخابرات، وليست مجرد اعمال فردية، او مغامرات شخصية.هذا النوع من النشاط ينطوي على مصالح وتحويلات مالية وغسيل اموال تجري من خلال مؤسسات دولية عملاقة تخشى وسائل الاعلام ان تناول القضايا المتورطة بها لكي لا تزعجها حتى لا تقطع عنها اعلاناتها، مثلا.ان احد اشكال التواطئ المعروفة في الإعلام هو ما يسمى بتغير الموضوع، او مجرى الحديث، وهو في هذه الحالة التغير من تناول قضايا الفساد والنهب الى الحديث عن التنمية وفرصها المتوفرة، مما يعني في المحصلة النهائية توفير الغطاء للفساد والقائمين عليه.
لقد ظلت حكومة حيدر العبادي حتى الاسابيع القليلة التي سبقت انتخابات عام 2018 تتبجح بسياساتها التنموية ووضعها خطة تنموية خمسية جديدة للاعوام 2018-2022 وخطة اطول مدى للعام 2030 والتي لم يكن الحديث بشانهما الا كلاما مرسلا في اطار الدعاية الانتخابية نظرا لافتقاد الدولة لاية موارد استثمارية حقيقية وعجزها عن توفير ذلك من مصادر محلية او من المصادر الخارجية التي ظلت تشتكي دائما من الفساد وسؤ الادارة اللذان يعطلان عملية الاستثمار في العراق.ولقد وقع بعض الاقتصاديين والمتخصصين في شباك التدليس الذي مارسته عصابات “دولة علي بابا” في الترويج لاكاذيب التنمية في العراق.ففي 6 نيسان (ابريل) 2018 نقلت وسائل اعلام عراقية عن المستشار الاقتصادي للحكومة العراقية مظهر محمد صالح “ان العراق سيشهد تغييرا ملحوظا في النمو خلال السنوات القادمة مع انطلاق الخطة الخمسية للاعوام ٢٠١٨-٢٠٢٢.”واعاد صالح الذي يفترض به ان يكون اقتصاديا محترفا العزف على نفس الاسطوانة البالية بان المسار التنموي للخطة “سيترجم بصورة حقائق لبلوغ معدل نمو سنوي في الناتج المحلي الاجمالي يزيد على ٧ بالمئة مما يضاعف من الرفاهية كونه يزيد على معدل نمو السكان البالغ قرابة ٣ بالمئة سنوياً وبنسبة تزيد على الضعف”. (9)
لقد اكدت كل الدراسات والابحاث التي تتعلق بالتنمية بديهية اساسية وهي استحالة قيام تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية وفعالة في ظل تفشي ظاهرة الفساد بانواعه نظرا لوجود علاقة سببية بين حاجات التنمية وبين العوائق التي يضعها الفساد باطره الادارية والقانونية والسياسية.ان دولة اقامت نمطا اقتصاديا كاملا قائما على النهب والاستحلال لايمكنها ابدا ان تطرح اي نموذج تنموي مستدام غير ذلك الذي يقوم على اتجاه اجباري واحد، وهو ذلك الذي يؤدي الى المزيد من الفساد والى تدمير كل الخيارات التنموية الممكنة وهو ما سيبقى امام العراقيين ان يتحملوه لعقود طويلة.
هوامش ومراجع ومصادر الفصل التاسع
1-انظر:”العراق مصدر جذب للمستثمرين الاجانب بعد تحسن الاقتصاد”، موقع فاينانشال تربيون، 14/12/2017
انظر ايضا:”العبادي: نتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.9٪ في العام المقبل”، موقع الغد، 19/11/2017
2-انظر:”مصور يوثق النمو الاقتصادي في العراق منذ عام 2003″، موقع القيادة المركزية للقوات الامريكية،21/3/2010
http://www.centcom.mil/MEDIA/NEWS-ARTICLES/News-Article-View/Article/884024/photographer-documents-iraqs-economic-growth-since-2003
3-انظر:”هارديز وصل الان الى كردستان العراق”، موقع فايس، 17/11/2014
https://www.vice.com/en_uk/article/qbenw3/hardees-has-just-come-to-iraqi-kurdistan-102
4-انظر:”القضية الغريبة للبارونة نيكلسين مع العراق”، موقع كاونتربانش (بالانكليزية)، 26/2/2014
https://www.counterpunch.org/2014/02/26/the-curious-case-of-the-baroness-of-winterbourne/
5-انظر:مقابلة نوري المالكي مع مجلة ديرشبيغل، 23/3/2014
http://vista.sahafi.jo/art.php?id=c6e51ba2fe44127c9ba693fa72493d333fd86d67
6-انظر:”بعد عشر سنوات الاقتصاد العراقي ينمو، لكن كم هم المستفيدون؟، موقع ايرين الاخباري، 24/4/2013
http://www.irinnews.org/feature/2013/04/24/iraq-10-years-economy-grows-how-many-benefit
7-انظر:”كانت في العراق صناعة”، موقع الجزيرة،24/11/2013
http://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2013/11/24/%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9
8-انظر:”الكشف عن عقد مزيف آخر في العراق”، صلاح النصراوي، بالانكليزية، موقع الاهرام اولاين،15/12/2013
9-انظر: “وزارة التخطيط: تحقيق التنمية المستدامة في العراق، مركز الروابط ،23 /1 /2018
http://rawabetcenter.com/archives/60587