مقدمة
من دولة علي الى دولة علي بابا
“وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَقَدْ أَمْلَقَ ،حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً ، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً،ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا،وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ:ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ،أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ،وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ،أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى.”
(علي بن ابي طالب)
من بين العديد من الملل والنحل تحتل فكرة العدالة في عقائد الشيعة الإمامية مرتبة سامية حتى ان علماءهم وضعوها من بين أصول الدين إضافة الى التوحيد والنبوة والمعاد.وحين أضافوا الإمامة ايضا الى الأصول فانهم جعلوهما صنوان تتحق بهما الصفات الإلهية وتثبت النبوة حيث الله عادل بالعدل الذي يحققه الانبياء على الأرض كي يطمئن الناس ويثقوا بمملكة الرب التي جاؤوا لكي يحققوها فوق اديمها.بل انهم ربطوا ايضا بين العدل والمعاد حين قالوا بان الاعتقاد بالعدل الإلهي يستلزم الاطمئنان بوعد الله، وتحقق المعاد، وذلك ليفرق الله يوم البعث والنشور بين المطيعين وبين العاصين من عباده.
من البديهي ان الاسلام الذي جاءت عقيدته وتكاليفه الشرعية لتضمن للبشر السعادة والتحرر والمساواة والتكافل قد اعتبر العدل من مبادئ وقيم الدين الكبرى حتى انه جعل العدل اساس الحكم، واساس الخلافة على الأرض، وهدف التشريع الذي من اجله ارسل الله نبيه محمد (ص) وقبله الأنبياء الآخرين.كما جعله معياراً لصلاح الفرد والجماعة وحذر من غيابه، كما افاض بجعله مطلبا شرعيا ترتكز عليه أسس المجتمعات والدول، وميزانا لاقامة الحقوق والحريات، وقيام دولة القانون والانصاف والمساواة.
الكثير من الأديان السماوية وغيرها تستبطن ايضا فكرة العدالة حيث اعتبرها الكثير من انبياء اليهود، وخاصة عاموس، بانها جوهر الايمان اليهودي، كما سخر من التقوى التي تمارس في خواء أخلاقي، وانف ان يقتصر الدين على الطقوس دون عناية، او اهتمام بالمعاناة الانسانية وعذابات المستضعفين.اما في المسيحية فان فكرة العدل تنتصب في قلب الايمان الداعي للخير والحق والإنصاف، سواء على المستوى الفردي، او الاجتماعي.وقبل الأديان السماوية اعتبرت المعتقدات الكبرى كالبوذية والكونفوشوسية والهندوسية وقبلها ايضا الفلسفات في بلاد الرافدين ووادي النيل وفي اليونان والصين العدل من قيم الانسان العليا ومن المبادئ الاساسية التي تشيد عليها المجتمعات الانسانية.اما الأفكار الحديثة، ومنذ عصر التنوير، فقد تجاوزت الأبعاد الروحية والاخلاقية المطلقة وجعلت من فكرة العدالة ركيزة أساسية في بناء الحياة والدولة من خلال التشريع والممارسة.
تبقى العقيدة الشيعية هي وحدها التي تجعل العدل أصلا مستقرا من أصول الدين في تمايز واضح عن باقي الأديان والمذاهب والمعتقدات لانها تتجاوز الجوانب الأخلاقية والطبيعية والتشريعية والفكرية لكي تربطها بصميم عقيدة التوحيد والحياة الإيمانية للإنسان المسلم، وايضا في تأسيس كل ذلك على قدرة العقل والمعرفة الحقة.لكن التراث الشيعي لا يقصر العدل على الجانب الإلهي، او النظري، بل يجعل منه قاعدة لتظيم الحياة في المجتمع، والأهم من ذلك في الحكم في دولة الإمامة التي يؤمنون بها والتي يعتقد كل شيعي انها دولة الإمام الغائب الذي يجب ان يعمل من اجل ظهوره يوما كي “يملأها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا.”
في ممالك البشر القائمة نظر أئمة وفقهاء الشيعة الى العدل بإعتبار ان نقائضه من الجور والظلم هي من اكبر الذنوب التي يرتكبها العبد لانها تنطوي على العدوان على الغير وعلى حقوقهم واموالهم وانفسهم.ولم ينه ائمة الشيعة عن فعل الظلم فقط، وانما حرموه وحرموا التعاون مع الظلمة، او التساهل مع اهل الجور، والركون اليهم، وممالأتهم ومعاونتهم ومناصرتهم، وبذلك وضعوا الأسس الاخلاقية للحكم الرشيد، ريثما تقوم دولتهم، دولة المهدي، التي من علاماتها البارزة تحقيق العدالة الإلاهية والاجتماعية وزوال الظلم.ولكن على الرغم من ان يوتوبيا اقامة دولة الإمامة والعدل، ونبذ التعامل مع الدولة المغتصبة الظالمة ظلت حاكمة في الوجدان والثقافة الشيعية، الا ان الشيعة كبشر انشغلوا باستمرار بمقاومة المستبدين الذين رزخوا تحت أغلال أنظمتهم القمعية، مع حفاظهم على تقاليدهم الدينية بالتقية التي تدعوهم الى الانتظار حتى مجيء دولة (المهدي) الداعي الى الحق والعدل.
هذه الهواجس وغيرها عاشها شيعة العراق منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بعد إنهيار الدولة العثمانية والتي رتبت عليهم مراجعة ذاتية وفق الوضع الجديد والبنى الفكرية والسياسية والإجتماعية التي سيرتكز عليها نظامي الدولة والمجتمع الذي ستقيمه.لقد فرضت الوقائع المستجدة في تأسيس دولة وطنية حديثة على المرجعيات الشيعية الدينية والسياسية ضرورة محاولة استكشاف طرق جديدة للتعامل مع دولة حديثة لم يعودوا فيها رعايا للخليفةـ او السلطان العثماني، السني، بل مواطنين لهم نفس الحقوق لما للآخرين، وعليهم نفس الواجبات.والواقع ان مخاض تلك التجربة طال كثيرا لأكثر من ثمانية عقود لإسباب وعوامل بعضها يعود الى جمود القيادات الدينية والسياسية وترددها في صياغة خيارات سياسية وفقهية بارعة تتلائم مع العصر وطبيعة المرحلة، وبعضها الآخر يعود الى استمرار الهيمنة السياسية السنية التي اعاد انتاجها النظام الذي اقامتة الدولة الجديدة.
شكل انهيار آخر دولة للخلافة السنية بعد نحو ثلاثة عشر قرنا من التغيب السياسي الشيعي امتحانا عسيرا للشيعة في العراق، زعامات دينية وسياسية، ونخب ثقافية، وتكوينات اجتماعية.فمن ناحية، واجهتهم معظلة الموقف الشرعي والفقهي من قضية انهيار الدولة العثمانية الإسلامية، ومن ناحية ثانية، كانت مسألة الإحتلال والإستعمار الأجنبي الذي فرض على بلادهم، ومن ناحية ثالثة، برزت تحديات بناء الدولة القومية الحديثة، ثم كان هناك التحدي الأكبر وهو بناء أمة عراقية على أساس مفاهيم العصر، من مواطنة وشراكة وحقوق متساوية.ولم تكن تلك الإختبارات تتم في فراغ، بل شكلت الثورة الشعبية الكبرى ضد المستعمرين البريطانيين عام 1920 المجال الرحب لتشكيل الوعي السياسي الجديد، وبلورة موقف من قضيتهم الفؤية، ومن قضية الوطن بشكل عام.لكن في التحليل الاخير لا يبدو ان شيعة العراق قد نجحوا في عبور تلك الإختبارات بنجاح مما اربك عملية الإدماج الوطني كما أربك عملية صيرورة الدولة الوليدة ذاتها.فما ان انطفأت جذوة ثورة العشرين التي كانت القبائل، والتجمعات، والمرجعيات الشيعية، حاملة مشعلها الأساس حتى تظافرت الإنعزالية الشيعية التقليدية مع التهميش والإقصاء الذي مارسته الطبقات السياسية السنية، على اعادة عقارب الزمن بالشيعة الى قرون الإنتظار واللوذ بالأمل اليوتوبي لليوم الموعود، بدلا من الوصول الى مشروع حضاري للأزمة الشيعية التاريخية يستجيب لمتطلبات وتحديات عصر جديد.
يكشف تاريخ المرحلة اللاحق والتحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت على العراق منذ العقد الثاني للقرن العشرين على ان شيعة العراق بعد ان اخفقوا في خلق فرصة تاريخية لهم للقيام بدور لائق ومنصف في اطار عملية بناء الدولة الوطنية الوليدة، توفرت مع بزوغ شمسها، انتكسوا الى مشروعهم الإصولي عقائديا والى حالة خواء مفزع سياسيا.اول ما يمكن رصده في هذا المجال هو اخفاقهم كجماعة وطنية في تحقيق رصيد سياسي تراكمي بعد قيادتهم لثورة العشرين وتبديد ذلك بين تراجع وتوقف الزعامة الدينية الشيعية عن ممارسة دورها في بناء حركة سياسية نشطة في الوسط الشيعي، في اطار الهوية الوطنية، والمشروع الوطني، وبين استسلام الزعامات الإقطاعية العشائرية امام اغراءات المستعمرين البريطانيين والسلطة الجديدة، وايضا غياب نخب وقيادات سياسية واجتماعية وثقافية شيعية علمانية واعية ومستبصرة.
لا يقول لنا التاريخ المكتوب كثيرا عن الأسباب، او الظروف التي غلبت لدى الشيعة العراقيين خيار الإندماج بالمشروع الوطني، اي اعلاء هويتهم الوطنية على تشيعهم، وهو موضوع بحاجة الى دراسات وتحليلات معمقة تتجاوز الكثير من السرديات والمحكيات التي درج عليها دارسوا تلك المرحلة عموما وثورة العشرين خصوصا والتي تناولتها من زوايا المقاومة الوطنية للإحتلال والنضال من اجل الإستقلال، او من زوايا دينية او قومية او طبقية، لكنها اهملت النقاش الجاد حول كل ما يتعلق بسياسات الهوية وعلاقتها بثورة العشرين، وبالذات تلك التي تتناول نظرة كل من الشيعة والسنة الى دولة ما بعد السقوط العثماني، الا ما يتعلق بذلك السجال الطائفي بشأن من بدأها اولا ومن قطف ثمارها.
لا يساعدنا الأرشيف كذلك على الإجابة عن بعض الأسئلة المهمة بهذا الصدد، ومنها ما يتعلق بتطلعات شيعة العراق عن مستقبلهم عشية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية حيث شهدت الفترة تفجرا للتطلعات القومية والدينية والمذهبية لدى الجماعات الإثنية المختلفة التي كانت تعيش في ظل الدولة العثمانية وتعاني من الحرمان والقهر والإستبداد الذي مارسه العثمانيون ضدها.لا يوجد الكثير مما يشي بحركات شيعية عراقية مطلبية، مثلما كان الأمر عليه بالنسبة لليونايين والبلغار والصرب في اوربا، او للطوائف المسيحية في المشرق، والارمن والأكراد والدروز والعلويين في بلاد الشام، واليهود في فلسطين في العقود الأخيرة من عمر الإمبراطورية والذين نهضوا دفاعا عن هويتهم وحقوقهم السياسية.ففي حين ظل الموقف العثماني الرسمي باعتبار الشيعة روافض مبتدعين او (قزلباش) فان الموقف الشيعي، وخاصة لدى المراجع الدينية، بقي ملتبسا ويتركز حول فكرة مقاومة الاحتلال الانكليزي (الكافر)، حفاظا على بيضة الإسلام، في حين ان الكثيرين منهم كان ناشطا في السياسة الإيرانية حتى ان واحدا من مراجع سامراء وكربلاء والنجف الكبار وهو اية الله محمد حسين النايئني قدم اطروحات قيمة في ميدان الفكر الدستوري ونظرية الحكم اعتبرت يومها تحررية، لكنها اقتصرت على كونها خارطة طريق اصلاحي لايران الشيعية اكثر من كونها مرشدا لشيعة العراق الذين كان يعيش وسطهم.
دور العامل الخارجي، المتمثل بالإستعمار البريطاني، في صياغة النظام الجديد عن طريق تسليم الحكم الى الأقلية السنية، وليس الى الإغلبية الشيعية، تم تناوله بإستفاضة في النقاش العام حول هذه المرحلة التاريخية، لكن لم يوف حقه كاملا في الدراسات الأكاديمية والكتابات الموضوعية، بما يساعد على كشف النقاب عن خفايا وتفاصيل ما جرى خلال تلك المرحلة المصيرية من تاريخ العراق الحديث.هذا موضوع في غاية الأهمية، وخاصة للاجابة عن اسئلة حول دور المراجع الدينية الشيعية، وهل كانوا يرغبون، او يؤيدون، اي دور قيادي للشيعة في ادارة الدولة الجديدة، ام كان لهم موقف سلبي معترض، كما اشير له كثيرا، انسجاما مع موقفهم التقليدي من الدولة (دولة غير المعصوم)، او بسبب كون أغلبية المراجع من أصول غير عراقية.
هذا الفشل في ضياع فرصة تاريخية امام شيعة العراق، مهما كانت اسبابه، سيكون حاضرا وبقوة في الوعي الشيعي منذ إتضاح إمكانية سقوط نظام صدام بعد غزوه للكويت عام 1990، وهو الأمر الذي تبلور مع الإنتفاضة الشعبية التي تلت الحرب لإخراجه من الكويت.وستتذكر القيادات والنخب الشيعية السياسية ذلك جيدا بعد الغزو الأمريكي عام 2003 حين يعيد التاريخ نفسه ويصبح الشيعة أمام لحظة الحقيقة في ان يؤيدوا الغزو لإسقاط صدام، او ان يختاروا مقاومته، مثلما فعلوا مع الإحتلال البريطاني لبلادهم قبل ثمانين عاما، فيعيدون بذلك الكرة بالتفريط بفرصة ذهبية، ربما لن تتكرر للإمساك بلجام قيادة الدولة العراقية بأيديهم.
هناك عوامل عديدة تقف وراء ذلك الخيار المصيري الذي ارتئاه شيعة العراق مع بدء بناء الدولة الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية وهو ان يكونوا جزءا من المشروع الوطني العراقي، ومن الهوية الوطنية العراقية، والا يتقوقعوا داخل شرنقتهم المذهبية حتى لو جاءت النتيجة على حساب مصالحهم الفؤية ونصيبهم العادل من السلطة والثروة في هذه الدولة.هذا الموقف التاريخي الذي ستمتحنه محطات وطنية كبرى سيظل سائدا في التوجهات الأساسية لدى التيار الشيعي العام في العراق حتى الغزو الأمريكي عام 2003 والذي جاء ليغير معطيات كثيرة ويفتح افاقا واسعة امام الشيعة العراقيين ستمكنهم من الإطاحة بالمعادلة السالفة التي اسست لها فترة الإستقلال والتي كانت قد وضعتهم في المقعد الخلفي لعربة الدولة الحديثة والبدء بالعمل على إعادة تنظيم الدولة على مقاسات جديدة بقيادتهم.
بين قيام الدولة عام 1921 وانهيارها عام 2003 مرت تجربة شيعة العراق بمحطات عديدة جرى خلالها امتحان ذلك الخيار الإندماجي وخاصة بعدما تبين فشل النخب السياسية السنية التي ادارات الدفة في تبني مشروع دولة وطنية جامعة، وهوية وطنية شاملة لكل العراقيين.فمنذ الوزارة الأولى التي شكلها عبد الرحمن النقيب عام 1920 وحتى سقوط نظام صدام حسين ظلت الدولة العراقية سنية القيادة والطابع، وتوارت الأغلبية الشيعة فيها الى ادوار ثانوية، سواء على مستوى السلطة، او على مستوى النخب السياسية والثقافية والإقتصادية الفاعلة، او انهم تحولوا الى مهمشين، او حتى الى دون مستوى المواطنة احيانا.ونتيجة لذلك لم يصب شيعة العراق بالإحباط فقط، بل ونما ايضا لديهم الشعور التاريخي بانهم محكومون بان يعيشوا دائما تحت هيمنة المؤسسة السياسية للنخبة السنية وثقافتها الاحادية، او الإقصائية، سواء اكانت الدولة خلافة اسلامية، او سلطنة عثمانية، او مملكة هاشمية، او جمهورية قومية علمانية.
في هذا السياق عجز الشيعة العراقيون خلال العهد الملكي، وبعده خلال عهد الجمهوريات الثلاث التي تلت نشؤ الدولة، ان يطورا منهجا وحراكا سياسيا يجمع بين متطلبات التعبير عن هويتهم المذهبية الفرعية وكونهم الأغلبية السكانية، وبين انتمائهم الوطني.فعلى عكس الإدعاءات السابقة بان اندماج الشيعة العراقيين بالأحزاب الوطنية القومية واليسارية واللبرالية ونشاطهم في الحركة السياسية قد شكل لهم مظلة الإنتماء ضمن البوتقة الوطنية الأوسع، الا ان الحقيقة، كما كشفت عنها التجربة الفعلية، هي ان الإنتماء الشيعي شأنه شان الولاءات التحتية، والطائفية بصفة خاصة، بقيت فعالة حتى لو لم يجر التعبير عنها علنا من قبل المندمجين بالحركة السياسية الوطنية، ربما لانها ظلت تعتبر غير تحديثية، ومتعارضة مع عملية بناء هوية وطنية صلبة.في المقابل رجح رأي عند بعض الدارسين للتجربة العراقية ان تشكيل اي حزب، او جماعة سياسية شيعية، حتى ولو كان تعبيرا عن انتماءات سياسية، او طبقية، انذاك كان سيعني بالضرورة تعبيرها عن الهوية الطائفية للجماعة والخروج عن الإطار الوطني للدولة، وبذلك كانت ستقع في مطب الطائفية السياسية، وهي فرضية لم تخضع للإختبار، خاصة بمقاربتها مع تجارب عالمية اخرى مثل علاقة اليهودية والصهيونية باسرائيل، او علاقة الهندوسية بالقومية الهندية.
لقد كان الشيعة العراقيون من القادة المؤسسين لأحزاب سياسية رئيسية مثل الحزب الشيوعي، وحزب البعث، وحزب الإستقلال، وحركة القوميين العرب كما استوعبتهم القواعد الحزبية بصورة واسعة ولكنهم عجزوا عن تصحيح المسار الذي اخذته الدولة، والحركة الوطنية والاحزاب السياسية، في قبولها بالإحتكار السني العربي للدولة، وللفضاء المجتمعي وايضا في منع التفاوتات في الحقوق المتساوية في السلطة والثروة والتعبير عن الهوية وما ينتج عنها من فرقة مجتمعية وإقصاء على مستوى الحكم، وحتى في القطاعات الانتاجية والوظيفية والدخل والترقي والتعليم.ولم ينج الحزب الشيوعي العراقي من الفشل في إدراك هذه المعظلة في مشروع بناء الدولة، وفي تبني سياسات ومسارات اكثر واقعية تجاه مسألة الهوية المذهبية بعيدا عن دوغما الهوية الطبقية المستمدة من القاموس الماركسي ومن تراث اللينينية والستالينية في قضايا القوميات، واطروحات الأممية، ومسألة حق تقرير المصير التي كان الجدل بشأنها قائما يومئذ.فاذا اخذنا موقف الحزب الشيوعي الذي يذهب مذهب طبقيا في التحليل، حسب المنظور الماركسي، ويعتبر الإنتماءات الإثنية والدينية باعتبارها تعبير زائف عن الصراع الإجتماعي، فان التناقض يبدو جليا في موقفه الداعم للقضية الإثنية للإكراد وتجاهله قضية الشيعة.فقد تبنى الحزب الشيوعي القضية القومية الكردية تبنيا مطلقا ودافع عن حق الأكراد في تقرير المصير، وحتى الحق بالإستقلال، في حين انه تغاضى عن اشكالية التهميش والإقصاء الشيعي في اطار صراع الهويات المذهبي بل وانكرها تماما.اما الأحزاب القومية التي تقوم على أساس الهوية الإثنية العربية وتعارض الإنتماءات الطائفية واجنداتها فقد وقعت في تناقض من نوع آخر حيث انتهت الى ان تتماهي مع الهوية السنية وان تجعل منها الهوية المهيمنة على الدولة وثقافة المجتمع، وهو الأمر الذي اوصل مآزق الدولة العراقية الى منتهاه وسهل الغزو الأمريكي الذي اجهز على تلك الدولة تماما.
المهم في الامر، ان الإرتباك لدى التيار الشيعي العام في تحديد هدف جمعي واضح من قيامهم بتفجير وقيادة ثورة العشرين، التي يمكن اعتبارها بكل المقاييس حدثا وطنيا مؤسسا، وخاصة الموقف من قضايا السلطة، والحكم، والمشاركة، وتوزيع الثروة، أنتج بالتالي حالة من القلق الوجودي لدى الشيعة وترك اثرا معطلا في سيرورة الحركة الشيعية التاريخية مستقبلا، وفي علاقتها الإشكالية والملتبسة بالدولة العراقية.لكن الأكيد ايضا هو ان هذه النتيجة ساهمت بتغير السياق التاريخي للدولة العراقية ذاتها وهددت مساراتها كدولة مواطنة جامعة ووضعتها في مآزق وجودي مستدام.لذلك لم يكن الإنحراف تعبيرا عن الإخفاق الشيعي لوحده، وانما بالدرجة الأولى تعبيرا عن فشل مشروع الدولة ذاته وعجز الحركة الوطنية العراقية عن فهم واستيعاب مشكلة الهوية وسياستها المرتبكة.ومن المؤكد ان صعوبات مخاض الدولة وسياق المرحلة التاريخية قد شكلت تعقيدات وتحديات مختلفة اخرى، سواء على المستوى الخارجي او الداخلي.لكن المهم في كل هذا ان عدم الإتساق في قيم وهوية الجماعات الإثنية في العراق مع الهوية الوطنية العامة، الناتج عن عملية انشاء الدولة، ظل قائما بشكل او بآخر، على الرغم من كل الإدعاءات بوحدانية الدولة، وهو ما تأكد من خلال الميل المبكر للخروج والتمرد عند الأكراد واضطراب الهوية الوطنية الشاملة عند الآخرين، وخاصة الجماعتين الرئيستين الشيعية والسنية.
ستبين التطورات في العقود اللاحقة ان فشل الحركة الوطنية العراقية في بناء دولة مؤسسات مدنية وديمقراطية وعادلة وراسخة، من ناحية، واخفاق قيادات الشيعة ونخبها السياسية والاجتماعية والثقافية في بلورة مشروع تحديثي للمكون الأكبر في البلاد، من ناحية ثانية، قد اديا بالنهاية الى وقوع المكون الشيعي في براثن الخطاب المذهبي العقائدي الذي تبلوره المرجعية الدينية، وخاصة المؤسسة الوعظية، وكذلك جماعات واحزاب التشيع السياسي والتي تستمد اهدافها واجندتها من تمثلات تتمحور حول المطالب الرمزية المتعلقة بالهوية وعلى نحو يعكس حالة عدم الإندماج، وتعدد الولاءات داخل المجتمع.ان قمة ما يمكن ان تطرحه اي جماعة إثنية من مطالب هي عادة تلك التي تتعلق بالمظلومية، وهي مطالب تتناول ما هو اكثر من إنعدام العدالة الإجتماعية، والمساواة، الى قضايا تتعلق بطبيعة وابعاد النظام السياسي وهوية الدولة، وكل ما يتعلق بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعمل المؤسسات والسياسات المتبعة.
وفي التشيع تحتل المظلومية موقعا مركزيا حتى ان تاريخ الشيعة نفسه يكاد ينبني على سردية أزلية تتمحور حول الظلم والإستبداد والإضطهاد الذي عانته الجماعة في مختلف بلدانها في ظل السلطة السنية المتوارثة عبر القرون.ولان فكرة المظلومية ترتبط بالعدل الذي اقره التشيع كأصل من أصول الدين، فلابد ان هذا الإرتباط العقدي قديم ويعود الى لحظات الولادة الأولى للعقيدة الشيعية على يد ائمة آل البيت، وليس مجرد بناء خطابي انفعالي يستعيد في كل محطة رحلة الإغتراب الشيعية، كما يرى خصومهم.ومع ان المظلومية تعرضت للتشويه، احيانا، على يد الشيعة انفسهم ممن اعتبرها قرارا الاهيا وثمنا للخلاص الآخروي، اوعلى يد اعدائهم، احيانا اخرى، والذين نظرو اليها باعتبارها عقدة إضطهاد وشعور بالدونية، ترتبط بشعورهم بانهم أقلية متميزة، الا انها بقيت فكرة جوهرية في تأسيس هوية شيعية، بكل رموزها وذاكرتها ومخيالها الجمعي وتطلعاتها، والأهم من كل ذلك في اطارها الحركي.
في الدولة العراقية الحديثة التي فشل الشيعة في بلورة مشروعهم السياسي الخاص بها، سواء للأسباب التي مر ذكرها، او غيرها، فانهم سرعان ما انتكسوا الى إعادة انتاج المظلومية الشيعية، ليس فقط كتعويض نفسي عن إستراتيجية الإخفاق التي توصل اليها قادتهم وممثليهم الدينيون ووجهاء مجتمعاتهم، وانما ايضا كإستراتيجية رفض وتعبئة سياسية للعموم.في العقود الخمسة تقريبا التي سبقت نظام البعث اهتمت المرجعيات الدينية والجمعيات الثقافية الشيعية بإحياء الكلاسيكيات الشيعية التي تتناول العدل وفق المفهوم المتعارف، عليه سواء العدل الإلهي وتجلياته، او في موضوعة اثبات النبوة والإمامة بالعدل.الا ان جهود التعبئة الاكبر هي تلك التي تولاها رجال المنبر الحسيني الذين كانوا المبشرين الأكثر فاعلية في الأوساط الشعبية، مستلهمين في عملهم الإعلامي التعبوي النشط تراجيديا عاشوراء ومأساة استشهاد الامام الحسين باعتبارها اكبر مظلمة تعرض لها الشيعة على مر الزمان.
ساهمت تلك المنابر، سواء في مواكب العزاء الحسينية، او في مجالس الوعظ، وكل طقوسها السحرية، في بلورة وشحذ الوعي السياسي لدى اجيال متتالية من شيعة العراق.ففي رحاب الأضرحة والمزارات الشيعية التي تحتضنها ارض العراق، او في الحسينيات، او التكايا، او في الساحات والشوارع العامة، كان وعاظ المنبر الحسني والشعراء الشعبيون ينشدون قصائد الرثاء بنغمات حزينة وهم يروون مرة تلو الأخرى، تفاصيل قصة مقتل الحسين وافراد عائلته وصحبه في معركة غير متكافئة وسط نياح الآلاف من المحتشدين، حيث تختلط التراتيل الحزينة بالنداءات الخارجة من بين نياط القلوب المكلومة، وغزارة الدموع المسكوبة، على الشهيد الحسين حتى ليبدوا الجميع وكانهم ثكلوا للتو باستشهاده، وليس قبل اكثر من الف عام.
كانت الملحمة التي تروى للحشود والزاخرة بمشاهد وايقاعات تجسد صليل السيوف، وجز الرؤوس، وذبح الأطفال الرضع، وسبي الحرائر، وقطع المياه عن فسطاط الحسين، تجمع بين الفجيعة والتغني بالشجاعة والتعبير عن حرارة الإيمان.بعد رحلة الذوبان في عذابات الحسين وطقوس التطهر وشعائر الانعتاق من الخوف التي تجري مراحلها على مدى اربعين يوما سنويا، يبقى شيء واحد كامنا داخل كل شيعي، وهو التعبير عن المظالم التي تعرض لها الشيعة، والتي تكون قد تجسدت بدماء الحسين وعائلته التي سفكت على ارض كربلاء قبل قرون.الإحساس الدائم بالظلم هو الذي سيبقى يبلور الوجدان الشيعي، والشعائر الحسينية هي التي تجسده عبر استعادة تراجيديا معركة الطف حتى سيصبح “كل يوم (لديهم) عاشوراء وكل ارض (لديهم) كربلاء.”
ان التذكر، او بالاحرى اعادة اكتشاف التاريخ، هو النقطة التي تبدأ من عندها الجماعات الإنسانية اعادة لملمة جراحها وروحها، ووعيها كي تمضي بعدها في السعي نحو التعبير عن وجودها المتجدد.وفي هذا السياق لم تكن التراجيديا الكربلائية رمزا عن مظلومية الشيعة، واعادة سرديتها الى الواجهة فقط، بل كانت مسعى نحو تجاوز الأزمة الشيعية التي خلفتها عملية تأسيس الدولة.اذ لم تمض الهبة الطقوسية السنوية التي تمثلت بشعائر عاشوراء والتي استمرت طيلة عقود بعد تأسيس الدولة الجديدة دون ان تنعكس على الواقع الشيعي من ناحية شحذ الوعي الجمعي بالمظلومة، وبلورة هوية إثنية متماسكة تنحو الى الدفاع عن مصالح الجماعة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، وبلورة مواقف سياسية محددة.كان التعبير الأوضح لذلك الحراك هو تأسيس جمعيات في المراكز السكانية الشيعية الكبرى كالنجف وكربلاء والكاظمية، تنشط في المجال الفكري والثقافي، لكنها تعمل ايضا على بعث الوعي الشيعي بالهوية.اما التطور الأبرز فكان بدء نشوء حركات الإسلام السياسي الشيعية، كحزب الدعوة الإسلامي، كأطر سياسية تنظيمة تظهر لاول مرة وتعبر عن الإندفاع الشيعي نحو العمل القاعدي والجماهيري في الحقل السياسي العام.
ان تاريخ هذه المرحلة، التي استمرت نحو خمسة عقود حتى سقوط نظام البعث عام 2003، بقدر ما يكشف عن استمرار مآزق الدولة العراقية ذاتها، فانه يشي ايضا بالكثير عن الأزمة الشيعية التي اصبحت في تلك الفترة الحافلة بالصراعات الداخلية والإقليمية والدولية اسيرة عقلية الأحزاب والجماعات الدينية التي برزت مستغلة ذات الفراغ السياسي والثقافي والإجتماعي الذي خلفه استنكاف التيار الشيعي العام من بلورة مشروعه الخاص، من ناحية، واستمرار رفض الأنظمة السياسية القائمة على الإقرار بوجود هوية شيعية متميزة في الإطار الوطني ينبغي التعامل معها دون تهميش وتغول.واذا كانت سياسات التجاهل والإقصاء قد عززت من مشاعر المظلومية لدى الشيعة فان هذه الأحزاب ذات الطابع الديني والمذهبي التي تكورت في الشرنقة الطائفية، درجت على إستغلال خطاب المظلومية في التهيج والتعبئة بهدف خلق فضاء مجتمعي وسياسي تستطيع من خلاله ممارسة همينتها على التمثيل الشيعي، على الرغم من انها لم تحظ ابدا بدعم او تأييد الأغلبية الشيعية العراقية.
لقد تجمعت عوامل كثيرة، وعلى رأسها ولادة هذه الحركات في بيئة المدن الدينية الشيعية، كالنجف وكربلاء وعلاقتها، او ارتباطها بعلماء الدين والمرجعات، وغياب برنامج سياسي واجتماعي عابر للطوائف، الى انكفائها على ما كانت تراه مسألة شيعية، وليست مسألة إجتماعية في اطار أزمة وطنية ينبغي حلها في إطار تعددي ديمقراطي.ان ثقافة الغيتو وعقلية القطيع التي انطبعت عليها الأحزاب الدينية الشيعية، اضافة الى عوامل كثيرة اخرى تتعلق بنشأتها، جعلتها تبقى اسيرة لفكرة المظلومية وخطابات التهيج المانوية المرتبطة بها دون السعي الى تجديد الجانب السياسي للمشروع الشيعي ووضعه في مسار حيوي وطني حداثي ديمقراطي، بل اوسع من ذلك من اجل العمل على طرح مشروع شيعي عربي يكون نموذجا لباقي الشيعة في المنطقة من خلال الاندماج والعمل في اطار الدولة الوطنية العربية.
كانت الجماعات الشيعية الإسلامية التي لجأت الى المنفى بعد حملات التنكيل التي مارسها نظام البعث قد انتقلت الى مرحلة العمل السياسي المعارض والى النضال المسلح احيانا مستثمرة الجاليات الشيعية العراقية في الخارج ويد العون التي امتدت اليها من الدول والأنظمة المعادية لنظام صدام.وفي المرحلة التي اعقبت هزيمة النظام في حرب الخليج وتصاعد احتمال سقوطه انتقلت هذه الجماعات الى حالة الإستعداد لتسلم زمام قيادة الدولة العراقية بعد عام 2003 وهي لاتزال محملة بذلك التراث الماضوي، وبما استجد لها من تجربة المنفى، ومن تجربة الثورة الإسلامية في ايران والأيديولوجية وبرنامج العمل اللذان صاغهما لها الامام روح الله الخميني.وبسبب تعقيدات المرحلة، وخاصة الحرب العراقية الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، ومن ثم الغزو الأمريكي فقد واجه الشيعة العراقيون محنا جديدة تتعلق بخياراتهم ازاء كل هذه الأزمات الوطنية، التي وضعت الدولة العراقية ذاتها في مواجة تحديات وجودية.وفي الوقت الذي بقي التيار الشيعي العام محافظا على خياراته الوطنية، وعلى رأسها مشاركة الأغلبية العراقية في رفض دكتاتورية صدام والتوق الى تغير يأتي بنظام ديمقراطي، فقد اختارت المعارضة الشيعية المتمثلة بالجماعات الدينية موقف اسقاط النظام بأي ثمن، ورأت ان اية محاولة خارجية للوصل الى هذا الهدف، هي فرصتها الوحيدة في الوصول الى السلطة.
لا يوجد الكثير في ادبيات الأحزاب والجماعات الإسلامية الشيعية التي تولت مقاليد السلطة بعد الغزو ما يشير الى انها كانت تمتلك مشروعا فكريا، او سياسيا، او رؤية نيرة، او انها وضعت برنامج عمل للحكم ولإدارة الدولة على الرغم من انها سعت بكل الوسائل الممكنة لكي تكون في قيادة عمل المعارضة لاسقاط نظام صدام حسين بعد غزو الكويت عام 1990.لم يكن هم قادة هذه الحركات الا تضمين الوثائق الإساسية للتحالفات السياسية التي اقامتها ما يؤكد على كون الشيعة اغلبية وجعل هذا قاعدة اساسية لترتيبات الحكم في النظام القادم.كان هذا الإصرار الذي ترسخ بشكل كامل في الإتفاقيات التي عقدت بين اطراف المعارضة في المؤتمرات واللقاءات التي جرت عشية الغزو الأمريكي في ربيع عام 2003 قد حسم القرار لدى الجماعات الشيعية بانها لن تكرر تجربة عام 1921 وان ادارة دفة النظام الجديد ستكون بيد قيادة شيعية، وان الشيعة سيمارسون دورهم بإعتبارهم الأغلبية السكانية والسياسية في البلاد.ان غياب رؤية واضحة وإستراتيجية بناءة لإعادة بناء الدولة لدى الجماعات الشيعية المعارضة وتولي هذه الجماعات الإسلامية الشيعية المحافظة مسؤولية التمثيل الشيعي حصرا قد حددا منذ البداية الأفق الذي سيسير على هديه المشروع الشيعي القادم والذي سوف يكون منغلقا مذهبيا، ان لم يكن طائفيا بالضرورة.
من البديهي ان الجماعات الشيعية التي حلت على كراسي السلطة بعد الغزو لم تكن تأمل بان تقيم دولة شيعية في العراق، او ان تنفرد بمسؤولية الحكم فيه، فتلك كانت توقعات او أماني ساذجة، حتى لو انها راودت مخيلة البعض من القيادات الشيعية.لقد كانت تلك مهمة مستحيلة لأسباب موضوعية عديدة على رأسها التنوع والتعددية الإثنية السائدة في العراق والجذور القوية لهوية هذه الجماعات، مثل القوميات العربية والكردية والتركمانية او المقاومة الشديدة المتوقعة من الكتلة السنية التي كانت ستواجه اي مشروع شيعي من هذا النوع بقوة.ومع هذا فان الصيغة التوافقية التي خرج بها مخططو الإحتلال ومنفذي مشروعه، وخاصة الوثيقة الدستورية التي قامت على اساسها الدولة الجديدة، اتاحت للجماعات الشيعية الحاكمة ان تمارس حرية شبه مطلقة، وخاصة من خلال السلطة التفيذية التي امتلكتها، والسلطة التشريعية التي سيطرت عليها باسم الأغلبية، وايضا من خلال الهيمنة على المجال العام، بان تفرض وجهة نظرها واجندتها على العملية السياسية الجارية بطريقة إقصائية وتهمشية لكل الأطراف الاخرى، وبضمنها الشيعية التي لا تلتقي معها في النهج والفكر، بما مكنها من فرض قيام حالة اشبه بالدولة الشيعية، لكن مع غير اعلان.
في دولة ما بعد الغزو الأمريكي أصبح الإسلاميون الشيعة الذين انتقلوا من دائرة المعارضة المقموعة إلى منصة الحكم، وإدارة شؤون الدولة اللاعبين الأساسيين في تقرير مسار هذه الدولة.وعلى الرغم من انهم تمكنوا من تحقيق ذلك من خلال المنافحة باسم الأغلبية العددية للشيعة، الا انهم في الواقع اصروا على احتكار التمثيل الشيعي وقاموا بإقصاء الشيعة الآخرين من كل التيارات السياسية والإجتماعية المتبقية.صحيح انه كان هناك دستور يؤكد على بناء دولة مؤسسات منتخبة ديمقراطية ويتيح الفرصة للمشاركة العامة، الا ان التطبيق العملي اقترن بممارسة هذه الأحزاب فلسفتها المبنية على الإسلام السياسي وعلى توجهاتها المذهبية منفردة.هذه الحالة خلقت تناقضا بين العملية السياسية القائمة على تلك المبادئ الدستورية وبين تقية الجماعات الشيعية الحاكمة التي كانت تمارس ما تؤمن به في داخلها، وهي ان الأولوية هي للشرع الإلهي الذي يفسره المرجع الديني، وليس الى مواد العقد الاجتماعي، أي الدستور، الذي صاغته ووقعت عليه مستغلة موادا حمالة للاوجه حرصت على وضعها في الوثيقة الدستورية تأكيدا لهويتها العقائدية واجندتها المذهبية.
كانت الوسيلة المثلى للتمكن من السلطة، هو العودة من جديد الى خطاب المظلومية، حيث تستطيع الجماعات الشيعية من خلال ذلك المطالبة بحقوق الشيعة المهضومة وتحشيد الجماهير الشيعية وراء شعار إستحصال العدالة التي غابت عنهم عقودا طويلة.وفي سبيل ذلك، نجحت الأحزاب الشيعية، على المستوى السياسي، في تثبيت مفهوم حق الأغلبية في حكم الأقلية، كقاعدة للعملية السياسية في حين طرحته على المستوى الشعبي كأيديولوجية، او فلسفة، سياسية لدغدغة عواطف الجماهير الشيعية وكسب ودها وتأييدها لتحييد، او اضعاف، حجة القوى المضادة.وفي استذكار لما حدث في ثورة العشرين وتفادي النتائج التي تحققت في هيمنة السنة فقد حولت الجماعات الشيعية المظلومية الى إستراتيجية عمل سياسية، وليس فقط مجرد سلم للوصول الى السلطة، مستعينة بسرديات الماضيين البعيد والقريب.ما حصل بعد ذلك ان الحركات الشيعية استبعدت فكرة إعادة بناء العراق كدولة مواطنة مدنية ديمقراطية على انقاض دولة صدام الشمولية وشرعت ترسي اساس دولة محاصصة طائفية اصبحت هي فيها المتولي العام الذي يوزع الثروة والسلطة وفق هواها وتوجهاتها، ولمن تباركه من العراقيين.كانت الجماعات الإسلامية الشيعية قد نصبت نفسها الممثل الوحيد للشيعة، وبذلك اصبحت قائدة الأغلبية وحسمت امرها بانها لن تترك السلطة تهرب من بين ايديها حتى انها بدأت تجهر ودون مورابة بشعار “اخذناها وماننطيها”، اي اننا اخذنا السلطة ولن نرجعها.
وذهبت الحركات الشيعية السياسية اكثر من ذلك لتجعل استلامها للحكم نقطة إنطلاق لإقامة سلطة ثيوقراطية تستولي على الفضاء الإجتماعي العام اولا، وبعد ذلك الدولة ذاتها.فمثلها مثل حركات الإسلام السياسي السنية فقد كان رهان الحركات الشيعية على الحكم رهان أساسي وإستراتيجي في تحقيق مشروعها الاسلامي للحكم.وبدلا من حسن البنا وحسن الترابي وغيرهم من اقطاب الإسلام السياسي السني غرفت الحركات الشيعية من معين الخميني ومحمد باقر الصدر اللذين وضعا لها منهجا وخارطة طريق وخطة عمل وجعلا في مقدمة الأهداف الوصول إلى السلطة.واذا كانت هذه الحركات تفتقد الى برنامج وطني لبناء الدولة، الا انها لم تفتقد التخطيط والاستعداد للقفز على السلطة والاستيلاء على الحكم والدولة.فمنذ ايام عملها في صفوف المعارضة كانت الفكرة الجوهرية التي تقود عملها تعتمد على انها ستبني النظام الذي سيرث نظام صدام حسين وملكه، مصداقا بنظرهم للآية القرأنية (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ -5 القصص) والتي تكررت كثيرا في كتابات الخميني واقواله، كما اصبحت شعارا لحركات المستضعفين الشيعة.وبدلا من العمل على ضمان تطبيق الدستور الذي احتوى، رغم عيوبه، على مبادئ ديمقراطية، الا ان الجماعات الشيعية الحاكمة اقامت نظاما للحكم قائما على التقية يستند الى حجج متخيلة بانها تأخذ شرعيتها من شرعية الحكم الإسلامي المستمد من مبدأ الإمامة الشيعية.صحيح انها لم تدع بانها مدعمة باسانيد دستورية وقانونية، لانها لم تكن فعلا كذلك، الا انها تحججت دائما، كما ظل قادتها يرددون، بالتكليف الشرعي، اي واجبهم الديني كما تحدده المرجعية، وسعت الى ممارستها كلما اتيحت لها الفرصة، وخاصة في المجال الإجتماعي العام في الوسط الشيعي الشعبي الذي ظلت تحتكره.
كانت النتيجة المتحققة على مستوى اعادة بناء النظام السياسي لما بعد صدام هو غياب اي التزام حقيقي بالديمقراطية من جانب الجماعات الشيعية الحاكمة، ولا حتى بالمقاسات الضيقة للديمقراطية التوافقية التي اختطها الدستور.ان موقف الإسلاميين بكل اطيافهم مع الديمقراطية معروف وتم اختباره مرات عديدة، وهو ان الأساليب الديمقراطية، وخاصة الإنتخابات، هي مجرد سلم يجري استخدامه للوصول الى السلطة ثم رفسه بعيدا بعد ذلك.في حين ان الديمقراطية هي ناموس شامل للحياة تقوم على اساس المواطنة وحقوق وحرية الفرد وسيادة دولة القانون، وهو ما يمكن ان يتم فقط في إطار دولة مدنية.لم تصدر الحركات الشيعية التي هيمنت على الدولة وعلى الحياة السياسية اية وثيقة تتعلق بوجهة نظرها بشأن الديمقراطية، حتى ولو في اطار ما يسمى بالديمقرطية الإسلامية، اسوة بحركات سنية إسلامية عديدة، بل كاد الكلام عن الديمقراطية يختفي الا في مناسبتين تتكرران دائما الأولى هي اثناء موسم الإنتخابات النيابية والمحلية والمضمونة النتائج بحكم الأغلبية، والثانية في الرد على المنتقدين للإقصاء والتهميش اللذان تمارسهما ضد الآخرين من خلال الادعاء بانها جاءت عن طريق صناديق الاقتراع.
واذا كانت الديمقراطية قد غابت باسسها التقليدية المعروفة، كما في روحها، في النظام الجديد مما يجعل من الصعب الحديث عن نظام ديمقراطي، او حتى حكم رشيد، كما ظلت تتشدق الجماعات الحاكمة والرعاة الأمريكان، فان غياب العدالة كان السمة الأخرى الأبرز في ممارسات هذا النظام.ان ما يعنيه غياب العدالة في تجربة نظام هيمنت عليه وادارته الجماعات التي حملتها للحكم دعاوي المظلومية التاريخية يعني على وجه التحديد انها جاءت بنقيض ما كانت تدعيه خلال كل تلك السنين من اتهام الخصوم بالظلم والإستبداد.كان منتظرا من الأحزاب الشيعية التي هيمنت على كراسي السلطة ان تقدم رؤيتها للعدالة الإجتماعية، ومشروعها التنفيذي في التطبيق العملي في قضايا السلطة والمشاركة في الثروة، ابتداء من طرح برنامج للحكم يضمن الحقوق الأساسية، وعلى رأسها حق المواطنة والحريات، وانتهاء بتوزيع الدخل والموارد وإستخدام الثورة الطبيعية وتوزيع فرص التعليم والوظيفة العامة.فبعد ان وصلت الجماعات الشيعية الى الحكم لم يعد مقبولا ان يقتصر مفهومها للعدالة على العدل الإلهي وارتباط ذلك بالإمامة تحديداً، دون ان يتناول العدل الإجتماعي كمفهوم اخلاقي وقانوني وسياسي، بما يتماشى مع السياق الجديد في العراق ومع روح العصر.كان المطلوب من الأحزاب الشيعية ان تقدم مفاهيم مبتكرة وبارعة عن العدالة لا تتخطى بها فقط المفاهيم الشيعية التقليدية عن غصب السلطة والإستبداد الذي مورس عليهم الى رحاب تأسيس نظام مشروع يمارس سلطة شرعية في اطار دولة مواطنة مدنية.
كان من المتوقع ان يرتب مبدأ العدل العلوي على الجماعات الشيعية التي استولت على السلطة مسؤولية وضع تلك المبادئ السامية كما وردت في الادبيات الشيعية الكلاسيكية عن التجربة العلوية، اي الدولة التي قادها الامام علي بن ابي طالب، ومن صلب مبادئه وقيمه التي ارساها في اقواله وفي افعاله.لكن الذي تم فعلا هو استحضار التجربة العلوية على مستوى الخطاب العام بهدف إضفاء شرعية شيعية على النظام الجديد الذي اقاموه واسباغ طابع القداسة عليه، دون نظرية عمل سياسية تكون الترسانة التي توفر قاعدة أخلاقية لحكم راشد وعادل.
وعلى اساس هذه المسطرة المستمدة من التجربة العلوية التي حملوها شعارا ينبغي دراسة وتحليل تجربة الجماعات الشيعية في حكم العراق لرؤية مدى مطابقة تلك التجربة مع عدل الإمامة الذي يقف في صف واحد في اصول الاسلام الى جانب التوحيد والنبوة.ان كل المعطيات التي توفرت قبل الغزو الأمريكي وبعده بينت ان هدف حركات الإسلام السياسي الشيعية كان التمكين من رأس السلطة بحد ذاته ومن ثم السعي للبقاء هناك بالاستناد الى الشرعية التي ستحصل عليها من تمثيلها للأغلبية..لكنها تجاهلت ان قضية الحكم ومشروعيته تتجاوز مسألة إستيفاء شرط الحصول على السلطة بطريقة شرعية الى ان تقوم بممارستها فعليا بصورة شرعية، اي الا تكون مستبدة، او عاجزة، او فاسدة اوغير كفؤة.وحتى في المفاهيم المدنية فان الشرعية تبقى مرتبطة بمدى قدرة النظام السياسي على الإنجاز وعلى القيادة الحكيمة وعلى كسب ثقة واعتراف الناس به والحفاظ عليها ايضا، مما يجعلها في مصاف ضرب من ضروب العقد الإجتماعي بين الحاكم والمحكوم، يلتزم به او ينقض من احد الطرفين في اي وقت من الأوقات.
ولذلك فان حساب هذه الجماعات لابد ان يكون اكثر صرامة بحكم الشعارات العقائدية التي رفعتها والوعود التي قطعتها بعد ان انتقلت من حقل المعارضة الى ميدان العمل الفعلي ومن الأحتجاج بالمظلومية الى الممارسة العملية وتصديهم للمسؤولية في تطبيق العدالة الإمامية.صحيح ان الجماعات الشيعية في عراق ما بعد الغزو لم ترفع شعار الدولة الإسلامية، او تدعي تطبيقها للإحكام الشرعية الإسلامية، سواء وفق مفهوم ولاية الفقيه، سواء الولاية الكبرى او الصغرى، لكنها اكدت دائما التزامها الإسلامي على نهج الإمامة.فهل نجحت، او بالأحرى سعت، هذه الجماعات الشيعية في اتباع هذا المنهج بعد وصولها الى سدة السلطة، والى مواقع صنع القرار ولم يعودوا في موقع الضحية، وانما في موقع الحاكم الماسك بمفاتيح السلطة والثروة؟
ان كل شيعي يعرف ويكاد يحفظ عن ظهر قلب خصائص الحكم العلوي والتي تتقدمها ان الحاكم، بل الانسان المسلم، مكلف بإقامة العدل والدفاع عن المحرومين والمظلومين ومعاداة الظالمين، كما جاء في وصية علي بن ابي طالب لولديه الحسن والحسين “كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.”لقد رسخ الإسلام العلوي العدالة باعتبارها عدالة شاملة حقوقية واجتماعية وسياسية وجعلها تكليفا يقوم على الإيمان العميق وعلى قوة الضمير الإنساني من اجل ارساء قواعد لإقامة مجتمع بشري سليم ومتناغم ومتوازن ومتعاون، مثلما جاء بكتاب توليته مصر لمالك الأشتر.ولم يجعل الإسلام العلوي العدالة صنوا للحرية وللكرامة فقط، وانما شدد على ضرورة ان يكون هدف السلطة هو تحقيق العدل المطلق، كما جاء على لسانه ايضا لابن عباس عن عدم شغفه بها (السلطة) “الا ان اقيم حقا، او ادفع باطلاً.”
فهل بعد كل ذلك هل يمكن القول ان الجماعات الشيعية العراقية اقامت دولة العدل كما رأها علي بن ابي طالب ونافح عنها الشيعة طيلة اربعة عشر قرنا، ام انهم اختاروا حكم الطغمة التي افترست الدولة ووضعتها في خدمة مصالحها الذاتية الأنانية، وبذلك يكونوا قد سقطوا في امتحان قيادة العراق التي انتظروها ثمانين عاما واسقطوا معهم التجربة الشيعية في الحكم في عقر دار التشيع التاريخي.الجواب على هذا السؤال يأتي من وقائع ما وصلت اليه الدولة التي قادها الشيعة خلال عقد ونصف حيث اقامت جماعات إسلامية سياسية شيعية نظاما اوليغاركيا حكموا فيه باسم الأغلبية وتحت لواء المظلومية لكنه ظل بعيدا عن تحقيق الأمل الشيعي بالعدالة الذي ظل حبيسا، اما في ارفف كتب التراث او في الصدور التواقة.فبعد خمسة عشر عاما من الإحتلال الامريكي للعراق اكتشفت الأغلبية الشيعية العراقية حجم الخديعة التي تعرضت لها حيث اصبحت الأكثر فقرا، وحيث مدنها وقراها هي الأكثر تخلفا، وتعاني من نقص، او انعدام، الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم في حين كانت قيادات الجماعات التي تحكم باسمهم تتحول الى طغم فاسدة مصابة بإنهيار الضمير اقامت دولة هي الاكثر فسادا في العالم.
حقا ان عوامل عديدة لعبت دورها في تدمير فرص نهوض العراق من ويلات الحروب والغزوات والديكتاتوريات بعد عام 2003 لكن الفصائل الشيعية التي اصرت على ان تتولى قيادة مشروع التغير تتحمل المسوؤلية الكبرى في ما حل بالعراق من كوارث ونكبات.لم تكن التجربة السياسية الشيعية نموذجاً في فشل قيادة مشروع إعادة بناء الدولة وإخفاق عملية التحول الوطني الديمقرطي فقط، وانما مثلت ايضا قمة العجز في بناء مشروع شيعي يلبي مصالح وآمال الشيعة في إطار الدولة الوطنية العراقية ويتلائم في الوقت نفسه مع تطلعات باقي الشيعة في المنطقة العربية وحاجات دولها الوطنية.لم توجه الجماعات الشيعية العملية السياسية التي انطلقت بعد الغزو الأمريكي فقط بالإتجاه الخاطئ ولكنها، ارتكبت ايضا خيانة اكيدة للمشروع العلوي ذاته الذي ادعت تمثيله ولتطلعات الشيعة في رد المظالم التاريخية التي تعرضوا لها.ان خير ما يعبر عن هذه الخيانة هو تضليل الشيعة بمشروع من نسج خيال عقول مريضة انتج هذا الكم الهائل من الفساد الذي مارسته قيادات تلك الجماعات والذي سجل مستويات ووقائع لا مثيل لها في التاريخ.
لقد لطخ الفساد المستشري في العراق اسم التشيع وكل ما كان يمثله في ضمائر اتباعه من عدالة وانصاف وحقوق للجميع، الا انه ذهب ابعد من ذلك حيث نخر عميقا في جسد العراق ربما اكثر بكثير مما فعل به خصومهم.ان السبب الأساسي لشيوع الفساد على هذا الوجه المدمر هو الجشع الذي مارسته الزمر الحاكمة من محرومي الأمس التي بدلا من ان تظهر قدرا من التسامح والصفح والتعالي على الأحقاد والضغائن والصغائر لجأت الى الحصول على منافع إستثنائية والإدعاء بمطالب غير شرعية، محاولة الإستفادة القصوى من السلطة والثروة التي سقطت بأيدها واعتبرتها ميراثا مباحا، وليس عهدا للإستصلاح والعمارة، كما رأها وسعى لها علي بن ابي طالب.
في فصول الكتاب القادمة سأستعرض وقائع تاريخ مرحلة كاملة مر بها العراق تحت قيادة جماعات الإسلام السياسي الشيعي، ساد فيها نموذج للحكم، كان بالمعنى الإقتصادي الإجتماعي نمطا جديدا كليا من تلك الأنظمة التي شهدتها البشرية عبر تاريخها وهو النمط الذي يمكن تسميته بـ”نمط الإنتاج النهبوي” مقارنة بأنماط اخرى ظهرت تاريخيا في ما كان يدعى بالعالم الثالث تم التنظير لها من قبل مدراس فكرية كـ”النمط الأسيوي” او “النمط الخراجي” او “النمط الأوليغاركي”.وسيتضح ان تلك الجماعات الشيعية العراقية التي راهن عليها كثيرون في مراكز الأبحاث واتخاذ القرار، وخاصة الآمريكية، غداة غزوة بن لادن والقاعدة لمانهاتن في نيويورك في 11 ايلول (سبتمبر) عام 2002، وعشية غزو العراق انها ستكون الوجه الناصع للإسلام لمواجهة التطرف والارهاب قد قدمت نموذجا تافها في الحكم ادخل العراق في دوامات من العجز والفشل والتدمير الذاتي.