خصوصية النموذج المصري

خصوصية النموذج المصري
بقلم: صلاح النصراوى
جادلت في مقال سابق علي هذه الصفحة أن الثورة المصرية ماضية في طريقها رغم ما يحيط بها من صعاب‏,‏الاهرام 14 يوليو 2012
وأنها شأنها شأن باقي الثورات في العالم تصنع قوانينها الخاصة بما يلائم المرحلة التاريخية التي تمر بها مصر وأنها ستنتج بالتالي نموذجها الخاص في التطور الديمقراطي بعيدا عن النماذج التي عادة ما تقارن بها, خاصة التركي والباكستاني والاندونيسي والجزائري والإيراني, لعلاقة هذه النماذج بمتغيرين اساسيين, هما الجيش والإسلاميون.
اليوم ومع فوز المرشح الاسلامي الدكتور محمد مرسي وكل ما أحيط بالانتخابات الرئاسية من جدل سياسي ودستوري ومن سجالات عاطفية متعلقة بالآمال والتوقعات, او بالمخاوف وخيبات الرجاء, تثبت الثورة المصرية بما هي من حركة تغير وتطوير واصلاح, أنها سائرة فعلا باتجاه صنع نموذجها الخاص في عملية التحول الديمقراطي, مثلما كانت هي ذاتها مثالا مميزا في انتفاضات الربيع العربي.
أدرك أنه قد لايكون مثيرا القول إن هناك نموذجا مصريا يتبلور خلال المرحلة الانتقالية, إذ إن الأهم من ذلك هو البرهنة علي أن هذا النموذج فاعل وقادر علي التحول الي دينامية تغير صارخة نحو الديمقراطية. ذلك ما ستثبته التجربة طبعا خلال الأسابيع والأشهر والسنوات القادمة, غير أن من غير المجازفة في هذه المرحلة القول إن ملامح النموذج المصري في عملية التحول الديمقراطي تكاد تتكون ولعلها تتمحور علي ما يلي:
أولا: أثبتت الدولة المصرية بأعمدتها الرئيسية وهي الجيش والقوات الامنية والجهاز الاداري ونخبها الاجتماعية والاقتصادية خلال مواجهة تحديات الفترة الماضية انها اشد صلابة وتماسكا من ان يهوي بها اي تنظيم سياسي مهما يكن حجمه وجذوره الاجتماعية وعقيدته.ان طاقة الدولة وقوتها تكمن في ثلاثة عناصر رئيسية وهي الاطار المؤسسي واطار القيم والقدرات البشرية والفكرية, وهي أطر تفاعلت بالشكل الذي حافظ علي صلابة الدولة, كما تجلي خاصة في ممارسات مؤسستي القضاء والاعلام, ولكن دون المغامرة بمحاولة كسر ارداة الثورة وسحقها.
ثانيا: برهن الشعب المصري, وبالرغم من الانقسامات المجتمعية, خاصة خلال جولتي انتخابات الرئاسة, انه علي درجة عالية من الوعي والمشاركة الايجابية ومتحسس للاخطار التي كانت تحيق به.اكثر تجليات ذلك جاءت من خلال التشبث بصناديق الاقتراع التي تمكنت خلال اربع جولات وعلي مدار عام ونصف العام من تصحيح المسار كلما اختل بفعل اخطاء المرحلة الانتقالية.ان المعادلة الرقمية التي بلغت اقصي نتائجها في المشاركة الشعبية الهائلة في جولة انتخابات الاعادة الرئاسية تشي بان الكثير من قواعد السياسة يعاد اكتشافها في مصر, وفي مقدمتها تلك التي تقول ان الانسان حيوان سياسي بطبعه.
ثالثا:برهن المصريون المسلمون بشكل جلي ماكان يقال دائما عن وسطية التدين الاسلامي في مصر, وذلك من خلال تصويت غالبيتهم علي اساس المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدفاع عن نمط الحياة الاجتماعية السائد اكثر من تصويتهم علي البرامج ذات الطبيعة العقائدية.وفي ذات الوقت برهن المسيحيون من خلال انخراطهم الكثيف الواعي ان قوتهم التصويتية لم تكن اقل قيمة حين سعت الي ترجيح خيارهم مما ساعد علي تشكيل كتلة انتخابية ضخمة سوف ينظر اليها بجدية فائقة من قبل كل الاطراف في المستقبل.وفي حين لا يجب التقليل من اهمية المخاوف الا ان النتيجة المنطقية تقول ان الانتخابات الرئاسية الاشد استقطابا اثبتت ان هناك فرصة ضئيلة في ان يكسب مشروع حكم اسلامي تأييدا كاسحا من التيار الوطني العام علي حساب الدولة المدنية.
رابعا: توصل مكونات الدولة والقوي المجتمعية الي إدراك حجم قدرات والوزن السياسي لكل منها بعد ان اختبرتها في صراع دام اكثر من عام ونصف العام انتج نوعا من توازن القوي في المجتمع.ان الدرس النابع من كون عملية حل النزاعات هي عملية تراكمية علي عدة مستويات, وان القبول بالخصم باعتباره حقيقة لا جدال فيها, والاعتراف المتبادل في اطار قانوني, والتفاعل مع الآخر علي اساس متكافئ في المكانة والشراكة في مناخ ما بعد الازمة وفق اهداف محددة, كلها دروس من الواضح انها بدأت تفعل فعلها في عملية التعلم ثلاثية الابعاد التي اضلاعها الدولة والاسلاميون والمدنيون وسط مراقبة شعبية متحمسة.
خامسا:نجحت القوي المدنية وعلي الرغم من كل ما يقال عن ادائها الضعيف في ان تجد لها موقعا في العملية الجارية.اذ لولا الضغوط التي مارستها علي الاطراف الرئيسية, ومن بينها المليونيات, لما كان بالإمكان الوصول الي هذه النتيجة المتعادلة.لقد اتضح ان المخاوف التي عبرت عنها هذه القوي بشأن العسكرة او الاخونة اعطت ايضا فرصة للامل بان تفسح المجال للمنتظرين ان ينضموا للعملية في وقت لاحق.ما هو واضح ان بعض هذه القوي بدأت في مرحلة ما بعد الازمة النظر الي نفسها ليس باعتبارهم ضحايا وانما صناع واقع جديد في اطار الشراكة ووفق اهداف محددة وآليات توافقية وهي خطوة اذا ما نجحت, وخاصة في عملية كتابة الدستور, فستدعم مسار النموذج المصري المنشود.
سادسا: كشفت التجربة المصرية عن ان عوامل جيوسياسية وجيواستراتيجية تفاعلت كثيرا مع الحالة المصرية سابقا لعبت دورها ايضا في بلورة اتجاه النموذج المصري.واذا كانت بعض هذه العوامل تعود الي الموقع والدور وشبكة علاقات المصالح السياسية والاقتصادية التي نسجتها مصر الدولة في اطار العولمة, فان الاستراتيجيات الدولية النافذة لم تكن بعيدة عن ذلك سواء من خلال الرسائل التي عبرت عنها او الضغوط التي مورست, مهما تكن دوافعها, سواء الحفاظ علي الاستقرار في المنطقة, او التجربة التي ينوي العالم خوضها مع الحالة الاسلامية المصرية الجديدة.
هل يعني كل هذا ان النموذج المصري يقام علي اساس صفقة تاريخية؟ اذا كان ما يجري هو البحث عن حلول وسط وقواسم مشتركة ومصالحة التوقعات المتباينة في اطار من التراضي والثقة لاعادة البناء الوطني, فمن المؤكد انها ستكون في نظر الاغلبية, ان لم يكن الجميع صفقة رابحة.المهم ألا تكون الصفقة, او حتي التوجه المكثف للتوافق, وسيلة لحرف واخراج الخيارات الكبري والمشروعة للثورة عن مسارها.بامكان المصريين ان يقدموا نموذجهم بعد ذلك الي العرب اولا باعتباره ثمار الثورة الي شقت جدار الاستثناء
العربي, والي العالم كي يقف في مصاف نماذجه الاكثر نجاحا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *