صفوة القول

                                                                                                صفوة القول

                  مختارات من أراء وقضايا

                                               صلاح النصراوي

تقديم

خلال نحو خمسين عاماً سطرتُ آلافَ المقالات باللغتين العربية والانكليزية كتبتها في صحف ومجلات شتى داخل العراق وخارجه لم تتح لي الفرصة كي اضمها في أرشيف واحد.كانت الصحافة يوم بدأت وحتى سنين طويلة بعدها ورقية، ولم يكن ثمة فرصة لجمع كل ذلك الورق وتكديسه في تلك الظروف التي عشتها.ما جمعته في العراق تبخر الكثير منه مع المكتبات المنزلية التي تعرضت لصولات الزمان، الا ان الجزء الاعظم منه اختفى من بيتي الذي استولت عليه العصابات الارهابية بعد الغزو الامريكي عام 2003 وسرقت كل موجوداته ولم اعرف لحد الان المصير الذي آلت اليه أوراقي ووثائقي.وفي عهد الصحافة الالكترونية لم يسعفني الحظ، او الوقت، كي اضم مقالاتي في أرشيف موحد فقد اختفى، او توقف العمل بارشيف الصحف التي كنت اكتب فيها واصبح من غير الممكن الوصول الى تلك المقالات الا عبر طرف ثالث كان قد اعاد نشرها.وكان مصير معظم ما نشرته من تقاريري الصحفية على وكالة الانباء العالمية التي عملت بها نحو ربع قرن هو ذاته حيث لم ينج معظمها ايضاً من الضياع في دهاليز العالم الالكتروني الرحب الذي كان يفترض به الان ان يصبح ذاكرة البشرية وارشيفها.

ربما قد يعتقد البعض ان معظم الاعمال الصحفية هي مجرد كتابات يومية وعابرة ولا تستحق ان يضمها أرشيف، الا ان هذا الرأي تفنده التجربة الانسانية الحديثة منذ ان اصبحت الصحافة، اضافة الى وظائفها الاخرى، ذاكرة البشر وسجل وقائع ما يجري حولهم من اشياء في عالمنا الحديث حيث اخذ الباحثون ينظرون الى الكتابات الصحفية الجادة باعتبارها المادة الاولية للتاريخ، بل ربما هي التاريخ ذاته يكتبه صحفيون ويصوره مصورون في لحظة صنعه وليس بعد سنين كما يفعل المؤرخون.لم يقتصر الأمر على انها اصبحت توفر المادة الخام لكتابة التاريخ، بل استطاعت الصحافة بمختلف فنونها ان تخرج التاريخ من اروقة الجامعات والمراكز الاكاديمية الى اهتمامات رجل الشارع العادي الذي اصبح يستشهد بالاذاعة والتلفزيون والصحيفة في سرد الروايات وفهم مجرياتها وتحليل مضامينها.

هذه الباقة من المقالات التي كتبتها على مدى ثلاثين عاماً هي جزء يسير مما استطعت الوصول اليه في الشبكة العنكبوتية والتي تضم مساهمات في النقاش بشأن قضايا عراقية وعربية وقررت ان اجمعها هنا قبل ان تختفي هي ايضا من الوجود.القضايا العراقية تغطي فترتي ما قبل الغزو الامريكي للعراق عام 2003 وما بعده وهي تحاول ان تقدم اراء واستنتاجات وتحليلات عن فترة اكثر من عقدين من الزمن، ربما كانت من اكثر الفترات التي عاشها العراق صخباً واضطرابا في عصره الحديث.اما المقالات عن الشأن العربي فهي نماذج قليلة مما تيسر لي العثور عليه من كتاباتي  المتوفرة في العالم السبراني والتي ربما تناولت بعض ابرز القضايا التي واجهتها منطقتنا العربية والتي تمكنت ان ادلو بدلوي فيها من زاوية رؤيتي للامور واطلاعي على الاوضاع التي عشتها وعايشتها.

المقالات المختارة تتحدث عن نفسها وعن السياق التاريخي الذي كتبت به، لكنها مثل أية كتابات تكشف بالتأكيد عن منابع تكوين الكاتب الفكرية والسياسية والثقافية والخيارات المتاحة امامه وقت الكتابة، لكنها رغم التزامها خطاً عاماً مستقيماً في المواقف التي تعبر عنها، الا انها لاتخفي مراجعات ايجابية، كلما تطلب الأمر ذلك.هذا الأمر كان سيتضح اكثر لو توفرت للقارئ كامل الكتابات بحيث تقدم له لا صور يكاد يطمسها الزمن والاحداث المتلاحقة، بل وايضا وعيها في زمانها.هناك مقالات متوفرة ورقياً، او مستتسخة، ولم اجد ان من الممكن ان اضيفها هنا لانها ستحتاج الى اعادة تصويرها ونشرها مما قد لا ينسجم تقنياً مع فكرة اصدار هذا الكتاب بالوسيلة الكترونية كما نويت عليه وربما سأجد طريقة ما الى نشرها في المستقبل.

وبعد، يبقى الهدف الآخير من نشر هذه الصفوة من الكتابات هو ان توفر مساحة، ولو صغيرة، في الارشيف العام علها تكون ذات فائدة في شحذ الوعي عند الأجيال الجديدة التي فاتتها تطورات تلك المرحلة التي كتبت بها واقتحاماتها وصراعاتها وانتكاساتها، وربما انتصاراتها ايضا، وما خلفته من ركام ومن زهو، واكتشاف جوانب خفية، او جديدة، ربما فاتت على الأجيال التي انقرضت، او هي على وشك، وتساعد ان تجلي ما انطمس من لمحات وافكار ورؤى.اما من لن يجد فيها شيئأ يغريه بالقراءة، فعذري كما هو دائماً، اني لم اكتب لارضي او لأغضب احداً، ولكني اجتهدت فاصبت واخطأت ولم اطلب عن ذلك اجرأ ولست بقادر ايضا على دفعه.

              مشروع بديل ديموقراطي أم

“وجبة سياسية سريعة” على الطريقة الاميركية ؟ 

فجر الحادي والثلاثين من آب اغسطس 1996 فوجئ سكان محلة عين كاوة في أربيل بالاميركيين الستة الذين يسكنون في المنزل الرقم 23/7، الذين طالما تساءل جيرانهم عن طبيعة مهمتهم الغامضة، يهرعرون تحت جنح الظلام الذي بدأ يتبدد فوق سماء مدينتهم، الى سيارة “التويوتا لاندكروز” البيضاء التي كانت تنتظرهم وسرعان ما أخذت تنهب بهم أرض الشارع العريض القريب في اتجاه صلاح الدين، ثم بعد ذلك نحو الحدود التركية.

ولم يكن ما خلفوه وراءهم مجرد اجهزة هاتف تعمل بالأقمار الاصطناعية وكومبيوترات ومعدات أخرى ووثائق مهمة تتعلق بمحطة للمخابرات المركزية الأميركية كانوا أقاموها في شمال العراق فقط، بل لعل الأهم من ذلك كله هو حوالي 1500 شخص من اعضاء “المؤتمر الوطني العراقي” المعارض وانصاره الذين كانوا يمولونهم كجزء من خطة لإسقاط النظام العراقي.

بعد حوالي ست ساعات من بزوغ شمس ذلك النهار كانت قوات الحرس الجمهوري تحتل مدينة أربيل التي فرّت منها قوات “الاتحاد الوطني الكردستاني”، لعجزها عن الدفاع عنها أمام زحف دبابات الحرس. ما هي إلا ساعات قليلة أخرى حتى كانت القوات الزاحفة تطوق المعسكر القريب الذي أقامه “المؤتمر الوطني العراقي” لمقاتليه ومقر اذاعته في منطقة قوش تبة. بقية القصة معروفة للجميع.

إذ أن من بين مئة عامل في الاذاعة قيل ان اثني عشر فرداً فقط هم الذين نجوا من الإعدامات السريعة التي نفذت حالاً، بينما لقي مئة آخرون من الموجودين في المعسكر المصير نفسه، اثر انهيار مقاومتهم بعد قليل من انتصاف ذلك النهار، وبعدما يئسوا تماماً من وصول القوات الاميركية التي ظنوا انها لا بد ان تكون قادمة لحمايتهم من هجوم الحرس الجمهوري. السؤال الذي بقي من دون اجابة حتى بعد موتهم التراجيدي ذلك، هو أين كانت الحماية الاميركية التي وُعدوا بها أو توقعوها ضمن تصورهم لمشروع إسقاط النظام العراقي المدعوم اميركيا، والمنطلق من منطقة كانت ولا تزال تسمى “الملاذ الآمن”.

اليوم يطرح التساؤل من جديد على خلفية القرار الذي تبناه الكونغرس الاميركي بمجلسيه وبغالبية كبيرة في شهر أيلول سبتمبر الماضي، وهو يدعو إدارة الرئيس كلينتون لتخصيص مبلغ 97 مليون دولار كي تقدَّم على شكل أسلحة وتجهيزات وتدريب عسكري الى معارضين عراقيين بهدف قيامهم باطاحة النظام القائم وإقامة بديل ديموقراطي له.

هذا التساؤل يطرحه كل معني بالشأن العراقي من قريب أو بعيد. البعض مستخف على طريقة وهل يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟ أو مشكك بالنيات الاميركية وفي حقيقة وجود رغبة لدى واشنطن في إحداث أي تغيير في العراق. بينما هناك من يقف متوجساً، سواء من الاهداف الحقيقية التي تكمن وراء المشاريع والخطط المطروحة، أو من إمكان وجود معارضة وطنية حقيقية ترضى بأن تلعب الدور المطلوب علناً وعلى رؤوس الأشهاد. وعموماً، وبغض النظر عن المواقف المسبقة، فإن للجميع تساؤلاتهم الجادة عما يمكن ان يعنيه كل هذا الحديث عن الخطط الاميركية لقلب نظام الحكم في العراق بالقوة المسلحة كما عبر عنها قرار الكونغرس المذكور؟

من ناحية الشكل فإن تشريع “تحرير العراق” هو بكل المقاييس تطور جذري في أسلوب التعامل الاميركي مع الملف العراقي، إذ ان هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها الكونغرس بإصدار قانون وبغالبية كبيرة لا يدعو فيه فقط وبشكل واضح وصريح الى اسقاط النظام العراقي، بل أيضاً يخصص موارد كبيرة من أموال دافع الضريبة الاميركية لتنفيذ المشروع.وعندما تتم الموافقة عليه واعتماده من جانب الإدارة فإن الأمر سيتعدى حينئذ النيات المجردة، وينتقل بالضرورة الى حيز العمل الميداني.

إن مجرد تبني المشروع بشكل تشريع عن الكونغرس، لا يمنحه فقط الإطار القانوني اللازم لتحويله الى ميدان التنفيذ من قبل الأجهزة التنفيذية المعنية بل الأهم من ذلك يجعل منه التزاماً سياسياً جدياً من جانب الولايات المتحدة ذاتها تجاه قضية أصبحت تحتل شيئاً فشيئاً مكانة بارزة في الجدل وربما أيضاً في الصراع الداخلي الأميركي.

ثم إن أخطر ما يمثله قرار الكونغرس عند وضعه موضع التطبيق، هو أنه من المنظور الاستراتيجي والعملياتي سيكون نقلة نوعية تزيل الكثير من الغموض في التوجهات الاميركية نحو المسألة العراقية، وتضع أولويات جديدة في إطار الرؤية الاميركية الشاملة للأمن والمصالح القومية في منطقتي الخليج والشرق الاوسط والتهديدات التي تواجهها.

ومع هذا فإن التساؤلات الرئيسية التي تواجه هذا المشروع هي من الأهمية بمكان حتى أن تحليلها الرصين فقط هو الذي يوفر جواباً على مدى جديته، وعلى مدى رغبة الولايات المتحدة في الانغماس في الموضوع العراقي الى مدياته القصوى، أو الاكتفاء بتطبيقات متنوعة لسياسة الاحتواء المتغلغلة في عقلية صناع السياسة الاميركية، تاركة الموضوع ينضج كما هو الآن على نار هادئة.

إن اول التساؤلات يتعلق بمشروعية أن تقوم دولة كبرى لها مسؤوليات والتزامات سياسية وقانونية وأخلاقية بالعمل السافر على إسقاط نظام حكم معين مهما كان موقف شعبه وموقف المجتمع الدولي منه وتحت أية شعارات براقة كانت. حقاً إن للقطارات الاميركية سجلاً حافلاً بنقل العديد من الأنظمة الى محطات السلطة في العالم الثالث، لكن هذه ستكون المرة الأولى التي ستعمل فيها الولايات المتحدة علناً من دون استحياء على تنفيذ مشروع لإسقاط حكومة وتنصيب مجموعات لن ينظراليها شعبها أو المجتمع الدولي والرأي العام الاميركي، شاءت أم أبت، إلا من زاوية كونها “عميلة وخائنة”.

وثاني هذه التساؤلات عن مدى تطابق مشروع هدفه المعلن اسقاط نظام حكم عن طريق التدخل المباشر والتآمر مع قوى معارضة للنظام تحت يافطة إحلال نظام ديموقراطي مع مجمل الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، التي لا يعرف عنها انسجامها مع مثل هذه الشعارات، ولا تتوفر أدلة مقنعة على أن الديموقراطية بدأت تشكل أحد الخيارات والبرامج الاساسية لصانعي السياسة الاميركية، التي ظلت تتخذ مواقف متخاذلة تجاه قضية الديموقراطية في المنطقة تحت ذريعة المصالح والمنافع المتبادلة.

وفي هذا السياق، كيف سيكون موقف الدول الأخرى ورد فعلها في المنطقة وفي العالم إزاء تجاوز الدور الاميركي الخطوط المقبولة حالياً، وما هو أيضاً رد الفعل المتوقع من قطاعات الرأي العام العربي رغم التقديرالتقليدي السلبي له من جانب صناع السياسة الاميركية؟

وثالث هذه التساؤلات عن واقعية مثل هذا المشروع بأدواته وسبله المقترحة، لإسقاط نظام مثل النظام العراقي متمرس في فنون المؤامرة والبقاء، ومتمترس خلف معادلات إقليمية ودولية لا يزال يتشبث بها كطوق نجاة. لماذا يعتقد زعماء الكونغرس أن هذا المشروع بالذات سينجح في الوقت الذي فشلت مشاريع قبله، وامكان وجود سيناريوات اقل كلفة سياسية وإنسانية؟

لماذا سيكون ممكناً مثلاً اسقاط النظام بمبلغ 97 مليون دولار، وعلى أي اساس موضوعي أو اي دراسات جدوى تم حساب هذه الكلفة؟ ما هي الاسلحة التي سيتم تجهيز قوى المعارضة بها وعن أي طريق سيتم ادخالها الى العراق، وأي دولة مجاورة سترضى بسابقة مثل هذه أو تكون مستعدة للمشاركة في مثل هذا المشروع؟ كيف وأين سيتم تدريب مجموعات المعارضة التي ستتولى العمليات القتالية، ومن أي أرض ستنطلق؟ هل تم التشاور مع الاطراف الاقليمية المعنية وهل يمكن تنفيذ المشروع من دون مباركتها ومشاركتها؟

رابع هذه التساؤلات عن أي معارضة يتحدث المشروع الجديد؟ يشير تشريع الكونغرس الى الدعوة الى بناء معارضة عراقية ديموقراطية وتأهيلها لتسلم السلطة بعد اسقاط النظام، ما يثير تساؤلات أخرى عن صورة اللعبة التي تنوي الولايات المتحدة إدارتها مع معارضة تقرّ هي ذاتها في تقرير رسمي مهَّد للمشروع العتيد، بأنها تتوزع على 72 تنظيماً تتباين انتماءاتها سياسياً وقومياً ودينياً ومذهبياً، وتتوزع ولاءاتها وفقاً لخريطة وجودها الجغرافي، ما جعلها بالتالي مهمشة ومنقسمة ومشتتة ومنهكة وعاجزة عن الانخراط في أي مشروع للتغير، حتى ولو كان في درجة بؤسه وتهافته من طراز مشروع “تحرير العراق” ومهما وفر الكونغرس من امكانات مادية له.

وفي الحقيقة، رغم ان وجود واجهات المعارضة التي ستأخذ على عاتقها تنفيذ مقاولة المشروع هو حجر الاساس فيه، إلا انه لا يبدو حتى الآن أن الاغراءات المعروضة كافية لكي تجرّ اليه القوى الاساسية الرافضة لأسباب مبدئية وطنية وعقلانية، أو المترددة لاسباب تتعلق بالشكل السافر للإعلان عنه، أو بسبب عدم يقينها بجدية الالتزامات الاميركية، أو لاسباب اخرى تتعلق بحسابات شتى، لعل أهمها تلك التي ترتبط بالوضع الاقليمي الناتج من وجودها فيه.

خامس هذه التساولات عن الاثنين والعشرين مليوناً من العراقيين الذين يراد تحريرهم وبناء نظام ديموقراطي لهم، حسب ما يبشر به المشروع، من دون ان يكون لهم أي دور أو صوت، وكأنهم أصبحوا مجرد قطيع تتولى قيادته حفنة من محترفي العمل في القنوات السياسية والمقاولين والسماسرة تحت واجهات وهمية ومضللة. ولعل هذا بالذات هو الجانب الاكثر سوءاً والاكثر ازعاجاً الذي إذا ما قيض له النجاح، فمن المؤكد أنه لن ينتج الا دكتاتورية بائسة أخرى، لكنها لن تستطيع هذه المرة أن تخفي هويتها أو الوظيفة التي قبلت بأن تقوم بها نيابة عن الآخرين. هذا طبعاً إضافة الى الخسائر المادية والمعنوية والسياسية التي يصعب تصور مداها الآن، ويمكن ان تنتج عن سيناريو مغامرة، لا يقوم على اساس واقعي وبإسناد شعبي حقيقي، ويفتقر الى برنامج سياسي للتغيير يستجيب الحاجات والمطالب الوطنية.

طبعاً، من دون ادنى شك، ان النظام الذي يتحمل وزر ما آلت اليه الاوضاع في العراق من تدمير وخراب خلال ثلاثة عقود، يجب ان لا تركن مسؤوليته على الرف أبداً ويجب ألا تترك لذمة التاريخ. ولكن النظر الى المستقبل يتطلب ايضاً، ليس فقط الوعي بالتجارب الخطيرة التي أدت الى وصول العراق الى ما هو عليه، بل الأهم من ذلك تفادي تكرارها. إن هذا متروك بطبيعة الحال لعقل وضمائر من يتصدرون العمل الوطني بشجاعة وحكمة وشرف. ولكن دور العراقي العادي، خصوصاً المثقف، هو ان يبقى صاحياً باستمرار ومتصدياً بالبحث والمكاشفة والنقد للمشاريع المغرية التي تختزل القضية الوطنية مرة اخرى الى مجرد رحلة في قطار اميركي يوصل الى سلطة بعد تناول وجبة سريعة من الديموقراطية.

* الحياة/ 2 /11 /1998 

                 توطين الفلسطينيين :

هل سيقول العراقيون كلمتهم كما فعل اللبنانيون ؟ 

 منذ نهاية حرب الخليج العام 1991 والكلام يدور بين حين وآخر على توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق، كجزء من اتفاق الحل النهائي الذي يتوقع أن ترسو عليه مسيرة التسوية السلمية للصراع العربي – الإسرائيلي. وبعدما ظل معظم هذا الكلام يقال خلال السنوات الماضية همساً داخل حلقات اقليمية ودولية ضيقة أو يقتصر على سيناريوات تتداولها مراكز البحوث السياسية والاستراتيجية، تواتر الحديث عنه أخيراً، وجهاراً هذه المرة، ربما بسبب الاقتناع المتزايد باقتراب موعد الحل النهائي وضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن مستقبل اللاجئين الفلسطينيين، القضية المعلقة من بين قضايا شائكة أخرى – ولكن جوهرية – في المفاوضات الفلسطينيية – الإسرائيلية.

وفي ظل جو الريبة والغموض الذي يكتنف مستقبل كلا القضيتين العراقية والفلسطينية، فإن إثارة هذا الموضوع وتسخينه لا بد أن يستفز الكثير من الاسئلة الكامنة في الصدور.

بداية لا بد من تأكيد أن توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق، على افتراض أنه مطروح فعلياً على جدول أعمال المنطقة وهي تتهيأ لترتيب أوضاعها لمرحلة ما بعد السلام، ليس موضوع إشكالياً إلى حد كبير بسبب ما يحيط به من غموض ناتج عن قلة المعلومات المتداولة عنه خارج نطاق الأطر الضيقة المعدودة التي يتسرب منها الحديث بين فترة وأخرى، ما يجعل منه أحياناً لغزاً من بين تلك الألغاز الكثيرة التي أضحت سمة أساسية لمجمل العملية السياسية الجارية في عالمنا العربي، التي تتم غالباً في غياب النقد والشفافية وفي نطاق القسر والاحتكار. مع ذلك، وحتى في ظل غياب القرائن والوثائق، فإن توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق أصبح في نظر الكثير من المراقبين موضوعاًَ يتجاوز الهواجس والظنون الى احتمالات قائمة وربما الى مشاريع جاهزة يدعم الركون إليها معطيات ومدلولات، هي جزء من محصلة تفاعل المنظور الإسرائيلي المستقبلي والتصورات الموضوعة للمنطقة والأداء العربي الكسيح عبر أكثر من نصف قرن.

هناك وجهان للمسألة المطروحة يساعدان على ترويج افتراض أن العراق هو الوطن البديل لملايين اللاجئين الفلسطينيين ضمن إطار الحلول المقترحة لهذه المشكلة. الأول يتعلق بطبيعة مشكلة اللاجئين ذاتها والتحديات التي ستفرضها على جميع المعنيين بحل الصراع العربي – الإسرائيلي، الأمر الذي يتطلب حلولاً مبتكرة، ليست بالضرورة قائمة على قرارات الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين كالقرار 194 أو مبادئ العدالة والحق، وإنما تستند، شأنها شأن التسوية الجارية، على موازين القوى القائمة بين العرب والإسرائيليين. والثاني هو الذي تمر به القضية العراقية منذ حرب الخليج وازدياد الاعتقاد في أن الخروج منه يكمن ليس في تطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بأزمة الكويت وحرب الخليج، بل عبر صفقة شاملة ترتبط بسيناريوات الترتيبات المقبلة للمنطقة عموماً.

فبالنسبة إلى الشق الأول فإنه استناداً الى اتفاق أوسلو ومذكرة شرم الشيخ الأخيرة، فمن المقرر أن تبدأ مفاوضات مرحلة التسوية النهائية التي ستعالج من بين قضايا أخرى تحدي مستقبل الملايين من الفلسطينيين من لاجئي العام 1948، إضافة إلى نازحي العام 1976. الموقف الفلسطيني المعلن من المشكلة معروف ويرتكز على ضرورة تطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 الصادر في 11 كانون الأول ديسمبر 1948 والداعي إلى “وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة الى ديارهم، والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة…”. أما الموقف الإسرائيلي الذي تم التأكيد عليه في كل المحافل ومن بينها جولات لجنة اللاجئين في المفاوضات المتعددة، فقد ركز على رفض هذا الطرح جملة وتفصيلاً مقدماً بدلاً عن ذلك رؤية تلفيقية بديلة تقوم على أن ليس هناك قضية لاجئين وأن الموضوع برمته مفتعل من الأطراف العربية، وأن الفلسطينيين الذي شردوا من ديارهم هم ضحايا عدوان الجيوش العربية على إسرائيل وإن مفتاح حل المشكلة يكمن في يد العرب. فكرة الرفض الإسرائيلية تقوم على مرتكزين، مبدئي لأن القبول بالعودة يعني الإقرار بمسؤوليتها عن المشكلة وتحمل تبعية حلها، وعملي وهو اعتقادها أن عودة هذه الملايين من الفلسطينيين تشكل خطراً ليس على لحمة المجتمع الإسرائيلي وهويته اليهودية الصهيونية فقط، بل على أمن الدولة واستقرارها.

بين هذين الموقفين المتباعدين سيتم الصراع على مستقبل اللاجئين الفلسطينيين بين طرف ضعيف يتسلح بقرارات الشرعية الدولية، لكن من دون أوراق ضاغطة وبين طرف قوي يمتلك كل إمكانات فرض موقفه من دون أي اعتبار، كون النتيجة المتحققة توفر حلاً منصفاً ودائماً أم لا. من هنا تأتي مخاوف بعض الأطراف العربية التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين من أن يكون أي حل لقضيتهم على حسابها ما سيعرضها الى الكثير من الضغوط والتوترات بهدف دفعها لتقبل الخيارات الإسرائيلية الداعية الى التوطين وهي خيارات مثلما يراها معظم اللبنانيين ليست استفزازية فقط، بل مدمرة أيضاً. إن كل هذا يعني أن قضية اللاجئين ستجد نفسها، مثلما هو متوقع، على جدول الأعمال السياسي للمنطقة كلها وليس فقط مائدة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية ما يفرض على العرب تحدياً خطيراً لن ينفع في مواجهته الدعوة الى التمسك بقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، وإنما مقاربات موضوعية من أمثال تلك التي جرت على أساسها عملية السلام برمتها منذ كامب ديفيد 1979 وحتى شرم الشيخ 1999.

أين العراق من كل هذا؟ يشير معظم التحليلات السياسية الى أن الازمة العراقية الحالية والتي سمتها الرئيسية استمرار عزلة البلد الخارجية ومحاصرته في ظل نظام عقوبات مجلس الأمن وسياسة الاحتواء الاميركية ارتبطت ارتباطاً شديداً بجهود إعادة تشكيل النظام الاقليمي لمنطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي عقب أزمتي حرب الخليج وانطلاقة عملية السلام العربية – الإسرائيلية. فلم يعد مرفوضاً، من وجهة النظر هذه، الربط بين الحرب وأثارها على المستوى العربي وبين عملية السلام من حيث العلاقة بين السبب والنتيجة. كما أن أغلب التنبؤات السياسية الناتجة من هذه التحليلات تنحو اليوم الى القول إن حل الازمة العراقية لا بد أن ينتظر استكمال العملية السلمية على بقية الجبهات قبل ان تضم الحلقة العراق ذاته إحكاماً للإطار الاقليمي الذي سيتبلور لحماية التسوية السلمية وضمان استمرارها. وإذا كانت هذه مجرد تنبؤات لحد الآن، فإن تحقيقها، من وجهة النظر هذه أيضاً، لا بد أن يتطلب صفقة شاملة سواء بين النظام العراقي الحالي الذي يتطلع الى إعادته للحظيرة الدولية أو أي نظام آخر يحل محله وبين إسرائيل، قد تتضمن من بين قضايا أخرى مساهمة العراق بحل مشكلة اللاجئين من خلال القبول بتوطين البعض منهم فيه.

إن تنفيذ مثل هذا السيناريو سيحدث إنقلاباً جذرياً في أوضاع المنطقة قد تعجز حتى التنبؤات الحالية عن إدراك أبعاده ونتائجه، ولكن تلك قضية أخرى، أوسع. أما توطين الفلسطينيين في العراق فإنه بلا شك سيكون موضوعاً مثيراً للكثير من النقاش والجدل بين العراقيين حالما يتضح أن الأمر أكثر من مجرد افتراضات نظرية أو مشاريع تقبع فوق رفوف مراكز الأبحاث والدراسات. فالمؤكد أن القضية بالنسبة الى العراقيين، مثلما هي لدى اللبنانيين، تكتسب جدية فائقة نظراً الى التركيبة السكانية للبلد القائمة على التعدد القومي بين العرب والأكراد والتركمان والاقليات الأخرى وكذلك التنوع الديني والمذهبي بين مسلمين ومسيحيين وغيرهم وبين شيعة وسنة وهي حقيقة لن يمكن التعالي عليها حتى من قبل أشد العروبيين الذين قد ينظرون الى المسألة من زاوية قومية.

وبمعنى آخر فإن توطين مليوني فلسطيني في العراق، مثلاً: سيعني إخلالاً واضحاً بالتركيبة السكانية الحساسة الذي سيقلبها رأساً على عقب لمصلحة السُنة العرب مقابل كل من الشيعة والأكراد الذين سيرفضون التوطين بالتأكيد باعتباره عامل ترجيح مذهبي وقومي، وبالتالي سياسي لغير مصلحتهم، في الوقت الذي طال انتظارهم لتحقيق تمثيل أفضل ضمن المعادلة السكانية/ السياسية القائمة. ومع هذا فليس مؤكداً أيضاً أن سُنة العراق سيرحبون بدورهم بعملية توطين اللاجئين الفلسطينيين لو جرت بهذا الشكل السافر باعتبارها ستساهم بإحداث شرخ وطني في ظرف يسعون فيه، مثلهم مثل باقي العراقيين، لتجاوزه بالوحدة والتضامن. ومن المرجح أن مثل هذا المشروع سيتجاوز بعده العراقي لكي يثير ردوداً متباينة من قبل جيرانه العرب رفضاً أو تحفظاً كما هو متوقع من كل من إيران وتركيا أو قبولاً وترحيباً من الدول العربية المجاورة، الأمر الذي سيوقظ تناقضات إقليمية ظلت حتى الآن هاجعة.

ومع ذلك، فالملاحظ أن هناك سكوتاً مطبقاً من جانب الحكم العراقي الذي لم يعلق، لحد الآن، لا على سيناريوات الصفقة ولا على احتمالات التوطين، رغم أن الموضوع تجاوز أخيراً الهمس الذي بدأ به. ورغم أن الخطاب الرسمي ظل ملتزماً طوال سنوات الأزمة بثوابته المعادية لإسرائيل والرافضة للعملية السلمية فإن دعاة نظرية الصفقة يشيرون الى المرونة العالية التي أظهرها الحكم العراقي في تجارب سابقة اضطر فيها التساهل في التزاماته الايديولوجية لمصلحة مزايا ومكتسبات سياسية ما يجعل إمكان تحقيق ذلك قائمة حالما يتم التلويح له بحل مناسب لإخراجه من أزمته. على الطرف الآخر هناك المعارضة العراقية التي تتصدى لمهمة تبؤ البديل، والتي بدورها لم تبد أية وجهة نظر إزاء مشاريع التوطين خصوصاً أن هذه السيناريوات تفترض إن ذلك سيكون بعضاً من الثمن الذي سيقدّم لدعمها في تسلم السلطة. إن سماع صوت العراقيين، حكومة ومعارضة، مثلما انطلق صوت اللبنانيين، سيساعد بلا شك على إزالة الكثير من اللبس والشكوك حول قضية من المؤكد أنها ستتبوأ الهم الوطني خلال الفترة المقبلة.

*الحياة/  7/10/1999

    من النفط مقابل الغذاء الى النفط مقابل العراق ! 

تفرض أحداث الحاضر احياناً ضرورة العودة الى أحداث الماضي لمحاولة إجلاء غموضها وفك طلاسمها، سواء من خلال تفكيكها الى عناصرها التاريخية أو من خلال ربط المقدمات بالنتائج، أو حتى من خلال قوة المثال الذي يطرحه الماضي على الحاضر والذي طالما يجعلنا نردد في أوقات وحالات المقارنة هذه مقولة ما أشبه اليوم بالبارحة.

لعل من الأمثلة الحية التي نعيشها وتجد لها شبيهاً في التاريخ هي المحاولات التي بذلت طوال عام في مجلس الأمن لإصدار قرار في شأن تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق والتي اصطدمت تباين وجهات النظر بين الدول دائمة العضوية ليس في شأن موضوع نزع اسلحة العراق غير التقليدية ونظام الرقابة المقترح عليها، كما هو معلن، بل بسبب آخر مختلف تماماً يتمثل في نيات هذه الدول ومخططاتها في شأن استثمار الثروة النفطية العراقية الهائلة، التي باتت “جوهر” و “لب” عملية الصراع في المنطقة.

في ربيع العام 1920 كان مستقبل العراق حُسم وفقاً للمخططات البريطانية التي حددت استناداً الى نص المادة 22 من معاهدة السلام في فرساي، على أساس خضوع العراق للانتداب البريطاني. ففي 25 نيسان ابريل 1920 اصدر مجلس التحالف الأعلى قرار فرض الانتداب إثر سلسلة من الاجتماعات عقدها في منتجع سان ريمو الايطالي بحضور ممثلي الدول الرئيسية في التحالف عدا الولايات المتحدة التي هالها أن ترى في ما بعد أن حلفاءها البريطانيين والفرنسيين ضربوا بعرض الحائط مبادئ اتفاق “فرساي” الذي نص على اتباع سياسة الباب المفتوح أمام المصالح الاقتصادية للدول المتحالفة في الاراضي تحت الانتداب حين أقروا لأنفسهم امتيازات وحقوقاً هائلة في المصالح النفطية، مستبعدين تماماً الولايات المتحدة التي كانت وقفت معهم للتو في الحرب التي خرجوا منها منتصرين.

فماذا فعلت الولايات المتحدة حينذاك؟ في 12 آيار مايو 1920 أي بعد أقل من ثلاثة اسابيع على اتفاق “سان ريمو” كتب السفير الاميركي في لندن جون ديفز الى وزارة الخارجية البريطانية رسالة شديدة اللهجة محتجاً على ما دعاه ب “الاتفاق التعيس” الذي اعطى فوائد كبيرة للمصالح النفطية البريطانية والفرنسية على حساب المصالح النفطية الاميركية، كما اتهم بريطانيا بمحاولة فرض “هيمنتها المطلقة” على الموارد النفطية في المنطقة التي وصفها بأنها سـتكون “مصدراً للتوتر والخلافات” بين الطرفين.

لم تقبل بريطانيا بالتنديدات الاميركية، وكتب وزير خارجيتها اللورد كيرزن رداً نفى فيه الشكوك التي اثارها السفير الاميركي ووصفها بأنها حساسية غير مفهومة. كما ذكّر الولايات المتحدة بأنها تسيطر على حوالي 80 في المئة من مصادر النفط في العالم، في حين ان ما في حوزة الشركات البريطانية من مصادر للنفط لا يتجاوز 5،4 في المئة. كما ذكّر الخطاب بالمحاولات المستميتة للولايات المتحدة لمنع بريطانيا من استثمار امتياز نفطي في هايتي كانت حصلت عليه العام 1913، وصادقت عليه حكومة هايتي قبل الاحتلال الاميركي للجزيرة. وهو أمر تكرر، على حد تعبير اللورد كرزن، في كوستاريكا، وبعد ذلك، كما عبّر في رسالة لاحقة، في الفيليبين التي كان صدر فيها تشريع في 31 آب اغسطس عام 1920، يشترط أن تحصر كل الاراضي التي تحتوي على النفط والزيوت المعدنية الاخرى بمواطني الولايات المتحدة او الفيليبين.

استمرت هذه المجادلات عبر رسائل متبادلة بين اللورد كيرزن ووزير الخارجية الاميركية بينبرغ كولــبي ووصفت حينذاك بأنها إحدى أهم المواجهات الديبلوماسية التي حدثت بين القوتين الجبارتين في مطلع هذا القرن، إن لم تكن أهم مجابهة في دنيا الاستـــعمار الاقتصادي حصلت في التاريخ الحـــديث. حاولت الولايات المتحدة عبر الصراع ان تؤكد نيتها بأن تضع نفسها في موقع الشريك الاساسي للقوى الاستعمارية التقليدية في ذلك الوقت وبخاصة بالنسبة الى موادر النفط التي أخذت تحل محل الفحم كوسيلة رئيسية للطاقة. ولعل ما سهل للولايات المتحدة الظفر بعد ذلك بحصة مهمة في امتيازات النفط العراقية هو ارتباط الصراع بمشكلة ولاية الموصل التي لم تكن حسمت حينئذ بسبب استمرار ادعاء تركيا تبعيتها لها وحاجة كل من بريطانيا، بلد الانتداب، والعراق البلد المنتدب، للتأييد الاميركي، داخل عصبة الأمم لتمرير صك الانتداب وحل مشكلة الموصل بعيداً عن الاطماع التركية.

نتيجة كل ذلك كانت اتفاقاً وقعته الحكومة العراقية تحت الانتداب وشركة النفط التركية صاحبة امتياز نفط العراق في 14 آذار مارس 1925، والذي حصلت بموجبه الولايات المتحدة على حصة مساوية لحصص بريطانيا وفرنسا وهولندا في شركة “نفط التركية” التي تحولت بعد ذلك لتصبح “شركة نفط العراق المحدودة” التي منحت امتيازاً للتنقيب في كل الاراضي العرقاية لمدة 75 عاماً، إذ انجزت الولاذات المتحدة اتفاقات التراضي بينهما كان صراعاً آخر أخذ ينفتح للتو على مصراعيه مع اول برميل تدفق في منطقة حقوق بابا كركر في كركوك يوم 13 تشرين الاول اكتوبر 1927، إذ بدأت الانظار تتركز على هذه البعة من الارض باعتبارها اصبحت من ذلكح التاريخ بؤرة الصراع الدولي من أجل الطاقة شريان الحياة وعصب الاقتصاد الحيوي.

لو انتقلنا الآن أكثر من سبعين عاماً الى الأمام لرأينا صورة أخرى لكنها ليست مختلفة تماماً في جوهرها عن صورة الصراع الذي جرى مطلع هذا القرن حول نفط العراق، ولو ألقينا نظرة فاحصة الى مكونات هذه الصورة لاتضح لنا بعض تفاصيلها على الشكل الآتي: يتكون احتياط النفط العراقي المؤكد من نحو 200 بليون برميل، بينما كانت تقديرات احتياط منطقة ولاية الموصل عند بداية الاستثمار نحو أربعة بلايين برميل فقط، وهو فرق يوضح الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها النفط العراقي على خارطة الاستثمار الدولي. من بين تفاصيل الصورة الأخرى نرى كيف ان الولايات المتحدة تقف في الموقف نفسه، الذي كانت تقف فيه بريطانيا بداية هذا القرن، كقوة مهيمنة متحكمة بينما تقف كل من فرنسا وروسيا والصين كقوى متطلعة للمشاركة في استثمارات النفط التي لا تخفي الولايات المتحدة حرصها على فرض سيطرتها عليها واحتكارها. ولكي تكتمل المقارنة، فلا بد من توضيح أن كلاً من فرنسا وروسيا والصين وقعت فعلاً عدداً من اتفاقات الاستثمار المهمة مع العراق وتنتظر للبدء في تنفيذها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ العام 1990، وهو قرار الذي لا تزال ترفضه بشدة الولايات المتحدة الامـــيركية وتماطل فيه من أجــل تأخــــير تنفيذه.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ذلك هو: هل يعيد التاريخ نفسه وتتكرر تجربة سان ريمو وما تلاها في ضوء المشاورات التي جرت لتبني القرار الجديد لمجلس الامن في شأن العقوبات المفروضة على العراق ونظام جديد لمراقبة التسلح؟ هناك من المعطيات ما يشير إلى أن الصعوبات التي مرّت بها جهود إقرار القرار الجديد ليست فقط تبايناً في وجهات النظر بين الدول المعنية حول الموقف من نظام الرقابة على التسلح العراقي بمقدار ما هو تباين في النظرة الى مستقبل العراق ككل والاقتناع المتزايد لدى معظم الأطراف بأن الأوان حان لحسمه من خلال صيغة توافق عامة، أو بعبارة أوضح صفقة مع الولايات المتحدة باعتبارها أكثر الأطراف اهتماماً بالوضع العراقي، وأصراراً على تحديد مستقبلة.

لقد كُشف النقاب فعلاً عما سمي بـ “صفقة الشيشان مقابل العراق” بين واشنطن وموسكو والتي بموجبها تغض الولايات المتحدة النظر عن الهجوم الروسي الشامل على الشيشان مقابل تأييد روسيا للقرار الجديد. لكن واقع الحال يشير إلى أن الصفقة المرجوة، في نظر روســيا، تتجاوز قضية الشيشان لتشمل مستقبل الاستثمارات النفطـــية الروسية بموجب العقود التي وقعتها شركة “لوك اويل” الروسية مع العراق وتغطي حقول غرب القرنة الجبارة جنوبي العراق، واذا كانت هذه اجزاء الصــفقة التي تخـــص روســــيا فماذا عن شركتي “الف اكيتان” و”توتال” الفرنسيتين والامتيازات التي حصلتا عليها في حقول “مجنون” و”نهر عمر” وأيضاً شركة النفط الوطنية الصينية والامتيازات التي نالتها في حقلي “الحلفاية” و”الاهدب”… ان مجموع الاحتياطي الذي تسعى هذه الشركات التابعة للدول الثلاث للهيمنة عليه، بموجب الاتفاقات التي وقعتها مع العراق، يبلغ 50 بليون برميل بينما تبلغ الطاقة الانتاجية المتوقعة للحقول 1،2 بليون برميل يومياً، وهي أرقام يمكنن ان توضح حجم الصراع المنتظر الذي لن يكون أقل شراسة من ذلك الذي جرى بين بريطانيا والولايات المتحدة بسبب اشتراطات اتفاقية “سان ريمو”.

لقد وافقت حكومة ياسين الهاشمي حينها على اتفاقية الامتيازات رغم الاعتراضات الشعبية واستقالة اثنين من أبرز اعضائها، رشيد عالي الكيلاني ومحمد رضا الشبيبي بسبب ما قيل من حاجة العراق حينئذ لدعم الحلفاء في قضية الموصل التي كان الصراع من أجلها مع تركيا دخل في مرحلة حاسمة. السؤال الآن هل سيجد العراق نفسه مضطراً الى قبول الصفقة النفطية التي طبخت على نار النقاشات الجارية في مجلس الأمن وخارجه كما حصل عام 1925؟.. الجواب عن ذلك سيكشف اذا كان التاريخ سيعيد نفسه فعلاً، وإذا كان العراقيون تعلموا من دروسه وعبره. ما هو مطروح هذه المرة ليس “النفط مقابل الغذاء” بل “النفط مقابل العراق كله”؟

*الحياة/ 19/12 /1999

         العراق : عودة إلى اسئلة العام 1991 

 كانت مثل هذه الأيام من العام 1991، التي سبقت ورافقت ما ترسخ في الذاكرة الاعلامية بأنه “حرب الخليج الثانية”، أياماً عصيبة لكل العراقيين، شأنها شأن أيام كثيرة مماثلة مرّت عليهم قبل ذلك وبعده. لكن تلك الأيام تميزت بأنها لم تكن فقط محملة بالأخبار السيئة التي اعتادوا سماعها منذ احتلال الكويت قبل ستة اشهر من ذلك، كما إنها لم تكن مشحونة بالقلق والتوتر والمخاوف الناتجة عن سلسلة الاحداث التي جرت عليهم منذئذ، بل كانت أيضاً حُبلى بالأسئلة الحائرة عما يمكن أن يؤول اليه مصيرهم ومصير وطنهم بعد انجلاء المعارك التي بدت باتساعها وشراستها والدمار الذي تخلفه حولهم وكأنها تنتزعهم من واقع سوريالي وملتبس وترمي بهم الى أفق المجهول الاشد إبهاماً وحيرة.

لعل الذاكرة الوطنية العراقية، حين تسترجع وقائع تلك الأيام المريرة التي سادها الإحساس المدفون بالغضب والقلق والمحاصرة بالجوع والبرد، ستدوّن ما لم يدوّنه بعض صناع وشهود تلك الدراما الانسانية في مذكراتهم “البطولية” ومؤلفون مقنّعون بالحيدة في كتبهم الأكثر مبيعاً، وصحافيون متلهفون للشهرة في مقالاتهم المثيرة، إذ أن هؤلاء اهملوا في تناولهم للاحداث بصورة ضمنية حقيقة أن العراقيين كشعب والعراق كبلد، هم وحدهم الذين كانوا وقوداً لهذه الحرب وضحاياها، مثلما تجاهلوا، بسوء فهم او بسوء نية، حقيقة أن العراقيين في ايام المحنة تلك تصرفوا كبشر حقيقيين يسعون الى صيانة اسباب البقاء مثلما تصرفوا كوطنيين غيورين يدركون تماماً أبعاد التحديات التي يواجهها بلدهم.

ما يعنيني هنا أن أنقل كعراقي، وايضاً كصحافي عاش في قلب الحدث طوال أيام الحرب، شيئاً عن الجانب الآخر الذي لم تتناوله وسائل الاعلام التي غطت الحرب، وأهمله بعد ذلك معظم من كتب عنها، وهو الجانب المتعلق بمشاعر العراقيين وأحاسيسهم وأفكارهم في تلك الأيام التي لا تُنسى، وهم يرون الموت والدمار يحيق بهم من كل جانب مثلما يرون تجربتهم في البناء الوطني تفضي الى سبيل محفوف بالشكوك والاضطراب والخطر. لقد كانت اياماً مثيرة حقاً، إذ كان الشعور أن لحظة تاريخية تعبر فوق أفق الوطن، ستعيد صياغته من جديد، تتطلب ليس تناولها باسلوب العرض المبهر الذي كانت تنقله شاشات السي. إن. إن. أو بلغة الابيض والاسود كما فعل الجالسون فوق السور، بل باعتبار ان الحرب بكل إثارتها أدت وظيفة مهمة أيضاً، ألا وهي طرح الاسئلة الجادة عن ماذا جرى حقاً، ولماذا وكيف ومن المسؤول وغيرها من التساؤلات الملحة، وتحفيز طاقة الخيال لايجاد اجوبة مقنعة من دون اختزال للصراع وفق املاءات اللغة الرسمية أو الارتهان لأسلوب الدعاية السياسية لطرفيه المباشرين.

ما قد لا يعرفه الكثيرون خارج العراق هو أن هذه الفترة وخصوصاً الاسابيع الستة للحرب والأيام التي تلتها، وعلى رغم المعاناة والآلام، كانت من اخصب الفترات التي عاشها العراقيون خلال العقود الاخيرة من تاريخهم في التأمل والتفكير والنقاش والجدل والمساءلة والبوح بمكنونات عقولهم وضمائرهم، ليس بشأن المحنة الوطنية التي كانوا يعيشونها فحسب، بل حول مجمل المسيرة السياسية التي اوصلتهم اليها. فللمرة الأولى، وربما منذ 20 عاماً، يتاح لهم، بالدهشة في اجواء الرعب الذي تثيره الطائرات المغيرة والصواريخ الهابطة وفي ظل انعدام اية مظاهر للحياة الطبيعية والخدمات الاساسية مثل الماء والكهرباء والهاتف وانشغالهم بمعركة البقاء المادي والمعنوي، ان يعبروا عن انفسهم ككتلة حية، وليس ككمية مهملة كما تخيلهم البعض من الناظرين من ثقب الباب وممن اغرتهم أو خدعتهم جدران الصمت التي فرضتها سياسات القمع والخداع والتضليل الطويلة.

في تلك الليالي الحالكة والقارصة، وبينما كانت طائرات بي 52 و”الشبح” وصواريخ “كروز” تقصف مصنعاً او جسراً قريباً، كانت مجموعات من العراقيين تلتف حول موقد خشب او فحم، وتطرح بأساليب عفوية، ولكنها لا تخلو من تلك الحكمة والعبقرية التي لا تضن بها التجارب المريرة على الشعوب، اسئلة مؤجلة منذ زمن طويل وتدخل في صلب الموضوع وتحاول أن تكتشف الأسباب الحقيقية لما حصل وتتجاوز ذلك لكي تفحص وتبحث وتستشرف ما يمكن أن يحصل حين ينتهي ذلك الكابوس المرعب، هل كان احتلال الكويت عملاً منفصلاً عن مجمل محصلة الذهنية السياسية التي سادت خلال العقدين السابقين وممارساتها الداخلية والخارجية التي استسهلت اللجوء الى العنف والاستئصال والاحتكار والمبالغة بردود الافعال واغفلت الحكمة والحوار والتعاون والتعايش السلمي والحلول التفاوضية؟ وما مسؤولية السياسات الدولية والاقليمة، بل المخططات الموضوعة للمنطقة، في تهيئة البيئة المناسبة للازمة؟ وإذا ما كان هناك ضغوط او تهديدات او اخطار، كما صورها حينها الخطاب الرسمي، فهل كان الاحتلال عملاً ضرورياً من وجهة نظر المصلحة الوطنية، أم أنه كان تعبيراً آخر عن أسلوب المغامرة والمراهنة على القوة الجموحة كطريقة وحيدة لممارسة السياسة وتحقيق غاياتها؟ هل كانت الخطوة محسوبة جيداً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً مع ادراك تام لنتائجها أم أنها كانت مجرد قفزة في المجهول؟ هل كان في الامكان ايقافها بعدما بدأت، أم ان على عجلتها أن تدور الى ان تحقق آخر هدف وضعه لها مخططوها؟ إلا أن اكثر الاسئلة إلحاحاً كان، بالتأكيد، ذلك التي يتعلق المستقبل، فهل إن الحرب الدائرة ارهاص لولادة غدٍ مزدهر وحافل بالحياة أم أنها مجرد ممارسة أخرى للعبث محملة بالشكوك والموت والدمار؟ ما الاهداف السياسية غير المعلنة لاطراف التحالف الذي يقود الحرب؟ هل هناك جدول اعمال آخر والحرب مجرد أداة من ادواته؟ هل يكتفون بتحرير الكويت ام ينقلون ساحة الحرب الى داخل العراق؟ واذا تم ذلك فما هدفهم وما الموقف الذي يقفه العراقيون؟ هل يقاومون الغزو أم يختارون دور المتفرج، ام ان تلك ستكون الساعة التي سينفجر فيها البركان الخامد؟ كيف تنعكس نتيجة الحرب الوخيمة على معنويات مئات الألوف من الجنود والضباط العائدين من ميادين القتال وانضباطهم، وهل سيعيد التاريخ نفسه كما فعل في تجارب أخرى وينقلب هؤلاء على قادتهم؟ ما الذي يعنيه كل ذلك لتماسك مؤسسات الدولة الاخرى وولائها؟ ولو حدث انفراط في بنية الحكم وأجهزته وفي ظل غياب البديل المنظم، فما الذي يمكن ان يحدث واية جروح سيفتحها ركام الضغائن والكراهية والاحقاد في جسد الوطن المنهك، ومن سيكون ساعتها مستعداً لطلب الصفح والغفران ومن سيكون قادراً على تقديمه؟ وبافتراض آخر، لو انتهت الحرب الآن باتفاق وتسوية ما فما هو الثمن المطلوب ومن الذي سيدفعه، الوطن والشعب أم أولئك الذين ساقوه الى هذه المحنة؟

لم تكن اسئلة العام 1991 انعكاساً أو تأثراً بعمليات غسل الدماغ التي قام بها خبراء ومحترفون في ابواق الدعاية التي نصبت على الحدود، او استجابة لشعارات التهييج والانتقام لممارسين للعبة السياسية انفتحت امامهم فجأة المنابر كجزء من متطلبات الصراع، كما انها لم تكن “مونولوغاً” داخلياً نتاج حال عصابية من الاحباط العام والذهول لشعب في أكثر لحظات مسيرته إيلاماً، بل حوار وطني شامل مع الذات وعملية تعلم تجري في اشد الظروف ضراوة بعيداً عن الرواية الرسمية لاسباب الكارثة التي حلت والروايات المضادة وكل ما صاحبهما من ضجيج، فلقد منحت الحرب كل عراقي احساساً بالمسؤولية، كما وفرت للجميع الفرصة لعملية شحذ للوعي الشعبي للتفكير في كل القضايا الكبرى التي ايقظتها الازمة ومحاكمة مجمل التجربة السياسية التي خلفت كل هذه الهواجس والمخاوف وجعلت الانشغال بحاضر الوطن ومستقبله الهم الأكبر، فقد اصبح كل عراقي يدرك ان هناك تاريخاً جديداً يصنع لبلده يقوم على ركام هائل من الخراب المادي والروحي ومستقبل مفتوح النهايات تنبئ قراءته بالمزيد من المعاناة الناتجة من أخطار وكوارث وحصار وعزلة، وهنا، وكما عملت التجربة التاريخية في وكما مكان وزمان، فقد قادت كل هذه الحوارات الى طرح السؤال الأهم: ما العمل؟

لقد اعتاد الاجابة عن مثل هذا السؤال دائماً ثوار او مفكرون أو حركات سياسية تأخذ على عاتقها صوغ برنامج محدد وفق إطار نظري، وغالباً ضمن ممارسة سياسية منظمة، لمواجهة أزمات عميقة ووضع مشروع للنهوض من محنة وطنية كبرى، إلا أن ممارسات القهر والهيمنة قد جردت الواقع الفكري العراقي من أية امكانية للنقاش الحر علناً وبصوت مسموع، كما أحدثت فراغاً مهولا في الواقع السياسي، إذ سيطر خلال العقود الاخيرة صوت واحد يرفض التعددية ويحتكر الحقيقة ويتفرد بالقرار الوطني ويصادر حق الآخرين بالاختلاف والتعبير عن رؤى وتصورات لا تنسجم مع الخط الرسمي المهيمن، لكن مثل هذا الواقع، كما برهنت التجربة العراقية، لم يعد بامكانه كبح طرح السؤال الملح، ما العمل، بل انه على العكس من ذلك حوّله من مفهوم نظري جامد وعمل نخبوي ضيق الى همّ وطني عام، فاسحاً المجال لطموحات التغيير، لا لكي تتعمق في الضمير والوجدان والوعي فقط، بل لتتحول الى ارادة جماعية ترفض التهميش والاستلاب وتدعو الى العمل على انقاذ البلاد من محنتها وانكسارها وفق رؤية وطنية خالصة تصحح كل اخطاء الماضي وتحقق العدالة، وعلى قاعدة رفض اليأس والخيارات المدمرة والسيناريوهات الشريرة.

من الواضح ان ليست هناك اجابات جاهزة في هذه اللحظة تتجاوز الطموحات والاماني النبيلة كما أن ليس بالامكان القول ان المشاريع مسبقة الصنع والمطروحة في الخارج للتعامل مع الازمة العراقية المستمرة تمثل بديلاً مثالياً للخروج من المأزق، الذي ها هو يدخل عقده الثاني، من دون كلفة وطنية عالية، ان كل ذلك يزيد من الحاجة إلى البحث عن جواب للسؤال المضني من بين البدائل والخيارات التي يوفرها الواقع وبهدف وحيد وهو البدء بعملية اعادة بناء وطني متعددة الابعاد تحتكم الى العقلانية والى قوة الضمير الاخلاقي والاحساس بالمسؤولية تجاه المستقبل والى القبول بالنقد، عملية لا بد ان ترتكز الى ارادة التوافق الوطني والمشاركة ونبذ سياسات الاقصاء والعزل البالية التي جلبت على البلاد كل هذه المآسي والاهوال، لكن من المؤكد أن اسئلة العام 1991 لا تزال تمتلك مشروعيتها وفاعليتها في وجه الظلم والعدوان الذي يقع على العراقيين ما يتطلب المثابرة على وضع الاجابات الخلاقة، أولاً باعتبار أن الحرب التي بدأت في شتاء ذلك العام، لا يمكن اعتبارها منتهية ما لم تنته معها تلك السياسات والممارسات التي قادت اليها، وثانياً باعتبار أن المكاشفة وطرح القضية الوطنية للنقاش من خلال الجدل العام هو البداية الصحيحة لعملية إعادة البناء المأمولة.

*الحياة/  9/2/2000

               سجالات الثقافة العراقية

   بين ذهنية الاحتراب ونداء وطن محاصر

يحتدم السجال منذ فترة بشأن واقع الثقافة العراقية المعاصرة، التي تعاني شأنها شأن الحال العراقية برمتها، من ضنك حصارات بعضها ناتج من حصاد تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية خائبة ومريرة وصلت الى حدود التدمير الذاتي، وبعضها عن عملية التدمير المنظم متعددة الأبعاد التي فرضتها أسوار الفصل العنصري المحيطة بالعراق تحت راية عقوبات الأمم المتحدة وبعضها الآخر ناتج من حصار المنافي الضيقة والنائية.

 هذا السجال يستعر الآن بين طرفين أفرزتهما تلكم الحصارات، احدهما يدعي تمثيله للثقافة العراقية، مستمداً دعواه من صموده داخل تلك الأسوار وأمام افرازات الصراع ببعديه الداخلي والخارجي، وانخراطه في معركة الوجود المادي والثقافي على أرض الوطن، بينما يعلن الطرف الآخر من منافيه البعيدة عن مشروعيته التي صاغتها معاناة مغامرة البحث الدائم عن الحرية ومقاومة سياسات القمع والاكراه وتشبثه في دوره الرائد وحقه في المشاركة الفاعلة في تجديد واعادة تأسيس الثقافة العراقية على أساس مشروع وطني ونهضوي.

 وكما هي العادة المدمرة التي رسختها التجارب السياسية الخائبة وذهنية الاحتراب القبلي والانتقام التي افرزتها فان المناظرات القائمة حول راهن ومستقبل الثقافة العراقية امتدت لكي يكيل طرف من اصحابها الى آخر الاتهامات التي راوحت بين الخيانة والجبن والصمت ازاء المعاناة الوطنية والوصاية كما يراها بعض مثقفي الداخل الذين عبروا عن آرائهم في هذا الحوار، وبين الاتهامات بالخيانة أيضاً والعمل الاستخباراتي وممالأة السلطة والتدجيل والتطبيل وحرق البخور لها على حساب الضمير الاخلاقي والالتزام بقضايا الوطن الكبرى والمصيرية، كما أعلن عنها بعض مثقفي المنفى.

هناك بالتأكيد أبعاد كثيرة مغفلة في هذا الحوار الدائر على صفحات الجرائد العراقية والعربية. فالواقع العراقي بقدر ما هو كارثي، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإنه أيضاً ملتبس ومضطرب، ذلك أن الدلالات المتوافرة لا تشير الى إمكان تغير ايجابي كبير يمكن أن يحصل قريباً لينتشل الوطن العراقي من محنته ويزيل من أمامه عوائق النهوض من رماد الحصارات ويعيد وضعه على سكة التقدم الإنساني.

 هذا الواقع يضع على كاهل المثقفين العراقيين مهمة أخرى غير تلك التي يضطلع بها “سياسيوهم” وهي القيام بدورهم الطليعي الاخلاقي والوطني في التحريض على البدء بعملية إعادة اكتشاف للذات هدفها ان تفضي الى عملية اعادة البناء لا الاندفاع العشوائي مجدداً نحو ممارسة اللعبة المدمرة التي اصابت الوطن بالمحن وأورثت ابناءه هذا الكم الهائل من المعاناة والحسرة والحيرة والكبت.

لذلك فإن المطلوب هو البحث من خلال الحوار الرصين عن أجوبة تتعلق بأزمة الثقافة العراقية بشقيها الداخلي والمنفى بعيداً عن ذلك الطابع المتوحش الذي تفرضه السياسات الفجة وأساليبها سواء منها تلك التي تلجأ الى العنف المادي والمعنوي لكتم الاصوات الاخرى أو تلك الضاربة في الغضب والتجريح واللعنة. إن أولى المسلمات هذا المسعى هو ضرورة الكف عن النظرات الأحادية ودعاوى احتكار الحقيقة والتخوين التي الحقت اشد الضرر بالثقافة العراقية والايمان بأن أي ثقافة وطنية هي بالتالي نتاج المشاركة والتفاعل بين الافكار، التي هي بدورها نتاج انصهار انماط من القيم والمعتقدات والتفسيرات العقلية والرموز الثقافية والاجتماعية، او ما يمكن اختزاله بالخبرة التاريخية التي يختزنها أي مجتمع أو خلفية قومية ودينية وطائفية متنوعة، وفي حال الواقع العراقي فإن أكثر ما ألحق الضرر بالثقافة هو النكران المتعسف لوجود هذا التنوع داخل الثقافة الواحدة وبخاصة ذلك الذي مارسته مراكز القوى السياسية والايديولوجية.

ثانياً، ان ما أصاب المجتع العراقي نتيجة التشوهات النبوية التي الحقتها الحصارات هو تعميق تناقضاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما سيجعل بالحاجة الى اعادة دمج الافراد بالمجتع، وهي مهمة لن تنهض بها الا ثقافة وطنية تضع على عاتقها مهمة بناء تصورات للمستقبل تقوم على تضميد جروح الماضي وإزالة ندوبه والسمو على احقاده وضغائنه، إن مثل هذه الوظيفة لا بد ان تنطوي بصورة ضمنية على ضرورات حفز إبداء الندم كواجب اخلاقي، من قبل كل أولئك الذين تسببوا بهذه المعاناة الانسانية، كمقدمة لعملية مصالحة وطنية شاملة تقوم على مرتكزين، تحقيق العدالة والتسامح.

ثالثاً، ان المهمات المناطة بالثقافة العراقية تتجاوز المفهوم الذي ظل سائداً لدى أطراف الصراع السياسي كونها ساحة للجدل الحزبي المتعارض وأداة للتعبئة الجماهيرية، فعلى رغم ان النشاط الثقافي، في بعض أوجهه، وهو عمل سياسي إلا أن ذلك يجب ألا ينحط به، كما حصل دائماً لكي يجعل من الثقافة ميداناً آخر للصراع السياسي ويغرقها، كما يحصل الآن، في جدل الداخل – الخارج والوطني – الخائن، وغيرها من الثنائيات التي لا تخلط السياسي بالثقافي فقط، وانما تؤسس لاستمرارية التناقضات التي ينبغي دفنها مع ولادة عراق جديد.

رابعاً، ينبغي السعي منذ الآن الى النظر في اعتماد أدوات ثقافية جديدة واخراج الثقافة من أدراج المؤسسات الرسمية والحزبية التي حبست بها طويلاً ومن دائرة المزايدات ودفعها للهواء الطلق حيث تتوافر القدرة على الاكتشاف بعيداً من يقين وقوانين المؤسسات الخالية من اجواء الحرية والغفران والتسامح. وفي هذا الإطار فإن الاجيال الشابة من العراقيين وبخاصة الذين استطاعوا ان يتجاوزوا محن المنافي، اضافوا رصيداً قيماً للثقافة العراقية من خلال امكان مزجهم الخلاّق بين تراثهم الثقافي ومكتسباتهم الجديدة من النظام العقلي الذي نهلوا منه في منافيهم والذي سيمكنهم، حين تتوافر لهم الفرصة، من المساهمة، ليس فقط في عملية اعادة البناء المؤملة، ولكن في جذب ودفع روح التحديث والنهضة.

عموماً فإن السجال الجاري هو أحد مؤشرات استمرار أزمة الثقافة العراقية التي هي دورها انعكاس للأزمة الوطنية الشاملة ما يعني ان معترك العمل الأشمل سيظل هو العمل على إحداث التغيير من خلال استنباط حلول وتصورات للإصلاح وإعادة البناء، وهي مهمة ينبغي ألا تترك للسياسيين وحدهم، كما لا ينبغي احتكارها من قبل فريق واحد أو جماعة معينة، بل ينبغي ان تتم من خلال حوار مفتوح وجهد تعددي ومناقشات جادة.

 لقد مضى الى غير رجعة عهد احتكار الحقيقة واحتكار الوطن وأن الثقافة هي وحدها الميدان الأسمى لتبادل الأفكار واحتضان الابداع ودعم الابتكار الخلاّق وبناء الرصيد المعنوي لاعادة إعمار الوطن العراقي وفتح السبيل أمامه للانضمام الى قافلة الحضارة العالمية الماضية نحو المستقبل. إن على عاتق المثقفين العراقيين مهمة صعبة وهي تهيئة أنفسهم للمشاركة الايجابية في إعداد استراتيجية للنهوض من خراب الحصارات الى عصر جديد سيولد من مخاض الألم والضغائن والحرمان.

قد تدمغ مثل هذه الدعاوى أصحابها بالرومانسية أو بالحلم أو حتى بالسذاجة. ولكن التجربة التاريخية اثبتت مرة بعد أخرى أن العقل الواعي، الذي هو جوهر كل الثقافات الحية هو وحده الكفيل بدراسة منعطفات التاريخ الكبرى وفهم ظواهرها ومن ثم اختراق مساحات الصمت والتبشير بالحلول الصائبة لها. وفي الحال العراقية الراهنة فإن أكثر مستلزمات الوعي هو الشفافية وضرورة تملك الملكة النقدية التي تحتاجها عملية المساءلة والتصحيح التي يتطلبها الكشف عن المنعطف الآتي قبل ان يبدأ العراقيون نحته في صوان الزمن القاسي.

 إن من الخير للمثقفين العراقيين أن يبدأوا حواراً يمتد من المنافي البعيدة ومن تخوم الوطن حتى قلبه، غايته تفحص السبل التي تقودهم الى تبوء عملية الكشف هذه وتحفز الجدل العام بشأن الخيارات الممكنة، من أن يتركوا المعترك مرة أخرى للأدعياء الذين يملأونه بالضجيج، أو لأولئك المتربصين الذين يتوقعون دائماً ان يكونوا في المقدمة، ولا بأس من أن تكون البداية البحث عن جواب للسؤال الذي من المؤكد أن تثيره هذه المساهمة: وهل هذا ممكن في وضعنا الذي يتصف بمزيج من العبث واللاجدوى واليأس والانتظار.

*الحياة/ 25/5/200

    “زوربا العراقي”: كنت أعرف جيداً ما سيتهدم

    لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض!

 مع بدء العد التنازلي للحرب التي تستعد الولايات المتحدة لشنها من اجل اسقاط النظام العراقي، بعد الانهيار المتوقع لنظام التفتيش الحالي على اسلحة الدمار الشامل العراقية، تخطو واشنطن خطوات ابعد قليلاً من شعارها المبهم بأن العراق “سيكون افضل بدون صدام حسين”، وتكاد تقدم للعراقيين وللعالم معالم صورة عراق المستقبل التي تعمل على صياغتها وفقاً لرؤيتها وحساباتها ومصالحها الاقليمية والكونية. قد لا تبدو هذه الصورة الآن مفصلة ولا مكتملة غير أنها تكشف بما احتوته وبما اسقطته من تفاصيل عن نمط التفكير الاميركي وعن الخطوط العامة لبرنامج عمل او خطة طريق هيئتها الولايات المتحدة لليوم التالي للتخلص من النظام في بغداد.

بدأ بعض ملامح التفكير الاميركي هذا يظهر في الوثيقة الاميركية التي قدمت اخيراً في لندن الى اطراف المعارضة العراقية خلال استعداد الاخيرة لعقد مؤتمر جديد لها تسعى من خلاله الى التوافق في ما بينها على صيغة عمل مستقبلي يتزامن مع تنفيذ المشروع الاميركي لتغيير النظام. بينما تظهر ملامح اخرى في تقارير وأوراق أعدت في مجموعات عمل خاصة في بعض مراكز الابحاث الاميركية بمشاركة بعض عراقيي المنفى وباشراف وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي وابرزها تقرير “مجموعة العمل الخاصة بمبادئ الديموقراطية” الذي ينظر اليه باعتباره مسودة لدستور العراق المقبل. كل هذه الحزمة من الاوراق والافكار التي تتضمنها، والتي ستوضع على مائدة مؤتمر المعارضة بهدف تبنيها، تكشف عن جهد اميركي مضن بذل خلال الشهور القليلة الماضية لرسم صورة عراق المستقبل في عملية اشبه ما تكون بعملية استنساخ تجري داخل مختبرات مغلقة.

تفصح “وثيقة لندن” التي عُززت لاحقاً بخطاب رسمي وقّعه اربعة من كبار مسؤولي الادارة الاميركية، لغةً ومضموناً، عن الاسلوب والنيات التي تضعها هذه الادارة أولاً في التعامل مع المعارضة، وثانياً في رسم صورة عراق المستقبل الذي تضع لبناته. ولو تجاوزنا اللغة وهي لغة استعلائية واملائية بكل المقاييس تضع شروطاً والتزامات مسبقة على كل المعارضين العراقيين كثمن لمجرد المشاركة في مؤتمر للبحث في “(رؤية) لعراق المستقبل” فإن بعض بنودها المدونة يكشف نيات لاستبقاء معظم قواعد اللعبة في أيدٍ اميركية وتقليص بل حتى استبعاد العراقيين من انتاج المعايير التي تخص مستقبلهم ومستقبل بلادهم. فإصرار “وثيقة لندن” مثلاً على “عراق في سلام مع جيرانه يتخلى عن اسلحة الدمار الشامل ويقبل من دون شرط قرار مجلس الامن الدولي 6 8 7 وباقي قرارات المجلس” هو شرط مثقل بالالتزامات لأي نظام جديد اضافة الى أنه يبقي العراق المقبل وكأنه دولة مارقة ولا يفتح أي باب للأمل لشعب العراق للتخلص من تبعات اخطاء النظام الحالي مثل تعويضات الحرب او حتى في رفع فوري للعقوبات التي تفرضها قرارات الامم المتحدة ورؤية نهاية عاجلة لمسلسل عمليات التفتيش عن الاسلحة.

ثم ان “وثيقة لندن” لا تعطي درساً مفيداً في الديموقراطية التي تشير الى ان الولايات المتحدة تساندها وتدعو اطراف المعارضة الى تبنيها حين تصر على اعتبار مؤتمر المعارضة القادم مجرد “حدث عام” اي ليس اجتماعاً لوضع سياسات وترفض قيامه بانتخاب جمعية وطنية او انشاء حكومة موقتة وتصرّ في فقرتها الاخيرة على ضرورة موافقة المندوبين الى المؤتمر مسبقاً على كل بنود الوثيقة وعلى ان يوافقوا في قراراته على المبادىء التي تضمنتها “وثيقة لندن” ذاتها بالترحيب (بالتصفيق وليس بالتصويت). وعلى رغم امكان الادعاء ان الوثيقة مجرد مساهمة من ديبلوماسين وموظفين صغار تتضمن خطوطاً عامة لمؤتمر المعارضة إلا أنها المرة الاولى التي تطرح فيها الادارة الامريكية رؤية ولو جنينية تحمل عناصر حاسمة لتحديد مستقبل علاقتها مع المعارضة العراقية وايضاً لمستقبل العراق. بل اكثر من ذلك هو ما اسقطته الوثيقة عمداً او ما تجاهلته من مبادىء أو رؤى أو افكار بعضها تشكل أجندات شديدة الجاذبية لأطراف المعارضة كالفيديرالية للأكراد والأسلمة للفصائل الاسلامية الشيعية والعروبية للقوميين والتي ربما ستفاجئهم بخلافها او حتى بنقيضها في وثائق اخرى تعدها مجموعات العمل الخاصة ومنها تقرير “الانتقال الى الديموقراطية في العراق”.

تنتمي هذه الوثيقة الاخيرة، حسب ما تسرب منها حتى الآن، كباقي تقارير مجموعات العمل التي ظهر الكثير من ملامحها – من خلال الافكار التي عبر عنها واضعوها خلال نقاشات جرت حولها في ندوات نظمها بعض معاهد البحوث الاميركية خصوصاً تلك التي اقامها “اميركان انتربرايز انستتيوت” – الى منهج “وثيقة لندن” نفسه في الانفراد والوصاية واحتكار حق اختيار أجندة عملية التغيير، كما انها تستبعد بروحها ومضمونها عملياً وواقعياً الكثير من آماني الشعب العراقي وتطلعاته والكثير مما يرد في برامج اطراف المعارضة وطروحاتها وتملي عليهم خيارات جديدة لمستقبل العراق. فهناك مثلاً اختلاف جوهري بين ما تراه المعارضة ويصرح به قادتها من ان التغيير هي عملية تجري بأيدٍ عراقية ولأهداف عراقية. وبين ما طرحه البعض في الصفوة المنتقاة من عراقيي المنفى المشاركين في مناقشات مجموعات العمل، انها “عملية تحرير اميركية” وانها “توفر فرصة تاريخية للولايات المتحدة لا يضاهيها بالحجم ما حصل في الشرق الاوسط منذ سقوط الدولة العثمانية ودخول القوات البريطانية للعراق عام 1917″، الى غير ذلك من الافكار الخلافية التي تجد تعبيراتها في المواقف من قضايا الفيديرالية، والعلاقات القومية مع الدولة، وفصل الدين عن الدولة، وانتماء العراق لمحيطه العربي، ودور الجيش ونزع سلاحه، ومصير حزب البعث… وكلها قضايا لا يمكن بل يجب ألا تحسم منذ الآن ومنن خلال اي مؤتمر للمعارضة قبل اجراء نقاش وطني عام وواسع يلي عملية التغيير وضمن استفتاء شعبي عليها.

هذه الحزمة من الاشتراطات والافكار والمقترحات والتصورات التي يراد منها ان تتبلور في موقف نهائي ووثائق قبل ان تلعب اطراف المعارضة العراقية “دور ذكر النحل” لتصادق عليها ومن ثم تقدمها الى العراقيين كافة كـ “برنامج وطني للتغيير”، تظهر كأنها مشروع نخبوي وفوقي لإعادة صياغة كاملة للعراق وليس مشروع اعادة بناء وطني، والفارق شاسع بين الامرين كما هو بيّن. فالأول مهما اكتسى بتسميات براقة يظل أقرب الى تلك النماذج المعروفة من استراتيجيات الهيمنة والتبعية والمحاكاة الاستعمارية والتي تتعاضد في تطبيقها قوى كونية ذات طموحات امبراطورية ونخب محلية مصلحية خانعة ومستسلمة لقدرها او ما يمكن توقعه منذ الآن بمشروع للارتباط بالمركزية الاميركية التي تتبلور صياغتها كونياً. بينما يقع المشروع الثاني ضمن الاختيارات التي يصنعها الناس من خلال التفاعل بين اراداتهم الحرة وحكمتهم وقدرتهم على التنظيم الذاتي وتاريخهم وثقافتهم ومصادرهم المحلية. لذلك تبدو الثقة التي يظهرها بعض المعارضين العراقيين في صياغة افكارهم ومقترحاتهم واستعراضهم لها كباحثين وخبراء امام مختبرات البحوث الاميركية التي سرعان ما تحولها الى منتجات او اوراق عمل محلاّة بكل تعبيرات الحداثة والليبيرالية وقابلة للاستهلاك في القرية الكونية هي ثقة تبعث على الحسد حقاً.

الاكثر اثارة للقلق خطط تسرّب عن الكيفية التي ستعالج بها الولايات المتحدة الفراغ السياسي الذي سيحصل عند سقوط النظام. وهي خطط خليطة من دعوات مباشرة للاحتلال او محاولات تجريبية ووصفات جاهزة للتصدير واستعادة نماذج بالية ينتمي بعضها لمدارس الاستشراق المتعالية او لمدرسة نهاية التاريخ الاستئصالية او هي اشد صلة بنماذج التبعية والموالاة المستهلكة تتجاوز جميعها الواقع المحلي شديد التعقيد وتوقعات العراقيين وواجبهم في البحث والاختبار والابتكار وواقع المنطقة وذاكرة اهلها التاريخية. هذه المشاريع التي تروج لحكم تحت ادارة عسكرية اميركية او ادارة دولية لفترة غير محدودة حتى يتم الانتقال الى ادارة عراقية وطنية تهيىء لانتخابات لاحقة تتضافر مع اصرار الادارة الاميركية على اعادة صياغة مبادرات قوى المعارضة الرئيسية والترويج لابتداعات منقحة لمجموعة مقربة من نخب المنفى لا تقدم خيارات حقيقية بمقدار ما تقدم نماذج مستوردة هي أقرب الى وصفة لتكرار الفشل وللفوضى وعدم الاستقرار وربما لأوتوقراطية جديدة من ان تكون علاجاً نابعاً من الحاجة والفعل الوطنيين.

هناك ادراك واسع لدى اطراف عديدة في المعارضة العراقية لهذا التنافر الذي يفصل بين المتطلبات الوطنية لعملية التغير وازالة النظام الشمولي التي اصبحت حاجة ماسة وبين المشروع الاميركي للتغيير في العراق الذي من الواضح انه ينطوي على تحقيق أهداف ومصالح استراتيجية تتناسب مع الامتداد الامبراطوري والتي تستعد الولايات المتحدة لتدشينه عن طريق الحرب المتوقعة ضد العراق. هناك قناعة ايضاً لدى هذه الاطراف بتوفر فرصة فريدة لتحقيق ما عجزت عنه لسنوات طويلة بإسقاط النظام من خلال المشروع الاميركي للتغيير مما يعني تلاقي مصالح الطرفين على تحقيق هدف واحد. غير ان التجربة التاريخية اثبتت قبل اكثر من ثمانين عاماً على ان التقاء اهداف العراقيين والبريطانيين ضد العثمانيين لم ينتج الدولة الوطنية المرجوة بل اصبح نقطة انطلاق لمجابهة السياسات الاستعمارية، كما كان استمرار هذه السياسات وتسخير النخب المحلية لتطبيقها من خلال زجها في مدار التبعية مدعاةً لانطلاق النضال لصالح المشروع الوطني.

لم تكن الازمة العراقية يوماً ازمة عارضة بل هي ازمة وطنية شاملة وعميقة تمتد من فجر الدولة الحديثة وتضرب بجذورها كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وما النظام الشمولي وممارساته التسلطية والقمعية سوى نتاج طبيعي لهذه الازمة المزمنة. نعم هناك حاجة لعملية اعادة بناء كلي للدولة العراقية على اسس حديثة تستجيب لتطلعات الناس وتتلاءم مع روح العصر وغاياته لكن ليس بالقفز على واقع البلد المعقد ومحيطه الاقليمي الحيوي ولا من خلال جعله مختبراً لتجارب تهدف الى ضم المنطقة المستعصية على الضم الى القرية الكونية. وفي هذه المرحلة الحاسمة لا بد من ان ينطلق اي مشروع للتغيير في العراق من دراسة الماضي واخذ العبر منه وإلا سيظهر العراقيون امام انفسهم وامام العالم مثل زوربا في رواية كازنتزاكي الشهيرة حين وقف ليقول “كنت اعلم جيداً ما سيتهدم لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض”.

*الحياة/ 2002-12-12

                    ثلاثة خيارات امام صدام :

           كلكامش ، المستعصم او شمشون ؟ 

في كلمته الاخيرة بمناسبة الذكرى السنوية الثانية عشرة لحرب الخليج الثانية بدا الرئيس العراقي صدام حسين وكأنه يرسم خطاً على الرمال في الازمة الحالية مع الولايات المتحدة يقطع الشك الذي يراود البعض عن احتمالات خوضه منازلته الجديدة بيقين اصراره ليس على المقاومة فحسب بل الانتصار وإلحاق الهزيمة على اسوار بغداد بمن سماهم “مغول العصر”. إلا أن الكلمة وسلسلة الخطب التي ألقاها منذئذ، سواء التحدي المباشر الذي تضمنه او بالدلالات والرموز التاريخية التي حملتها بدت وكأنها رد واضح وصريح على الاشارات والتحركات التي بدأت تظهر في الساحتين الاقليمية والدولية عن امكان بلورة حل سياسي سلمي قد يترتب عليه ثمن يدفعه هو ونظامه للخروج من الازمة، مما يطرح السؤال عما اذا كان هذا الرد نهائياً أم أن الرئيس العراقي سيضطر لاحقاً للاستعانة بأحد الخيارات الاخرى المتاحة له قبل ان يعلن قراره الاخير.

يأتي موقف الرئيس العراقي وسط اشتداد تعقيد الازمة العراقية – الاميركية، وهو تعقيد طبيعي ومتوقع بسبب اقتراب لحظة الحقيقة ومواعيد الحسم وفق الاجندة السياسية والعسكرية للادارة الاميركية وتفاعلها مع تطورات محسوبة او مستجدات طارئة، منها ما هو داخل الولايات أو خارجها، لا بد ان تترك بصماتها على عملية صنع القرار الاميركي الخاص بالازمة سلماً أو حرباً. احدى السمات الظاهرة لهذه المرحلة من الازمة هو الارتباك السافر في اسلوب ادارتها اميركياً والذي يبرز في تصريحات الرئيس جورج بوش نفسه، بين كونه رجلاً صبوراً جداً ساعة وبين نفاذ صبره من ألاعيب النظام العراقي ساعة اخرى. اكثر من ذلك هو هذا القلق والاضطراب الواضح في مواقف ادارته في المراوحة بين التهديد بحرب ضروس تنوي شنها لتغيير النظام تارة وبين القوا بأن الحرب غير حتمية وأن تحقيق نزع اسلحة العراق ممكن سلمياً تارة اخرى.

هذه المواقف التي تجربها الادارة الاميركية وسط تزايد المعارضة للحرب او التردد في تأييدها او الشكوك في جدواها كما تبديها اطراف دولية واقليمية بارزة بعضها حليف اساسي للولايات المتحدة، وفي خضم تصاعد حركة الاحتجاجات من شخصيات عامة مؤثرة والتظاهرات المعادية للحرب في المدن الاميركية ومدن العالم الاخرى تتجاوز الحاجة المتوقعة في مثل هذه الظروف للمناورات والتكتيكات السياسية واساليب الخداع في الحرب النفسية، تظهر الادارة وكأنها امام ورطة حقيقية لا تجد السبل الكفيلة لتفاديها. ومن المؤكد كما دلّت تجارب الازمات السابقة مع الولايات المتحدة منذ غزو الكويت الى ان الاستنتاج الوحيد الذي يمكن للنظام العراقي الخروج به لقراءة هذه المواقف الاميركية تيتعدى مساحة التأمل والتأني والمرونة التي قد توفرها له الى التشدد والتحدي مثلما يتضح من الخطاب المذكور للرئيس العراقي.

اكثر من ذلك يأتي الخطاب العراقي المتصلب في وقت تتبلور مواقف اقليمية باتجاه ايجاد حل سياسي للازمة تشي دلالته المبكرة بإمكان طرح صفقة اللحظة الاخيرة مع الرئيس العراقي يمكن ان لا توفر له مخرجاً سلمياً وكريماً فحسب بل تحافظ على حياته وعائلته وارواح الزمرة المرتبطة به واموالهم وربما بعض الحصانة من المقاضاة القانونية بسبب الجرائم والانتهاكات التي اقترفوها والتي لا يمكن ان تمر من دون محاسبة في حال سقوط النظام حرباً، مما يعني ان نتيجة قراءته لهذه المبادرات ايضاً لن تتسم بالتواضع والتبصر بل بالغطرسة تجاه دعوات السلام والاستهزاء بالمخاوف من عواقب الحرب والاستخفاف بالايادي التي يمكن ان تمتد لانقاذه، وهو ما عبرت عنه تصريحات عديدة لمسؤولي النظام التي وصفت هذه المبادرات بالسخافة والتفاهة.

على خلفية هذا الخطاب المتعنت اذن سيتم اتخاذ القرار العراقي سلماً او حرباً، أو هكذا يريدها النظام العراقي ان تبدو في عيون العالم الذي يدرك جيداً انه يحبس انفاسه بانتظار قراره هذا باعتباره القرار الذي ربما يكون حداً فاصلاً بين تاريخين وعالمين. غير ان السؤال سيظل يلح حتى اللحظة الاخيرة عما اذا كان ذلك فعلاً هو جوابه النهائي بشأن خيارات الحرب والسلم أم انه سيضطر لاحقاً الى الاستعانة بوسائل النجدة التي توفرها له هذه المبادرات والتي يستنكــف الآن عن اللجـــوء اليها.

من الواضح ان النظام العراقي، كما هو دأبه دائماً، يلعب مبارة صفرية ويأمل من خلال المواقف المتشددة هذه بدفع الازمة بينه وبين الولايات المتحدة الى حافية الهاوية، وهو هدف يرمي من خلاله الى حشر الرئيس الاميركي جورج بوش في زاوية ضيقة يعتقد انه لن يكون امامه إلا التراجع او شن الحرب على العراق، اذ سيعلن من ناحيته التراجع الاميركي نصراً اكيداً له من دون حرب في الوقت الذي يتوهم بامكان إلحاق الهزيمة باميركا اذا ما شنت عليه الحرب فعلاً. اما بالنسبة الى قضية اسلحة الدمار الشامل فإن التمعن في اسلوب تعامل النظام معها يظهر انه يعتبرها قضية خاسرة للادارة الاميركية لأنه مستعد لأن يذهب الى آخر مدى في التعاون مع المفتشين وبهدف شق وحدة مجلس الامن والمجتمع الدولي حولها من اجل ان ينتزع منها هذه الورقة كمبرر للخيار العسكري الذي تتزايد المعارضة العالمية له.

خيار الدفع الى حافة الهاوية هو خيار هو في الواقع خيار شمشوني يعاني من نقاط ضعف عديدة وخطيرة تجعل الركون اليه بداية النهاية الفعلية للنظام العراقي لاسباب يتعلق معظمها بالخلل الهائل في موازين القوى والمصالح ليس بينه وبين الولايات المتحدة الاميركية فقط بل مع القوى الدولية والاقليمية التي سيسوءها رفض النظام العراقي للحلول السلمية وانكفاؤه على خيار التحدي والحرب. وتكمن خطورة هذا الخيار في انه سيظهر بشكل لا لبس فيه انانية النظام ورغبته العمياء لفي البقاء بأي ثمن مقابل الثمن الباهظ الذي سيدفعه العراق كبلد وشعب والتهديدات التي سيتعرض لها النظامين الدولي والاقليمي. ان السيناريو الوحيد الناتج عن هذا الخيار والذي يتجاهل الواقع العراقي والاقليمي والدولي المتسارع التغير سيكون اصطفافاً مع مشروع الحرب الاميركي وضد النظام المتشبث بالبقاء.

اميركياً، وبغض النظر عما اذا كانت ادارة الرئيس بوش قد حشرت نفسها في هدف اسقاط النظام العراقي ام لا، لا يبدو ان هناك سبيلاً آخر غير المضي قدماً في طريق تحقيق هذا الهدف سلماً كان او حرباً، عاجلاً او آجلاً، كلياً او جزئياً. ان أي اخفاق في الوصول الى هذه الغاية لا يعني فقط انتصاراً معنوياً للرئيس العراقي ولا يعني جرحاً لكبرياء اميركا وهيبتها ولا ضربة لاستراتيجيتها في المنطقة ونكسة شنيعة لحربها على الارهاب الذي سيطل برأسه بقوة وعزيمة اشد، بل هزيمة منكرة للطموحات الامبريالية الكونية التي أصبحت سمة من سمات السياسة الاميركية المعاصرة. فهل لدى الرئيس العراقي من الارادة والحيلة والقوة ما يمكنه من ان يجعل “مغول العصر”، كما وصفهم، ينتحرون عند اسوار بغداد ام انه ينوي ان يجعل من العراق كله حزاماً ناسفاً يتمنطق به وهو في طريقه الى تنفيـــذ عمليتـــه الانتحاريـــة؟

اقليمياً، هناك استعداد متزايد لرمي طوق النجاة للرئيس العراقي ونظامه من خلال حل سلمي نابع اساساً من الحاجة الى تفادي وضع متفجر قد يطيح ليس باستقرار المنطقة وأمنها بل بأنظمتها وربما بكياناتها الهشة. دول المنطقة كذلك في ورطة مثل تلك التي تواجهها الادارة الاميركية وليس أمامها إلا ضبط حركتها وفق الايقاع الاميركي لئلا يؤدي أي تنافر الى انحدار المنطقة نحو الهاوية التي يدفعها اليها النظام العراقي. فالحرب ستضع المنطقة امام مستقبل غامض، واللاحرب لا تعني فقط انتصار الرئيس العراقي وخطابه بل انتصار اسامة بن لادن والخط الذي يمثله ضد تيار الاعتدال الذي اخذ يترسخ فيها. ومهما تكن طبيعة هذا الحلول المطروحة وتفاصيلها فإن اهميتها تكمن في أنها تفتح آفاقاً واسعة لمخرج مشرف للنظام العراقي بل الأهم من ذلك كله أنها توفر الفرصة لانتقال سلمي للحكم في العراق يدرأ كل المخاطر التي يمكن ان يتعرض لها في حال الحرب.

على النظام العراقي ان يعي ان لا احد في هذه المنطقة او في العالم مستعد لأن ينتحر معه وان من هو على استعداد ان يقدم له حبل النجاة اليوم قد لا يكون قادراً على مدّه اليه بعد اسابيع او ايام قليلة. كما ان عليه ان يتجنب وللمرة الاخيرة سوء الفهم وسوء التقدير والافراط في التحدي والدفع بالازمة الى نهاياتها القصوى إذ لن يبقى خيار امام خصمه إلا الحرب التي لن تدق عنقه فقط بل ستطحن العراق طحناً. هناك من المؤشرات بل التصريحات العلنية ما يكفي للاقتناع بأن شكلاً من اشكال الحل السلمي للازمة سيكون مقبولاً اميركيًا بغض النظر عن سيناريوات الحل وطريقة اخراجه والاشتراطات الاخرى التي ستضعها الادارة الاميركية وما على النظام العراقي سوى الانخراط في عملية تفاوضية تسهل له هذا المخرج.

هناك من يميلون الى التحليل القائل بأن تجربة النظام واسلوبه وسيكولوجية رئيسه لا تسمح بحل قائم على تركه للسلطة، لكن هؤلاء لا يقدمون خدمة للشعب العراقي ولا النصيحة النزيهة لنظامه بل يدفعون بالاثنين الى التهلكة. ان الاخفاق في مهمة اقناع النظام بالرحيل مثلها مثل اصرار النظام على التشبث بلعبة السلطة لن تكون مجرد تعبير عن عجز وفشل المجتمع الدولي ودول الاقليم بالذات بل ستسجل نهاية الأمل في حل سلمي للقضية العراقية وبداية طريق محفوف بالمخاطر والالم. وحسناً فعل الرئيس العراقي هذه المرة حين استذكر امام قادته العسكريين بعد ايام من خطابه ذاك الملك اريدو كلكامش وتركه للحكم طوعاً بحثاً عن الخلود في تلك الاسطورة البابلية الخالدة، اذ انه اكد بذلك ان هناك خياراً آخر غير خيار المستعصم الذي سقطت على يده بغداد امام هولاكو وأيضاً غير خيار شمشون كما أثبت انه اكثر من اعتذارييه قدرة على تلمس طريق غير ذلك الطريق الانتحاري الذي يدفعونه اليه.

* الحياة/  11/2/2003

                 من الكارثة إلى الإنجاز


من الطبيعي أن يكون أول تحدٍ يواجهه العراقيون هو تحدي الاحتلال لبلدهم لأن الاحتلال مهما بدا مرحباً به يقيم في مثل هذه الحال علاقات مركبة تتطلب توازناً في الرؤية مثلما يتطلب إدراكاً عميقاً يبتعد عن الاندفاع والمثالية. إن الدرس البليغ الذي على العراقيين أن يتعلموه في هذه المرحلة هو تجنب الوقوع في مهاوي دعوات كل طامع ومدعٍ والنظر إلى المستقبل أولاً بمسؤولية وطنية وثانياً في إطار التفاعل الحر والإيجابي مع الإنجازات العالمية وضمن الرؤية الحضارية الكونية والاعتماد المتبادل من دون تبعية.

على العراقيين أن يوجهوا اهتمامهم إلى صنع النتائج وجني ثمارها، وليس إلى فعل الاحتلال وأسبابه ومبرراته. فالاحتلال عابر والمغامرة الاستعمارية وهم، والتاريخ الحقيقي للانتصار لم يبدأ بعد، وجوهر الأمر ينبغي أن يكون قدرة العراقيين على استثمار الحدث وإدارته والانتقال من الكارثة إلى الإنجاز حتى يكون بإمكانهم استكمال هدم الطغيان.

أما التحدي الثاني فهو التعاطي مع المشروع الأميركي على المدى الأبعد من حيث مدى توافقه مع الأهداف والمصالح الوطنية العراقية أو تعارضه معها. فما يقوله الأميركيون بخصوص الأخذ بيد العراقيين لتحريرهم من عبء الماضي القريب ومساعدتهم في بناء الديموقراطية كهدف نهائي يدخل في مجال “التبشير”، مهما حسنت نياته، ويبقى تحقيقه منوطاً بطرح رؤية واضحة وواقعية وقابلة للتطبيق، وبمنهج تفاعلي مرتبط بتوفر العناصر والموارد الخارجية والمحلية المختلفة. ما لا يقولونه يبقى الأهم، والحق الأكثر إثارة للقلق؛ لأنه يظل حتى الآن مشوشاً وغامضاً، أو طي الكتمان مما يعني أنه مثير للشكوك أيضاً.

ومهما تكن الرؤية الأميركية فعليها أن تبتعد عن عنجهية صناع الإمبراطورية وثقافة الانتصار وأن تكون متواضعة وبعيدة عن النمطية وغزل الأساطير، ومتوافقة مع الإمكانيات المتوافرة والحدود التي يرسمها الواقع للعراقيين للوصول إلى اختياراتهم الخاصة.على الأميركان أولاً: أن يتخلوا عن منهج الهندسة السياسية والاجتماعية الذي يروج له البعض من قادة الإدارة، والذين ينوون وضع العراق في مختبرات التجريب.وثانياً: إبداء الصبر وبُعد النظر، والالتزام بتعهدات طويلة المدى تساعد على اتخاذ العراقيين قراراتهم بأنفسهم دون تدخل.
على الصعيد العراقي أثبت العراقيون في ردهم الجمعي والذي هو مزيج من الترحيب والحماس، واللامبالاة، والرفض أنهم – رغم المحنة – أصحاب حضارة عميقة الجذور، وكبرياء، ومبادئ، وقناعات. والمطلوب الآن أن يقدموا مبادرات بناءة يفتحون بها فصلاً جديداً في تاريخ بلدهم الذي هو مهد الحضارة العالمية وموئلها الذي لا ينضب.

ويشكل صنع الإرادة العراقية التحدي الثالث الذي يواجهه العراقيون في هذه المرحلة، والتي عليها سيعتمد تبلور المشروع الوطني الذي يجب أن يكون حجر الأساس في البناء الذي يحتاجه العراق للقطيعة ليس مع “الصدامية” وإرثها فحسب، بل مع التراث السياسي والاجتماعي الذي فرش لها طريقها إلى السلطة.إن أولى المهمات في هذا المجال هي ضرورة الابتعاد عن العنف بكل أشكاله، فالشعب الذي كان ضحية لبطش “الصدامية” لا يجب أن يخرج من بين صفوفه الآن من يدعون أنهم ما داموا قد عانوا فسيكون كل شيء مبررًا لهم. الطريقة الوحيدة لكسر دائرة العنف التي خلفها صدام هي البدء في بناء الثقة بين أبناء العراق جميعهم، وإيجاد الأرضيات المشتركة، وخلق ثقافة التفاوض والوصول إلى حلول سلمية للمشاكل العالقة.
ثاني المهمات هي الابتعاد عن السلبية التي حاول صدام أن يغرزها عبر التزييف الأيديولوجي وعمليات غسل الأدمغة كهوية أو نمط حياة، وبالتالي كوسيلة لسلب السلطة والإمساك بها. فاليوم وفي ظل التغير الشامل، حاجة العراقيين هي أشد إلى الإحساس بالمسؤولية والمشاركة الفاعلة في عملية اتخاذ كل القرارات التي تهم مصيرهم، والانخراط الإيجابي في العملية السياسية الجارية، ومن دون ذلك فإن البيئة ستكون مواتية مرة أخرى إما للفوضى التي سيستغلها أصحاب العضلات الأقوى، والنفوذ الأوسع، والصوت الأعلى للانفراد والهيمنة، أو لنخب متسلقة ومنعزلة عن مساحاتها الاجتماعية ومشكوك في شرعيتها لكي تستثمر الاحتلال وتسعى في الحصول على رعايته وحمايته وتعظم من الموارد التي تتيح لها تدعيم مركزها السياسي والاقتصادي.

ورغم أن التحديات الثلاث هي أخطر ما يواجهه العراقيون في هذه المرحلة التي تتصف بالسيولة والاضطراب الداخلي، فإن التحدي الرابع المتمثل في التفاعل مع الإقليم لا يقل أهمية، ولا ينفصم عن العملية الجارية. فلقد أدخل الاحتلال العراقَ في مرحلة جديدة أصبحت فيها آفاق المستقبل مفتوحة على شتى الاحتمالات، والتي ستتبين قريبًا وفق الطريقة التي سيحسم فيها العراقيون خياراتهم الكبرى مما سيترك بصماته الواضحة على الوضع الإقليمي.
إن قائمة العناصر التفاعلية طويلة ومتشعبة تبدأ من الوضعين الشيعي والكردي، وتمر بالنفط ومعادلات الأمن والاستقرار في المنطقة، وبمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، وتنتهي باستحقاقات التغير السياسي في المنطقة التي أنضجها الحدث العراقي.
إن لكل واحد من هذه العناصر تأثيراً هائلاً على الطريقة التي ستظهر فيها المنطقة لاحقا، سواء على مكانة الدول الحليفة لاميركا مثل تركيا وإسرائيل ومصر والأردن والسعودية، أم دول أخرى تمر في مرحلة تغيير اتجاه البوصلة مثل سوريا وإيران.

وإذا كان التدخل الأميركي قد أدخل المنطقة في صدمة وذهول فإن الأداء الأميركي والنموذج العراقي المأمول سيحسمان إذا كان هذا التدخل سيؤدي إلى بناء دولة حديثة تصبح قوة مثالاً في المنطقة وخلق واقع جديد فيها، أم أنه سينتهي مثل نهاية أي استعراض أخرق للقوة أو مغامرة فاشلة مثل تلك التي جرت في أفغانستان والصومال.

التيارات صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير في دول الإقليم، خصوصاً إيران والدول العربية، لم ترفع صوتها بعد ولكنها تنتظر فرصة نجاح التجربة العراقية لتقول كلمتها ، غير أن التيارات المتسلطة سواء التي في السلطة أم التي تكمن للانقضاض عليها هي التي كشفت سريعا عن رفضها المكبوت أو حتى كشرت عن أنيابها في أن ترى هذه التجربة توأد في مهدها.

إن فكرة التغيير الديموقراطي في المنطقة التي أطلقتها الحرب على نظام صدام، ومهما تكن درجة صدقيتها أو إمكانات تحقيقها في المديين القريب والمتوسط لا بد أن تطلق صراعا بلا تردد وبلا هوادة. فصقور الإدارة الاميركية سيرون أن نجاح مخططهم في العراق يعني استخدام قوة الزخم التي ولدها لكي يكون محرضا أو محفزًا للتغيير في المنطقة. ولأن الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، فإن الأنظمة والجماعات السياسية المهددة لا بد أن تسعى بالمقابل لإفشال المشروع العراقي وتقويضه قبل أن يرى النور، وذلك بأن تلغم طريقه بكل ما يمكن أن يفجره، ابتداء من المواقف التحريضية والتيئيسية وانتهاء بالتآمر المكشوف.

إن تجربة العراق منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وحتى الآن، تثبت أن هذا هو الصراع الأكثر أهمية للعراقيين الآن، وهو تحديهم الأكبر نحو إنجاز حريتهم وبناء بلدهم على أسس العقيدة والمواطنة الحقيقية والمشاركة والعدالة والمساواة والسلام.على العراقيين أن يثبتوا لأنفسهم وللعالم بأنهم بشر جديرون بما صنعوه بعد أن بدى مستحيلاً، وأنهم قادرون الآن على صنع الممكن، ولن يعودوا أبدا لا إلى وطن القهر والأحزان ولا إلى المنفى.

*الحياة 11/5/03

                        أمام العراق فرصة

لا يزال شلال الدم يتدفق في العراق وكأنما كتب على أهل الرافدين ان تعيش اجيالهم المتلاحقة وعبر تاريخهم في دورات متلاحقة من العنف والرعب والدمار. فالحلم الذي تحقق بزوال نظام الطغيان والاستبداد الصدامي يبدو كأنه تحول الى كابوس بينما تبدد الأمل الذي تفتحت ابوابه نحو غد مشرق يعيش فيه العراقيون بلا خوف وبلا سجون تتعالى داخلها صرخات المعذبين وخلف جدرانها عويل الثكالى واليتامى.

هذه الصورة القاتمة لعراق الحاضر تثير اليأس وتجلب معها احساساً بالقنوط اذ انها تحل محل صورة اخرى كان يفترض ان تسود لشعب يعيش ازهى حالات فرحه وابتهاجه بعدما زال فعلياً كابوس جثم على حياته طويلاً وانفتحت امامه فرصة حقيقية للوثوب الى امام. هذه الصورة توحي وكأن شعباً خرج لتوه من كهف صدام المظلم اختار العودة اليه عبر العبث والجنون وكأنه قدرهم الذي لا خلاص منه بدلاً من السعي الى الخروج الى النور ومحاولة اكتشاف سبل جديدة للحرية وللامل والانضمام الى صفوف الانسانية ومسار انجازاتها الحضارية الباهرة.

غير ان هذا ليس بالتأكيد واقع العراق الحقيقي وسيكون خطأ فظيعاً افتراض أن الجثث التي تتراكم والدم الذي ينزف والدمار الذي يحدث هو خيار العراقيين او قدرهم المحتم. لقد ساهم الاحتلال والاخطاء الشنيعة التي ارتكبها اضافة الى عجز القوى التي تصدت لقيادة المرحلة الانتقالية بقيام هذه الفوضى إلا ان الحقيقة الواضحة هي ان دوامة العنف الطائش هي التي تقف وراء هذه الرغبة بإثارة الرعب والترهيب والتي يجب ايقافها سريعاً قبل ان تتبلور الى بؤرة صراع وطني تطيح آمال انبعاث العراق الجديد.

من الواضح لأي ذي بصيرة ان من يقف خلف هذا العنف الشرس هم يتامى وشراذم النظام البائد المتحالفون مع الفئات الارهابية الكامنة والوافدة مستغلين شعار مقاومة الاحتلال في محاولة يائسة لإخفاء دوافعهم الحقيقية وهي ببساطة الافلات من الحساب عن الجرائم البشعة التي ارتكبوها بحق الشعب والدفاع عن المصالح الانانية والامتيازات غير المشروعة التي تمتعوا بها طيلة عقود طويلة والعمل على استعادتها. كما انها محاولة خبيثة لادعاء المقاومة واظهار العراقيين جميعاً وكأنهم لا يقفون ضد الاحتلال الاجنبي ولا يعملون على استعادة استقلال بلدهم وسيادته، اضافة الى كونها وبسبب تركز العنف في مناطق المثلث العربي السني محاولة مضللة لاحتكار تمثيل اتجاه طائفي معين في الطيف العراقي المذهبي والديني والعرقي الواسع.

لهذا كله فإن هذه الاعمال مهما كانت نسبة التأييد لها في الحيز الجغرافي الذي تنشط فيه لا يمكن ادراجها ضمن اعمال المقاومة الوطنية” اولاً لانها مختبئة في جحور في مناطق معينة في الوقت الذي يقوم باقي العراقيين بمقاومة فعلية لتقصير عمر الاحتلال واجلائه واستعادة السيادة الوطنية، وثانيا لانها مجرد اعمال عنف لاتحمل برنامجاً ايجابياً مستقبلياً لاعادة بناء الوطن المدمر بل تخفي وراءها هدفاً رجعياً واضحاً وهو عودة النظام القديم في الوقت الذي يهدف كل العراقيين الى خوض تجربة جديدة تعبد الطريق نحو مجتمع الحرية والعدل والمساواة.

غير انه يجب عدم الاستخفاف بهذه الزمر ولا التهوين من تكتيكاتها الماكرة او من اهدافها اذ انها ترمي في النتيجة النهائية الى تعطيل عملية اعادة بناء العراق التي ينبغي ان ينهض العراقيون جميعا على انجازها بشكل تكافلي وعلى اسس جديدة ومتينة من دون شك وريبة وارادات مريضة.لقد حذرت قبل اندلاع الحرب وفوق هذه الصفحة بالذات من ان خيار صدام لن يكون الا خيار شمشون البغيض وهو تدمير العراق وشرذمته قبل ان يرفع راية استسلامه او يختفي الى الابد. ولان حلم صدام وعصابته في العودة الى حكم العراق مثل حلم ابليس في العودة الى الجنة فإنهم يلجأون اليوم الى وسائلهم الخسيسة نفسها في الغواية لتحقيق هدفهم في تدمير العراق من خلال دفعه الى حرب اهلية وبالتالي تقسميه.واذا اتفقنا على ان معظم اعمال العنف تتم في منطقة المثلث العربي السني، وهي حقيقة لا مراء ولا جدال فيها، فإن من البديهي التساؤل لماذا هي تتركز هناك، وأية علاقة تربط بين هذه المنطقة وبين مسلسل العنف الذي ينطلق منها؟ وقبل الجواب لا بد من تأكيد ثلاث حقائق اساسية تحمل كل منها في الوقت نفسه وفي طياتها تناقضاتها الضمنية وهي: اولاً، عدم وجود تجانس سياسي واجتماعي وعشائري في هذه المنطقة على رغم مما يبدو من توافق بين المشاعر القومية والدينية قام عليها تحالف التيارين في الحقب الماضية” وثانياً، انها مثل غيرها من المناطق العراقية عانت من ظلم النظام الصدامي وممارساته الاستبدادية على رغم انها ظلت المصدر الاساس لدعم اجهزته المختلفة بالعدد وتلقي افضل الامتيازات” وثالثاً انها مثل غيرها من المناطق العراقية ظلت رغم استشراء العنف فيها وفية وملتزمة بصيغة الوطن العراقي الواحد على رغم انها لا تخفي قلقها او حتى عدم راحتها لصيغة الوطن الجديد ذي الهويات المتعددة التي كانت مطمورة في ظل شعارات ورايات الوحدة للانظمة السابقة.هذه الحقائق تساعد على الاجابة على السؤال وهو ان العلاقة بين القائمين بأعمال العنف ومنطقة المثلث السني هي ليست تكوينية ولا عضوية بل هي افتراضية وفي احسن الاحوال ظرفية قائمة في لحظة معينة على رهانات وحسابات نفعية بحتة رغم الانسجام والتوافق الظاهري بينهما.ففي احد طرفي المعادلة تقف اليوم هذه المجموعات، أي فلول النظام السابق والطفيليات التي اعتاشت عليه، والتي ترفض الاقرار بالهزيمة وتجد مأوى لها في بيئتها الطبيعية، بينما يقف في الطرف الثاني بعض الاوساط داخل الوسط السني التي تعتقد بأن هزيمة الاحتلال وخروجه سيعيد للسنة دورهم ومركزهم السابق كقوة مهيمنة على النظام السياسي والمجتمع الذي احتفظوا به خلال اكثر من ثمانين عاما من عمر الدولة الحديثة وحوالي خمسمئة عام من عمر الدولة العثمانية التي سبقتها.

وفي الواقع هنا يكمن خيار صدام الشمشوني وغوايته الشيطانية المتمثلة في لعبة العنف الدموي المدمر الذي يستهدف منع نهوض عراق جديد يقف باقدام ثابتة على ارض التاريخ الصلبة ولاجهاض صيغة التعايش السلمي بين مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية وهوياته المختلفة.هذا بالضبط هو ما يسعى اليه صدام ويحاول ان يجر معه في تنفيذه اولئك الذين لطخت اياديهم بدماء العراقيين وسارقي ثرواتهم او اولئك الذين عمت بصائرهم عن رؤية المعاناة الاليمة طيلة كل السنين الماضية او اولئك الذين يريدون الاحتفاظ بامتيازاتهم غير الواقعية ويفرضون مطالبهم غير المشروعة ويتوقعون على الدوام الحصول على المزيد من المكاسب.

إذن ما العمل لوقف هذا المخطط الصدامي الشمشوني؟ لا بد في البداية من فك ما يبدو كأنه ارتباط بين بقايا النظام الصدامي وبين المثلث العربي السني. ما ينجح هذا العمل ان ذلك الارتباط طارىء ولم يتشكل في اي بوتقة صلبة، وبلغة عملية بحتة يمكن القول ان الصدّامية بتراثها الضارب في الوحشية الاستثنائية اصبحت من مخلفات الماضي بينما سنّة العراق شأنهم شأن شيعته واكراده وطوائفه وقومياته الاخرى يضربون بجذورهم في الارض العراقية، كما ان مستقبلهم والحفاظ على اسباب بقائهم اكبر من ان يحصر في تلك الشراكة الوهمية مع البعث خصوصاً في طبعته الصدّامية. الخطوة الثانية يجب ان تكون انخراط المناطق السنية فوراً وبفاعلية مع المناطق والمحافظات الاخرى في العملية السياسية الجارية بهدف الاتفاق على مشروع وطني لانهاء الاحتلال واسترجاع السيادة والاستقلال ولاعادة بناء العراق على اسس جديدة، اسس تقوم على العدالة في توزيع السلطة والثروة والمساواة بين الافراد من مختلف الخلفيات الاجتماعية والانتماءات السياسية والفكرية في الفرص والمشاركة في العمل السياسي والوطني، اسس تقوم على مصالحة الادعاءات والمصالح والتوقعات المتباينة ووضعها في اطار التنافس السلمي الديموقراطي بين مواطنين احرار، اي باختصار اسس ترفض الاحتكار والهيمنة والنبذ وتقوم على تأكيد قيمة المواطنة وفعاليتها وايجابيتها في شؤون الوطن والحياة.

هل هذا ممكن؟ بالتأكيد. هناك الآن فرصة توفرها العملية الجارية لاختيار مجلس انتقالي وكتابة دستور موقت وتشكيل حكومة انتقالية كمقدمة لاستعادة السيادة والتمهيد للمرحلة التالية التي تجري خلالها عملية انتخاب هيئة تمثيلية تعد الدستور الدائم وتنتخب اول برلمان ديموقراطي تمثيلي حقيقي في تاريخ العراق. ان مشاركة سنية واسعة في العملية الحالية ليست مطلوبة فقط بالضرورة وضرورتها تتعدى الكثير من الحسابات الطائفية الضيقة الى ضمان التوازنات السياسية والاجتماعية التي هي اكثر ما يتطلبها السياق الجديد. هذا يتطلب اولا وقبل كل شيء مواجهة ودحر العنف الذي لا يهدد بتوسيع رقعة الفوضى والاضطراب فحسب، ولا يهدد عملية التحول واعادة البناء ايضا، بل يعرض العراق نفسه الى اخطار الحرب الاهلية والتقسيم. فالعنف ليس بلعبة تترك بيد ممثلي الحكم المقبور الذين خربوا البلاد ويريدون الان أن يجهزوا عليها تماماً كما لا ينبغي ان يكون العنف رهاناً على اعادة عجلة التاريخ الى وراء او تحقيق غايات شاذة وضيقة وانانية.

*الحياة/  6/12/2003

          ولماذا لا يكون دستور العراق انتقاليًا؟

“ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، وهو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها بعضاً، يحتاج ساستها الى أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي الوقت عينه أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحساسيات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا، على جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي، لا ينقادون إلى تأثرات رجعية أو أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل»… هذه كلمات للملك فيصل الأول كتبها في وصية إلى خاصته قبل وفاته بعام ونصف العام مُلخِّصًا بها تجربته في الحكم بين عامي 1921 و1933، ومعاناته المريرة وهو يحاول بناء صرح أول دولة عراقية حديثة.

وبغض النظر عما إذا كان الكيان الذي أنشأه البريطانيون لفيصل الأول أسهم هو أيضاً في الوصول إلى هذه الحال من الفشل الذريع في بناء هوية وطنية جامعة ودولة لكل مواطنيها، فمن المؤكد أن أي قارئ مطَّلع على شؤون العراق سيقف أمام كلمات الملك هذه ليقول: ما أشبه اليوم بالبارحة. وفي الحقيقة هي فعلاً كذلك، وربما هي الآن اكثر سوءاً مما كانت عليه حين دكت أسس هذه الدولة قبل اكثر من ثمانية عقود من الزمن. ولعل اكثر ما افصح عن هذه الحقيقة المؤلمة هو النقاشات والمفاوضات التي دارت حول صوغ الدستور، وكشفت عن الهوة العميقة من عدم الثقة والمخاوف وانعدام الإحساس بالأمن الذي ينتاب العراقيين ولا يزال، بعد كل هذه السنين، يقف حجر عثرة في تحولهم إلى أمة في دولة واحدة قوية البنيان.

فالآن، قد ينجح القادة السياسيون العراقيون تحت ضغوط الظروف في صوغ دستور متفق عليه في ما بينهم، إلا أن التساؤل الذي يبقى هو: إلى أي مدى سيكون في إمكان العراقيين بكل مللهم ونحلهم قادرين، على منع هذه الانقسامات من أن تنزلق بهم إلى مهاوي الصراعات والحروب الأهلية من جهة، وبناء دولة ديموقراطية تعددية موحدة تحل مكان الكيان الهش والهزيل الذي عجز طيلة هذه السنين عن صهرهم في بوتقة هوية وطنية واحدة عميقة ومتماسكة من جهة أخرى. ولأن الأمر يرتبط بوجود نخب سياسية في موقع القيادة والتوجيه، فان نقطة البداية كما أشار فيصل الأول قبل سبعين عامًا هي التساؤل عما إذا كانت النخب العراقية الحالية التي تتصدى لمشروع التغيير تتميز بالحكمة والعدل والتدبير والقوة والبعد عن الأهواء الشخصية أو الطائفية، من دون انقياد للتأثيرات الرجعية أو الأفكار المتطرفة. وهذه مؤهلات افتقدها أجدادهم الذين اشتكى منهم ملك يقول بعض الكتابات المنصفة انه كان يسعى باجتهاد وجد لبناء دولة حديثة.

ابرز، وربما ابشع، ما كشفت عنه مفاوضات الدستور هو أنها كانت تجري على خلفية طروحات تفوح منها رائحة الانتهازية المغلفة بالشعارات العصبوية الغاضبة، وحتى الشوفينية والطائفية، كما تجلت فيها نيات غير وحدوية وأحيانًا انفصالية. فعلى عكس الآمال المرجوة والتوقعات الواقعية للتجربة الجديدة لم نسمع في المعالجات المطروحة أصواتًا تنادي بالدعوة للتمسك بالهوية التاريخية المشتركة للعراقيين والأهداف التي تجمعهم وتطويرها، بل على العكس من ذلك كانت غالبية الأصوات العالية تنأى عن تدعيم الروح التكافلية المطلوبة في لحظات التحول الكبرى وعن الأرضية المشتركة التي ينبغي قيام العراق الجديد عليها. وغابت في لجة السجالات التي رافقت المفاوضات تلك اللغة التي تعكس روح الاعتدال والتسامح والمرونة والتكيف، وحلت محلها لغة شمولية وذرائعية حادة في عواطفها وانفعالاتها لا تضع أهمية لترسيخ قواعد تعايش سلوكية ديموقراطية.

فالمعروف أن كتابة الدساتير، كما توضح التجارب التاريخية الغنية للشعوب، هي عملية تعلم بالدرجة الأولى تهدف إلى أن تقوم الشعوب بصوغ قانوني للعقد الاجتماعي والسياسي الذي يربط بين مكوناتها المختلفة على قاعدة التوازن بين الصراعات والرغبات الانشقاقية من ناحية، وبين الحاجة للإجماع من ناحية ثانية. وبالنسبة للتجربة العراقية الحالية في كتابة الدستور فان هناك جانبًا مغفلاً تمامًا في هذه التجربة، وهو مشاركة العراقيين أنفسهم في كتابة أهم وثيقة في حياتهم، ما يشكل عيباً فظيعاً في العملية التعليمية التي يتطلبها تحقيق المشاركة الجماهيرية في صون العملية الديموقراطية. إذا كان الدستور كتب للناس ومن أجلهم فمن الأجدر والضروري أن يكونوا في قلب العملية، حتى يصبحوا مستعدين في نهاية المطاف لقبول الوثيقة الناتجة والمحافظة عليها أو على الأقل أن يتفهموا الأسباب التي أدت إلى صياغتها النهائية. ومع الأسف الشديد، فإن ذلك لم يتم. واقتصر الأمر برمته على تسويات أبرمت بين النخب الفئوية التي تحصنت بعدد المقاعد التي فازت بها في الانتخابات الماضية.

إن فكرة صوغ الدستور من لجنة منتخبة من الشعب فكرة جذابة ضمانًا لتحقيق مبدأ سيادة الشعب الذي يجب أن يمتلك السلطة ويخولها بعد ذلك لمن يمارسها باسمه. لكن الدستور هو في النهاية وثيقة لا تعكس فقط التجربة التاريخية لشعب ما، وإنما أيضًا روحه، ما يحتم أن يكون مختلفًا في طريقة صوغه بين شعب وأخر. وعلى هذا الأساس، فإن خصوصية الوضع العراقي الذي جرت الانتخابات في ظله كانت تتطلب منهجية وآليات مختلفة لتدوين الوثيقة الدستورية تمنح اكثر فئات الشعب وأفراده حيزًا اكبر من المشاركة ضمن الخبرة المتوفرة تفاديًا لجموح وطغيان الغالبية والتكتيكات الائتلافية الراغبة في انتزاع اكبر قدر من المزايا الفئوية على حساب تعظيم حقوق الأفراد وحرياتهم بل على حساب الدستور نفسه الذي يخشى أن يولد مفرغًا من أيّة ثقافة اندماجية وفاعلية سياسية تخفف من حدة الصراعات.

إن مصالحة الادعاءات المتضاربة وتأكيد الضمانات للحقوق والحريات التي تتمتع بها القوميات والأديان والطوائف أمر جوهري وإيجابي في كتابة أي دستور في بلد تعددي. لكن كل متابع للطريقة التي شكلت بها لجنة صوغ الدستور والمساومات التي شكلت قاعدة مناقشاتها والجدل الحامي الذي أججته لاحظ أنها أدت إلى أن تأخذ كتابة الدستور منحى أخر، منحى يضع أسسًا لترسيخ القيم التصارعية بدلاً من تعزيز التكافل والتماسك واللحمة الوطنية. وكل من تابع المناقشات التي صاحبت كتابة مسودة الدستور يدرك أن القيادات الفئوية التي قادت العملية، من دون مشاركة جماهيرية حقيقية، كانت اقرب إلى تدوين وثيقة تسويات نخبوية مرحلية وليس عقدًا سياسيًا اجتماعيًا دائمًا، الأمر الذي يهدد جوهر العملية الديموقراطية التي ينبغي أن يؤطرها دستور يحظى بالتزام شعبي واع لا لَبْسَ فيه.

لذلك، كان من الأجدر أن يكون هذا الدستور انتقاليًا يعبر عن حاجات المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق ويضع الأسس المتينة لإقامة العراق التعددي الديموقراطي الموحد الذي هو شعار الجميع وهدفهم الآن. فإذا كان تدوين الدستور هو عملية تثقيف من الطراز الأول، فإن اكثر ما يحتاجه العراقيون، نخبًا وجماهير، في الوقت الحالي هو التعلم… تعلم قيم الديموقراطية الحقيقية وهي الحوار والاعتدال والتسامح والمساواة وإقامة العدل والتقريب بين النسخ المتعددة للحقيقة ومصالحة التوقعات المتعارضة مع الموارد المتوفرة، على اعتبار أن كل ذلك هو مقدمة لإعادة تشكيل مجتمع سياسي افتقده العراق خلال عقود طويلة. إن العراقيين الذين عانوا سنين طويلة من عسف الأنظمة الديكتاتورية والشمولية وقساوتها هم أشد الشعوب حاجة للمرور بعملية التعلم والدستور الانتقالي وحده سيضمن إتمام العملية الضرورية هذه بسلاسة وهدوء، في انتظار الفترة التي سيتاح لهم فيها تدوين دستورهم الدائم عبر مشاركة شعبية واعية وواسعة، من دون هيمنة خيارات النخب أو خضوع للتفاعلات المرحلية أو أي نوع آخر من الضغوط.

بغض النظر عن الأساطير التي حاكها مخططو الاحتلال، فان مشروع التغير في العراق يجب أن يكون ديموقراطيًا وحداثيًا نهضوياً متجاوزاً كل التجارب التي مرت قبله، ولم لا مقدماً أيضاً، نموذجاً جديداً للبشرية في معنى التعدد داخل الوحدة. إنها حاجة عراقية قبل أي شيء أخر، لأن البدائل الأخرى كما تنذر في الأفق سيئة، بل مدمرة وكارثية. ومن المشكوك فيه الآن أن هذه النسخة من الدستور والأجواء التي أحاطت بعملية صوغها والنقاشات التي أثارتها ستؤدي إلى النتيجة المرجوة. ومن أجل ألا يقع العراق بعد خروجه من قسوة النظام الشمولي وظلمه ودمويته في براثن الفوضى والحرب الأهلية والتقسيم، يجب أن يأخذ العراقيون وقتهم الكافي لكتابة وثيقة دستورية جديرة بتضحياتهم ومعبرة عن تطلعاتهم الحقيقية، لا تطلعات النخب التي تتصدى لقيادتهم في هذه المرحلة الانتقالية الهشة السائلة المتحركة.

* الحياة/  23/ 08/2005 

                  خريطة سياسية عراقية تتشكل

يكثر الحديث في الأوساط السياسية العراقية عن تشكيل جبهات وتحالفات وائتلافات جديدة وسط توقعات بتغيرات جذرية في الخريطة السياسية للبلد الذي سيقف بعد أسابيع قليلة على عتبة منعطف جديد،

حين سيكون أمام الادارة الأميركية أن تقرر استراتيجيتها المقبلة في ضوء التقويم المتوقع لنتائج الخطة الامنية التي قادها الجنرال ديفيد بترايوس. ولا يقتصر الكلام على إعادة إنتاج التحالفات بين الكتل البرلمانية الحالية أو في داخلها، بل يمتد أيضا إلى صفوف جماعات المقاومة التي يتحدث البعض منها أيضا عن برامج لجبهات وتحالفات سياسية مقترحة، بعد أن ظلت خلال السنوات الاربع الاخيرة تركز على العمل المسلح، مستنكفة عن أي نشاط سياسي. المفاجآت التي قد تنطوي عليها إعادة التقويم، مثل قرار بانسحاب أميركي، حتى ولو كان جزئيا، ربما تكون الدافع لمثل هذه الاستقطابات، على رغم أنه من المبكر جدا الحكم على نتائجها، وخصوصا بشأن تحديد مستقبل العراق ذاته. فالواضح أن هناك حركة دائبة في أوساط الكتل السياسية التي ما تزال خريطتها تتشكل منذ سقوط نظام صدام حسين، غير انها هذه المرة تتم وسط أجواء أكثر تعقيدا لأنها تجري ضمن الانشطارين العمودي والافقي للمكونات المذهبية والقومية العراقية، بعد أن ظلت خلال السنوات الأربع الماضية متمركزة في إطار الصراع النمطي حول السلطة والثروة بين شيعة وسنة وعرب وأكراد. الحراك السياسي الحالي يتجاوز ذلك النمط هذه المرة، كي يدور داخل كل مكون من هذه المكونات، مما قد يوفر في مرحلة لاحقة أرضية لايجاد قواسم مشتركة للقاء بين المكونات المختلفة، على أساس توافقي، أخفقت في الوصول إليه في المرحلة السابقة. هناك مؤشر على وجود رغبات في هذا الاتجاه سواء من خلال طرح جبهة المعتدلين من قبل أطراف العملية السياسية، أو جبهات أخرى أعلن عنها تضم سنة وشيعة معارضين لها، أو حتى تلك التي تمثلها التحركات العشائرية المشتركة التي جرت في بعض المناطق. فعلى الجانب الشيعي وعلى رغم قرار التيار الصدري العودة إلى البرلمان أخيراً فإن التصدعات في الائتلاف العراقي الموحد لم تعد خافية، حتى أنه من الصعب القول الآن بوجود ائتلاف شيعي غير ذلك التعاون والتنسيق الهش بين «المجلس الاسلامي الاعلى» وبين «حزب الدعوة»، وعلى الارض هناك احتقان، بل صراع ضارٍ ودموي في الشارع الشيعي، يتمثل في تلك النوبات من الاقتتال التي تجري بين «جيش المهدي» وحزب «الفضيلة» و «المجلس» في المحافظات الوسطى والجنوبية بين الفينة والاخرى. إن سمة هذا القتال كما اتضح في البصرة والسماوة والديوانية هو أنه صراع على النفوذ السياسي والرغبة في التحكم والسيطرة على أجهزة الدولة وعلى موارد البترول الغنية في المناطق الشيعية. وتمتد بعض هذه الصراعات إلى داخل الجماعات ذاتها، مثل التيار الصدري و «جيش المهدي» الذي أظهر في الاشهر الاخيرة أنه مثخن بالنزاعات ومفتقد لقيادات حقيقية وبرنامج سياسي واضح ومخترق من أطراف داخلية وخارجية عديدة، أما «المجلس الاسلامي الأعلى» فألقت اصابة زعيمه عبدالعزيز الحكيم بالسرطان ظلالا من الشك حول قدرته على الاستمرار في قيادة الائتلاف الشيعي وسط مخاوف من أن يؤدي غيابه إلى فراغ قيادي وصراع ليس فقط حول وراثة الحكيم، بل أيضا حول السياسات التي ينبغي اتباعها مستقبلا، وخصوصاً حول العلاقة مع إيران، وفيديرالية الجنوب والعلاقة مع باقي الجماعات الشيعية. ولا يستثنى حزب «الدعوة»، وهو الضلع الآخر للائتلاف الشيعي، من احتمالات الأزمات الداخلية في ظل صراعات متجددة حول الزعامة والاستراتيجيات المثلى التي على الحزب ان ينتهجها مستقبلا في مسعاه كي يثبت جدارته في طرح نموذج لمشروع شيعي عراقي غير متقوقع داخل الشرنقة الطائفية. اما خارج الائتلاف فلا يبدو أن المكون الشيعي موحد حول مشروع واضح المعالم، اللهم إلا في هواجس القلق والخوف من مخاطر وتحديات من الطرف السني وحاجة الشيعة إلى الوحدة والتضامن أمامها. وعلى الجانب السني العربي انطلق حراك سياسي نشط، سواء بين الجماعات المنضوية داخل العملية السياسية، أو الجماعات المنخرطة في العمل المسلح، أو في داخل الكتلة السنية الاكبر المتمثلة في القبائل والفئات الجهوية، بشكل عكس درجة عالية من التنوع، سواء إزاء الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف والمصالح السنية البحتة، أو حول المشروع الوطني لإعادة بناء الدولة العراقية ذاته. ويعكس هذا الحراك بشكل واضح عدم وجود برنامج وأجندة محددة يمكن أن تجتمع حولها الأطراف السنية كافة، كما يظهر جليا وجود تباينات سياسية وقبلية وفئوية بين السنة، إذ تستمر «جبهة التوافق» في العمل ضمن إطار العملية السياسية، بينما تظل جماعات المقاومة وخصوصاً البعثية والاسلامية المتطرفة رافضة تماما الدخول في عملية الوفاق والمصالحة الوطنية، متشبثة بآمال العودة إلى الوضع السابق. ولم يكن هذا التباين الواسع داخل الصف السني ليستمر من دون انعكاسات جذرية تبلورت في خلافات وانقسامات وتفتيت أنتج في النهاية خريطة سياسية مختلفة عما كانت عليه عند بدء الغزو، فلم يعد البعث حزبا واحدا بل انقسم إلى جناحين رئيسيين أحدهما ظل يقوده عزة إبراهيم نائب صدام السابق، والآخر مدعوم من سورية ويقوده محمد يونس الاحمد، في الوقت الذي تبعثرت فيه قيادات وكتل رافضة للجناحين، كما ظهرت تحالفات جديدة داخل جماعات المقاومة المسلحة على خلفية اختلافات وتناقضات أساسية، وخصوصاً ما يتعلق بالموقف من الشيعة وتحديد مستقبل العراق، إذ ظلت المجموعات المدعومة من «القاعدة»، وما يسمى «دولة العراق الاسلامية»، على مواقفها المتشددة، وخصوصاً باستهداف الشيعة في عملياتها الارهابية، بينما نأت باقي التنظيمات بنفسها عن المواقف المتشددة ضد الشيعة والتزمت بخط المقاومة ضد الوجود الاجنبي والخطاب السياسي المصاحب له. ولعل أبرز سمات الخلافات السنية – السنية هو الصراع الضاري الذي نشب في منطقة الأنبار إذ أسست الجماعات القبلية المتنفذة ما سمي «مجلس صحوة عشائر الأنبار»، الذي أخذ على عاتقه قتال التنظيمات المتشددة وخصوصاً «القاعدة» وطردها من مناطق نفوذ العشائر، مما وجه ضربة قاسية لتلك التنظيمات وخلق أجواء مواتية لدور سلمي أكثر إيجابية من قبل سكان هذه المحافظة السنية الكبيرة في العملية السياسية، وجاء تشكيل «مجلس انقاذ الأنبار» من تجمعات أخرى لكي يؤشر على انقسامات عمودية جدية داخل التحالف الاكبر لعشائر الدليم، فضلاً عن أنه تعبير موضوعي عن تباين المصالح والأدوار والأهداف بين زعامات تقليدية وبين قيادات بزغت في خضم المرحلة الجديدة. إن انتقال المثال الانباري إلى مناطق سنية عربية اخرى، كما يجري في ديالى مثلا، سيؤدي إلى سلسلة تفاعلات جوهرية وإعادة اصطفاف، منها ما يتعلق بإضعاف وتهميش الجماعات المتشددة وربما خروجها النهائي من اللعبة، ومنها ما يتعلق بجبهة «التوافق» ذاتها والتي لن يبقى دورها كمظلة للسنة مطلوبا حين تظهر القوى الحقيقية التي كانت وراءها، أو تبزغ قوى فاعلة جديدة تبحث عن دورها في الوسط السني مثلما هو الأمر مع أغلبية المكون الشيعي فإن أغلبية المكون السني، والتي انصاعت تحت ظروف شديدة القسوة والارتباك للشعارات الطائفية بغية حماية ذاتها من التهديدات والمخاوف والهواجس التي شعرت أنها تواجه مستقبلها ومصيرها، ربما ستجد فرصتها في التعبير عن مصالحها بشكل أفضل. هل نحن إزاء تغير جذري في الخريطة السياسية العراقية وخصوصا في المكونيين الشيعي والسني، وهل بإمكان هذا التغير أن يحدث أثرا إيجابيا على مسار الاحداث في العراق؟ الارجح نعم، ولكنه لن يتم من دون جهد حقيقي متمم من كل الأطراف المعنية. ان أحد أسباب هذا التغير، حين يكتمل، هو استنزاف الجماعات الشيعية والسنية لخياراتها المتطرفة ووصولها إلى قناعات بعدم جدوى التقوقع في مشروع طائفي ينتهي بها إلى كيانين هشين قابلين للبلع والاستحواذ من جيران طامعين، وبإمكانية العودة للحياة وللشراكة في وطن واحد متين البنيان وتحت شروط منصفة. الخطوة الضرورية الآن هي إعادة العملية سياسية لكي تستقر على أساس بناء نظام ديموقراطي توافقي حقيقي، يتجنب أخطاء الماضي، ويقوم على أساس تعددي، وعلى توازن المصالح، واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية الهائلة، في ردم الهوة وتعظيم المكاسب المتوقعة لكل الأطراف. ما تقول به الجماعات المهيمنة على الحكم، وأيضا بعض مناكفيها، الآن من الدعوة إلى تحالف المعتدلين، أو ما تبديه من استعداد لتعديل المسار، هو مجرد ذر للرماد في العيون، ولا يستهدف الديموقراطية التوافقية المنشودة. ان إعادة تشكيل الخريطة السياسية العراقية ستسارع في فرص ولوج درب هذا الحل، باعتباره الخيار الواقعي الوحيد، غير أن الأمر سيبقى في حاجة إلى ديناميات تديم وتعجل وتضبط عملية التقدم بهذا الاتجاه، خصوصاً إذا أصبح خيار الانسحاب الأميركي من العراق أمرا واقعا، فاذا كان الخطأ الاكبر الذي ارتكبه المحتلون، وهو عدم التخطيط لليوم التالي للغزو فادحاً، فإن ثمن عدم التخطيط لليوم التالي للانسحاب سيكون أكثر فداحة. هنا سيحتاج العراقيون إلى أكثر من المراجعات، وإلى أكثر من إدراك للمخاطر التي تحيق بهم. إنهم بحاجة إلى استراتيجيات لإعادة تركيب ما تفكك وبناء ما تهدم. في العلوم السياسية يسمون ذلك الهندسة التوافقية، والعراقيون بحاجة إلى أن يصبحوا اليوم مهندسين توافقيين وبنائين بعد أن هدموا كثيرا، فهل هم قادرون على ذلك؟

*الحياة/ 27/7/ 2007

             عراق بلا انتخابات… عراق بلا أمل



ببلاغة نادرة يصف الروائي جنوب الافريقي اندريه برينك اول انتخابات حرة يخوضها شعب بلاده بعد انهيار نظام التمييز العنصري بقوله: «بدأت عملية الاقتراع بانفجار مدمر في مطار يان سمنتر الواقع خارج جوهانسبرغ وذلك في ساعة مبكرة من صباح 27 نيسان (أبريل) 1994، وفكرنا ان اسوأ التوقعات تحققت بالفعل. ولكن ما ان خفت دوي الانفجار حتى ايقنا بأن تلك كانت الزفرة الاخيرة اذ حل سلام غير معهود في زمن الانتخابات الباقي ووقف الملايين خارج مراكز الاقتراع للادلاء بأصواتهم. قرون طويلة من عدم المساواة امّحت حين اصطف السود والسمر والبيض لساعات طويلة كي يضعوا تلك العلامة بجانب اسماء مرشحيهم. لقد انتظرت البلاد كلها قروناً مجيء هذه اللحظة.

ربما سيكون المشهد في المدن العراقية يوم 30 كانون الثاني (يناير) المقبل شبيهاً، قليلاً او كثيراً، بما جرى يومها في جنوب افريقيا، لكن المؤكد ان ملايين العراقيين الذين سيصطفون حينئذ امام مراكز الاقتراع تحت البرد القارس، وربما المطر، متحدّين الخوف من قنابل الارهاب ومتفجراته للادلاء بأصواتهم، سينتابهم شعور مماثل لمشاعر الجنوب افريقيين – المنعتقين لتوهم من ربق الابارتايد – والذي طالما تاقوا اليه وهو انهم حين يؤشرون على ورقة الاقتراع اسماء مرشحيهم فانهم يصنعون للمرة الاولى تاريخهم المشترك بأيديهم ويبدأون رحلة الالف ميل نحو الحرية والامل.

من الممكن، وربما من المؤكد، ان هذه الانتخابات لن تكون مثالية وسيشوبها الكثير من سوء التصرف وقلة او حتى انعدام الكفاءة، كما ان من المحتمل ان يطالها شيء من الخداع او التزوير، وهو امر ستدركه حشود الرجال والنساء والشباب الذين سيقضون ساعات طويلة في صفوف الانتظار، إلا انها ستبقى بالنسبة اليهم أكبر من مجرد حدث استثنائي يريدون به انهاء مسيرة طويلة ومضنية من الآلام والمعاناة والظلم التي سببها لهم طغيان وقهر الانظمة الاستبدادية والشمولية وسيكون هدفهم الاسمى هو أن يضعوا من خلال صناديق الانتخاب اللبنة الاولى في صرح عراق جديد، عراق ينهض على العدل والمساواة والمشاركة تبنيه ارادة وعقول جميع ابنائه بروح التعاطف والمحبة والتضامن والفهم المشترك.

لهذا لا تبدو فقط غير واقعية، بل مستهجنة ايضاً، دعوات مقاطعة الانتخاب ومحاولات تخريبها والتي تقف وراءها جماعات هي خليط من فلول النظام الصدامي الدكتاتوري والتي ترفض مبدأ الاحتكام الى صناديق الاقتراع وتؤمن بالعنف وتلجأ الى أكثر الوسائل واكثرها وحشية سبيلاً الى العودة الى السلطة، اضافة الى الجماعات التي ترفض عملية التحول الجارية نحو مستقبل اكثر اشراقاً ولا تزال تحلم بطريقة مرضية وشاذة بالعودة الى ماض ولّى ولم يعد بالامكان اعادة اختراع شعاراته التلفيقية الكاذبة. وبين اولئك وهؤلاء يقف البعض من محترفي التشويش والعاجزين عن العثور على مكانهم بين الناس يطالبون بتأجيل الانتخابات لأسباب مجافية للمنطق او لتسجيل مواقف مرتبكة وانتهازية. يضع اعضاء نادي مناهظة الانتخابات مبررات لمعارضتهم ابرزها ان الانتخابات تجري تحت الاحتلال ومن دون اشراف دولي وأنها تتم وفق قانون ادارة الدولة الذي شرع من جانب هيئة عينها الاحتلال، وهي مبررات تبدو صحيحة لولا أنها تأتي من جماعات واشخاص ليست فقط لم تألف الاحتكام الى صناديق الاقتراع او تؤمن بثقافة التفاوض بل انها تقف معادية تماماً لهذا النمط الجديد من التعبير عن الارادة الحرة الذي يشرع العراقيون بتبنيه كأسلوب لادارة حياتهم وبلدهم شانهم في ذلك شأن كل الشعوب الحية. والواقع ان التجربة التاريخية العالمية مليئة بشواهد ناصعة على ان العديد من الانتخابات جرت تحت الاحتلال، وكانت نتيجتها هي انهاء الاحتلال واقامة حكومات مستقلة وذات سيادة، بل ان زوال الاحتلال لم يكن ممكناً ابداً من دون الانتخابات.

اما الاعتراض على القانون الذي تجري وفقه الانتخابات فهو اشد تهافتاً طالما ان الهدف من الانتخابات هو اختيار مجلس وطني موقت مهمته كتابة دستور جديد دائم يضع الركائز السياسية والقانونية للعراق الجديد. ولعل الحجة المتعلقة بعدم وجود اشراف دولي محايد على الانتخابات هي الاكثر ارباكاً لانها تكشف زيف هذه الادعاءات والتي تأتي من جهات لا تزال تلجأ الى التفجيرات واطلاق النار كأسلوب وحيد للتعبير عن مواقفها السياسية. اذ كيف سيكون بإمكانها اقناع الامم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الاشراف على انتخابات وسط مجون القتل العشوائي الذي تمارسه او تباركه او حتى تغض الطرف عنه.

ما الذي يريده اذن هؤلاء من اصحاب الخيال المريض الذين يظنون بأن في امكان آليتهم الوحشية ان تعيد عقارب الساعة الى الوراء؟

انهم يريدون منع الانتخابات بل ايقاف العملية السياسية الجارية ودفنها، وبالتالي اطالة عمر الاحتلال وادامته. هؤلاء الذين ادمنوا البطش والترويع واستخدام اساليب العنف الاستثنائي في البقاء في السلطة بعدما مارسوا الخداع والتدليس في الوصول اليها لا يفقهون دروس التاريخ وعِبره التي جعلت من هذه التحولات الكبرى في العراق ممكنة، بل حتمية. كما انهم لا يجيدون السياسة من حيث انها فن الممكن والتفاوض والمساومة ويؤمنون فقط بالاساليب الشاذة طريقاً لتحقيق الاهداف والغايات، كما يفعلون الآن في ترهيب الناس من خلال حرق مراكز الاقتراع وتدمير السجلات الانتخابية وترويع اصحاب البقالات التي توزع الاستمارة الانتخابية مع المواد التموينية. هؤلاء لا يملكون اية استراتيجية بناءة او حتى خيارات واقعية، خيارهم الوحيد هو خيار شمشون، اي تدمير العراق بما فيه طالما هم لا يحكمونه ولا يستأثرون بالسلطة والثروة فيه بعد ان تمتعوا بها عقوداً طويلة.

هناك اجماع عراقي على ضرورة انهاء الاحتلال مثلما ان هناك اقتناعاً عاماً بأن الوضع الحالي ليس مثالياً ولا ينبغي ان يكون. فالغالبية الساحقة من العراقيين التي تستعد للانتخابات انما تفعل ذلك لايمانها بأن ذلك هو الطريق الاسلم والاسرع لتقصير عمر الاحتلال واقامة حكم الشعب وسيادته على بلده وعلى موارده وتمكينه من ان يقرر للمرة الأولى مستقبله بنفسه. ان الانتخابات تعني الشرعية والتي هي امس ما يحتاجه العراقيون في الوقت الحاضر لوضع لبنات هذا المستقبل الذي يجب ان يبنى على مقاربة عراقية جديدة تقوم على المشاركة والحق المتساوي في المواطنة لكل العراقيين من مختلف مللهم ونِحلهم وطوائفهم ونبذ نزعات الهيمنة والاحتكار والاستئثار التي طغت على اسلوب الحكم طيلة العقود الماضية.

 ومن الواضح ان هذا ليس هو ما تهدف اليه الفئات التي تسعى لتخريب العملية الانتخابية بإصرار لا يفوقه إلا إصرارها على التشبث بأوهام العودة الى حكم العراقيين وبأي ثمن. فالواقع، وبدون أيّة محاولة للعب على الخيال، او اللعب بالتاريخ، فإن هذه الفئات ذاتها ستكون اول المتشبثين بالعملية الانتخابية هذه وبالاحتلال الذي تجري في ظله وسترفض اي اشراف دولي عليها لو انها استطاعت التوصل الى صفقة مجزية مع هذا الاحتلال نفسه على افتراض انه يملك عرضاً مغرياً لصفقة كهذه.

هناك قضية جوهرية تتعلق بهذه الانتخابات وهي انها من الممكن، بل من الضروري، ان تشكل نقطة تحول كبرى في تاريخ العراق الحديث من خلال انبثاق المجلس الوطني الموقت الذي سيكتب ويقر دستور العراق الجديد. هي اذا انتخابات يمكن ان تعيد صياغة العراق على اسس يدكها ابناؤه بارادتهم الحرة وعلى الصورة التي تتواءم مع حقائق الحياة في بلادهم. كما انها انتخابات من الضروري ان ترسم هوية وطنية جديدة للعراقيين تتيح لهم فرصة البدء من جديد لاكتشاف نهج جديد لاعادة بناء بلدهم مغايراً للمنهج المدمر الذي سلكه النظام الصدامي البائد ودولته القمعية. ينبغي ان تكون الانتخابات بداية لعملية جبارة وان تعني للعراقيين ان تغييراً كبيراً سيجري في مواقفهم وقيمهم وآمالهم وسيكونون في نهايتها قد اختاروا بإرادتهم الحرة شكل النظام السياسي الذي سيضمهم وفق عقد اختياري ومن دون قسر او املاء.

لذلك فإن الوجه البشع لدعوات المقاطعة ومحاولات افشال الانتخابات هي انها حجبت حواراً وطنياً شاملاً ورصيناً كان ينبغي ان يصاحب عملية الاعداد للانتخابات واتاحت لحفنة قليلة من الاحزاب والتجمعات الانفراد بالقرار من دون اسهام حقيقي من جموع الناخبين والغالبية الصامتة من العراقيين الذين ابعدتهم الاعمال الارهابية عن الانخراط في اخطر واهم عملية سياسية تتعلق بتقرير مصيرهم ومصير بلدهم. ان حدثاً كهذا كان يجب ان يكون مدعاة لاطلاق حركة سياسية واجتماعية نشطة تمهد الارضية اللازمة لاحياء السياسة باعتبارها الاداة الاكثر نجاعة في حل الاشكاليات القائمة وتوسيع المشاركة المؤسسية من خلال القنوات الشرعية وبناء ثقافة الحوار وزيادة الوعي بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه عملية اعادة البناء. ان الغياب القسري للحركة الجماهيرية وانزواء النخب السياسية والاجتماعية واحجام القيادات الفكرية والثقافية عن المشاركة الحقيقية في الحوار، بل غياب هذا الحوار نفسه، لا بد ان يترك بصماته السلبية على نتائج الانتخابات غير أنه لا ينبغي ان يقود الى الاحباط والقنوط وهو غاية ومرام اعداء التحول والساعين الى افشاله.

وهناك وجه اكثر بشاعة صاحب دعوات المقاطعة الا وهو الوجه الذي تفوح منه رائحة الطائفية النتنة والدعوات المذهبية المقززة التي تربط نتائج الانتخابات بهيمنة طائفة مذهبية على اخرى. لا احد بإمكانه، وليس من الحكمة ابداً، اغفال التنوع الديني والمذهبي والعرقي للمجتمع العراقي، فتلك حقيقة بديهية كلف تجاهلها او التعالي عليها العراقيين ثمناً باهظاً خلال العقود الثمانية الماضية من تاريخ دولتهم الحديثة، غير ان الاقرار بتنوع الهويات في العراق وحق اصحاب هذه الهويات بالتميز شيء والعزف على الوتر الطائفي شيء اخر تماماً. ان من حق كل مجموعة عراقية ان تمارس طقوسها وان تعبر عن ثقافتها بل ان تعبئ جماهيرها سلمياً من اجل نيل كافة حقوقها السياسية لكن ضمن مفاهيم ومبادىء المواطنة الحقة وقيم التسامح الاخوية والانسانية والحضارية. وليس الرهان الطائفي، الذي ربما يكمن عند بعض اصحاب الخيال المكبوت او ذوي النيات السيئة، بغيضاً من الناحية الاخلاقية فحسب بل انه غير عملي سياسياً وسيكون خياراً انتحارياً لأنه ببساطة لا ينتمي الى الواقع العراقي والاقليمي بأي صلة.

تلك تبدو استنتاجات أراها مقبولة عند اغلب العراقيين الجدد ان لم يكن جلهم. لكن يبقى ان يشاهدهم العالم – مثلما شاهد بإعجاب جنوب الافريقيين البيض والسود والسمر قبل اربعة عشر عاماً – وقد خرجوا جميعاً شيعة وسنة ومسيحيين، عرباً واكراداً وتركماناً وآخرين من جميع الملل والنِحل وقد اصطفّوا امام مراكز الاقتراع يوم 30 كانون الثاني (يناير) المقبل للأدلاء باصواتهم متحدين الارهاب، ينظر احدهم بعين الاخر بهدوء وثقة، لكي يرى تاريخاً مشتركاً ومستقبلاً اكثر تفاؤلاً. اما اتباع ودعاة العراق القديم من فلول صدام حسين والحالمين بعودة نظامهم للسلطة فعليهم ايضاً ان يدرسوا تجربة جنوب افريقيا، فقد اضحى شعبها الآن ماسكاً بتلابيب حاضره ومستقبله بينما انزوى نظام الابارتايد في احدى سلات مهملات التاريخ.

*الحياة 23/12/2004

      هل دقت ساعة العمل العربي في العراق؟

في المرحلة السابقة على الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كان واضحاً لكل صاحب بصيرة أن التغيير الذي سيحدث في بغداد سيضع كامل المنطقة على أعتاب عصر جديد. عصر سيطلق معه عملية تغير شاملة في المنطقة، ربما سيتجاوز دوره هزها وتغيير كثير من القديم السائدة فيها من مفاهيم وأفكار وسياسات ونظم، إلى تحولات جذرية في خريطتها الجيوسياسية. وكان السؤال الذي يتردد بإلحاح هو ما الذي فعله العرب، دولاً وشعوباً وحكومات، استعداداً للتعامل مع المرحلة المقبلة بكل استحقاقاتها، بعيدا من الجعجعات التي ميّزت تعاملهم في قضايا كبيرة واجهتم خلال تاريخهم الحديث وعلى رأسها قضية فلسطين.

كان بديهياً أن أنظمة عربية كتلك، ستبدي تضامناً غير محدود مع نظيرها في بغداد، وهو الأمر الذي عبرت عنه قرارات الجامعة العربية ومؤتمراتها ومواقف أمينها العام عمرو موسى التي ظلت حتى آخر لحظة تقاوم عملية التغيير التي كانت أصبحت حينها أمراً محسوماً على أرض الواقع الدولي، بعدما ظلت سنوات طويلة مطلباً شعبياً عراقياً ملحاً. وإلى جانب التضامن القبلي المعهود بين الأنظمة العربية، كان واضحا أن لدى هذه الأنظمة هواجس حقيقية من الهزات الارتدادية لزلزال التغيير في بغداد كانت تدفع بها إلى إبداء ذلك الرفض القوي لعملية التغيير.

كانت هناك مخاوف من أن يؤدي تغيير النظام بتلك الطريقة العنيفة إلى تقسيم العراق إلى كيانات صغيرة على أسس دينية أو طائفية أو إثنية، ما سيثير تداعيات لا حصر لها على أوضاع مشابهة في الدول المجاورة. كان التخوف قائماً أيضاً من إمكان تدخل دور الجوار بما لها من امتدادات ومصالح، ما سيؤدي إلى مفاقمة الأمور ويستدعي تدخلات إقليمية مقابلة. ومن المخاوف الرئيسة الأخرى هو أن نظاماً جديداً في بغداد آت على ظهر الدبابات الأميركية، سيجعل العراق حليفاً استراتيجياً قوياً للولايات المتحدة في المنطقة ما سيعزز من هيمنتها فيها ويطلق يدها في شؤونها. كانت هناك مخاوف أيضا من تربص إسرائيل لترسيخ وجودها وقوتها في المنطقة، ما سيؤدي إلى تقويض ما تبقى من توازن هش لصالح إسرائيل، ويتيح للدولة العبرية فرض شروطها للتسوية النهائية على العرب والفلسطينيين.

ولعل أهم تلك المخاوف هي التي أتت من توقع انعكاسات التغيير الدرامي في بغداد وتداعياته على الأوضاع السياسية الداخلية في البلدان العربية، خصوصاً أنه ترافق مع هجمة أميركية على المنطقة تستهدف ثورة إصلاحية جذرية في بناها السياسية والثقافية.

ولكن على عادة العرب ظلت مخاوف أنظمتهم تعبر عن نفسها في مواقف إعلامية وبيانات ختامية لاجتماعات استعراضية، بينما عبر سدنة الشارع العربي عنها بمواقف هي مزيج من الجهل والانتهازية السياسية المشبعة بروح القبيلة وعصبيتها وهوجة الغوغاء وزعيقهم. وفي حمى هذه الجعجعة غاب الموقف السياسي الجدي الرشيد المسؤول عما يمكن عمله تجاه العراق، بينما بدأ كثير من هذه المخاوف التي راجت قبل الحرب يتعمق حين أفاق العرب على الزلزال العراقي وهو يحدث الكثير من الارتدادات في منطقة ميزاتها الأساسية أنها هشة، كثيرة العورات… وضعيفة المناعة.

كان طبيعياً إذن أن تصطدم رغبة العراقيين في التخلص من نظام مسخهم وجودياً، كما لم يفعل أي نظام أو حاكم من قبل، مع حاجة النظام العربي إلى الحفاظ على «ستاتيكيته» وخشيته من التغيير. ما لم يكن طبيعياً هو عدم رغبة العرب في التعامل مع حتمية التغير في العراق باعتباره حاجة عراقية ماسة وفقا لخيارات العراقيين أنفسهم وليس حاجات وإملاءات الآخرين، وعدم استعدادهم لقبول الوضع العراقي الجديد بكل تعقيداته التاريخية والسياسية والاجتماعية. على خلفية هذا التناقض الموضوعي جرت الأمور بين العراقيين، وعلى وجه الدقة معظمهم، وبين العرب مما خلق تلك الفجوة النفسية الشبيهة بين الفلسطينيين والعرب بعد الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1948 حين اتهم الفلسطينيون العرب المهزومين بالخيانة والتواطؤ وبادلهم العرب الاتهام بالخيانة وبيع أراضيهم لليهود والهروب من بلدهم بدلاً من المقاومة والصمود.

بعد اكثر من عامين ونصف العام على التغيير في العراق وحال عدم الاستقرار التي أوجدها وحال التناقض بين العرب والعراقيين التي أطلقها، هناك الآن محاولة لبلورة «استراتيجية عربية» تجاه العراق، كما افصح اجتماع وزراء خارجية لجنة الجامعة العربية الخاصة بالعراق. هذه المحاولة تستحق أخذها بجدية فائقة من كلا الطرفين حتى لو جاءت متأخرة، وعلى رغم الألغام التي وضعت في طريقها قبل أن تبدأ. غير أن المؤكد أن فرص نجاحها سترتبط منذ البداية بضرورة المصارحة والمكاشفة والفهم المتبادل لمصالح كل طرف وواقعه وظروفه وتوافر النية المخلصة لإيجاد قواسم مشتركة مبنية على أساس العلاقات والأواصر التاريخية والمصالح الحالية والمستقبلية المشتركة. بغير ذلك فان هناك مخاطر حقيقية أن تأتي هذه «الاستراتيجية» بما لم يكن في حسبان واضعيها وتتحول إلى معول هدم يزيد من حجم الهوة، بل قد تضع المسمار الأخير في نعش العراق الموحد وما يربطه بعالمه العربي.

هناك بعض الأمور التي ينبغي على واضعي هذه «الاستراتيجية» أخذها في الاعتبار قبل أن يشرعوا في العمل.

– أولاً: هل هذه «الاستراتيجية» هدف ومسعى عربي خالص جاء لتحقيق مصالح وغايات عربية – عراقية، أم أنها مجرد استجابة لحاجات أميركية آنية تهدف إلى إنقاذ المشروع الأميركي من الانهيار؟ ليس من الخطأ التنسيق مع الجانب الأميركي، فهو بالتالي القوة المحتلة للعراق والأكثر نفوذا في المنطقة العربية، لكن على هذه «الاستراتيجية» أن تتجنب الانزلاق إلى الخلط بينها وبين علاقة الدول المعنية مع الولايات المتحدة ذاتها، كما حصل في مجرى الصراع العربي – الإسرائيلي. وعليها أيضاً أن تنأى بنفسها عن الاستراتيجيات الأميركية الخاصة بالمنطقة، وبالذات المتعلقة بالدول المجاورة للعراق. بمعنى آخر يجب ألا تُستخدم هذه «الاستراتيجية» لعقد صفقات مع واشنطن على حساب العراق.

– ثانياً: يجب أن يكون لهذه «الاستراتيجية»، طالما سميت كذلك، هدف واضح منذ البداية. فهل هي مجرد مبادرة نيات حسنة للمساعدة في تحقيق المصالحة الوطنية بين الأطراف العراقية المتناحرة أم أنها مسعى اشمل يهدف إلى إعادة ربط العراق بمحيطه العربي؟ ما هو مطلوب في هذه المرحلة هو خطة تحرك تدريجية مبنية على تحقيق أهداف معينة بأسلوب يجمع بين التواضع والموضوعية من دون ضجيج من الشعارات البراقة التي عادة ما تصحب مثل هذه المبادرات.

– ثالثاً: يحب أن تقبل هذه «الاستراتيجية» الوضع العراقي كما هو عليه، أي انه بلد متعدد القوميات والأديان والطوائف، وألا تتجاهل هذه الحقيقة أو أثرها في النتائج السياسية المتحققة أو المرجوة. إن أي محاولة لإلباس «الاستراتيجية» العربية لباس الطهارة أو التعالي على حقائق الواقع سيؤدي إلى انفراطها وربما يقود إلى عكس النتائج المرجوة منها.

– رابعاً: من الضروري أن يكون الدور العربي محايداً إلى أقصى درجات الحياد، وألا يظهر انحيازاً قومياً أو طائفياً إلى أي طرف من أطراف الصراع. إن «استراتيجية» قائمة على أساس الدفاع المطلق عن مصالح السنة العرب العراقيين أو تبني الأساليب المتشددة التي يطرحها بعضهم ستؤدي بالنتيجة إلى إثارة الشكوك والاتهامات من قبل الشيعة العرب والأكراد بالانحياز من قبل عالم عربي سني إلى أقرانه من العراقيين، ما لن يلحق الضرر بالمبادرة العربية فحسب، بل بمستقبل العلاقات العربية مع الأطراف العراقية الأخرى.

– خامساً: هناك حاجة ماسة الى العديد من إجراءات بناء الثقة التي تساعد في إقناع العراقيين بأن هدف «الاستراتيجية» العربية هو مساعدتهم فعلاً، لا مجرد إضاعة الوقت بمبادرات ومشاريع وزيارات لا طائل من ورائها. ويأتي ضمن هذه الإجراءات العمل الجدي على مكافحة الإرهاب في العراق من خلال جهد حقيقي لضبط الحدود والضرب بشدة على الشبكات الإرهابية المغذية في الدول العربية، والمجاورة منها بشكل خاص، وتجفيف منابعه البشرية والمالية والفكرية، ومنع أي شكل من أشكال التحريض من خلال وسائل الإعلام العربية كافة، وإقامة المؤسسات التي تهدف إلى مواساة ومساعدة العراقيين من ضحايا الإرهاب.

– سادساً: يجب التخلي عن النظرة الضيقة إلى العراق كونه مصدراً للصفقات المالية السريعة، وعدم استغلال الأوضاع المأسوية التي يمر بها لجني أرباح اقتصادية آنية على حساب النظرة بعيدة المدى. يجب أن يشعر العراقي بأن ما يقوم به العرب تجاهه مبني على أساس من الاحترام المتبادل والتكافؤ وتوازن المصالح، وليس مجرد توظيف المبادرات السياسية بهدف اغتنام الفرص لجني المكاسب المادية.

– سابعاً: من الضروري أن يكون هناك وجود عربي حقيقي وفاعل في العراق على المستويات السياسية والديبلوماسية والثقافية، وأن تُتبع سياسة الباب المفتوح أمام كل ألوان الطيف العراقي لدخول الدول العربية في أطر الحوار وتبادل الأفكار في شكل حر وموضوعي، بما يغني معارف الطرفين عن بعضهما ويقرب بين مواقفهما. يجب أن تتخلى الدول العربية والجامعة العربية والشارع العربي عن الإصغاء إلى صوت واحد، وأن تصيخ السمع إلى مختلف الأصوات العراقية.

إذا كانت ساعة العمل العربي في العراق دقت فعلاً بعد طول انتظار وتردد، فإن في انتظار العرب جميعاً عملاً شاقاً لكي يكلل هذا العمل بالنجاح. علينا أن نرى أولاً إن كانت هناك حقاً استراتيجية حقيقية وأهداف جلية وخطط مفصلة للتحرك أم إنها مجرد كلام عام في هبة عشائرية، كما جرت العادة العربية في التعامل مع القضية الفلسطينية. قديماً أراح بعض العرب ضمائرهم حين اتهموا الفلسطينيين بأنهم باعوا أراضيهم لليهود رداً على اتهام الفلسطينيين لهم بالتقاعس والتفريط، لكننا لم نسمع أحداً يسأل: ولماذا لم يشتر العرب تلك الأرض، وهم يملكون كل هذه الأموال التي تفوق ما لدى يهود العالم قاطبة؟ اليوم يواجه العرب سؤالاً اكثر حدة، بل اكثر بشاعة، لكنه مع الأسف سؤال المستقبل: كيف سيتعاملون مع الغالبية الساحقة من العراقيين، أي الشيعة والأكراد، بغض النظر عن الوجهة التي سيسير فيها العراق، هل باعتبارهم يهودا أم فلسطينيين؟

*الحياة

              ماذا يضير لو جرب العراقيون

       حلا آخر تحت مظلة دولية هذه المرة ؟ 

خلال الشهور الثلاثة الماضية التي تلت استلام الحكومة العراقية الموقتة زمام السلطة في بغداد تعمقت الازمة العراقية المستمرة منذ اسقاط نظام صدام حسين في نيسان ابريل العام الماضي. وليس أدل على اشتداد هذه الازمة من استمرار العنف الدموي وتناميه وحالة عدم الاستقرار وفشل الولايات المتحدة والحكومة الموقتة والجماعات السياسية التي تهيمن عليها من وضع حد لهذا المسلسل الدموي والتعامل مع الظروف والعوامل التي ادت الى انطلاقه. والواضح ان ما نراه في المشهد العراقي هو ليس إلا قمة جبل الجليد التي تخفي تحتها الكثير من عوامل التصدع والانهيار والتي بدأت ترسم صورة شديدة التشاؤم عن وضع العراق المستقبلي لم يعد من المفيد التستر عليها او تجاهلها.

من دون ادنى شك ان وراء دوامة العنف تقف مجموعات هي”كوكتيل”متحالف من ازلام النظام الصدامي المنهار والحالمة باستعادة سلطتها، وعناصر الارهاب الدولي التي تخطط لتحويل العراق الى رباط جهادها الاكبر وغزواتها للعالم، اضافة طبعا الى شراذم من العناصر الاجرامية التي تجد عادة في ظروف الانهيارات الاجتماعية والسياسية بيئة للتجاوزات الفظيعة والفوضى التي تزخر بها الساحة العراقية الان. كما ان من المؤكد ان دولا في الجوار وافرادا وجماعات تلعب دورا مهما في تأجيج دورة العنف من خلال دعمها المادي والمعنوي للاطراف التي تقوم به، بهدف اجهاض امكان قيام عراق جديد تراه خطرا عليها. غير ان الاخطر من ذلك كله في تأجيج واستمرار هذا الدمار هو ذلك المناخ المعادي للتجربة التي يتحتم على جموع العراقيين ان يخوضوها من اجل التحول من الاستبداد الى الحرية. مناخ التشنج هذا والذي يشكل حاضنة العنف ورحما لارهاصات صراعات اكثر دموية والتي يخشى الان ان تعصف بالعراق هو اخطر بكثير من اعمال العنف ذاتها والذي ينبغي ان توجه الجهود كافة الى وأدها.

وليس بامكان احد ان يجادل ضد الاجراءات التي تتخذها الحكومة العراقية الموقتة حاليا بهدف القضاء على مكامن العنف، اذ من دون توافر الحد الادنى من الامن والاستقرار لا يمكن القيام بأي عمل من اجل اعادة البناء وتظل البلاد مرتعا للعبث والفوضى والارهاب. ان اعادة بناء العراق تتطلب اولا وقبل كل شيء البدء بعملية سياسية جامعة لجميع العراقيين ينشأ عنها قيام نظام شرعي قوي يقوم بإعادة بناء الاقتصاد المنهار وإعادة إعمار البنى التحتية المدمرة واطلاق عملية بناء المجتمع المدني ومؤسساته. غير ان من المؤكد ان مثل هذه العملية السياسية الوطنية الشاملة لم تبدأ بعد واستعيض عنها بسلطة تحالف بين جماعات وفئات سياسية ومذهبية وعرقية بعضها حقيقي وبعضها متخيل تسعى الى ترسيخ وجودها وسيطرتها على الحكم من دون مشاركة شعبية حقيقية وبأساليب الهيمنة والاحتكار. ومن المؤكد ان غياب عملية سياسية حقيقية يشكل عاملا اساسيا في تشجيع دائرة العنف وتقويض اي جهود تبذل لاجتثاثه حتى باستخدام القبضة الحديدية التي تلجأ اليها الحكومة الموقتة بمعونة القوات الاميركية.

ان احداث الشهور الثلاثة الماضية تثبت يوما بعد يوم ان عملية تعيين حكومة موقتة واختيار مجلس وطني موقت من بين جماعات سياسية معينة، ومن تختارها هذه الجماعات لم يحل المعضلات الاساسية التي تواجهها البلاد من احلال الاستقرار والامن وترتيب شؤون البيت العراقي. بل انها اثارت بالعكس تحديات سياسية خطيرة جعلت حتى الاستخبارات المركزية الاميركية، وهي جهة ضليعة، تحذر في تقويم اخير لها من امكان انزلاق العراق الى حرب اهلية لو استمرت موجات العنف الحالية على حالها. وهذه الحالة، وهي تنامي التدهور الامني مع استمرار حالة الانسداد السياسي، حدت بلاري دايموند الذي عمل مستشارا كبيرا لدى سلطة التحالف الموقتة التي عينت الوزارة الحالية قبيل حلها، وفي مقال كتبه في العدد الاخير لمجلة”شؤون خارجية”وتحت عنوان”ما الخطأ الذي حدث؟”الى القول، في شهادة اخرى من أهلها، انه نتيجة لسلسلة الاخطاء التي ارتكبت في العراق هو انه اليوم في حال اسوأ بكثير مما كان عليه وان فرص اقامة الديموقراطية فيه تضاءلت.

ولعل الطريقة الوحيدة للخروج من هذا المأزق والخيار المدمر هو اتباع استراتيجية من مسارين، احدهما عسكري وامني يلحق الهزيمة بخطط المخربين والارهابيين ويفضي بإحلال الامن وسيادة القانون. والثاني سياسي يسمح بانخراط العراقيين المؤمنين بالتغيير السلمي والملتزمين قضية اعادة بناء بلدهم على اسس العدالة والمساواة والحرية والحفاظ على كرامة الجميع وحقوقهم والعمل على تقدم بلدهم وازهاره. ان جزءا من مسؤولية اتباع مسار سياسي تفاوضي وتصالحي يقع على عاتق الحكومة الموقتة والحركات التي تهيمن عليها، ولكن جزءا اكبر يقع على عاتق تلك الفئات التي ترى نفسها خاسرة في عملية التغيير الجارية وترفض القبول بنتائجها والتي تشكل برفضها الدموي هذا بيئة العنف ونمط ثقافته المتنامية. ان اسوء ما تنتجه هذه البيئة هو حالة الاستقطاب بين هاتين الجهتين التي ساهمت بتوسيع الفجوات بين الجماعات المختلفة ومنعت لحد الان تكوين تيارات عراقية تمثيلية عريضة لديها اكبر الفرص في عملية اعادة الدولة.

وتوفر مناسبتا اجراء الانتخابات العامة المقررة في شهر كانون الثاني يناير المقبل لاختيار مجلس وطني انتقالي وفكرة عقد مؤتمر دولي حول العراق في شهر تشرين الثاني نوفبمر المقبل فرصة جيدة للبحث في امكان الوصول الى توافق وطني حقيقي حول المسار السياسي المطلوب والذي يمكن ان يجري تحت رعاية اقليمية ودولية.

ادرك ان هذا الامر لا يلقى قبولا من اطراف عدة في الحكومة الموقتة، والتي رفض بعضها البحث فيه حين طرحت الفكرة للمرة الاولى من جانب وزير الخارجية الفرنسي ميشيل بارنييه، لكن الحسابات الواقعية والمسؤولية الوطنية تستدعي دراسة الأمر بصورة جدية واعادة النظر في الرفض بل وفتح نقاش وطني عام في شأنه لاعتبارات تتعلق بانقاذ العراق ليس من محنته الحالية بل من مصير قاتم سيواجهه من دون حل اشكالية السلطة والفراغ السياسي القائم الذي يواجه البلد.

هناك مسوغات عديدة تدعو الى القبول بفكرة الحوار الوطني الموسع تحت رعاية اقليمية ودولية يأتي على رأسها التدخلات الخارجية، خصوصا من بعض دول الجوار في الشأن العراقي مما يتطلب فك الارتباط بين العاملين الخارجي والداخلي لدوامة العنف. اذ ان تعهدات تنتزع من بعض دول الجوار في مثل هذا المؤتمر بعدم التدخل في الشأن العراقي في وجود بعض الفئات والقوى العراقية التي تستظل بالتداخل بين ما هو داخلي وما هو اقليمي او بالصراعات والازمات بين بعض دول الجوار هذه مع الولايات المتحدة هو امر مهم سيرسل برسالة قوية الى الجانبين بالكف عن اللعب بالورقة العراقية لاسباب لا علاقة لها بحل الازمة الوطنية. ان فحوى هذه الرسالة يجب ان يكون قبول القوى العراقية المعارضة للعملية السياسية بالحل الوطني القائم على مشروع التغيير وعدم استخدام الامتدادات المذهبية والعرقية مع دول الجوار كعامل ضغط وابتزاز في الوقت الذي يترتب على دول الجوار هذه ان تقبل بان البديل هو الفوضى والدمار الذي سيعم المنطقة كلها بعد العراق. ان التزامات مثل هذه تحت مظلة ورعاية دولية ستساعد على التقدم في العملية السياسية ومنها اجراء الانتخابات واكتساب النظام العراقي القادم الشرعية الحقيقية والدعم الداخلي والدولي المطلوب.

هناك مسوغ آخر يتعلق بفشل المبادرات الداخلية لحد الان في حل الازمة المستعصية لاسباب تتعلق اما بحالة الاستئثار التي تفرضها الجماعات السياسية المهيمنة على الحكومة الموقتة ومحاولات إقصاء القوى السياسية الاخرى او، في المقابل، بسبب الرهان على فشل المشروع السياسي الحالي من قبل القوى المعارضة وتفضيلها الانتظار حتى انهيار هذا المشروع برمته، وهو الامر الذي ترى انه سيمكنها من فرض موازين قوتها ورؤيتها السياسية وقواعد اللعبة التي تراها. ومن المؤكد ان كلا الطرفين يخطئان في قراءة الوضع العراقي وتعقيداته، وفي ظل غياب وتهميش قوى سياسية واجتماعية تشكل القاعدة الاوسع للمجتمع العراقي فأن المبادرة ستأتي يوما ما من الخارج اذا ما وصلت الامور الى حالة الخطر التي ستستشعرها الاطراف الاقليمية والدولية كما حدث ويحدث في مناطق عديدة من العالم، وآخرها السودان.

وفي هذا الاطار يستحيل المراهنة على الحل العسكري وحده لاستعادة حال الاستقرار والامن في البلد او لانهاء حالة العنف والتمرد، وبالذات في المناطق السنية العربية واجبار ممثيلها على تغير انماط سلوكها واتخاذ خيارات سياسية يرونها صعبة بسبب الهواجس التي تنتابهم من الوضع الجديد الذي سيفقدون فيه هيمنتهم على الدولة التي استمرت اكثر من ثمانين عاما. وفي الوقت ذاته فان على ممثلي هذه المناطق ونخبها السياسية والاجتماعية ادراك ان العودة الى الماضي هي من اضغاث الاحلام وان الحاضر يتطلب النظر الى الامور بواقعية وعبر قيم ومعايير وأُطر وطنية وقانونية ودستورية جديدة. ان اقناع او اقتناع هذه المناطق بالانخراط في العملية السياسية من خلال حل وسط ربما سيتطلب قيام مشاركة دولية نشطة لضمان التنفيذ العادل لاي اتفاق حول الاشتراك في السلطة وربما لفترة طويلة الأمد. لقد دفعت البوسنة ثمنا باهظا قبل ان تجبرها المجموعة الدولية على اتفاق دايتون لانهاء الحرب في صفقة غير مثالية. ورغم ان للازمة العراقية منطقها الخاص فان منطق حل الازمات الذي تلجأ اليه الدول الكبرى عادة حماية لمصالحها او للامن والسلم الدوليين يرغم المجتمعات المتناحرة في احيان كثيرة على القبول بما هو اسوأ بكثير مما تفشل بالقبول به لوحدها وطواعية.

ان أي حوار وطني في ظل رعاية دولية من خلال المؤتمر المزمع لا يعني بأي حال مشاركة الفئات الارهابية ومروّجي ثقافة النحر والسفاحين من شراذم النظام الصدامي الذين اغرقوا العراق ببحر الدم بل لا بد ان يكون هدفه خلق الارضية المشتركة والثقة المتبادلة والتعاون الجدي بين المؤمنين بضرورة اعادة بناء العراق ومن اجل ايجاد حلول سلمية وتسويات تفاوضية للازمة الوطنية المستعصية من دون احتكار او إقصاء. ومثلما ان تدخلات دول الجوار تسعر من اجواء الفوضى والتشرذم وتصعّب من التوصل الى تسويات فان عدم التوصل الى مثل هذه الحلول يعني اتاحة الفرصة امام دول الجوار الى المزيد من التدخل وممارسة ادوار سلبية في الوضع العراقي بسبب الكثير مما هو مشترك بين العراقيين وهذه الدول. من المؤكد ان مظلة دولية يلتئم تحتها جميع الاطراف العراقية والاقليمية المتداخلة ستوفر الارضية اللازمة لحل وطني عراقي واقليمي يجنب الطرفين والعالم مخاطر الانزلاق الى سيناريوهات مظلمة بدأت تباشيرها تلوح في الافق.

*الحياة 11/10/2004

          ضعوا العراق تحت الوصاية الدولية

هناك تقويم للحالة العراقية يوافق عليه أيضا بعض المسؤولين الاميركيين، ومن ضمنهم السفير في بغداد زلماي خليل زاد، بأن ما تبقى من هذه السنة ربما سيكون المنعطف الذي سيحسم مستقبل العراق في أن يتمكن من تجنب حرب أهلية مدمرة، وبالتالي أن يبقى كياناً موحداً، أو أن ينشطر إلى كيانات طائفية وعرقية متعددة. الأساس الذي يقوم عليه هذا التقويم هو أن الوضع على الأرض بعد ثلاثة أعوام ونصف عام من الاحتلال، سواء ما يتعلق بالمأزق الخانق الذي وصلت اليه العملية السياسية أو الفشل المرير الذي واجهته جهود فرض الأمن والاستقرار، هو على وشك أن يتحول إلى أمر واقع تتخندق فيه الأطراف المتصارعة في جزر طائفية وقومية تستحيل إزالتها من بحر الدم المتدفق في معظم نواحي العراق.

هذا يعني أن هناك فرصة أخيرة توفرها بعض الجهود المبذولة عراقياً وعربياً ودولياً لتحقيق وفاق وطني من خلال سلسلة لقاءات المصالحة المستندة إلى مبادرة رئيس الوزراء نوري المالكي وجهود الجامعة العربية ولقاء مكة للمرجعيات الدينية، إضافة إلى محاولات القوات الأميركية والحكومية مواجهة الميليشيات وجماعات العنف المسؤولة عن التدهور الامني المتنامي بخطط لم تحقق نجاحاً حتى الآن. إلا أن الإخفاق الذي لازم المسارين السياسي والأمني خلال الفترة السابقة لا يبشر بأية إمكانية حقيقية للوصول بالعراق إلى بر الأمان، مما يعني أن استنفاد هذه الجهود خلال الفترة القصيرة القادمة يعني انهيار العملية برمتها وافتقار الوضع الحالي ليس فقط إلى الإجماع الوطني العام بل أيضا الى الشرعية الداخلية والدولية لاستمراره.

المسؤول عن هذا الفشل ونتائجه المريعة المتوقعة هو الاحتلال الذي لا تزال أخطاؤه وسوء حساباته تتوالى حتى بعد الكارثة التي حلت بالعراق، وكذلك القوى العراقية، سواء من تمكن منها من الهيمنة على السلطة ومارس وصايته عليها أو تلك التي تنازعها عليها باستخدام العنف والإرهاب، إضافة إلى التدخلات اللامسؤولة والأنانية لدول الجوار التي ساعدت على الدفع باتجاه هذه النتيجة المأساوية. إن عجز هذه الأطراف عن وضع العراق على سكة الأمن والاستقرار وإعادة البناء معناه أنها غير مهيأة وغير قادرة على إدارة دفة الأمور، هذا إذا كانت راغبة فعلاً في الوصول بالعراق الى بر السلام. ويبقى التحدي الأكبر الذي سيواجه الجميع هو كيفية الخروج من هذا المأزق، إذا ما كان الأمر يتعلق حقيقة بالسعي لانتشال العراق من مصير مدلهم وإنقاذ العراقيين من محنتهم القاسية.

بعد كل التجارب الفاشلة التي تمت منذ الاحتلال لإعادة بناء الدولة والمجتمع اللذين قام بتفكيكهما، لا بد من التفكير الجدي بخيارات وبدائل أخرى، تستفيد من تجارب تاريخية ناجحة جرت في مناطق عدة من العالم. ولأن من المشكوك فيه أن تمتلك الأطراف التي ساهمت في إيصال العراق إلى ما هو عليه الآن، البصيرة والحكمة والشجاعة للإقرار باخطائها، وستبقى متمسكة بمواقفها القديمة الرافضة لنهج التفكير المشترك، فقد حان الآوان كي يجري البحث عن عملية سياسية جديدة وتحت رعاية وإشراف دوليين. إن انخراط المجتمع الدولي في مشروع حقيقي وفاعل لإنقاذ العراق بقدر ما هو مسؤولية اخلاقية، فهو واجب سياسي وقانوني، يتحتم القيام به لتجنيب المنطقة والعالم تداعيات فظيعة ستعاني منها لو تحقق الكابوس الأسوأ وانهار العراق.

ولعل صيغة وضع العراق تحت وصاية دولية، قد تمثل مخرجا قانونيا وسياسيا موقتاً للمأزق العراقي، ريثما يتم وضع أسس جديدة لعملية إعادة بناء العراق المدمر تحافظ على كيانه وتوفر العدالة والمساواة لجميع مكوناته الدينية والقومية. عراقياً هناك حاجة لإعادة بناء الدولة والمجتمع والهوية الوطنية العراقية ضمن إطار نظام سياسي شرعي توافقي يحقق مصالح الجماعات المختلفة، ولم يعد ممكنا تحقيق هذا النظام وفق الصيغ الحالية، وبواسطة الجماعات المهيمنة. أميركياً، ومع تزايد ضغوط الفشل والتراجعات هناك حاجة لمخرج مشرف يمنع هزيمة قاتلة للولايات المتحدة. اما اقليمياً ودولياً، فهناك دوافع سياسية واستراتيجية تتعلق بالأمن والاستقرار، وبخاصة إزاء تنامي ظاهرة الارهاب، تفرض مشاركة فعالة من المجتمع الدولي في بناء عراق موحد ومستقر وآمن. بينما تبقى هناك أرضية قانونية لفرض الوصاية الدولية الموقتة على العراق توفرها قرارات مجلس الامن ذات الصلة بعملية احتلاله وكذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح الحق بفرض الوصاية الدولية تمكيناً لشعوب الأراضي المحتلة والدول الفاشلة من تحقيق مصيرها، وفق إرادتها، وليس إرادة المحتل، أو القوى التي يأتي بها إلى السلطة.

تنبع الحاجة إلى فرض الوصاية الدولية على العراق من الحاجة الى المحافظة على كيانه، وتوفير الحماية للعراقيين في أرواحهم وحقوقهم الإنسانية، ومصادر ثرواتهم التي عجزت سلطات الاحتلال والإدارة الحالية عن حمايتها، إضافة إلى ضرورة ضمان السلام والأمن الدوليين من احتمال امتداد النزاع إلى مناطق أخرى. ويوفر ميثاق الأمم المتحدة في فصوله 11 و12 و13 جوهر وروح القواعد القانونية اللازمة لنظام الوصاية وتحقيق الأهداف المرجوة منه، بغض النظر عن الدوافع الأصلية التي بني عليها نظام الوصاية الدولية، الذي يستثني الدول الأعضاء، مثلما الحالة العراقية، من الوقوع تحت وصاية الأمم المتحدة. فالحقيقة الساطعة أن الدولة العراقية غير موجودة حاليا على الأرض والحكومة التي تتمتع بسلطات السيادة غير فاعلة وغير قادرة على ممارستها، لا لحماية أرواح وممتلكات شعبها، ولا لحماية ثرواته الوطنية مما يضع العراق فعلياً تحت شروط وضع الوصاية، كما جاءت في الميثاق بهدف توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبدء عملية إعادة البناء على أسس من الشرعية والاستقلال الحقيقي.

لقد ارتكبت أخطاء فظيعة منذ بداية الاحتلال حالت دون إيجاد الصيغة المناسبة لإعادة بناء الدولة ولإدارتها بما يحفظ وحدتها وتطلعات مكوناتها الطائفية والقومية المتعددة وفق صيغة تدعم الهوية الوطنية وتصالح بين توقعات ومصالح هذه المكونات. وبدلا من ذلك تعزز الشرخ الطائفي وتحول إلى صراع دموي وأصبحت مدن العراق دويلات تتحكم فيها الميليشيات وجماعات العنف، وانفرط عقد الدولة التي استبيحت هيبتها وسلطتها، وانهار السلم الاجتماعي، وعاث الفساد الذي جاء بأقل الناس كفاءة لإدارة السلطة الجديدة، التي هيمنت على موارد الدولة الطبيعية، وبخاصة النفط. والأهم من كل ذلك قضى الفساد على الحقوق الأساسية للإنسان العراقي، الذي أصبح يقتل لأسباب تتعلق بدينه ومذهبه وأفكاره، أو حتى من دون سبب، وترمى جثته في مياه الأنهار أو فوق أكوام القمامة. إن مثل هذا الواقع المرير لا يمنح شرعية لأية حكومة ولأية عملية سياسية، مهما ادعت انها جاءت كي تنقذ العراق من نظام استبدادي دموي، وأنها أتت على أساس انتخابات ودستور.

إن هدف الوصاية الموقتة يجب أن يكون واضحاً ومحدداً منذ البداية، وهو تحقيق الأمن والاستقرار بالطريقة التي تمهد لإطلاق عملية سياسية جديدة، هدفها النهائي إعادة بناء الدولة في العراق بطريقة سليمة، وإنهاء الاحتلال أو الوجود الأجنبي بكل صوره. هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق لا بالوسائل ولا بالقوى المهيمنة على المشهد السياسي حالياً، وعلى رأسها الاحتلال نفسه والإدارة العراقية والجماعات المعارضة لها، التي ساهمت جميعاً في الوصول إلى هذه النتيجة المروعة. لا بد إذن من إدارة دولية تمتلك تفويضاً لفرض السلام والأمن، وتبدأ عملية سياسية قائمة على مشروع وطني بقوى سياسية واجتماعية ترتكز على مشروعية تمثيلها للقوى الحية في المجتمع، لا على ميليشيات أو جماعات إرهابية أو دعم خارجي.

ومع هذا فليست الوصاية الدولية وصفة سحرية لعلاج الوضع العراقي المعقد، بل هي مجرد مقاربة جادة لم تختبر، وفرصة لم تنتهز، وحسنتها الوحيدة أنها جربت ونجحت في مناطق مشابهة كثيرة في العالم، اتيح للسكان فيها ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم بحرية، من دون ضغوط أو هيمنة أو تضليل وبلا إرهاب وترويع. أستطيع القول بثقة إن العراقيين لم يتح لهم أن يجربوا بحرية الخيارات الحقيقية التي تمكنهم من الاختيار، وأنهم خضعوا بسبب سياسات الاحتلال وتجاربه المختبرية إلى عمليات غسل دماغ وتهييج وتلاعب وخداع مورست من فوق المنابر بعناوين شتى منها الديموقراطية أو كليشيهات المقاومة، مما يستوجب إتاحة المجال أماهم لاختبار قدراتهم الحقيقية، بعيدا عن أولئك الذين تكلموا باسمهم طيلة الفترة الماضية وخاضوا مغامرات السيطرة على السلطة من دون إنجاز حقيقي.

أدرك مشاعر الإحساس بالعجز والإحباط وربما بالمهانة الوطنية التي يمكن أن تأتي من فكرة وضع العراق تحت نظام للوصاية الدولية طالما ارتبط بعهود الاستعمار البغيضة. لكن آن الأوان أولا للإقرار بالحقيقة المرة بأن جزءاً كبيراً من التدمير قد تحقق على أيدي العراقيين أنفسهم، وثانيا بتفحص اجتهادات أخرى لإنقاذ العراق من محنته عبر فتح القنوات التي أغلقها الاحتلال على العالم، كي يتحمل هذا العالم مسؤوليته أيضا في إصلاح الخراب الواقع. وأدرك أيضا أن الأمم المتحدة خذلت العراقيين مرات عدة خلال العقدين الماضيين بسبب خضوعها للهيمنة وفسادها وسوء إدارتها، مما يثير الشكوك في قدرتها على إدارة وصاية دولية كفوءة على العراق. لكن التجربة أثبتت، مرة تلو الأخرى، بأن التدخلات الدولية في شؤون الدول الفاشلة ستستمر وأن من المؤكد أن العراق، سواء بقي على حاله الآن، أو تقسم إلى دول وكيانات، سيكون محطة لهذه التدخلات، المشروعة منها وغير المشروعة. ولذلك سيكون من الأفضل حل المسألة العراقية عن طريق دولي ووفق مرجعيات القانون الدولي والضمانات التي يوفرها، حتى لو أضاف ذلك ندبة جديدة في الروح والجسد العراقيين، كجزء من متطلبات الصراع الذي يخوضونه من أجل البقاء.

*  الحياة/ 11/10/06

                    من بين الانقاض 

عدت لتوي من العراق بعد غياب قسري مدة ثلاثة عشر عاما هربا من جحيم صدام حسين. ولكني لم اجد، شأني شأن معظم العراقيين، تلك الجنة التي طالما حلمت بها وتمنيت قيامها بعد زوال ذلك النظام القمعي الدموي الذي حول العراق الى واحدة من اكثر بقاع الارض قسوة ووحشة وظلاما. وكان علي في نهاية الزيارة ان اعتذر لنفسي اولا، ولمن توجهت اليهم خلال السنوات تلك لمشاركتي ذلك الحلم البريء ثانيا، ان ننتظر ربما سنوات اخرى علها تأتينا هذه المرة بذلك الفردوس الموعود. والواقع ان ما رأيته في العراق الجديد من مصائب ومآسٍ تدمع لها العين ويدمى لها الفؤاد لم يكن يشكل مفاجئة كبيرة لي. فقد سبق ان حذرت من ذلك قبل الحرب التي شنت لإسقاط النظام ومن على هذه الصفحة بالذات. واشرت مرات عدة الى ان المشروع الأميركي المدعوم من قوى المعارضة العراقية حينها هو مشروع هدم للنظام القديم وليس مشروع بناء ايجابي يأخذ في الاعتبار الوضع العراقي المعقد بكل سماته التاريخية والاجتماعية والسياسية والحاجات الحقيقية للشعب العراقي بفئاته وطوائفه المختلفة. ومع قناعاتي تلك فقد رأيت دائما ان زوال نظام صدام الشمولي لم يكن ممكنا ان يتحقق بأيدٍ عراقية بسبب آلة القمع الاستئنائية التي اقامها وان اسقاطه، بغض النظر عن الطريقة التي سيتم بها ذلك، سيكون دائما نعمة مباركة للعراقيين الذين كانوا وحدهم يدفعون ثمنا لاستمرار بقائه في السلطة من دمهم ودموعهم ومعاناتهم قبل ان يدفعوه بثروات بلدهم الغني التي نهبها صدام وازلامه او بعثرها على حروبه ومغامراته، او في شراء ذمم المصفقين والمطبلين الذين اباحوا له تحويل العراق الى افقر مكان في العالم واكبر بلد لاقبية التعذيب والموت وللمقابر الجماعية.

ثمة حقيقة وجدتها ماثلة في وجدان الغالبية الساحقة من العراقيين الذين، رغم الصعوبات الجمة التي يعيشونها، لا يذكرون صدام الا كطاغية وسفاح ولا يرون في ازلامه الا طغمة شريرة ومنحطة يحملونهم حتى الان المسؤولية الكبرى لشلال الدم المتدفق والدمار المستمر. فلا احد في العراق اليوم يترحم على ذلك النظام او يتمنى عودته، الا ربما حفنة صغيرة من اعوانه لازالت متشبثة بالاوهام والاساطير وترفض ان تغير البقع التي غطت جلدها طيلة خمس وثلاثين سنة. غير ان الحقيقة المؤكدة ان حاضر العراق وربما مستقبله القريب سيكونان مرهونين بإزالة النتائج المدمرة لسياسات التسلط والاحتكار والقمع والنهب التي مارسها النظام الصدامي على الصعد كافة. فما يدركه اي عراقي متطلع الى المستقبل اليوم هو ان تلك الزمر من اتباع النظام السابق التي ترفض القبول بالانتقال من الاضطهاد الى الحرية ومن الظلم الى حكم القانون ومن الهيمنة والاستبداد الى المشاركة والديموقراطية هي التي تستمر بممارسة عاداتها القديمة بإشاعة الخوف والارهاب والاخضاع وترفض القبول بالامر الواقع وتمارس اقصى حالات العصاب الفردي والجماعي بالتأكيد العدواني على حقوق مستلبة او غير موجودة. ان من الاهمية بمكان الاشارة الى ان الافا من قيادات حزب البعث قد تبرأوا من الحزب وعادوا الى وظائفهم او حصلوا على وظائف مرموقة في الحكومة، كما ان مئات الاف غيرهم من انصار الحزب ومؤيديه قد تركوا الحزب الذي اضطروا الى الانخراط فيه من دون اي ندم، مما يعني ان أولئك الذين يستمرون في ممارسة العنف ليسوا الا حفنة صغيرة ممن كانت على رأس السلطة من الذين يمتهنون الوحشية او من بين اولئك الذين يتمسكون بالوهم ويرفضون التغير الحاصل الذي يجبرهم على مواجهة خيالهم المكبوت في عملية العلاج النفسي المطلوبة.

ولعل اسوأ واخطر ما في ممارسات هذه الزمر والتي تفوح منها رائحة الانتهازية السياسية المجردة من المبادىء الاخلاقية هو محاولات الربط بين تمركزها في بعض المناطق العربية السنية وبين الشعارات الكذوبة والمضللة التي تطرحها الامر، الذي يكشف ذلك القناع الطائفي والشوفيني الخفي الذي تسترت به عقودا طويلة. واذا كانت هذه الزمر استغلت الفراغ السياسي والامني الفظيع فإن الواقع العراقي بعد سنة من اسقاط نظام صدام يشير بوضوح الى ان هذا الفراغ السياسي والامني ناتج عن الفشل الذريع لمجلس الحكم في تولي مسؤولياته والقيام بواجباته بالوجه الذي يتيح اطلاق عملية اعادة البناء على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. ان من بين اولى الاشياء التي يلاحظها المرء في العراق اليوم هو تلك الفجوة الشاسعة التي تفصل بين العراقيين ومجلس الحكم والتنظيمات المنضوية تحته واعضائه.اذ بينما تمتلىء جدران الارصفة بالشعارات التي تعلن عن هذه التنظيمات والاشخاص ينعدم وجودهم الحقيقي في الشارع. وتشعر غالبية العراقيين ان المجلس ليس الا اسطورة من تلك الاساطير الكثيرة التي حيكت من قبل الاحتلال، وانه اثبت خلال السنة الماضية انه كان عبئا عليه اكثر مما كان انجازا. وانه بهذا المعنى وبقدر ما آلت اليه الامور كان رمزا للتعثر السياسي وترك البلاد بلا قيادة قادرة وعاجزة عن اتخاذ القرارت. ولعل العجز الذي اظهرته الشرطة العراقية وقوات الدفاع المدني في القيام بمهماتها في حفظ الامن والنظام خلال موجات العنف الاخيرة كشف ضعف المجلس وممثليه في الوزارة وتهافت دعاوى اعضائه عن قدراتهم على استلام السلطة حين ينسحب الاميركان من المدن.

ان السؤال الذي يثيره وضع المجلس هو كيف ان حفنة مغلقة على نفسها من السياسين ومن الاشخاص الذين اختارتهم قوى الاحتلال ممن لا يعرف الجمهور الكثير منهم او يستثيرون حماسه يريدون ان يفرضوا حضورهم على المسرح وان يقبضوا على ناصية الحكم من دون منافسة ذات شأن؟ وتأتي سلطة الاحتلال وممارساتها التي تتصف بالصلف والغباء والرعونة كسبب آخر مباشر للفوضى بل الخراب الذي يضرب اطنابه في كل انحاء البلاد التي تبشر بدمقرطتها وتحويلها الى مثال يقتدى به في المنطقة وربما في العالم. فالجنود الاميركان لا يكتفون باستعراض القوة بشكل غير مبرر ومقزز في شوارع بغداد وباقي المدن بل وحتى في ازقتها وسط شعب لم يفلحوا بعد عام من الاحتلال في كسب قلوب وعقول وأرواح حتى المتعاطفين معهم، بل إنهم يمارسون كل انواع الانتهاكات التي تصل احيانا الى حد الاذلال والقسوة والبطش مما خلق تلك الفجوة الهائلة بينهم وبين جميع العراقيين. فهؤلاء الجنود ليسوا فقط لا يملكون الرغبة ولا يبذلون الجهود الكافية في فهم العراقيين الذين يبدون لهم لغزا غامضا بسبب عدم حماستهم بتقبل اجندة الاحتلال ولكنهم يمعنون في اذلالهم الى حد انهم يتصرفون في معظم الاحيان كفيل هائج لا يردعهم اي احساس بالمسؤولية. ان النتيجة النهائية لتصرفات جنود الاحتلال هو ان معظم العراقيين لم يعودوا يرون في تحريرهم من صدام سوى هدية مرة المذاق لم يعد في استطاعتهم ان يتلقوها.

على الجانب السياسي اثبتت سلطة الاحتلال انها المسؤولة عن هذا الاضطراب والفوضى التى تعم البلاد بعد ان فشلت فشلا ذريعا بتحقيق اهدافها المعلنة في استعادة الامن والاستقرار واعادة البناء السياسي والاقتصادي والمادي في العراق الذي كانت الحرب والاحتلال سببا رئيسيا في تدميره. فسلطة الائتلاف الموقت، ومن ورائها صانعو السياسة الأميركية، وضعوا العراق منذ البداية في مختبر وتعاملوا مع شعبه كفئران للتجارب واحتكموا الى معايير فوقية تجاهلت كل المكونات والعناصر المحلية فكانت النتيجة الطبيعية هذا الارتجال في الاداء والاضطرار الى التراجع ومحاولات التعديل الجذرية في الخطط والبرامج والاولويات مما يثير الكثير من السخرية والاستياء لدى العراقيين. ولا تقتصر المراجعات الجارية على التضحية بالعناصر التي قضت الاجهزة الاميركية المختلفة سنوات طويلة في تسمينها انتظارا لقيامها بالدور الموكل لها بعد الحرب والتي اثبتت كما كان متوقعا انها تشكل عبئا ثقيلا على عملية التغير بل انها تمتد الان وبما يكشف عن التخبط والارتباك الى اعادة النظر باكثر خطوتين مثيرتين للجدل اتخذتهما سلطة الاحتلال الا وهي حل الجيش العراقي وعملية اجتثاث حزب البعث. ان ما يجري الان من اعادة النظر ومحاولات تصحيح المسار ليس له الا قراءة واحدة وهو التضحية بكل شيء من اجل تقيم الاحتلال تقيما اعلى وهو حل نمطي على الطريقة الأميركية. غير ان النتيجة المتوقعة ليست فقط فقدان الثقة وتزايد الكراهية للمحتلين بل احتمالات انزلاق العراق الى مهاوي صراع دموي يؤدي الى تمزيقه مالم يتم تفادي ذلك على وجه السرعة وفق مسار جديد يختاره العراقيون انفسهم لا ان تجري صياغته وفق طريقة القص واللصق في الغرف المغلقة في واشنطن. ولعل الاقتراحات المطروحة بعقد مؤتمر وطني عام مع دور جدي للامم المتحدة في المرحلة المقبلة كفيل بتقديم مشروع بديل لحالة التدهور المستمرة. فمثل هذا المؤتمر سيقدم منبراً لكل العراقيين وفرصة لكي يقوموا هم بصياغة مستقبلهم وفق خيارتهم الوطنية لا بالطريقة التي تريد فرضها سلطة الاحتلال.

لقد كانت الايام التي قضيتها في العراق شديدة العنف والقسوة والناس الذين يدركون تماما ثمن استعادة حريتهم يعيشون فيه بين الانقاض مجبرين على الخضوع لقدرهم بانتظار معجزة قد تأتي وقد لا تأتي. فالعراق المدمر بتأثير ميراث صدام وممارسات الاحتلال معا اصبح اكثر بؤسا ووحشة. وبغداد التي كان ربيع حريتها قصيرا لا تبدو الا مدينة مهزومة ومقهورة ومحتلة. غير ان بإمكان قهر الاحتلال وهذا البؤس والدمار والعنف الدموي ان يؤدي وظيفة ما وان يصبح في ذمة التاريخ يوما مثلما اصبح ارث صدام، اذا ما سعى العراقيون فورا الى اكتشاف ما يجمعهم ويوحدهم لا ضد الشرور التي تنبع من داخلهم وتحيط بهم بل وايضا احتفالا بالقيم والاهداف التي تمنوها على الدوام – الحرية والعدالة والمساواة.

* الحياة 2/5/2004

             حانت لحظة الحقيقة في العراق

أصبحت الأمور أكثر وضوحاً في العراق الآن، ولم يعد بإمكان القوى التي إفرزتها عملية تفكيك الدولة والمجمتع التي أطلقتها الحرب الأميركية التي أسقطت نظام صدام حسين الإختباء وراء الشعارات العمومية أو المواقف الرمادية، بل أصبحت الخطوط الدفاعية المحفورة في الأرض، داخل المدن وخارجها، هي التي تحدد معالم الخريطة التي تفصل بين المجموعات العرقية والمذهبية المتصارعة. هذا الفرز الواضح في الخنادق يطرح السؤال عما إذا كان مفترق الطرق الذي وصلت إليه الجماعات العراقية بعد المرحلة الإنتقالية التي تلت التغيير الكبير، سيؤدي بها إلى العمل على إعادة تركيب وبناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة من العيش المشترك، كما كان متوقعاً ومطلوباً، أم أنها ستسير في الاتجاه الآخر، اتجاه اللاعودة والإفتراق النهائي.
ومع أن الجميع يرون بوضوح ان العراق اليوم في حالة انفصام مع نفسه، وأنهم ربما شاركوا في صنعها، إلا أن الجميع يتعالون أيضاً على الحقيقة المرة، ويحاولون الهروب من تسمية الأشياء باسمائها الفعلية، وهي الخطوة الأولى الضرورية في تشخيص العلّة ومحاولة الوصول إلى علاج شافٍ لها قبل تحولها إلى حالة فناء ذاتي. ما يجري اليوم بالتحديد هو أن الجسد العراقي ليس فقط متشككاً، بل أنه يبدي مقاومة شديدة لحزمة الدواء التي وصفت له لعلاج أمراضه المزمنة، مما يعني أن هناك خللاً ما سواء في التشخيص أو في العلاج أو في إستعداد هذا الجسد نفسه ورغبته على التعافي. ولأن هذا الجسد يقبع الآن في غرفة الإنعاش، فإن نقطة البدء الحقيقية التي لا يمكن تجنبها هي السؤال ليس عما اذا كان لا يزال ثمة أمل بولادة جديدة لعراق واحد، بل عما اذا كان العراقيون انفسهم راغبين وقادرين على توليده.
وحتى أكون أكثر تحديداً، فان ما هو متوفر من علاج للحالة العراقية الراهنة، وهي بالتحديد إعادة بناء الدولة والأمة في العراق، هو فقط العملية السياسية الجارية والتي على أساسها قدم رئيس الوزراء نوري المالكي مشروعه للمصالحة الوطنية. بالإمكان الإدعاء أن هذه العملية تقوم على أساس نتائج الدستور الذي تم الاستفتاء عليه والإنتخابات التشريعية التي جاءت بعده، غير أن ذلك لن يغير شيئاً من الحقيقة، التي صدمت حتى من أيّد هذه العملية بحماس، وأنا منهم، وهي أن نظرة إلى ما آلت إليه الأمور فعلاً لا تشير فقط إلى تعثر سياسي، بحكم بالأسلوب اللاديموقراطي للمحاصصات والصفقات الذي أعتمد في حل الأزمة الوطنية، بل إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، إلى إنحدار مستمر نحو هاوية الصراع الطائفي الدموي والحرب الأهلية، مما يعني أن هذه العملية واهية وتقوم على أسس ركيكة، ان لم تكن خاطئة، ونتيحتها الأكيدة هي التدمير وليس البناء.
بالتأكيد لعب الإحتلال دوراً في ما آلت اليه الأمور في العراق، خصوصاً في تخريب العملية الديموقراطية ذاتها، التي يفخر بها، من خلال عمليات التلاعب وفرض الخيارات والنماذج وتحويل العراق إلى مختبر للتجارب الفاشلة، إلا أن القوى العراقية السياسية والدينية بمختلف تياراتها تتحمل مسؤولية بالغة عما وصلت اليه الأوضاع من تردٍ لوضع العراق على حافة حرب أهلية. فمن ناحية، مارست القوى المهزومة جراء التغيير الحاصل أساليب عبثية وإنتحارية في الدفاع عن مصالح مشروعة أحياناً، وأنانية ونفعية في معظم الأحيان، أدت بها إما إلى ارتكاب ممارسات وجرائم وحشية، ضد محرومي الأمس، أو مباركتها، فساهمت بالنتيجة في إحداث الشرخ الطائفي الذي يهدد أتساعه الآن بتدمير المعبد بمن فيه. ومن ناحية ثانية، فقد إستغلت الجماعات والنخب السياسية التي توجت نفسها منتصرة إلى الإستئثار ليس فقط بطرح أجنداتها، من دون معارضة أو حتى نقاش شعبي حقيقي، بل إستغلت نفوذها المدعوم بسلطة الإحتلال للحصول على مزايا مادية وسياسية على حساب التيار الوطني العام في المجتمع الذي لم يتسنَ له تنظيم نفسه وطرح أفكاره، مما ساهم بالتالي في حفر مسار مغاير تماماً لنهج إقامة عراق حديث، تقدمي، تعددي، موحد وديموقراطي، وهو هدف التغير الذي نشده معظم العراقيين.
من هنا ففي الوقت الذي تتحمل الولايات المتحدة الأميركية التي شنت الحرب على العراق، وإحتلته بالقوة، وأسقطت نظامه، وفككت دولته، مسؤولية قانونية وسياسية واخلاقية في إعادة بنائه على أسس صحيحة، إلا أن المسؤولية الحقيقية تكمن في أيدي كل القوى العراقية التي تصدّت للعب فوق مسرحه المفتوح بغض النظر عن الدور الذي اناطته بنفسها. يتطلب هذا الأمر بطبيعة الحال، ملكة نقدية شفافة عند هذه القوى لمراجعة الأوضاع ومساءلة أدائها وتصحيحه بهدف وضع العملية السياسية المرتبكة على المسار الذي يحقق هدف التغيير المنشود. وبغض النظر عمن إرتكب أكثر الأخطاء وأفظعها لتصل الأمور إلى ما وصلت إليه فان حالة التدهور الأمني التي حوّلت البلد إلى جزر عرقية وطائفية منفصلة، يرتع فيها الإرهاب والعنف، وسمتها الأساسية القتل على الهوية والتهجير والتطهير العرقي والمذهبي، وغير ذلك من علامات الصراعات والحروب الأهلية، لا تحمل إلا معنى واحداً هو فشل النسخة المتداولة من العملية السياسية ووصولها إلى طريق مسدود.
هناك الآن مبادرتان تسعيان الى الخروج من هذا المأزق الوطني، اولاهما «مشروع المصالحة والحوار الوطني» الذي قدمه المالكي ومؤتمر «الوفاق الوطني العراقي» الذي تدعو اليه الجامعة العربية، وهما قد يكونان الفرصة الأخيرة لإنقاذ العراق من محنته الحالية. وفي الوقت الذي يضع مشروع المالكي قواعد مقبولة للحوار فإن الجامعة تعتمد على حسن نيات المشاركين في المؤتمر المزمع كأسس لتحقيق الوفاق. لكن وبغض النظر عن النيات الطيبة التي تقف وراء المبادرتين فإن التطورات الجارية في العراق كشفت عن حقيقة أساسية، وهي أن ما يجري ليس قضية تحرر وطني مقابل إحتلال، كما يحاول البعض ان تبسيطها، على رغم أن الإحتلال جزء اساسي من المشكلة، بل هي صراع ضارٍ حول إعادة تقاسم السلطة والثروة في بلد وأمة يجري إعادة بنائهما بعد تفكيكهما. وإذا إقتنع الجميع بهذه الحقيقة فإن ما هو مطلوب هو وضع الرؤى والإستراتيجيات الصحيحة للوصول إلى حلول وسط وتسويات منصفة وواقعية.

يتطلب الوصول إلى هذه التسويات قبل كل شيء أمرين أساسيين، الأول أن يتخلى جميع الأطراف عن الأوهام التي تعشش في رؤوسهم، سواء تلك التي تسعى بالإرهاب الأعمى للعودة الى الماضي، أو تلك التي أسكرتها نشوة الإنتصار فأعتقدت أنها أنجزت مشروعها التاريخي. والثاني هو الأختيار الواضح والصريح بين البقاء في عراق موحد وجديد والعمل على إعادة بنائه أو ولوج طريق الإنفصال. يجب عدم الإستمرار في تعليق أسباب الكارثة على شماعة الإحتلال، مهما كانت قذرة، والإستمرار في سياسة هدم المعبد على من فيه، كما يجب عدم التخندق وراء منجزات تكتيكية بهدف استنزاف الخصم، في الوقت الذي تتقلص فرص الخروج من مستنقع الدم والدمار الذي وضع العراق فيه.
لذلك وبمعزل عن النواقص التي قد تكتنف المبادرتين الموجودتين على الطاولة الآن فإنهما ربما توفران الفرصة الآخيرة للسعي إلى مقاربات منطقية لوجهات النظر المختلفة، والتوفيق بين المصالح المتنازعة، على أسس وطنية ووفق قواعد مراعاة العرض مع الطلب في سياق العراق الجديد. فبعد ثلاثة أعوام من التدمير المنظم وسفك الدماء على العراقيين أن يقفوا وقفتهم الأخيرة على مفترق الطرق الذي وصلوا اليه لكي يقرروا ما إذا كان بمقدورهم ان يستمروا في العيش معاً كما عاشوا قروناً طويلة، وكما فعلت شعوب عديدة مرت بتجارب مماثلة، أو أن تختار كل مجموعة قومية ودينية ومذهبية طريقاً آخر للحياة.

هناك مسارات خمسة يجب ان تمضي فيها أية مبادرة يراد لها النجاح، وبشكل متزامن، اولها تحقيق الأمن والإستقرار، وثانيها الوفاق الوطني، وثالثها المشاركة، ورابعها ضمان تحقيق العدل، وخامسها التنمية والرخاء الاقتصادي. فلا يمكن تحقيق أي تقدم في العملية السياسية من غير شعور العراقيين جميعهم بالأمان والثقة اللذين يمهدان المناخ المناسب للمصالحة، التي ينبغي بدورها أن تقوم على دفن الأحقاد والضغائن والمعاناة، من خلال إحقاق العدل، وهو ما سيمهد السبيل أمام التسامح والغفران اللذين سيفتحان بدورهما باب المشاركة في صنع المستقبل، الذي يجب أن يبقى بؤرة العملية السياسية كلها.

هذه مرحلة حاسمة في تقرير مصير بلد كان مهد الحضارات الانسانية وظل درّة الدنيا وشعاع تقدمها عبر آلاف السنين، والشهور القليلة المقبلة ربما تكون هي الفاصل بين قيامته من جديد من بين ركام الانقاض، وتقديمه نموذجاً جديداً لنهوض الأمم من محنها المدمرة، وبين أن يختفي تماماً من خريطة التاريخ والجغرافية التي صاغت وحافظت على وجوده وعلى نسيجه الوطني ودوره الإقليمي، بل ريادته الحضارية الإنسانية. هذه لحظة الحقيقة التي ينبغي على كل عراقي أناط بنفسه دوراً في ما يجري أن يواجهها بمسؤولية وحكمة وشجاعة. أنه عمل محفوف بالكثير من المخاوف والشكوك وبالمخاطر لكن من دونه لن يكون هناك أمل بالعبور إلى المستقبل.

* الحياة/  11/6/2006

            اللحظة الكردية ومستقبل العراق …

                   وفاق أم طلاق؟…

عدت لتوي من اربيل بعد نحو ثمانية عشر عاماً من آخر زيارة لها، جرت خلالها مياه كثيرة، سواء في أنهر كردستان، أم أنهر العراق المتدفقة احداثا جارفة، اغلبها مصبوغ بالدم والدموع، والقليل منها، يحمل قشا للامل واطواقا للنجاة. في زيارتي السابقة كانت اربيل، شأنها شأن باقي المدن الكردية العراقية، تئن تحت آلام حلبجة والانفال، آخر تلك الحملات السيئة السمعة، لنظام صدام حسين البعثي الفاشي، والتي كشفت ايضاً عن تواطؤ بعض العراقيين والعرب، الذين غطوا اعينهم عن تلك الاعمال المشينة، او فضلوا الصمت والنظر الى الجهة الاخرى.

فرق هائل بين اربيل، المتطلعة يومئذ للحكم الذاتي الحقيقي، والمستسلمة للظلم والخوف والاذعان، رغبة في صيانة اسباب البقاء، واربيل اليوم، الناهضة والجامحة، التي لا تطرح نفسها عاصمة لإقليم كردستان العراقي الفيديرالي فحسب، بل القلب النابض للأمة الكردية بأسرها.

في اربيل اليوم، كما في باقي مدن الاقليم، بإمكان المرء ان يدرك بسهولة ذلك الإيقاع الجديد الذي ينمو على رنينه عالم اسطوري من التطلعات والأماني، إذ يشعر أكراد العراق انهم قبضوا بأيديهم للمرة الأولى على تلك اللحظة الخاطفة في التاريخ، التي بإمكانها ان تحولهم الى فاعلين اساسيين في تقرير مصيرهم، بعد سنين طويلة من التهميش والحرمان والشقاء والكفاح.

لا يساور المرء ادنى شك وهو في اربيل، ان الاكراد لا ينفضون عن انفسهم سنوات القهر، ويتطلعون الى المساواة مع باقي العراقيين والشعوب الاخرى فقط، بل انهم يظهرون ثباتا لا يتزعزع، وتوقا لا يستكين، لإسقاط كل جدران العزلة التاريخية والجغرافية الاستثنائية التي ضربت حولهم لقرون عديدة. ما يجري في اربيل ليس فقط عملية دؤوبة لفتح ثغرات في تلك الجدران، بل هي تحقيق لجزء من طموحات الاكراد لإنجاز مشروعهم القومي في كردستان الكبرى. اي بعبارة اخرى، في اربيل اليوم يصنع تاريخ جديد للاكراد، وبالتالي للعراق وايضا للمنطقة، ما يقتضي تسليط الأنظار على ما يجري هناك بتفحص موضوعي، بعيداً عن التعصب والتهييج وايضا اللامبالاة.

ففي اربيل لا يمكن ان يشعر المرء بأنه في مدينة هي بحاجة بعد الآن الى ان تضع رأسها ليستقر من جديد في حضن وطن اسمه العراق، بل هي تسعى جاهدة لكي تكون حضناً دافئاً لأكراد العراق، ومهدا لأحلام وتطلعات الملايين في الأمة الكردية الذين ينتشرون في كردستان الشرقية، في إيران، والشمالية، في تركيا، والغربية، في سورية. هذه حقيقة قائمة لا يمكن ان تحجبها عن ابصارنا الصلة السياسية والدستورية الواهية التي تربط كردستان ببغداد، كما تجسدها مفردات وقائع كثيرة على الارض، مثلما يجسدها الخطاب السياسي والثقافي للقيادات والنخب الكردية والمشاعر والقناعات التي يعبر عنها الشارع الكردي. في اربيل لا يشعر المرء بأن الكردي يرى ما يغريه في البقاء في العراق غير بعض الحوافز الاقتصادية، ونكاد نرى بوضوح اولى المحاولات التي يخوضها الاكراد لبناء كيانهم القومي الواسع، وهي محاولات لا يخفونها ابدا، بل يدعون الآخرين بصمت احيانا، وباندفاع عالي النبرة، احيانا اخرى، الى التأمل فيها وحسبان حسابها المستقبلي.

هناك دائما مخاطر من ان المعاناة الإنسانية يمكن ان تنتج ردود افعال تتسم بالإفراط والمبالغة من قبل اولئك الذين عانوا، ربما يمكن فهمها في اطار الاحباطات من ظلم تاريخي، او من غياب التضامن، او نقصه، ولكنها تنحو نحو التعسف، حين تضل طريقها في السياق الجديد، فتتجاوز الى شعور الضحايا السابقين بأن من واجب الاخرين ان يرفعوهم الى مرتبة القداسة وان من حقهم ان يُمنحوا عفواً خاصاً طالما انهم عانوا كثيرا من السياق القديم. لقد عبرت جماعات بشرية كثيرة عبر التاريخ الإنساني عن مثل هذه المشاعر من الخشية والقلق، ووصلت احيانا الى تأجيج نيران الحقد تجاه من يرونهم متربصين بنجاحهم. وبالإمكان تعداد الكثير من هذه التجارب، لكن التجربة الإنسانية اثبتت ايضا خطأ الإسراع في حرق المراحل، وخطر القفز على الواقع، ومحاولة فرض المطالب والسعي للحصول على الكثير في القريب العاجل، من دون اكتراث بالعوامل الموضوعية والإمكانات المتاحة والحاجة الأكيدة لشركاء حقيقيين.

من هنا يمكن فهم الحالة الكردية الراهنة، كما تمثلها اربيل، التي تبدو لأي مدقق، انها تجتاز حالة تحول من طراز المخاضات الكبرى، التي تمر بها أية أمة على طريق بناء دولتها القومية، عبر التأسيس لنواتها التاريخية. ان حق الاكراد في تقرير المصير وانشاء دولة مستقلة بدءا من كردستان العراق، او كردستان الجنوبية كما يرونها، هو حق انساني وسياسي اصيل لهم، اسوة بكل الشعوب، غير ان هناك سؤالين يلحان الآن، اولهما، هو ما اذا كان المسعى الكردي في هذا الاتجاه، القائم على تراكم الانجازات الكردية في العراق والنحت الجيوبولتيكي في باقي دول الشتات الكردي هو عمل مدروس، ام انه مغامرة غير محسوبة النتائج، قد توجه ضربة اخرى للحلم الكردي المؤجل منذ اكثر من ثمانين عاما. هذا السؤال يخص الاكراد وعليهم الإجابة عليه، اما السؤال الثاني فهو عن الخيارات التي ينبغي على عرب العراق اتخاذها الآن تجنبا للأكلاف الباهظة التي يدفعونها وسيدفعونها في المستقبل حين يتجسد المشروع الكردي في الاستقلال.

سيكون نوعاً من انواع التعالي القومي، وربما الشوفينية ايضاً، مساءلة الاكراد في حقهم في تقرير مصيرهم، حتى اذا كان الامر يتضمن رغبة في الاستقلال، ما دام الامر نتيجة لرغبتهم وارادتهم الحرة، وبغض النظر عما اذا كان ما يجري الآن هو نتيجة صيرورة ذاتية تلقائية ام تغيرات واعية، ومهما كانت تبعات ذلك عليهم نتيجة التحديات والتهديدات التي تواجه مشروعهم القومي. لكن سيكون من الحماقة السياسية وقلة الحيلة ان يظل عرب العراق يدفعون ثمن شراكة غير متحققة، وارتباط واهٍ، ورغبات غير دفينة في الانفصال، اما لاعتبارات وطنية عاطفية تآكلت، وصلات تاريخية لم تعد متوفرة، بفعل التغيرات الهائلة التي أفرزها الاحتلال وما تبعه من انهيار الدولة العراقية، أو لعوامل امنية واستراتيجية اقليمية، لا دخل او لا إمكانية لهم، في ادارتها. هذا الأمر يتطلب التمعن جليا في ما يجري على مستوى العلاقة بين العراقيين من العرب والاكراد والتوصل الى الخيارات المناسبة، وفق دراسة جدوى حقيقية، واتخاذ القرار المناسب والصحيح وطنيا وسياسيا واستراتيجيا.

طبعاً، كل شيء سيبقى رهنا باستقرار الوضع الأمني وبنتائج العملية السياسية الحالية واذا ما كانت ستصل بالنتيجة الى مصالحة وطنية شاملة ترسي قواعد لاعادة بناء الدولة العراقية الموحدة على اسس متفق عليها بين جميع مكونات الشعب العراقي أم لا. هناك صعوبة في تصور الوصول الى مثل هذه النتيجة من دون اعادة التفاوض حول صيغة الفيديرالية التي لا تزال الاطراف الرافضة للعملية ترى انها اقرت في ظروف استثنائية، ومن دون مشاركة حقيقية من العراقيين جميعاً. على الجانب الآخر، فإن اعادة النظر في شروط الفيديرالية وحدودها ستكون امراً مثبطاً للاكراد الذين يعملون منذ سنين تحت حدود سقف عالٍ للفيديرالية، يقترب من حدود الاستقلال. ومن البديهي ان الفشل في الوصول الى صيغ جديدة سيطرح بديلاً وحيداً، وهو القبول رسمياً، باستقلال كردستان، المستقلة نظريا، باعتباره الحل الأقل كلفة للعراقيين العرب.

ادرك ان القضية المطروحة تحتوي على شحنات وجدانية قوية، والكثير من الالتزامات، عند الطرفين العربي والكردي، غير ان الأمر يجب ان يطرح بجرأة ومن دون مواربة، ما دام يتعلق بمصير بلد وشعب، بل مصير المنطقة برمتها، ومن غير المجدي دفن الرؤوس في الرمال او الرهان على المستقبل لإيجاد حلول لها. لقد كشفت قضية كركوك عن جزء يسير من العقدة، سواء على المستوى الداخلي العراقي، او على المستوى الاقليمي، كما ان الاتهامات التركية بشأن نشاطات حزب العمال الكردستاني، وردود القيادات الكردية العراقية عليها، اظهرت الطابع الصراعي للقضية الكردية على المستوى الاقليمي، الذي من المؤكد انه يمكن أن يفجر نزاعات اكبر في المستقبل، بسبب البؤرة التي سيشكلها استقلال الاكراد في العراق، سواء شكلياً او حقيقياً، على باقي دول الشتات الكردي. والسؤال الذي يواجه العراق العربي هو اين تكمن مصلحته الحقيقية؟ هل في اتحاد فيديرالي ضعيف، يتحمل هو كلفة ادامته اقتصاديا، وتوفير مظلة حماية له، في وجه التحديات التي تواجهه من دول المنطقة، ام في قطع الشوط الاخير والقبول باستقلال الاكراد الفعلي في دولة يديرونها حسب مشيئتهم ومصالحهم القومية، ما دام ذلك طموحهم النهائي؟

لقد انهكت القضية الكردية العراق عبر تاريخه الحديث، وخسر العراقيون، عرباً وأكراداً، فرصاً كثيرة في حلها بطرق سلمية، تحقق العدالة والمساواة والاستقرار والازدهار للشعبين، كما ان خيار الفيديرالية، الذي اتخذ في عجالة وفي ظروف الاقتتال الداخلي، وفي نتائجه العملية على الارض، لا يبدو قادراً على تحقيق هوية وطنية مشتركة وفاعلة في ظل هواجس ومخاوف وتطلعات متباينة عند الجانبين. هناك حقيقتان على العرب العراقيين ان يدركوهما، اولاهما ان الاكراد امسكوا بلحظتهم التاريخية، وان كردستان اصبحت مستقلة فعليا، وان الإعلان الرسمي عن ذلك مناط باللحظة التي سينهار فيها العراق كدولة، اذا استمر الصراع الشيعي – السني، والثانية ان تطلعات الاكراد هي صوب بني جلدتهم في الشمال والشرق والغرب الكردي وليس نحو الجنوب العربي. كل الأطراف العراقية، وكذلك الاقليمية، تدرك هذه الحقيقة، ولكنها تقف عاجزة امام هذا الوضع، إنه أشبه بوضع رجل ينام كل ليلة مع امرأة تريد تطليقه عند الصباح، ولكنها تؤجل ذلك لليوم التالي.

* الحياة/ 29/4/2007

 قتل الصحافيين العراقيين محنة وطن لا محنة مهنة

يقولون إن الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب، غير انها في العراق اليوم فاقت ذلك واصبحت المهنة التي تفضي بأصحابها الى ما هو اكثر جسامة، وفي حالات كثيرة الى الموت، كما يدل على ذلك العدد الهائل من القتلى من ابناء هذه المهنة المهمة التي تعتبر مهنة البحث عن الحقيقة ونشرها بين الناس. وكصحافي عراقي أريد ان استغل يوم الصحافة العراقية، الذي يصادف الخامس عشر من شهر حزيران (يونيو)، وهو ذكرى صدور اول صحيفة عراقية العام 1869، كي اشارك القراء بعض الهموم التي يعاني منها الصحافيون العراقيون، اضافة، بطبيعة الحال، الى ما يعانونه كمواطنين يعيشون المأساة المريعة التي حلت ببلدهم.

ففي اليوم الاول من هذا الشهر اضيف صحافي آخر الى 180 آخرين من الصحافيين والعاملين في المؤسسات الاعلامية الذين سقطوا قتلى ضحايا العنف المنفلت والاعمى الذي يضرب بالعراق منذ احتلاله في ربيع العام 2003 وهو حسب منظمة «مراسلون بلا حدود» اكثر من ضعف عدد الصحافيين الذين قتلوا خلال 20 عاماً استمرت فيها الحرب في فيتنام التي سجلت مقتل 63 صحافياً فقط بين عامي 1955 و1975. كما انه رقم يفوق بأضعاف عدد الصحافيين الذين سقطوا في ساحات الحروب في اي مكان في العالم. ان اعداداً هائلة من العراقيين، ومعظمهم من الأبرياء الذين وجدوا في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ، يسقطون هم ايضا في أتون هذا الصراع الدموي، غير ان تفاقم اعداد القتلى من الصحافيين اصبح يشكل ظاهرة ملفتة للنظر، ومثيرة لأسئلة عدة، عن الاسباب الحقيقية التي تكمن وراء استهدافهم.

إن أول مؤشر ينبغي التركيز عليه هو ان عددا اقل من الصحافيين العراقيين قتلوا او اصيبوا أثناء تغطيتهم لمواجهات عسكرية او بسببها، وأن الغالبية منهم اغتيلوا اما فوراً او بعد اختطافهم، او خلال هجمات استهدفتهم مباشرة، ما يعطي لمقتلهم معنى آخر، وهو انهم كانوا مستهدفين لأسباب تتعلق بأدائهم المهني او على اقل تقدير لانتسابهم لهذه المهنة. هناك مؤشر ثان هو ان العديد من الصحافيين اغتيلوا بطرق وحشية، ومنها ما جرى وكأنه حالة اعدام علني، والبعض شمل الاستهداف عائلاتهم، مما لا يمكن تفسيره إلا بأنه رسالة كان يستهدف القتلة ايصالها الى باقي الصحافيين العراقيين. كما ان هناك مؤشراً ثالثاً، وهو تنوع الخلفيات السياسية للضحايا وكون غالبيتهم من الصحافيين العاملين في هيئات مستقلة او اجنبية مما يعني شيوع الظاهرة وتحولها الى حرب تصفيات شاملة.

ولعل ما يحد من إمكان إلمامنا بدوافع الجناة في كل حالة، ولسلسلة الجرائم ذاتها، هو عدم قيام القوات الأميركية التي لا تزال تتمتع بسلطات واسعة في العراق، ولا الحكومة العراقية أو اجهزتها الرسمية، بالتحقيق في أي من حالات قتل الصحافيين خلال السنوات الأربع الماضية، وبالتالي فإن الجناة لم يفلتوا من المحاسبة والعقاب فقط، بل جرى طمس الدوافع والاسباب التي تقف وراء الظاهرة وبالتالي استمرارها وتفاقمها. ولا يمكن بطبيعة الحال توجيه اللوم الى الاجواء العامة التي يعشيها العراق وانعدام حال الأمن فيه كونها المسؤولة فقط عن سقوط هذا العدد الكبير من ضحايا الصحافة، اذ ان هناك اسباباً عدة اخرى منها التحريض الذي يمارس ضدهم، بخاصة من قبل جماعات العنف والارهاب، وتفاقم حال الاستقطاب السياسي والطائفي الحاد، وهيمنة الجماعات السياسية على الحياة الاعلامية وفرض احتكارها، وغياب الحريات، وشيوع ثقافة عدم التسامح والقبول بالرأي الآخر.
ولا يقتصر الأمر على التصفيات الجسدية للصحافيين، فالعراق حسب «مؤشر احترام الحريات الصحافية» الذي تصدره المنظمة سنوياً جاء في المرتبة 154 من اصل 168 دولة شملها التصنيف، مقارنة بالمرتبة 157 التي احتلها العراق في العام 2005. وفي الوقت الذي كان يتوقع ازدهار الحريات الصحافية بعد انهيار النظام الديكتاتوري فإن اكثر ما يعاني منه الصحافيون العراقيون اليوم، هو الانعدام شبه التام لحرية التعبير والرأي، إذ يتعرضون لمضايقات كثيرة من قبل القوات الأميركية والحكومية اثناء قيامهم بتغطية الاحداث تصل احيانا الى القتل أو الاعتقال، كما اتخذت الحكومة اجراءات عقابية مشددة ضد مؤسسات صحافية كإغلاقها أو حرمانها من حق العمل والتغطية، في الوقت الذي يتعرض صحافيون وكُتّاب مستقلون الى تهديدات من قبل الجماعات السياسية الطائفية، سواء داخل الحكومة، أو خارجها، لو تعرضوا في كتاباتهم الى مواقف لا تحبذها تلك الأطراف.
هناك العديد من المشاكل والتحديات التي تواجه العاملين في مجالي الصحافة والاعلام في العراق والتي تحول دون ممارستهم لعملهم بحرية، وعلى رأسها الخطوط الحمر التي توضع امامهم في المجالات السياسية والفكرية والتي تقتل الابداع، اضافة الى النواهي المتعلقة بمواضيع مكافحة الفساد وغياب المحاسبة، ما ادى الى اضمحلال دور الاعلام في الرقابة على مؤسسات الدولة. لقد سجلت حالات عدة اقتيد فيها صحافيون الى المحاكم وحكم عليهم بغرامات مالية كبيرة كان خصومهم فيها من كبار المسؤولين في الدولة، الذين لم يحرصوا فيها ابدا على اظهار الشفافية في تعاملاتهم المالية التي كانت سبباً لانتقادات هولاء الصحافيين.

وهناك ايضاً حالات التحكم والتلاعب بالمعلومات والاخبار التي تسيطر عليها القوى والشخصيات والهيئات المتنفذة، سواء داخل اجهزة الحكومة او لدى الجماعات الاخرى، والتي تستخدمها اما لتسريب تقارير مضللة او لتوجيه الاحداث بما يخدم اجنداتها الخاصة. لقد انتجت هذه الحالة من الشللية والزبائنية انعداماً تاماً للشفافية واشاعت التعامل الانتقائي وانعدام الصدقية ما انتج بدوره هيمنة تامة على مصادر الأخبار واحتكارها أفقد الصحافيين القدرة على العمل الحر والوصول الى المعلومة الصحيحة وحرم العراقيين والعالم من الحق في المعرفة والاطلاع واشاع في كثير من الأحيان صورة كاريكاتورية لوضع شديد المأساوية. ان احد الأوجه السلبية لهذه الحال هو ظهور صحافيين جدد اكثر ولاءً لمصادر أخبارهم من ولائهم للحقيقة والمهنة، وهي حالة ستترك آثارها السلبية لمدة طويلة على أوضاع الصحافة العراقية.

وفي مقابل عمليات الكبت والتضييق والحرمان التي يتعرض لها الصحافيون المستقلون، فإن العديد من القوى السياسية يمارس ايضاً فنوناً من اساليب الترهيب والترغيب، منها الهيمنة والتحكم والإغراء والرشوة، بهدف السيطرة على الصحافيين او شراء ذممهم في ممارسات مماثلة لتلك التي تلجأ اليها الانظمة الشمولية والبوليسية. ومن أسوأ ما تلجأ اليه هذه القوى، ومنها من هو مشارك في الحكومة، هو تعاملها مع الصحافيين على اساس  
طائفي، إذ لا يتردد بعضها في تقسيم الصحافيين حسب هوياتهم المذهبية، وتفرض أو ترفض تعاملها معهم على هذا الاساس، ما يعني نقل المحاصصة الطائفية الى الجماعة الصحافية، الحصن الأخير للحقيقة ولحرية الكلمة.

إن نظرة الى عالم الصحافة والاعلام في العراق ستوضح الى اي مدى وصل الفرز الطائفي والعرقي فيه، إذ تتصاعد النبرة الطائفية والعرقية في معظم الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية، ليس فقط على حساب المعايير المهنية السليمة، بل ايضاً على حساب القيم الوطنية والانسانية النبيلة. وتضرب حال الاستقطاب المذهبي والقومي هذه صدقية الصحافة العراقية في الصميم، وتحولها الى مجرد ابواق للجماعات الطائفية المتخندقة، كما انها تشيع، بسبب الهيمنة على وسائل الاعلام، ثقافة استقطابية انقسامية مماثلة، هي النقيض المباشر للثقافة الوطنية القائمة على غنى التنوع والتعدد في المجتمع العراقي.

ولعل أسوأ ما افرزته ظاهرة القمع التي تعيشها الصحافة في العراق هو انها حرمت العالم من تغطية جيدة وحقيقية ومستقلة لواحدة من اهم واكبر حوادث التاريخ الانساني الحديث. فبإمكان أي مراقب اعلامي وسياسي أن يدرك ان الوضع العراقي الحالي لا يحظى بالتغطية الاعلامية الحيادية اللازمة او الكافية، وان الحقيقة تكاد تكون غائبة وان ما ينقل الى العالم هو جانب أحادي ومبتسر. والسبب في ذلك واضح تماما وهو عدم قدرة الصحافيين على النزول الى موقع الحدث، إذ يضطرون ان ينقلوا الى العالم الاخبار من فنادقهم او مكاتبهم المحصنة في حين يتعرض القلة الذين يغامرون بحياتهم من اجل نقل الخبر والصورة والمعلومة الى مخاطر لا تحمد عقباها. وفي مرحلة يشهد فيها العالم ثورة في المعلومات والمعرفة فإن سيف الخوف والارهاب المسلط على الصحافيين يقف عاجزاً عن معرفة ما يجري حقيقة على الأرض العراقية.

مع سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري كان مؤملاً ان تشهد الصحافة العراقية التي تمتلك كوادر مهنية ممتازة، قفزة نوعية، تتكئ على احلام ووعود بعصر جديد. غير ان الانتكاسة التي تعيشها الصحافة العراقية الآن هي تعبير عن محنة حقيقية لا للصحافيين العراقيين وحدهم، بل للمجتمع العراقي بأسره، الذي لا يحرم فقط من سلطة رقابية حقيقية، بل من ضميره الاخلاقي المعبر عن تطلعاته وارادته وحريته. حقا ان هناك صحافيين عراقيين لا يزالون يثيرون الاعجاب لشجاعتهم في مواجهة التحديات التي تعترض عملهم في ظل اوضاع امنية وسياسية صعبة، لكن الصحافة العراقية تبقى في محنة، تحتاج لانهائها الى تضافر جهود وطنية ودولية قبل ان تنال يد الارهاب والعنف والفساد من حياة آخر صحافي عراقي أو تخرس لسانه او تكسر قلمه أو تطفئ ضميره أو تشتريه.

*الحياة/ 6/6/2007

        أساليب التدخل الإنساني بين العراق وبورما


تكتسب ثورة الزعفران البورمية أهمية كبيرة بالنسبة إلينا نحن  العراقيين ، على الاقل من باب المقارنة التاريخية، بين بلدين مرّا بظروف مشابهة، من ناحية سيطرة طغمة متشددة على الحكم واضطهادها لشعبها، ومغايرة لجهة الوسائل والاساليب التي اتبعت لإسقاطها، فحين يخرج البورميون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة في وجه قوة غاشمة تقبض بيد من حديد على مقدراتهم منذ عقود طويلة، تماما مثلما فعل صدام حسين، فإن السؤال الذي لا بد ان يطرح هو هل سيستطيع الشعب البورمي الأعزل وحده اسقاط هذا النظام، أم أنه سيحتاج إلى الدعم الدولي، وما هو دور هذا الدعم وحدوده؟ لسنا وحدنا كعراقيين من يدرك اليوم النتائج الكارثية التي سببها الغزو الأميركي الذي أسقط صدام، لكن التجربة العراقبية ستظل تطرح على ضمير العالم سؤالا آخر: هل يتوجب على الشعوب التي تحتاج لمؤازرة الاسرة الدولية للانعتاق من قهر أنظمتها ان تدفع ثمن تلك المساندة وفق تسعيرة تفرضها شروط الصراعات والمصالح الدولية والاقليمية؟

من الضروري التأكيد على فوارق جوهرية بين التجربتين العراقية والبورمية. فالانتفاضة البورمية المستمرة منذ سنوات هي نتاج نضال حركات المعارضة في الداخل بقيادة اونغ سان سو تشي، تلك القائدة الوطنية الفذة، التي يعود الى حكمتها وصبرها وعزيمتها صمود الشعب البورمي في وجه تسلط الزمرة العسكرية الحاكمة وابقاء قضيته حية، في الوقت الذي حرم الشعب العراقي من معارضة داخلية قوية ومن تلك القيادة الحكيمة، سواء بسبب ممارسات صدام القمعية التي فاقت كل حدود، او لظروف موضوعية اخرى. اما الفارق الاساسي الآخر فهو العامل الجيوبوليتكي الذي يمثله العراق في سياسات الاقليم، والذي لعب دورا مهما في صوغ تفرد اميركا في تدخلها في العراق لحسابات مصلحتها البحتة، وليس لهدف انساني هو إنقاذ شعب من محنته، وهو ما أخذ يتبين الآن.

وفي ظني ان التاريخ سيشهد ان احد الاسباب الاساسية وراء وصول الوضع العراقي الى ما هو عليه هو افتقاد العراق قيادات سياسية بوزن ومكانة اونغ سان سو تشي، وهي مقارنة صحت قبلها على نلسون مانديلا، الذي اصبح اسطورة تدين له  جنوب افريقيا بإخراجها من نفق العنصرية المظلم. واحد اسباب غياب هذه القيادات هو ان نظامي الطغمة العسكرية في بورما والتمييز العنصري الابارتايد في جنوب أفريقيا ظلا أقل بشاعة من نظام صدام الذي لم يسمح للمعارضة بالبقاء على قيد الحياة أبدا. غير ان الوضع المتردي في العراق الآن، ورغم طوي صفحة صدام، هو خير دليل على غياب القيادات الحكيمة ورجال الدولة اللامعين بل وحتى الطبقة السياسية الواعية التي بإمكانها ان تدير دفة الامور بسلام وروية. وبغض النظر عن الاسباب التي تقف وراء ذلك، فمن المؤكد ان وجود قيادات من نوع سو كان سيغير مجرى التاريخ في العراق ، وهو الامر الآخر الذي يعطي للتجربة البورمية اهميتها مقارنة بالتجربة العراقية.

عادت سو، ابنة الزعيم الوطني البورمي اونغ سان، من المنفى عام 1988 لعيادة والدتها المحتضرة ولكن عودتها تصادفت مع بدء الانتفاضة الشعبية ضد الطغمة العسكرية التي استولت على الحكم منذ 26 عاما فوجدت نفسها وكأن القدر يناديها لتولي قيادة معارضة مفككة في وجه طغيان النظام. لم تهرب سو من النداء ولم تعد الى زوجها وعائلتها في بريطانيا قارن ذلك بالمعارضة العراقية لصدام، بل بقيت في بلدها تقود التظاهرات والتجمعات التي أطلقتها الانتفاضة. ولم يكن ذلك المثال الذي ضربته في التضحية واختيار البقاء الى جانب شعبها فقط هو الذي رسّخ زعامتها بشكل سريع، بل الحكمة والرهافة والصبر إلى جانب البراعة السياسية التي ابدتها في قيادة المعارضة وسط ظروف معقدة. في خطاب ألقته وسط مئات الآلاف من انصارها في احد ميادين رانغون يوم 26 آب اغسطس 1989 حذّرت سو من مغبة الوقوع في فخ العداء للجيش فميزت بينه كمؤسسة وطنية وبين الجنرالات الذين هيمنوا على البلاد قارن ذلك ايضا مع تفكيك الجيش العراقي بعد الحرب. تأكيدها الآخر كان على بث قيم الوحدة الوطنية بين الاعراق المختلفة وروح التسامح والانضباط وعدم الانجرار وراء اعمال الثأر الشخصية قارن كذلك ببث النزعات الطائفية والمحاصصة القومية والطائفية وروح الانتقام التي سادت في عراق ما بعد صدام.

منذ بداية قيادتها لمسيرة المطالبة بالديموقراطية وجهت سو اهتمامها نحو العالم طالبة تضامنه ودعمه لتلك المسيرة، لكنها ظلت تفعل ذلك مناشدة المنظمات الدولية والحقوقية والصحافة للتنديد بجرائم النظام العسكري وفضح انتهاكاته وفرض العزلة الدولية عليه، لكنها أبقت دائما قضية النضال لإسقاط السلطة في الاطار الوطني والسلمي باعتبار أن ذلك هو أولاً مهمة شعب بورما وحده، وثانيا: ضرورة الا ينزلق النضال الى اي شكل من اشكال العنف الذي رفضته بقوة حتى ولو كان رد فعل على عنف النظام ووحشيته. وأدركت سو اهمية التضامن الدولي لدعم مسيرة الديموقراطية من ناحيتين: اولاهما ان المقاطعة والعقوبات التي يفرضها العالم ستزيد من عزلة النظام. وثانيهما ان تلك الاعمال ستمنح البورميين المزيد من الامل حتى في اكثر مراحل الصراع اثارة لليأس والاحباط. وكتبت سو في رسالة وجهتها الى لجنة  الامم المتحدة لحقوق الانسان عام 1989 ان الشعب البورمي سيعتمد على شجاعته وصبره وقدرة تحمله في انجاز المهمة، وان كل ما يطلبه من العالم هو دعم قضيته العادلة، وهذا موقفها حتى اللحظة.
والآن مع احتمال وصول الانتفاضة البورمية الى مرحلتها النهائية فإن الانظار تتجه الى الطريقة التي سيتعامل بها العالم مع الازمة هناك. هناك طبعا تعقيدات ترتبط بالعلاقات الدولية وبخاصة بالمصالح الصينية والهندية في منطقة جنوب شرقي اسيا والمشاغبات الروسية المتوقعة في الامم المتحدة وخارجها. كما ان هناك حقيقة جوهرية وهي ان بورما بلد زراعي فقير لا يتمتع بتلك الجاذبية التي شكلها العراق بثرواته النفطية الغنية في دفع الولايات المتحدة لاتخاذ قرارها المنفرد بشن الحرب لتغيير نظام صدام. ومن المؤكد ايضا ان التجربة العراقية المريرة ستفرض ذاتها على النقاش الذي يدور بشأن الخيارات التي على العالم أن يتخذها لمد يد العون إلى شعب بورما في نضاله من أجل الخلاص.

لقد كان أول رد فعل من الرئيس جورج بوش على العنف الذي واجهت به السلطة في رانغون المنتفضين انه أمر بفرض حظر على سفر الجنرالات البورميين وعائلاتهم الى الولايات المتحدة، كما ان ردود الافعال الاوروبية لم تزل في مرحلة الكلام الديبلوماسي والاستنكارات، في الوقت الذي يبدي الجاران الكبيران لبورما، الصين والهند، اهتماما اكثر بتدعيم نفوذهما في المنطقة على الاهتمام بمن يحكم بورما وبأية طريقة. اما الامم المتحدة فمن غير المحتمل أن يغير إرسالها ابراهيم غمباري الى رانغون شيئا في ظل انعدام رؤية دولية موحدة بشأن بورما، وهو أمر من الصعب ان يستمر اذا استمرت الانتفاضة واخذت منحى اكثر دموية.

لا نعرف في هذه المرحلة وعلى وجه التحديد الوجهة التي ستسلكها الانتفاضة البورمية وما اذا كنا سنرى في مرحلة ما لافتات ترفع وسط المتظاهرين في رانغون تنادي بالتدخل الاجنبي لاسقاط المجلس العسكري الحاكم اذا ركب جنرالاته رؤوسهم، ولكن المؤكد ان شعب بورما سيبقى في حاجة الى دعم العالم وتضامنه معه، مما سيثير التساؤلات عن التجربة الجديدة في سياسات التدخل الانساني وتغير الانظمة الشاذة التي ستواجهها الاسرة الدولية قريبا، لكن من المؤكد ان العالم الذي يشاهد الكارثة العراقية سيتريث كثيرا في التدخل المباشر في بورما، وربما سيختار المثال الاندونيسي في التغيير الذي تمكن في النهاية من إطاحة سوهارتو، ولكنه حافظ على اندونيسيا وعلى الامن والاستقرار في جنوب  شرقي اسيا. ولعل مقولة الرئيس بوش قبل اسابيع في أحد تبريراته للغزو الأميركي ان صدام قضى على امكانية قيام نلسون مانديلا في العراق ستكون ماثلة امامه وامام العالم. ففي بورما لا تزال اونغ سان سو تشي حية، وكل ما على العالم ان يفعله هو ان يقف معها ومع المقاومة البورمية الشجاعة.
اهمية مؤازرة ثورة الزعفران حتى نجاحها انها ترسل رسالة ودرسا ايضا لكل الشعوب الاخرى التي ما زالت ترسخ تحت نير الانظمة المستبدة. فبورما ليست وحدها من يختبر اذا ما كان لهذه العبارات اي معنى، بل العالم كله موضع اختبار، في ما اذا كان باستطاعته ان يقف مع شعب يتحدى الخوف ليستعيد حريته من دون ان يجبر على دفع ثمن باهظ كالذي دفعه العراقيون.


* الحياة / 11 – 10 – 2007

                       عراق فوق الأنقاض

كانت محنة إنسانية ووطنية قاسية تلك التي واجهها العراقيون قبل خمس سنوات حيث كانت الإدارة الأمريكية تستعد لشن الحرب على بلادهم وحين واجههم السؤال المضني، أين سيقفون هذه المرة، خاصة أن الهدف كان جلياً، وهو إسقاط نظام صدام حسين. شخصياً، رأيت في الحرب فرصة وحيدة للتخلص من ذلك النظام الشمولي، الذي جثم على صدور العراقيين خمسة وثلاثين عاماً، آحال حياتهم خلالها إلى جحيم لا يطاق من القهر والعذابات والإذلال، نادراً ما تحملها شعب من شعوب العالم في النصف الآخير من القرن العشرين. كانت الحرب تبدو فرصة لنبذ كل ذلك الماضي التعيس، ومن ثم البدء من جديد في بناء عراق آخر، عراق قائم على أسس من الحرية والعدالة والإنصاف، ولم لا، ديمقراطي وحداثي، بل ونموذج مشع للدولة المدنية في المنطقة، أيضاً.

كان ذلك الاستنتاج، والأمل بالنسبة لي ولأي فرد عراقي شاركني فيه، في غاية البساطة والبراءة والإنسانية، ولم يكن بحاجة لكي نصل اليه، إلى أية حسابات سياسية أو استراتيجية أو حذلقات ايديولوجية أو تبريرات فلسفية. كما لم يكن ذلك الموقف متناقضاً أبداً، كما أرى حتى الآن، مع الروح الوطنية ومعاني الكرامة الإنسانية التي ظل نظام صدام ينتهكها حتى اللحظات الأخيرة من عمره، حين وضع العراقيين جميعاً أمام محنة الاختيار القاسي، بين الدفاع عنه وعن نظام حكم العائلة والعشيرة الذي أقامه، وبين الوقوع في ذل الاحتلال وقهره، كثمن للتخلص منه.

فالأمر كان بكل بساطة، حلما إنسانيا متواضعا ومشروعا تطلع فيه العراقيون إلى العالم ليمد يده لإنقاذهم من ذلك الجحيم الأبدي، الذي عاشوا فيه، بدون أية بارقة أمل في أن يعمل نظام صدام على إصلاح نفسه، أو أن يتمكن العراقيون أنفسهم ذات يوم من أن يتخلصوا منه بإيديهم، ومن خلال مشروع وطني للتغير. كان ذلك الاستنتاج هو بمثابة انتظار لاستجابة القدر، ولذلك النداء الداخلي لدى كل عراقي، وحمله لإرادة الحياة، وحلمه الأزلي، بكل ما يمكن ان يجلي الليالي الظلماء عن بلاده، ويكسر قيود الذل والاستعباد التي كبلها بهم صدام ونظامه.

كان الأفق مسدوداً أمام أية عملية تغير ذاتي، أو إصلاح داخلي، لأن النظام كان يدرك أن بنيته الأمنية والسياسية والايديولوجية، القائمة على الكبت والقمع وعلى عبادة الشخصية، وصنمها الآبدي صدام، ستكون معرضة لخطر الانهيار مع أول بادرة انفتاح، مهما كانت ضيئلة. فلم تكن هناك أية قوة معارضة سياسية داخلية حقيقية بإمكانها أن تقف أمام النظام وتجهر بصوتها بأي مطلب سياسي، أو حتى إنساني، بعد أن عمل النظام على التصفية المادية والمعنوية للأحزاب والجماعات السياسية.

ولم تكن المعارضة في الخارج بحال أفضل، فقد تحولت أغلبها بسبب هيمنة الجماعات ذاتها التي عجزت عن التصدي لنظام البعث داخليا، وتفضيلها خيار التحول إلى ضحية على خيار البقاء والصمود والمقاومة، وبسبب العقلية التسلطية التي تديرها أيضا، إلى مشروعات فردية أو عائلية ودكاكين تشرف عليها أجهزة مخابرات الدول التي تستضيفها، وتوجهها حسب غاياتها ومصالحها.

اما التطلع لأي عون عربي للتخلص من صدام ومساعدة العراقيين على إقامة نظام ديمقراطي، فكان مجرد سراب وعبث، ليس فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل لأن النظام العربي ذاته قائمُ على تضامن دوله وحكوماته وزعاماته على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، طالما أنه لا يهدد بقاءك، أو، على العكس، أن زواله سيهدد ذلك البقاء.

كان بقاء نظام صدام بالرغم من الكوارث التي ألحقها بالعراق يعني انتصاره على العراقيين وعلى رغبتهم في الحياة الحرة الكريمة، واستمرار ذلهم وقهرهم وقتلهم سنوات طويلة اخرى، مع احتمال شبه أكيد، بان ينتقل الحكم بعد ذلك من صدام إلى أحد ولديه عدي أو قصي، أي بمعنى آخر أن يبقى العراقيون عبيداً أذلاء لذرية الطاغية، ومن أشباهه من السفاحين والمغامرين عديمي الإحساس والضمير، واحداً وراء آخر، بدون أي أفق بانتهاء هذه السلسلة من الطغاة التي كانت تعمل وتخطط للبقاء إلى ما لا نهاية.

ولم تكشف تلك المرحلة عن أزمة وطنية شاملة والمتمثلة بحالة إنسداد في الأفق السياسي للنظام فقط، بل أنها كشفت عن العمق الذي وصلت إليه الأزمة البنيوية للدولة ذاتها من خلال وصولها إلى أقصى حالات التماهي مع النظام، بل مع الفرد الحاكم ذاته. ومع ارتباط الأزمة الداخلية بالتوترات والصراعات مع المجتمع الدولي، بسبب إرث المغامرات والحروب التي خاضها النظام مع جيرانه، فقد فقدت الدولة والمجتمع في العراق أية حصانة وقدرة على الصمود بوجه التحديات الداخلية والخارجية معا، الامر الذي كان سيسهل بالنهاية سقوط النظام بالحرب التي كانت على الأبواب.

غير أن الأمر لم يكن كله أحلاما وآمالا، بل كانت هناك أيضا شكوك وهواجس ومخاوف تحوم وتدفع للظن بان الأمر قد لا ينتهي بما يتمناه العراقيون وكذلك خشية حقيقية من أن تشهد لحظات ما بعد ولادة عراق جديد محاولات لوأده، أو حتى أن يكون الحمل نفسه كاذبا. كانت الشكوك نحو الأمريكان نابعة، أولاً، من أن امريكا ليست جمعية خيرية جاءت لمساعدة العراقيين بتحريرهم من صدام، ولا بد أن لها مصالح وأهدافا قد تكون مناقضة للحلم العراقي. وكان واضحاً، ثانياً، مما كشف عنه من نقاب عن الخطط والاستراتيجية الأمريكية وأسلوب تنفيذها، أن الإدارة الامريكية عازمة على خوض مغامرة كبيرة، بدون أي استعداد جدي لإعادة بناء الدولة، بل بدون فهم حقيقي للواقع العراقي.

ثم كانت هناك شكوك في قوى المعارضة العراقية التي استجلبتها الإدارة الأمريكية لتبرير الاحتلال والمشاركة في إدارته. ففي غياب معارضة سياسية تمثيلية حقيقية على الأرض، يمكنها أن تكون بديلا مقبولاً، أو حتى معقولاً، في فترة انتقالية يجري خلالها بناء الحركات السياسية المعبرة عن الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغير ومن ثم الإعداد للمرحلة الدائمة، كانت تلك القوى بكل ماضيها وخيارتها وأجنداتها، وخاصة الطائفية والفئوية، هي الوحيدة التي بإمكانها أن تتصدر الساحة بوجه تيار وطني عام لم يتسن له النهوض بعد.

مقابل ذلك كانت الشكوك تحوم أيضا حول رد الفعل المتوقع للدول الإقليمية، وخاصة المجاورة للعراق، من عملية التغيير القادمة، وهي التي كانت تستشعر مدى الخطر الكامن في ذلك على أمنها واستقرارها، بل على وجود أنظمتها ذاتها. فحين أصبح واضحا أن الإدارة الأمريكية اتخذت قرار الحرب لم يكن أمام هذه الدول إلا القبول به أيضا، سواء على مضض، أو كرها، غير أن السؤال ظل، هو كيف كانت ستتعامل هذه الدول مع نتائج الحرب المتوقعة، مع كل ما تحمله من توقعات سيئة وكارثية على عموم المنطقة الهشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتحديات التي سيفرزها التغير الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي سيحصل.

في كتابي الأخير «فوق الانقاض، نهاية المشروع الأمريكي في العراق» الذي يصدر متزامنا مع الذكرى الخامسة للحرب حاولت أن أعود إلى حكاية ذلك الحلم المليء بالبراءة وكيف انه سرعان ما تحول إلى كابوس مرعب، عبر المرور بالمحطات التي قطعها مشروع الحرب وما آل اليه مشروع التغير في العراق، الذي بشرت به إدارة بوش إلى مجرد غزو واحتلال قميئين وأطلال مجتمع ودولة يعشش في خرائبها الإرهاب والعنف والفساد وتفوح من زراريبها رائحة الدم وعفن التعصب الطائفي والكراهية. النقطة الجوهرية التي يحاول الكتاب تركيز الأنظار عليها، هي كيف أن العراقيين الذين ظلوا يتشبثون بالأمل للخلاص من واقعهم المآساوي وقعوا ضحية لعملية خداع كبرى، كانت نتاج مزيج من الحماقة وغطرسة القوة والأحلام الإمبراطورية، والنبوءات الخرافية، إضافة إلى المؤامرات الدنيئة، والصفقات الخسيسة، ورغبات دفينة بالثأر، وطموحات مرضية، رافقها تواطؤ مخزٍ وجبن لا أخلاقي نادر وصمت عاجز، حيث اجتمع كل ذلك ليخلق مأساة أكثر رعبا مما أنتجه القهر الصدامي. ليس للعراقيين، وانا واحد منهم، ان يعتذروا لأنفسهم الآن عن تلك الأحلام البريئة، التي تحولت إلى أوهام، لمجرد أنهم ظنوا في ساعة المحنة تلك أن هناك في هذا العالم بقية من رحمة وتعاطف وضمير وأن هناك من سيساعدهم من أبناء جلدتهم على الخروج من تلك الدائرة الشاذة من تاريخهم الحديث، بل عليهم وهم يمرون بهذه الأيام الحالكة من تاريخهم أن يقفوا ويتمعنوا في درس التجربة ويخلصوا إلى أنهم وحدهم القادرون على الخروج من نفق الأزمة الوطنية المريرة، وانهم محكومون بالعيش معا، وأن الفراق بينهم ليس قدراً محتماً، إذا ما توفرت الفرصة لإعادة اكتشاف ماضيهم المشترك وتصويب أخطاء حاضرهم والانشغال ببناء مستقبلهم.

قد لا يصبح ذلك ممكنا بدون ان تقف الأطراف الأمريكية والعراقية وغيرهم من الذين شاركوا في قتل الحلم وصنع الكارثة العراقية أمام محاكم قانونية، او حتى اعتبارية، لكي ينالوا جزاءهم العادل، مثلما ناله صدام نفسه، عما اقترفت أياديهم وأفكارهم الشريرة بحق الملايين من الأبرياء العراقيين. إن العبر من تجربة صدام لم تتجسد في تلك الزنزانة القميئة التي شهدت نهايته، بل في التراب الذي سيظل التاريخ يهيله على تجربته البشعة، وهي عبر لا يبدو أن الكثيرين، سواء من أعدائه وخصومه الذين ظنوا أنهم ورثته، أو من الآخرين الذين أوغلوا أياديهم، كل لحساباته، في دم العراقيين، وخراب بلدهم، قد تعلموها.

* الشرق الاوسط/ 22/5/ 2008

         الانتخابات العراقية بين السياسة والواقع

تتجاوز الانتخابات التشريعية العراقية المزمع إجراؤها نهاية الشهر الحالى نتائجها المباشرة إلى تقرير مآلات العراق نفسه، حيث يغرق البلد بعد أحد عشر عاما من الغزو الامريكى له فى مستنقع لا قرار له من الفوضى والأزمات،

 وتنسد أمامه كل افاق المستقبل.ففى الوقت الذى تنغمس فيه الجماعات السياسية التى تمكنت من السلطة اثر الغزو فى سباق محموم من أجل الفوز مجددا بنصيبها من كعكة الثروة والسلطة من خلال صناديق الاقتراع، يبدو العراقيون أنفسهم أكثر اقتناعا الآن مما مضى بأن الانتخابات هى مجرد تمرين عبثى آخر على طريق انهيار الدولة والمجتمع الذى سلكته الجماعات المهيمنة.

هل يبدو هذا التقييم متشائما، بالأقل إزاء فكرة أن إجراء الاقتراع بحد ذاته يبدو فعلا إيجابيا يستحق التثمين، كما يجادل المتفائلون، حيث تشكل الانتخابات السد الأخير أمام ذلك الانهيار ومنح الشرعية الضرورية لحمايته وتحصينه.شخصيا لا أعتقد ذلك، إذ أن كل عراقى يدرك بالتجربة الآن أنه وفى ظل قواعد المحاصصة الاثنوطائفية التى أقيم عليها نظام ما بعد صدام حسين فإن الانتخابات الثالثة ستعيد انتاج نفس تلك المنظومة من الجماعات والسياسات والقيم المسئولة عما وصلت إليه الأوضاع فى العراق من ترد جعلت منه واحدا من أسوأ اماكن العيش فوق كوكبنا هذا.

تأتى الانتخابات وسط تدهور أمنى فظيع وأزمات سياسية ودستورية وخلافات حول السلطة والموارد وصراعات طائفية وقومية هى بمجملها نتاج فشل المرحلة الانتقالية التى اعقبت الغزو الامريكى عام 2003 فى العبور بالعراق إلى مرحلة إعادة بناء الدولة والمجتمع.والعامل الأساسى الذى يقف وراء ذلك الفشل هو ذات الطبقة السياسية التى قادت العملية السياسية بعد انتخابات عامى 2005 و2010 والتى تسعى الآن إلى تجديد رخصة هيمنتها على السلطة من خلال الانتخابات المقبلة.

ان أزمة العراق المستفحلة خلال أكثر من عقد هى أزمة قيادة بالدرجة الأولى حيث عجزت هذه الطبقة عن تقديم حلول بارعة للمشكلات العويصة التى واجهتها المرحلة الانتقالية، وذلك لأسباب عديدة منها افتقادها الخبرة والرؤية والخيال السياسى والنظرة الاستراتيجية، ومنها تخندقها وراء العصبيات الطائفية والاثنية.كان العراق فى ذلك المنعطف الخطير من تاريخه بحاجة إلى قيادات حكيمة ونزيهة وواعية وشجاعة تقود مشروعا وطنيا للبناء والنهضة وبرنامج ــ ديمقراطى ــ للتغير والتنوير إلا أن الزمن لم يجد إلا بطغم لم تجلب للعراق سوى المبائس والآلام والخراب.

هنا تكمن الأزمة العراقية بالذات حيث تحول برنامج التغير والتحول لمرحلة ما بعد صدام إلى مشروع سيطرة وتحكم فى الدولة وفى الموارد وانتصار لطائفة معينة على الطوائف والأعراق الأخرى، وإطلاق معارك الهويات الصغرى، فى حين تلاشت بالتدريج أهداف المشروع الوطنى وعناصر الهوية الوطنية المتميزة، وتبخرت معها، بطبيعة الحال، الأطر الديمقراطية والدستورية التى تمت صياغتها لتوجيه وإدارة العملية الانتقالية، وما كان ينبغي أن توفره من عدالة وتكافؤ ومشاركة.

النتيجة الأسوأ لأزمة المشروع الوطنى العراقى هى ظهور المشكلة الطائفية التى أصبحت العقبة الكأداء أمام عملية إعادة بناء الدولة وإنجاح الفترة الانتقالية، ليس فقط من خلال الفشل فى تحقيق أى إجماع وطنى وتوافق سياسى وبالتالى مصالحة وطنية، بل بسبب الإخفاق أيضا فى الوصول إلى مشاركة حقيقية وتقاسم فعلى للسلطة والثروة فى عراق قائم على أساس التعددية والتنوع.إن أسوأ ما فى نهج المحاصصة الاثنو لطائفية هو تحوله إلى نظام سياسى قائم على مبدأ الأغلبية والأقلية فى المجتمع، وليس فقط فى السلطة، دون اعتبار لمفهومى المواطنة والشراكة، والحقوق والواجبات المترتبة عليهما.

ما أنتجته سياسات التمكين واستراتيجيات الهيمنة التى مارستها الأغلبية بحق الأقلية هو التهيمش والإقصاء والعزل والتقزيم، مما أدى إلى فشل جهود المصالحة الوطنية، وكشف عن استحالة تحقيقها، كما أخل بالتوازن الوطني، وأفرز خطابات وممارسات مذهبية، وأوجد صراعا طائفيا أخذ بالنهاية منهجا مسلحا.ولا غرابة أن النهج الإقصائى التعسفى امتد ليشمل كل العراقيين من مختلف المذاهب والاعراق الذين يرفضون وضع الوطن فى حجرة هوية ضيقة ويأنفون عن ركوب الموجة الاثنوطائفية وما يصاحبها من برامج جهنمية وردات فعل غرائزية.

كل هذا يدفع إلى الاعتقاد بأن إجراء الانتخابات البرلمانية فى ظل المشهد الطائفى الزاحف يعد تهربا سرياليا من الواقع يصل إلى حد كونه ملهاة ساخرة يدعون إليها العراقيين بهدف إعادة التصديق على صيغة المحاصصة الطائفية وتجديد شرعية العملية السياسية القائمة عليها.ما ستتمخض عنه هذه الجولة الانتخابية هو إعادة إنتاج نفس السياسات وذات الأشخاص الذين كانوا سببا فى وقوع العراق فى هذا الشرك البنيوى المحكم الذى سيظل العراق عالقا فيه والمتمثل فى الفصل الطائفى الزاحف على كل مناحى الحياة.

إن القول بأن الانتخابات استحقاق دستورى وطريق ديمقراطى وآلية اختيار حر، هو فى السياق العراقى الحالى بضاعة بالية ولغو فارغ،.

المأزق الذى ستتمخض عنه الانتخابات المقبلة هو حالة مستدامة من الانقسام الجغرافى والسياسي، سيظل يدور فى الفضاء الصراعى الطائفي، ما لم يتم إجراء تحولات إساسية فى الخطوط الحمراء الموضوعة من قبل الجماعات الطائفية لإعادة بناء الدولة على أسس من العدالة والمساواة.العراق بحاجة إلى بنية سياسية جديدة يتخطى من خلالها حالة الصراع، إذ لا ديمقراطية، ولا معنى للانتخابات مع استمرار الاحتراب الأهلى الذى يوسع من شقة الخلافات ويضع البلد برمته على حافة التفكك والانهيار.

*الاهرام 12/4/2014

            مستقبل الشيعة فى عراق ما بعد صدام

سلط انهيار نظام الرئيس العراقى السابق صدام حسين الأضواء من جديد على المسلمين الشيعة وعلى الدور السياسى الذى يمكن أن يلعبوه ليس فى تحديد معالم عراق المستقبل وهويته بل وفى رسم مستقبل منطقة الشرق الاوسط برمتها نظرا للإمدادات المذهبية الشيعية فى المنطقة وازدياد دورهم منذ الثورة الإسلامية فى إيران عام 1979 من جهة والتفاعلات الجيوبولتيكية التى من المتوقع أن يطلقها التغير فى العراق من جهة ثانية هذا محاولة لاستقراء الوضع الشيعى فى عراق ما بعد صدام لكن اولا من هم الشيعة؟

 الشيعة طائفة من المسلمين والتشيع مذهب يقوم أساسا على أن الولاية أى امامة على بن ابى طالب وأولاده من بعده وخلافتهم للنبى محمد فى أمور المسلمين الدينية والحياتية هى أحد أعمدة الدين مثلها مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج ويذهب البعض من الشيعة إلى أن الولاية أفضل هذه الأعمدة لأنها (أى الولاية) مفتاحهن والأولى هو الدليل عليهن وشأنهم شأن باقى المذاهب الإسلامية لجأ الشيعة إلى الأدلة النقلية والعقلية فى محاولة لاثبات دعواهم والتى ارتكزت إلى القرآن والسنة النبوية التى وردت فى كتبهم وتراث آل البيت اضافة إلى أدلة العقل والإجماع.

وكان المخزون الثرى للفقه الشيعى الذى ظل منافحا عن نهج الولاية عبر العصور قد طور فكرا سياسيا تراكميا تناول مفاهيم الدولة والحكومة والقيادة السياسية وفقا للاطار الإسلامى الذى يرمى إلى إقامة الأمة غير المرتكزة على الوحدات الجغرافية أو التاريخية أو اللغوية أو المصالح الاقتصادية بوصفها مكونات الدولة القومية والمبررات الكبرى للدولة الحديثة يرتبط التشيع بمفهوم الغيبة وهو مفهوم جوهرى فى العقيدة الشيعية قائم على اعتقاد القطاع الأوسع من الشيعة وهم الأمامية الاثنى عشرية بغيبة الإمام محمد (المهدى) بن الحسن العسكرى (260 هجرية) فى ظروف غامضة مما أدى إلى انقطاع مادى لسلسلة القيادة الدينية والسياسية للطائفة نتجت عنه اشكالية أساسية تتمثل فى بقاء الشيعة دون إمام معين من قبل الله فى تسلسل وراثى ومعصوم طالما كانوا يرفضون مبدأ التعيين والشورى.

ولأن الغيبة تتناقض مع فلسفة الامامة التى تقول بأن الأرض لا يجوز أن تخلو من امام فقد استنبط متكلمو الشيعة وفقاؤهم عبر العصور نظرية الانتظار أى انتظار عودة وظهور الامام المهدى وهى النظرية التى شكلت لاحقا جوهر الفكر السياسى الشيعى وخاصة فيما يتعلق بحل اشكالية التشريع والقيادة فى عصر الغيبة والتى انطلقت من نظرية النيابة عن الامام الغائب ثم تلاها مفهوم المرجعية ثم توج كل ذلك بنظرية ولاية الفقيه التى وجدت تطبيقها العصرى على يد الامام الخمينى فى إيران عموما فإن التشيع فى تكوينه التاريخى ظل ظاهرة احتجاجية على الدولة البشرية كما بقى مقصده النهائى تأسيس الدولة الدينية الإلهية على الأرض لكن الفكر الشيعى المرتكز على نظريات الامامة والغيبة والانتظار والولاية بقى خليطا من المقاصد التى تبرر وجود واستمرار التشيع من جهة ونفورا من الواقع ومن السلطة من جهة ثانية انعكست دائما على الفقه السياسى الشيعى الذى وصل به إلى حد مقاطعة ورفض مجرد التفكير فى السلطة حتى فى اطارها النظرى والتجريدى وتاليا الاعتصام بالتقية كأحد افرازات وردود الفعل الشيعية لكن وبالرغم من الوعى الانتظارى الذى غلف هذه النظريات إلا أن مجمل الفكر السياسى الشيعى ظل مستندا إلى قواعد اجتهادية عقلية منحته حيوية ومرونة فائقة تبرز أهم تجلياتها اليوم فى تيارات داعية إلى مواكبة الجديد الفكرى على القديم التقليدى النقلى وفى ما يخص موضوعنا تنوع الخطاب الشيعى بل والممارسة أيضا حسب المعطيات الوطنية والموروث التاريخى لكل بلد أو حضارة الوضع الجيبوليتيكى: فى الوقت الذى تسيطر فيه أغلبية شيعية مطلقة على إيران التى يبلغ عدد نفوسها أكثر من 70 مليون نسمة ليست هناك ارقام نهائية حول عدد الشيعة فى العالم بسبب الغياب المتعمد للاحصائيات الدقيقة إلا أن معظم التقديرات تشير إلى وجود حوالى 140 مليون شيعى منهم حوالى 30 مليون فى العالم العربى موزعون على تجمعات رئيسية فى العراق ولبنان وسوريا والمملكة العربية السعودية واليمن ودول الخليج ومتنوعون مذهبيا بين أغلبية امامية واقلية زيدية واسماعيلية ومنهم من يضع العلويين والدروز ايضا بين الشيعة كما انهم منقسمون سياسيا كما حركة أمل وحزب الله فى لبنان والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والدعوة ومنظمة، العمل الإسلامى فى العراق اضافة إلى حقيقة انخراط الشيعة فى التيارات السياسية العامة غير الدينية وهو البعد الغائب غالبا عن الجدال فى الموضوع الشيعى ويمثل الانبعاث الشيعى فى المنطقة منذ الثورة الايرانية عام ـ 1979عاملا جيوبولتيكيا مؤثرا من المؤكد انه سيزداد أهمية بعد التغيير الاخير فى العراق فقد عانت الطوائف الشيعية فى معظم دول المنطقة من التمييز والتهميش السياسى والاجتماعى بل واحيانا من الاضطهاد بسبب وجودها وسط بحر من السنة الذين يقر البعض بهم على مضض كطائفة إسلامية بينما يكفرهم البعض الآخر إما بسبب شدة التيار السلفى أو بسبب تلك الآثار الطائفية التى خلفتها الدولة العثمانية وصراعها الجيوسياسى مع منافستها التاريخية إيران وقد جاءت الثورة الإيرانية لكى تضع الشيعة مجددا تحت الضوء ليس لأنها وضعت علماء الدين الشيعة فى سدة الحكم فى بلد أغلبيته العظمى شيعية، بل بسبب المخاوف التى فجرتها إقليميا ودوليا الحركة الثورية التى اطلقتها فى العالم الإسلامى وعوامل القوة الناشئة عنها فى منطقة شديدة الحساسية للتيارات الثورية وفى وقت تعمقت فيه الهوة بين الحكام والمحكومين وتنامت فيه دعوات الإصلاح والتطوير فى البلدان الإسلامية والأكيد أن الثورة الإسلامية فى إيران وبعض افرازاتها كزيادة المد الإسلامى فى المنطقة والحرب العراقية الإيرانية وانبثاق المقاومة الشيعية ضد إسرائيل فى جنوب لبنان وتنامى الصوت الشيعى فى منطقة الخليج وضعت الشيعة فى المنطقة أمام تحديات كبيرة إلا أن نتيجتها الأهم هى انها نجحت ليس فقط فى نقلهم إلى أوضاع جديدة أفضل أصبح فيها تهميشهم عبئا على الوسط العام الذى يعيشون فى كنفه بل جعلتهم رقما سياسيا مهما فى المعادلة الإقليمية وربما الدولية وبالنسبة لشيعة العراق فقد ظلوا مهمشين سياسيا منذ سقوط الدولة العثمانية وخلال كل الادارات المتعاقبة حتى وصلت قمة التهميش السياسى والاقتصادى والاجتماعى تحت سلطة نظام صدام حسين على الرغم من وقوفهم ضد إيران فى الحرب التى شنها صدام تعبيرا عن مشاعرهم الوطنية والقومية العربية وعلى حساب صلاتهم المذهبية مع إيران هذا التهميش أصبح يشار اليه من قبل الشيعة العراقيين بمشكلة الطائفية والتمييز الطائفى التى تتربع الآن مسألة معالجتها على رأس الأجندة الشيعية بعد سقوط نظام صدام والواقع أن الدولة العراقية عانت منذ تأسيسها عام 1921 من علة أساسية كانت ولا تزال السبب الرئيسى فى ما واجهته من متاعب وما حل بها من رزايا ونكبات وهذه العلة تكمن فى تسلط أقلية صغيرة من الشعب العراقى على زمام الحكم واستئثارها به وانفرادها بممارسة سلطاته وحرمان بقية الفئات ولا سيما الأكثرية الشيعية العربية والأقلية الكردية وفى تفسير ذى صلة بالموقف الشيعى من عملية التغيير التى تجرى الآن فى ظل الاحتلال الأمريكى يعزو الشيعة ذلك التمييز الطائفى إلى قيام البريطانيين بعد احتلالهم للعراق عام 1917 ولأسباب تتعلق بقيام الشيعة بمقاومة الاحتلال البريطانى وتفجيرهم الثورات بوجهه بمنح الحكم للأقلية العربية السنية التى تفتقر إلى دعم الأكثرية الشيعية العربية والأقليات الأخرى مثل الكرد والتركمان وتمثلت هذه السياسة البريطانية منذ البداية باقصاء الشيعة عن المناصب المهمة فى الدولة مثلما تميزت بانحياز الموظفين البريطانيين وتعصبهم ضد الشيعة فقد كتبت المس جيرترود بيل سكرتيرة المندوب السامى وصانعة العراق الحديث ردا على الاحتجاجات الشيعية ضد عدم تمثيلهم بشكل مناسب فى مجلس الدولة بقولها فى مذكرة شهيرة بعثت بها إلى مقرها فى لندن أما أنا شخصيا فابتهج وافرح أن أرى هؤلاء الشيعة الأغراب يقعون فى مأزق حرج فانهم من أصعب الناس مراسا وعنادا فى البلاد لقد أدت هذه السياسة التى اتبعها المندوب السامى البريطانى بيرسى كوكس فى إقصاء الشيعة إلى موقف متعال من السنة ضد الشيعة وموقف عدائى شيعى من السنة وهو الأمر الذى أدى إلى تصاعد مشاعر الضغينة والاحساس بالظلم ففى أول حكومة شكلت بعد الاحتلال كان نصيب الشيعة مقعدا وزاريا واحدا أعطى لشخصية ثانوية بينما حاز السنة على أغلب المناصب العليا ومنها مناصب المحافظين فى المدن الشيعية وهو وحده كاف لادراك الشعور بالحيف الذى شعر به شيعة العراق على الرغم من تصدرهم للنضال ضد الاحتلال ولو إن الشيعة أعطوا قسطا وافرا من المشاركة فى حكومة فيصل الأول الذى نصبه البريطانيون ملكا على العراق عام 1921 لكان فى الامكان تجنب الكثير من الاختبارات المرة وكثير من الاضطرابات الدامية ومع ذلك يجدر التوقف عند حقيقية مهمة فى هذا المجال وهو ان المشكلة الطائفية فى العراق ليست مشكلة بين الشيعة والسنة بل هى مشكلة على صعيد نظام الحكم نشأت من تضافر مجموعتين من التحولات تتعلق الاولى بالدولة والثانية بالمجتمع فى علاقته بالدولة حيث المقصود من التحولات المتعلقة بالدولة بنية السلطة وآليات عملها وكل ما يتعلق بالبنيان السياسى من تأسيس الشرعية والسيادة وتداول السلطة وتحقيق القيادة الاجتماعية وهى بمجملها تمثل اغتراب الدولة العراقية الحديثة عن مجتمعها او غربتها وما يرتبط بها من تكلس وعلاقة عنف وقوة بين الطرفين وهو الأمر الذى يجعل من الطائفية مرافقة للدولة التسلطية أكثر تجليات التمييز الطائفى ضد الشيعة فى العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة تكمن فى قانون الجنسية العراقية وتعديلاته بسبب الشروط التى وضعها لاكتساب الجنسية والتى حرمت مئات الآلاف من العوائل الشيعية منها بحجة تبعيتهم الإيرانية وقصرتها على التبعية العثمانية اضافة إلى ذلك فإن أبرز مظاهر التمييز الطائفى ضد الشيعة تمثلت بهيمنة السنة على الدولة وحرمانهم من المناصب الرئيسية مثل منصب رئيس الدولة ومن المراكز الأساسية فى الدولة والمناصب القيادية فى الجيش والسلك الدبلوماسى ومن بين الأدلة التى يطرحها الشيعة على التمييز ضدهم فى العهد الملكى والذى شيد أساس الطائفية السياسية فى المراحل اللاحقة هو نسبة التمثيل الشيعى فى المجالس النيابية بين عامى 1921 و 1958 شكلت 30 40 % فقط من مجموع عدد أعضائها ولعل أهم مظاهر التمييز الأخرى هى التضييق على قياداتهم الروحية وعدم السماح للشيعة بممارسة شعائرهم الدينية واحيانا حتى بتداول كتبهم الدينية الخاصة وهى الممارسات التى ادت بالتالى إلى تعطيل عمل الحوزة العلمية فى النجف والتى تعتبر مصدر القرار الروحى والشرعى وايضا السياسى لدى الشيعة المتدينين أدى شعور الشيعة بالاضطهاد والتمييز إلى بروز حركات الاحتجاج الشيعى المرتبطة بالحوزة العلمية فى النجف ورجال الدين فى المدن الشيعية الاخرى ككربلاء والكاظمية والتى تطورت لاحقا إلى حركة الإسلام السياسى الشيعى والتى تجاوزت فيما بعد كونها حركة احتجاج ضد الاستلاب الطائفى إلى بلورة مشروع إسلامى متكامل يطرح نفسه بديلا للمشاريع العلمانية باتجاهاتها القومية والشيوعية واللبرالية وتشير المصادر المتوفرة إلى جهود المجتهد النجفى البارز السيد محمد باقر الصدر فى استنفار الحوزة العلمية وتوفير مواردها الهائلة لدعم أول حركة سياسية شيعية برزت فى العراق وضعت استراتيجيتها وتكتيكاتها على أساس تحقيق الهدف النهائى، وهى تسلم السلطة واقامة حكم اسلامى وعلى الرغم من أن بعض المصادر تؤشر إلى أن ظهور حزب الدعوة الإسلامية فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى جاء ردا حوزويا على المخاوف من ازدياد المد الشيوعى واليسارى فى العراق اثر الانقلاب العسكرى الذى قاده عبد الكريم قاسم عام 1958 ولمواجهته إلا أن الحزب وبفضل الأفكار التى صاغها الصدر تبوأ مركزا متقدما فى العمل السياسى والتنظيمى الشيعى قبل أن يصاب بنكسات جدية بسبب حملات القمع والتصفية الجسدية التى طالته من السلطة والتى شملت الصدر نفسه (اغتيل او اعدم عام 1980) إضافة إلى الاختبار الوطنى والقومى الصعب الذى كان على حزب شيعى عراقى ان يمر به امام الانتصار الكاسح للثورة الإسلامية فى ايران والتى هى مشروع إيرانى مهما كانت طبيعته الشيعية وفى الوقت الذى ادت حملات التصفية الدموية إلى اجتثاث معظم قواعد الحزب وهروب القواعد الأخرى وقياداته إلى الخارج، فإن التحدى الذى مثلته الثورة الإيرانية وضع الحزب فى ارتباك وتشوش وأحيانا فى خصومة ونزاع مع منطلقات الثورة الإيرانية وغاياتها التى ما كان بامكان حركة عراقية أن تنوء بها حتى لو تجانست معها فى خلفية مذهبية واحدة ولعل النتيجة الطبيعة للاختبارات العسيرة التى مر بها الحزب وظروف التكيف مع أوضاع المنفى الإيرانى الذى وجد نفسه فيه هو سلسلة الانشقاقات التى حدثت فيه خلال عقدى الثمانينيات والتسعينيات والتى يعود بعضها إلى الخلافات حول مفاهيم ولاية الفقيه والشورى والدولة الإسلامية وأيضا حول حدود العلاقات مع إيران الخمينية وأيضا حول هوية وأهداف الحزب كحركة عراقية والتى أدت إلى شرذمة الحزب وضعف فاعليته ولم تسلم منظمة العمل الإسلامى التى اعتبرت ثانى اهم تنظيم سياسى شيعى يبرز فى تلك المرحلة من مصير مماثل بسبب السجلات الداخلية والتى تمحورت ايضا حول اطروحات الولاية والشورى والقيادة والمرجعية وهى سجلات فقهية كشفت مثلما هو الأمر مع حزب الدعوة عن نخبوية الحركة وضيق افقها وانعدام وجود برنامج سياسى واضح يمكن أن تقدمه أمام اختبار شعبى حقيقى وفى واقع الحال فإن استمرار بقاء المنظمة على الرغم من الانشقاقات العديدة فيها جاء استجابة لدوافع المنافسة التاريخية بين حوزتى النجف التى مثلها حزب الدعوة و حوزة كربلاء التى مثلتها المنظمة وهى منافسة تشير إلى التنوع ولربما إلى الانقسام الذى يسم الحالة الشيعية العراقية فى الاطار المرجعى الدينى أكثر مما يشير إلى الخلافات الفكرية حول المفاهيم الفقهية للخطاب الإسلامى الذى تتبناه الحركتان وشهد عام 1980 ولادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية فى العراق على يد السيد محمد باقر الحكيم بعد وقت قصير من فراره إلى ايران وتضافرت عوامل عديدة منها الدعم الإيرانى الكبير والتفاف باقى التنظيمات والشخصيات الشيعية العراقية حول الحكيم اضافة إلى ظروف الحرب العراقية الإيرانية لكى تمنح المجلس الفرصة لكى يتبوأ قيادة حركات الشيعة المعارضة لنظام صدام والتى تدعمت لاحقا عبر الدعم السياسى والمادى الذى حصل عليه المجلس من بعض الدول العربية وخاصة بعد حرب الخليج الاولى حيث فتحت الأبواب أمام الحكيم فى كل من سوريا والمملكة العربية السعودية والكويت وقد سمح هذا الدعم والعلاقات التى نسجها المجلس وزعيمه الحكيم مع باقى أطراف المعارضة العراقية لنظام صدام ان يتصدر التمثيل الشيعى فى العمل الذى سبق الحرب الأمريكية على العراق من خلال سلسلة من الاتصالات والاجتماعات التنسيقية مع الطرف الأمريكى والتى كشفت النقاب لاحقا الكثير عن أجندة عمل المجلس وأهدافه ومناهج عمله وتكتيكاته السياسية فى ضوء المبادئ العامة التى يتبناها وإضافة إلى هذه التنظيمات فقد ظهرت خارج العراق مجموعات إسلامية شيعية أصغر مثل حركة المجاهدين العراقيين وجمعية العلماء المجاهدين وحركة جند الإمام والحركة الإسلامية فى العراق لقد اظهرت الفترة التى سبقت الحرب والاستعداد لها اختلافات بين المجموعات الشيعية بعضها جذرى بشأن الموقف من الحرب ذاتها ففى الوقت الذى انخرط فيه المجلس وبعض الشخصيات الشيعية الدينية الفاعلة بنشاط فى دعم فكرة الحرب والتنسيق مع الطرف الأمريكى امتنعت او ادانت اطراف اخرى مثل هذا التعاون بينما أصدر البعض من مجتهدى الشيعة فتاوى إما بتحريم التعاون مع الأمريكان أو الحث على الامتناع عن تقديمه فى نفس الوقت فقد اختار البعض مثل آية الله محمد صادق الشيرازى المرجع الروحى لمنظمة العمل الإسلامى موقفا وسطا تفادى فيه تأييد الحرب لكنه رأى ضرورة اغتنام الفرصة لانقاذ الشعب العراقى المؤمن المظلوم من المظالم كما دعا إلى إزاحة الطغاة وبناء عراق مستقل وموحد على أسس التعددية والمشورة والعدل والحرية أتاح انهيار نظام صدام الفرصة للقادة وللتنظيمات الشيعية التى كانت فى المنفى العودة إلى العراق وكان بعضها مثل السيد عبد المجيد الخوئى نجل آية الله الخوئى الذى جرت فى عهده انتفاضة الشيعة بعد حرب الخليج الأولى عام 1991 قد عاد على عجل إلى النجف مركز المرجعية الشيعية ورمز قوتها حتى قبل سقوط نظام صدام فى بغداد ما بدا صراعا واضحا للسيطرة على الشارع الشيعى الذى كان متوقعا انطلاقه بقوة حال سقوط النظام وأشر مقتل الخوئى الذى نقل سريعا مع مجموعة صغيرة من أعوانه من مقره فى لندن إلى البحرين ثم إلى النجف بواسطة القوات الأمريكية إلى حقائق جديدة فى الوضع الشيعى الذى بدا متهيئا للتعامل مع افرازات سقوط نظام صدام بشكل مغاير تماما للتصورات والحسابات التى وضعتها تنظيمات المنفى الشيعية وربما المخططون الأمريكيون فقد كشف مقتل الخوئى الذى ألقيت تبعاته على جماعة شيعية ناهضة فى الداخل وهى جماعة تدين بولائها إلى المرجع الشيعى محمد صادق الصدر الذى اتهمت أجهزة نظام صدام حسين بقتله عام 1999 واتضاح مدى قوة تيار الصدر فى معظم المدن الشيعية إضافة إلى الخلاف الذى حصل بين الخوئى وآية الله العظمى السيد على السيتانى بشأن فتوى نسبها الأول للثانى حول تأييد قوات الغزو الأمريكية إن الساحة الشيعية ومرجعياتها الفقهية وخارطتها السياسية مرت بتغيرات جذرية جعلتها مختلفة تماما عن تلك التى سادت فى الفترة التى نشطت فيها الأحزاب القديمة وسرعان ما اتضح أن هناك أربعة اتجاهات دينية / سياسية تتنازع القيادة على الشارع الشيعى فى العراق سيكشف المستقبل القريب كيف ستتفاعل مع الواقع الجديد وكيف ستستجيب لتحدياته الاتجاه الاول هو الحوزة العلمية فى النجف أى قمة مؤسسة المرجعية الشيعية والتى يأتى على رأسها الآن السيستانى ومن ثم آيات الله محمد اسحق فياض وحسين بشير الأفغانى ومحمد سعيد الحكيم وفى الوقت الذى تحوز هذه المرجعية على الاحترام والتقدير من معظم الشيعة العراقيين إلا أن شكوكا كثيرة يمكن أن تحيط بقدراتها على التعبئة السياسية لأسباب تتعلق اما بأطروحتها بشأن موضوع الولاية والدولة الإسلامية وابتعادها خلال السنوات الماضية عن أى نشاط تعبوى وتفرغها للدرس الدينى وأيضا كونها عدا الحكيم غير عراقية الاتجاه الثانى هو تيار الصدر الذى اثبت قدرة تعبوية هائلة منذ سقوط النظام تمثلت بالسيطرة على أكبر تجمع شيعى فى العراق وهو مدينة الثورة وهو حى عشوائى على حافات بغداد الشرقية يقطنه أكثر من مليونى شيعى والذى حوله النظام البائد إلى مدينة صدام ثم سماه التيار بعد السيطرة عليه مدينة الصدر اضافة إلى ذلك فإن التيار الذى يقوده مقتدى الصدر ابن المرجع القتيل اثبت قدرة تعبوية ملحوظة فى باقى المدن والاحياء الشيعية وانشأ مليشيات خاصة به ادارت الأمن بعد انهيار السلطة مما يدل على طموحات واضحة لدى هذا التيار للدخول فى منافسة شرسة مع باقى الاتجاهات للسيطرة على الشارع الشيعى فى العراق ليس لهذا التيار خبرة سياسية وتنظيمية لكنه يمتلك تراثا فقهيا وفكرا شيعيا سياسيا غنيا خلفه له الصدر اضافة إلى تخندقه الواضح وراء عصبوية عراقية عروبية يواجه بها إيران والتنظيمات الوثيقة الصلة بها والمرجعيات ذات الاصول الإيرانية وكذلك ادعاءه عن جدارة بأنه ناهض نظام صدام فى الوقت الذى صمت فيه الآخرون أو خاضوا جهادهم خارج العراق الاتجاه الثالث يتمثل فى الأحزاب والحركات المنظمة مثل الدعوة بمختلف فصائله ومنظمة العمل الإسلامى وباقى المجموعات الصغيرة وافراد عملوا فى إطار هذه الجماعات قبل ان يتركوها ويعودوا للوطن هذه الحركات مثقلة بالجراح والانشقاقات والارتباطات التى انشأتها فى بلاد المنافى وتحاول الآن أن تنقلها معها إلى واقع جديد مختلف تماما عما عرفته ونشط فيها اعضاؤها فى السبعينات والثمانينات هذه المجموعات تواجه تحديات جمة تتمثل فى كونها ستخرج من إطار السرية والعمل الدعوى فى ظل العنف والعنف المضاد وستمارس العمل السياسى العلنى بآلياته الطبيعية لأول مرة مما يحتم عليها ضرورة التكيف مع الواقع كما هو على الأرض وليس فى اطار مفاهيم شيعية عامة أو برامج وضعت لمواجهة تحديات فترة مختلفة لأول مرة سيكون أمام هذه الأحزاب فرصة لكى تثبت انها تستند إلى قواعد جماهيرية حقيقية وانها تقدم لهم حلولا لمشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليست مجرد حركات نخبوية وعظية أو احتجاجية أو تنظيمات طوباوية تهيم فى عالم رمزى وطقوسى بعيد عن الواقع الاتجاه الرابع هو الذى يمثله المجلس الأعلى للثورة الإسلامية فى العراق والذى حاز على اهتمام اعلامى منذ نشأته لأسباب بعضها يعود لنفوذه الواسع وسط شيعة المنفى والذى اكتسبه من الدعم الكبير الذى قدمته إيران له وكذلك الالتفاف الكبير حول قيادة زعيمه محمد باقر الحكيم نظرا لماضيه وتاريخ عائلته وخاصة والده آية الله محسن الحكيم الذى تولى المرجعية فى النجف قبل الخوئى اضافة إلى انخراطه النشيط فى جهود المعارضة لاسقاط نظام صدام ومنها المؤتمرات الاخيرة التى رعتها الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من الاستقبال الذى حظى به الحكيم من انصاره فى بعض المدن عند عودته إلى العراق إلا انه بالتأكيد لا يقارن بعودة الخمينى التاريخية إلى طهران والتى شرعت له الطريق لاحقا لاعلان الجمهورية الإسلامية فى إيران وكان الاستقبال والقدرة المحدودة التى اظهرها نشطاء المجلس فى السيطرة على بعض المناطق دليلا على تواضع حجم الشعبية التى يتمتع بها مقارنة بالسمعة التى سبقته مما يضع الحكيم والمجلس أمام تحديات جمة لاثبات حقيقة ادعائه تمثيل الشيعة وكونه المتحدث باسمهم كما درج عليه فى مؤتمرات المعارضة السابقة. يعانى المجلس من نقاط ضعف عديدة أهمها هو ارتكازه على شخصية الحكيم وعائلته وضعف هيكليته التنظيمية مما يوحى بأنه ليس حركة سياسية بقدر ما هو تجمع نخبوى لمجموعة تلتف حول مرجع دينى وسياسى دون برنامج عمل سياسى مفصل وواضح نقطة الضعف الثانية هى مشاركته فى نشاطات ومؤتمرات المعارضة السابقة التى رعتها الولايات المتحدة لاسقاط نظام صدام والتى استخدمتها كذريعة لشن الحرب والاحتلال قبل أن تتعرض علاقات الطرفين للاهتزاز بسبب نكاية الإدارة الأمريكية بالمجلس وكأن الأمر كان استخدام واشنطن للمجلس كورقة توت شيعية للمشروع الأمريكى فى العراق نقطة الضعف هذه ستتعمق مع اتساع الهوة المتوقع بين برنامج التغير الذى ستسعى الولايات المتحدة إلى تنفيذه فى العراق والذى اعلنت بوضوح استبعاده لخيار الدولة الإسلامية أو أى طابع لأسلمة الدولة وبين اطروحات الحكيم والمجلس نقطة الضعف الثالثة هى موقف الحكيم والمجلس من مبدأ ولاية الفقيه والتزامه بما يمكن تسميته بنمط عراقى من مشروع الإسلام السياسى الإيرانى القائم على مبدأ ولاية الفقيه ولا يخفى الحكيم رؤيته لمفهوم الولاية التى يتولاها المرجع والتى تتضمن اضافة إلى تشخيص معالم العقيدة الإسلامية بجميع تفاصيلها الاخلاقية والاجتماعية والفتوى وبيان تفاصيل الأحكام الإلهية والمواقف الشرعية مسؤولية إدارة شؤون المسلمين أو ولاية أمورهم فى اقامة الدولة الإسلامية وإقامة الحكم الإسلامى وقيادة عملية التغيير فى المجتمع الإسلامى وعلى الرغم من أن الحكيم حاول فى مواقفه الأخيرة طمأنة المعارضين لهذا النهج من خلال دعوته إلى الرجوع إلى إرادة الشعب العراقى فى الإدارة ونظام الحكم والمشاركة الشعبية الدستورية فى القرار السياسى والاجتماعى وتشكيل الحكومة الوطنية التمثيلية وتأكيده على اقامة المجتمع المدنى الذى يلتزم بوجود المؤسسات السياسية الحرة والمتعددة والصحافة الواعية والقضاء العادل من خلال دستور يقره الشعب ونظام يقوم على أساس التعددية السياسية والانتخابات الحرة إلا أن عودته احيت النقاش حول دور الحركات الدينية الشيعية فى عراق المستقبل نقطة الضعف الرابعة هى علاقة المجلس مع المرجعية الدينية فى النجف وخاصة مرجعية السيستانى والتى تحظى باحترام وولاء وتقليد الأغلبية من القبائل الشيعية فى جنوب ووسط العراق والتى سيكون أى تعارض بين آرائها وممارسات المجلس تكريسا لازدواجية القيادة ومصدر توتر وخلاف قد ينعكس على الوضع الشيعى بشكل عام لقد اختار السيستانى طيلة حياته فى النجف التى انتقل اليها فى اوائل الخمسينات منهج استاذه الخوئى فى الابتعاد عن الانخراط فى العمل السياسى كما انه انتهج فقهيا بشأن مبدأ ولاية الفقيه منهجا وسطيا رفض فيه الولاية المطلقة للفقيه التى قال بها الخمينى واستنبط مبدأ الولاية التنفيذية التى تنحصر باعمال الفتوى الشرعية مبنية على الإدراك العقلى وليس النقلى وفى الإطار التنفيذى وليس التشريعى وكل هذه افكار تتعارض مع الاطروحات القائمة فى قيادة الدولة الإسلامية فى إيران التى ارتبط بها الحكيم لسنوات طويلة هناك ما يشير إلى صفقة توصل اليها الرجلان قبل وصول الحكيم إلى العراق وهى تقوم على إقرار الحكيم بمرجعية السيستنانى الدينية فى الوقت الذى سيترك فيه للحكيم المرجعية السياسية وهو ما يشير اليه بيان اصدره مكتب السيستانى فى لندن يوم 14 مايو ذكر أن الحكيم آية الله امضى 23 عاما فى الجهاد والنضال مما اكسبه خبرة سياسية ممتازة واليوم وبعد أن من الله على الشعب العراقى بزوال نظام الجور والطغيان والاستبداد اصبحت الحاجة ضرورية وملحة لوجود سماحته ليقوم بواجبه الشرعى تجاه وطنه وشعبه وقد تابعنا أحاديثه وخطاباته فوجدناها ملتزمة بخط القيادة النائبة الحقة فى عصر الغيبة الكبرى غير أن هذه العلاقة ستحتاج لفترة اختبار لمعرفة مدى قدرتها على بلورة مواقف مشتركة فى ظل ظروف معقدة بالنسبة للمرجعية الشيعية ذاتها والوضع الجديد فى العراق والمنافسة مع المرجعية الاخرى فى قم الإيرانية نقطة الضعف الخامسة هى علاقات المجلس بايران والتى أقامها خلال سنى تواجد قيادته وكوادره هناك من المؤكد أن واحدة من نتائج الحرب الأمريكية على العراق هى التأثيرات والضغوط التى سيخلقها الوضع العراقى الجديد على نظام الجمهورية الإسلامية فى إيران اضافة إلى انتقال مركز الثقل إلى مناطق الشيعة فى العراق والخليج سيجعل الحالة الشيعية الجديدة عاملا جيوبولتيكيا حاسما ليس فى تقرير مستقبل العراق بل المنطقة ولهذا السبب فإن الأنظار ستتركز منذ الآن على طبيعة العلاقة بين الحركات الشيعية العراقية وخاصة المجلس وإيران وقدرة النفوذ الإيرانى للتسلل إلى السياسة العراقية الجديدة لقد اظهرت كافة التيارات الشيعية العراقية وعلى رأسها المجلس خلال المرحلة الماضية رؤية وطنية عراقية على رغم الضغوط التى تعرضوا لها فى المنفى الايرانى وكان أحد الأسباب وراء ذلك هو اكتشافهم المبكر هو أن المشروع الخمينى لم يكن يخفى ابدا التوجهات الفارسية للدولة الإيرانية ومصالحها القومية لقد اختبر قادة التنظيمات الشيعية العراقية ومنتسبيها خلال تعاملهم مع النظام الإيرانى ان وراء أيديولوجية الجمهورية الإسلامية ومبدأ ولاية الفقيه كان يقبع دائما اسلام ايرانى ذو نظرة وطنية حتى انه تمادى احيانا فى التركيز على الخصوصية والمصالح الوطنية مما سيثير حذر الحركات الشيعية العراقية فى سلوكياتها وممارساتها بعد عودتها خشية وتحسبا من اتهامها بالتبعية أن التركيز على حركات الإسلام السياسى الشيعية لا ينبغى ان يطمس باى حال حقيقية جوهرية وأساسية وهى أن أغلبية شيعة العراق لا تنتمى إلى هذه التيارات وانها شأنها شأن أى طائفة دينية تتمسك بولائها الوطنى وهويتها الثقافية فى آن واحد كما تتوزع انتمائها السياسية على تيارات أساسية بين قومية عربية ويسارية ولبرالية لذلك فإن الصور التى بثتها الفضائيات التلفزيونية او نشرتها الصحف والمجلات عن مواكب العزاء فى الاضرحة الشيعية والطقوس المصاحبة لها والتى عادوا لممارستها بعد انهيار النظام قد تعطى فكرة عن قدرة حركات الإسلام الشيعى على التعبئة إلا انها بالتأكيد لا تعطى الصورة الواضحة والحقيقية عن شيعة العراق بمختلف الطيف العشائرى والسياسى والاجتماعى الذى يمثلوه وبالتأكيد ليس عن الطموحات والأهداف السياسية التى يرمون تحقيقها إن من سيحسم مستقبل شيعة العراق ودورهم هم الأكثرية منهم وخاصة نخبتها من الطبقى الوسطى المتنورة التى ستكسر أطواق الصمت والتحفظ والحذر التى ضربت حولها ومن المؤكد ان صوتها سيكون عاملا مؤثرا بل مرجحا لتحقيق إجماع بين الجماعات الدينية والقبلية حول أهداف وتطلعات الشيعة التى تتمحور حول تحقيق العدالة السياسية من خلال منح الأغلبية الشيعية فرصة ممارسة دورها السياسى نسبة لتعدادها السكانى فى عراق موحد يحفظ للجماعات الدينية والمذهبية والقومية دورها وحقوقها دون تمييز فى التحليل النهائى فإن التغيير الناتج عن سقوط نظام صدام لابد وان يوفر فرصا جديدة وكبيرة لشيعة العراق لترسيخ موقعهم السياسى والاقتصادى والاجتماعى على خارطة العراق بعد تهميش طال عقود طويلة ولعل أهم فرصة اصبحت فى يد الشيعة اليوم هى انه أصبح بإمكانهم لأول مرة فى تاريخ الدولة العراقية الحديثة أن يمارسوا دورهم كاغلبية عددية وسياسية بامكانها أن تقوم بدور فعلى فى الحكم والسلطة كاكثرية وليس مجرد مجموعة سكانية مهمشة ومهيمنا عليها من الأقلية لكن الوضع الجديد يخلق ايضا تحديات أمام الشيعة سيبرهن الزمن وأداؤهم السياسى اذا ما كانوا قادرين على تجاوزها هناك عدة مستويات من التحديات منها ما يتعلق بالفكر السياسى الشيعى الذى سيحتاج الآن إلى أن يدخل مناطق أخرى من التجريب خارج الإطار المذهبى الذى قصر نفسه على قوانينه الداخلية لحد الآن وان يكشف مجاهل أغلقت أمامه بسبب طبيعة التحدى الذى سيواجه فى اطار بلد تعددى والحاجة إلى المواءمة بين فكر تقليدى وبين قوانين العصر وضرورات التحديث. امام الإسلاميين والحركات الشيعية السياسية فى العراق تحد آخر يتعلق بالأفكار المتعلقة بطبيعة الدولة والبرامج التى سيطرحونها وهل سيبدءون من حيث انتهت اليه تجارب المشروع السياسى الإسلامى وخاصة فى إيران ام انهم سيصرون على خوض تجربتهم الذاتية دون اى اعتبار إلى حقيقة أن مشروع الدولة الإسلامية استنفذ امكانياته وفرصه ولم يعد هناك مجال آخر للتجريب وحتى لو ابتعد المشروع السياسى الشيعى عن هدف إقامة دولة إسلامية تحت هيمنة رجال الدين فإن خصوصية التعددية الدينية والمذهبية والاثنية والسياسية فى العراق ستفرض تحديا آخر بشأن محاولات أسلمة المجتمع دون ادراك بأن هذه الخصوصية تجعل من الحاجة إلى التميز بين كون الدين والسياسة حقلين مختلفين هى أكثر إلحاحا فى عراق المستقبل ذى الحاجة إلى التعددية والعدالة والانفتاح والقبول بالآخر ويبرز البعد والتأثير الإيرانى كتحد جيبولتيكى خطير بسبب الانعكاسات المتوقعة له على المنطقة اضافة إلى البعد الأمنى فى فترة الاحتلال الأمريكى الحالية مما يتطلب أكبر حرص ودقة فى التعامل معه خلال العقود الماضية مثل هذا البعد تحديا دائما بسبب الروابط المذهبية التى تجمع بين شيعتى البلدين فى الوقت الذى يبعد بينهما الانتماء القومى الفارسى والعربى والالتزامات الوطنية على المستوى المذهبى فإن من المتوقع استمرار العلاقات الجيدة بين شيعة البلدين وربما تعزيزها بسبب إعادة احياء دور الحوزة العلمية فى النجف لكن على المستوى السياسى سيبرز عاملان مهمان هما أولا حاجة شيعة العراق للموازنة الدقيقة بين تلك العلاقة وبين رؤيتهم المستقبلية للعلاقة مع المحيط العربى سواء داخل العراق أو فى الإقليم المجاور وثانيا الدور الذى تتطلع إيران لكى تلعبه داخل العراق والضغوط التى ستمارسها لأسبابها الخاصة ملامح هذا التحدى ستبرز فى وجود الحزب الإيرانى غير المرئى وكيفية تعامل الشيعة معه وعلى الرغم من أن الهم الرئيسى لشيعة العراق سيبقى تعزيز قوتهم السياسية الداخلية لكى تتماثل مع قوتهم العددية إلا أن هويتهم العربية ستضع على كاهلهم مهمة ترسيخ هذه الهوية التى ستبقى تتأرجح بين انتمائهم القومى والمذهبى من جهة وتدعيم روابطهم بالشيعة العرب فى البلدان المجاورة من جهة ثانية ويشكل هذا تحديا جوهريا نظرا للثقل الذى سيمثله شيعة العراق الجدد فى المنطقة وبسبب حالة التهميش التى تعانى منها الطوائف الشيعية فى معظم هذه البلدان مما سيخلق حالة من اليقظة الشيعية فى منطقة ملتهبة تعانى أساسا من اشكاليات فى الهوية وحساسيات دينية وطائفية وأوضاع سياسية هشة لهذا التحدى جانب آخر يتعلق بقدرة الأنظمة العربية وخاصة فى البلدان المجاورة وهى غالبيتها سنية على قبول سيطرة شيعية على مقدرات العراق وكيفية تعاملها مع هذا التغيير النوعى فى المعادلة التى كانت سائدة حتى قبل سقوط نظام صدام من الناحية النظرية إن نظاما تقوده قيادة شيعية معتدلة أو علمانية سيكون أكثر قبولا من الأنظمة العربية لأنه سوف لن ينزع للمغامرة وسيكون مثبتا للاستقرار فى المنطقة لكن تبقى الخشية من أن نظاما كهذا يأتى عبر صناديق الاقتراع سيكون مثالا مقلقا للقوة التى تمثلها العملية الديمقراطية المعدية بطبيعتها التحدى الأكبر أمام شيعة العراق سيكون بروزهم كفاعل موحد وتأكيد ذاتهم كقوة سياسية وعددية تجمع تياراتهم الدينية المختلفة وأحزابهم السياسية وعلمانييهم وجموعهم المستقلة فى موقف موحد يأخذ تبايناتهم بنظر الاعتبار لكنه يوحدهم أمام مهمة بروزهم كقوة سياسية تمثل الأغلبية وتأخذ نصيبها العادل من الحكم والثروة فى العراق الجديد تجربة المنفى والاحتكاك وخاصة فى الدول الغربية اثبتت قدرة الإسلاميين والعلمانيين الشيعة على الحوار والانسجام والتوصل إلى مساحات اتفاق مشتركة ومن المحتمل ان تنتقل هذا التجربة إلى الداخل من خلال التربية والثقافة الجديدة فى هذا الاطار ستبرز الحاجة لكى يكون مبدأ المواطنة هو الحل الأمثل ليس للاشكالية الشيعية الداخلية بل لحل مجمل معضلة الحكم فى العراق الجديد وبقائه موحدا وبهدف قيامه كدولة قومية حديثة هناك بالتأكيد مؤشرات على تزايد قوة الشيعة وتناميها ولكن لا يوجد هناك سواء فى الأدبيات الشيعية أو فى مواقف قياداتهم أو فى المشاعر الشعبية من الدلائل التى قد تشير لأية نزعة انفصالية أو إقامة دولة خاصة بهم كما لا تبرر ذلك اية مبررات اقتصادية أو جغرافية أو ثقافية بل على العكس من ذلك هناك ما يشير إلى وجود نزعة قوية لديهم بأنهم هم العراق من المؤكد أن المرحلة القادمة ستشهد تناميا فى التعبير عن الهوية الشيعية بعيدا عن الاستحياء السابق الذى كان يربط ذلك بمخاوف الاتهام بالطائفية لأن ذلك سيكون الوسيلة الوحيدة للتعبير عن المطالبة بالدور السياسى المساوى للأغلبية العددية التى يتمتعون بها غير أن ذلك لن يكون على حساب الهوية الوطنية يثبت تاريخ الدولة العراقية الحديثة أن الشيعة خسروا كل معاركهم السابقة فى تأكيد قوتهم كأغلبية وأحقيتهم بدور سياسى مكافئ لذلك وسيثبت المستقبل ما اذا كانوا أصبحوا الآن أقرب لتحقيق ذلك أم أن التاريخ سيعيد نفسه للأسباب ذاتها التى حرمتهم منها فى بداية القرن الماضى أو لأسباب أخرى المراجع: ـ شيعة العراق:

اسحق نقاش ـ شيعة العراق بين الطائفية والشبهات:

حامد البياتى ـ الفقيه والدولة الفكر السياسى الشيعى:

فؤاد ابراهيم ـ تطور الفكر السياسى الشيعى من الشورى إلى ولاية الفقيه:

أحمد الكاتب ـ دور الشيعة فى تطور العراق السياسى الحديث:

عبد الله النفيسى ـ الفكر الإسلامى المعاصر فى إيران جدليات التقليد والتجديد:

محمد رضا وصفى ـ مشكلة الحكم فى العراق:

عبد الكريم الازرى ـ نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة:

برهان غليون ـ الشيعة والدولة القومية فى العراق:

حسن العلوى ـ العراق فى العقد المقبل:

هل سيقوى على البقاء حتى عام 2002:

جراهام فولر ـ المرجعية الدينية والتحولات المعاصرة:

محمد باقر الحكيم مجلة المنهاج 20 شتاء 2000 ـ الانبعاث الشيعى فى العالم قراءة فى كتاب جيوبولتيك التشيع مجلة المنهاج 25 ربيع 2002 ـ الصراع على مستقبل العراق، رضوان السيد الحياة 9 مايو 2003

* السياسة الدولية-/ اكتوبر ٢٠٠٣ 

          العراق والطريق إلى الدولة المدنية

أظهرت أزمة تشكيل حكومة عراقية – بعد أكثر من تسعة أشهر من الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر مارس 2010 – الكثير من الحقائق عن طبيعة النظام السياسي الذي أقيم إثر الغزو الأمريكي للعراق، وإسقاط نظام صدام حسين، وانهيار دولة حزب البعث الشمولية.
وأهم ما أبرزته هذه الأزمة هو فشل مشروع إعادة بناء الدولة في العراق بسبب قيامه علي ركائز نظام هجين للمحاصصة الإثنو- طائفية، وعلي أساس تقاسم وظيفي للسلطة والثروة بين أفراد طبقة سياسية جديدة، أتاحت لها ظروف الاحتلال الهيمنة علي مقاليد الحكم.
لم تنجح هذه الطبقة السياسية، التي تبنت مطالب الجماعات القومية والمذهبية، في تحقيق الشعار الذي تبنته بإقامة نظام ديمقراطي تعددي. لقد اتضح عقم تجربة الانتخابات في أن تؤسس لنظام ديمقراطي راسخ، كما غابت التوافقية الحقيقية، باعتبارها أساس التعددية، واستبدل بها نظام تحاصصي. في ظل ذلك كله، تنامي الإحساس بالمصالح الفئوية الإثنية والطائفية، مصحوبة بغياب الإرادة والمصلحة الوطنية، مما يضرب ركيزة مبدأ الدولة التعددية الاتحادية الناشئة.

من ناحية أخري، ظهر انكشاف هشاشة مشروع بناء الدولة العراقية الجديدة أمام التدخلات الخارجية، خاصة الإقليمية. وأضحت الأخيرة – من خلال دورها في تشكيل الحكومة – عاملا أساسيا، ليس فقط في توجيه مسار العملية السياسية في العراق، بل وفي تقرير مصيره، مما سيضع كامل مشروع إعادة بناء الدولة العراقية تحت رحمة العامل الخارجي، مهما تكن الذرائع وراء ذلك. يتم ذلك كله من خلال خرق واضح ومتعمد ومتكرر للدستور الذي كتبته الجماعات الفاعلة، ولأسس العملية السياسية التوافقية التي صاغتها، ولمفاهيم المصالحة والوحدة الوطنية، ولكل القيم والمبادئ التي تقام عليها مشاريع بناء الدول، خاصة تلك الخارجة لتوها من تجارب الاحتلال والغزو والتدمير.

إن الحل الوسط الذي خرجت به الجماعات المتنافسة للأزمة – مهما يكن نصيبه الضئيل من النجاح في التطبيق خلال الفترة القادمة – لن يخرج عن كونه حلا مؤقتا، لن يضع نهاية للمأزق الوطني في العراق. يطرح ذلك بإلحاح ضرورة وجود بديل راسخ من خلال السعي لإطلاق مشروع وطني لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية القائمة علي مبدأ المواطنة والحرية والعدالة والمساواة، بغض النظر عن الدين والعقيدة والمذهب والجنس واللون.
تطرح فكرة بناء الدولة المدنية نفسها في العراق كقضية ملحة منذ سقوط نظام صدام حسين، وانهيار الدولة العراقية الحديثة التي شكلت عام 1921 . إذ لم يكن ممكنا الإطاحة بالدولة العراقية من خلال التدخل الخارجي إلا بسبب ضعفها وهشاشة بنائها السياسي والاجتماعي، وإخفاقها في أن تكون دولة – أمة جامعة لكل مواطنيها. أدي ذلك بالتالي إلي تحول العراق إلي دولة – أقلية تحت سيطرة نظام استبدادي قمعي، مقابل أكثرية رافضة، أو متشككة، مما حرمه من عناصر المناعة الذاتية، ووضع الدولة العراقية في النهاية في مأزق دائم ساعد في سقوطها السريع والمدوي في قبضة الاحتلال الأجنبي.

لم تطح الحرب، والاحتلال الذي أوجدته، فقط بالدولة من خلال تدمير ركائزها الأساسية كالحكومة والجيش والقوي الأمنية والعديد من المؤسسات الأخري، بل ساعدت أيضا علي انهيار المجتمع وتمزيق نسيجه الوطني، وتشظيه إلي هويات ثانوية متعددة علي حساب الهوية الوطنية الجامعة. أدي نظام المحاصصة الإثنو- طائفي الذي أقيم بعد الاحتلال كصيغة توافقية إلي ترسيخ وضع طائفي صراعي، مزق وحدة المجتمع، كما حول الدولة إلي مشروع خدمي للواجهات الطائفية والإثنية التي هيمنت علي السلطة، بدلا من أن يقيم دولة وطنية حديثة ونظاما تعدديا تشاركيا، قائما علي أساس الشراكة والعدالة والمواطنة ودولة المؤسسات والقانون.

أدي تعثر العملية السياسية الجارية والأزمات العديدة التي تلاحقها إلي مأزق وطني شامل، يشمل إمكانية نكوص العملية السياسية الحالية، وسقوط مشروع إعادة بناء الدولة برمته، ووقوع العراق في فخ النزاعات الأهلية المستدامة. ولا يمكن تفادي ذلك ما لم تتم إعادة النظر في الأسس السياسية والدستورية والقانونية التي وضعت تحت صيغة التوافق الوطني، والتي تحولت بالممارسة إلي مجرد نظام محاصصة لاقتسام السلطة والثروة بين أفراد الطبقة السياسية المتكونة بفعل الاحتكار والإقصاء والهيمنة والتبعية، لا في إطار السياق الطبيعي لعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع.

يستدعي هذا المأزق ضرورة قيام الدولة المدنية في العراق، في المقام الأول، من أجل حل الإشكالية التاريخية لمأزق الدولة العراقية منذ تأسيسها، خاصة فشلها في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وتحقيق مبادئ المواطنة والمساواة والعدالة. إن إعلاء مبدأ الدولة المدنية يضمن حل إشكالية التوزيع العادل للسلطة والثروة في إطار مؤسسات وتشريعات تسهر علي تحقيق مبدأي المواطنة والتلاحم الوطني اللذين يعتبران حجر الزاوية في بناء دولة متعددة الأعراق والأديان والمذاهب.

كما تشكل الدولة المدنية حلا للأزمة الحالية المتمثلة في تعثر العملية السياسية الناشئة عن الاحتلال وتدمير الدولة والمجتمع، وما صاحبها من عنف وإرهاب. فالدولة المدنية هي ضمان وحام للأمن والاستقرار، والسلم الأهلي، والحرية، وحقوق الإنسان، والرفاهية التي هي جميعها عوامل رادعة للصراعات الطائفية والإثنية.

من ناحية ثالثة، تضمن إقامة الدولة المدنية استقرار ووحدة العراق، بما يمنع من انهياره وتقسيمه، مما سينعكس علي الأمن والاستقرار في الإقليم. إن إحدي مهمات الدولة المدنية هي تحصين البلد ضد التهديدات والتدخلات الخارجية، إذ إن هناك علاقة عكسية بين الدولة المدنية والصراعات الإثنية المنتجة للفوضي والعنف وانهيار القانون في الداخل، والتي تستدعي بدورها التدخلات الخارجية.

لقد أثبتت تجربة العملية السياسية الجارية منذ ما يقارب ثماني سنوات استحالة الاستمرار في إدارة الحكم بالعراق بالطريقة ‘التوفيقية’، وليس النظام التوافقي كما يدعي. فالنتيجة الواضحة لما جري خلال الدورتين الانتخابيتين عامي 2005 و 2010، هي أن البلد في حالة شلل تام، وغير قادر علي النهوض من حالة الانهيار والدمار الذي أصابه، نتيجة الغزو وتحلل الدولة. هذا الأمر يستدعي إيقاف العملية السياسية العقيمة، التي تعيد إنتاج الفوضي والصراعات والعنف، والبدء من جديد بمشروع إعادة بناء الدولة، كدولة مدنية لكل مواطنيها، بغض النظر عن اختلافاتهم الإثنية.

تتضمن أدبيات الدولة المدنية، منذ جان جاك روسو وجون لوك، الكثير من التفاصيل عن فلسفتها وأهدافها وغاياتها. وقد أنتجت البشرية عبر تاريخها الحديث الكثير من التجارب الناجحة والواعدة في هذا الصدد، مما يمكن أن يثري التجربة العراقية عند انطلاقها، ولو علي أساس الخصوصية العراقية المستندة إلي الحاجات والظروف الوطنية، وكذلك الإمكانيات والطاقات الكامنة.غير أن الغاية الأساسية تبقي هي التأسيس عبر فترة انتقالية محددة لدولة مدنية دستورية ديمقراطية لكل مواطنيها.

يجب أن يبدأ مشروع إقامة الدولة المدنية من نقطة إعادة النظر في مجمل الأسس الدستورية والقانونية والسياسية، والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية السياسية. كما يجب الأخذ بنظر الاعتبار مطالب الجماعات الإثنية وحقوقها بالمساواة السياسية في إدارة السلطة والثروة، ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بمستوياتها المادية والرمزية.ويتطلب ذلك إقامة نظام ديمقراطي قائم علي الشراكة والمساواة الكاملة والتعددية وتبادل السلطة، وكذلك تعزيز قدرات الدولة علي مواجهة النزعات الشمولية والاستبدادية لدي الجماعات والأفراد المشاركين في النظام السياسي. وفي هذا الإطار، يمكن المواءمة بين متطلبات إقامة نظام قائم علي اللامركزية ودرجة أكبر من تمثيل الجماعات الإثنية، وضمان حقوقها، مع ضرورة بناء دولة قوية محصنة ضد التهديدات الداخلية والخارجية.

كما تتطلب مهمات مشروع الدولة المدنية ترسيخ جهود الاندماج المجتمعي، وتعزيز الهوية الوطنية، من خلال تأكيد مبدأ التنوع داخل الوحدة، وإدارة التعددية السياسية والثقافية، من خلال التقريب بين قدرات النظام السياسي وقدرات الجماعات الإثنية والطائفية وتنظيمها.إن أحد إخفاقات العملية السياسية الجارية هو عدم قدرتها علي تعزيز التعددية في إطار الاندماج الوطني والمشاركة كما كان ينبغي. بل لقد أوجدت هذه العملية حالة من التفتت والتشرذم، وبيئة من الكراهية والأحقاد والضغائن، وتحولت إلي سلاح للتعصب والتشدد والتطرف. أصبحت التعددية غطاء للمحاصصة الطائفية التي أسست لحالة طائفية سياسية ومذهبية شديدة العنف، عززت بدورها حالة الاستقطاب المجتمعي التي عملت علي تمزيق النسيج الوطني، وتدمير الهوية الوطنية لحساب الهويات الكيانية الصغري.

لذلك، من الضروري أن تتم إعادة فرز وتحديد علاقة الدولة بالهويات الدينية والطائفية والعرقية، وتأكيد اتباع سياسات اجتماعية وثقافية غير طائفية أو إثنية التوجه تستهدف المواطنين عامة. إن خاصية التنوع الديني والمذهبي والقومي في العراق تشكل عاملا مساعدا في تقليل فرص إقامة الدولة الدينية أو الشوفينية، وهو الأمر الذي يحتاج إلي دعمه بالتشريعات الدستورية والقانونية اللازمة.ويأتي علي رأس هذه المهمات تعزيز معادلة الخصوصية مع الانتماء الأكبر للوطن وللجماعة الوطنية، وردم الفجوات القائمة بين الهوية الصغري والهوية الوطنية الكبري، والسعي لتفكيك الحالة التصارعية بينهما.ويتطلب ذلك أيضا نشر ثقافة المواطنة، والتي تبدأ بترسيخ قيم الانتماء للوطن ووحدته والشراكة بين مكوناته والتفاني له، وذلك من خلال خطاب وأفكار وإعلام تعمل كلها علي تطوير الثقافة الوطنية، بدلا من تعزيز الثقافة التي تدفع إلي التقوقع علي الذات وعدم التفاعل مع الآخر وكراهيته.

وتعتبر التنمية الاقتصادية، والتوزيع العادل للثروة، وإيجاد فرص العمل، ومأسسة تقديم الخدمات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال نظام للرفاه الاجتماعي، من المهمات الرائدة للدولة المدنية، التي تهدف إلي تحقيق نهضة حقيقية. الركيزة الأساسية لهذه الدولة هي تدعيم نوعية الحياة، وتعزيز حقوق المواطن في التنعم بحياة كريمة، وانتشال العراقيين من حالة التعاسة والبؤس التي استولت عليهم. ويتطلب كل ذلك وضع سياسات اقتصادية ضمن برنامج وطني شامل للتعمير والتنمية، وعلاج عدم التوازن الاقتصادي بين المناطق المختلفة، وتصحيح الاختلالات الهيكلية في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ووضع سياسات نفطية توازن بين المصالح الوطنية والتنموية، والحاجة للاستثمارات الأجنبية ومتطلبات السوق.

وفي هذا الإطار، تتولي الدولة المدنية مهمة العمل علي القضاء علي الفساد بكل أنواعه، الذي أصبح إحدي العقبات الأساسية في عملية بناء الدولة العراقية، وإعادة ثقة المجتمع بها وبأجهزتها التي اهتزت خلال سنوات الفوضي الأخيرة. فهناك الفساد السياسي من خلال استغلال الجماعات السياسية للدولة ومؤسساتها بغية تحقيق مكاسب شخصية أو فئوية للتأثير في توزيع الموارد الوطنية، وعملية صنع القرار بالطريقة التي تنعكس سلبيا علي التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق العدالة. كما أن هناك الفساد الإداري والمالي المتمثل في الرشاوي والابتزاز ونهب المال العام الذي يدمر أسس بناء الدولة، من خلال إضعاف قدراتها الإدارية وسلطاتها التشريعية والقانونية، والإخلال بهيبتها وبآليات تطبيق القانون. يؤدي هذا الفساد إلي نشوء الصراع بين المواطنين المتطلعين إلي الخدمات وإلي الحصول علي حقوقهم القانونية والدستورية، وبين بيروقراطية فاسدة، متخندقة وراء صلاحيات وسلطات غاشمة.

إن قدرة الدولة المدنية علي محاربة الفساد تتأتي من خلال قدرتها علي بناء المؤسسات الرقابية، وأجهزة المحاسبة، وتعزيز الشفافية، وسلطة الصحافة، وتطبيق القانون بحزم. كما يتناقض جوهر فكرة الدولة المدنية القائم علي الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص تماما مع أساليب الابتزاز والرشاوي والصفقات المشبوهة، والتطفل علي النشاط الاقتصادي، وأي مظهر من مظاهر الفساد المالي والإداري.

يعد إنهاء المأزق الوطني الذي نشأ عن احتلال العراق وتداعياته أبرز أهداف بناء الدولة المدنية في العراق. يتم ذلك من خلال تحقيق مصالحة وطنية راسخة، ترتكز علي مبادئ موازنة التوقعات التي لدي الجماعات المتنافسة مع الموارد، وتوازن المصالح، والوصول إلي حلول تفاوضية بشأن توزيع الثروة والسلطة، وإحقاق العدالة، وإنهاء أعمال العنف، وثقافة العنف التي ترسخت. وإذا كانت المصالحة شرطا، أو طريقا وحيدا، لإنهاء العنف، فإن أية مصالحة لا يمكنها أن تقوم من دون معالجة أخلاقية وسياسية وقانونية ودستورية جذرية لآثار كلتا الفترتين الديكتاتوريتين اللتين قادهما حزب البعث، والصراع الأهلي الذي أعقب سقوطه. وتمتلك الدولة المدنية من خلال أجهزة العدالة والقانون معالجة الجروح العميقة التي خلفتها هاتان الفترتان، وتعويض الضحايا ماديا ومعنويا، مثلما تتيح الفرصة في محاسبة المجرمين ومنع العودة إلي تلك الممارسات المدمرة في المستقبل.

لم تجر إلي الآن أية جهود حقيقية لإعادة بناء الدولة في العراق، ولا حتي الشروع في بناء مؤسساتها، وذلك نتيجة لانشغال الجماعات السياسية بالصراع الضاري علي السلطة. يفسح ذلك المجال للشروع في عملية بناء الدولة المدنية من البداية، وهي مهمة تتطلب عملا سياسيا، ودستوريا، وقانونيا، واجتماعيا تنظيميا دءوبا. وقد أثبتت أزمة تشكيل الحكومة أن أسلوب المحاصصة الذي تم اللجوء إليه كطريقة للمشاركة السياسية هو أسلوب فاشل، مما يحتم البحث عن سبل أكثر نجاعة لإنهاء أزمة الحكم في العراق، من خلال بناء الدولة المدنية. إن بناء الدولة المدنية لا يترتبط بنوع نظام الحكم، سواء أكان مركزيا أم غير مركزي، أم فيدراليا، كما لا يمنع من أن يظل الحكم توافقيا علي أساس الحقوق والواجبات التي تكرسها مبادئ الدولة المدنية، وعلي رأسها مبدأ المواطنة.

إن الحاجة لبناء دولة مدنية في العراق هي ضرورة قصوي تتطلبها مهمة إيقاف موجات التعصب الطائفي والعنف المرافق له – والذي شل الدولة، وعطل حركتها – والتصدي لاحتمالات انهيارها، وتقسيم البلاد علي أسس عرقية ومذهبية. فالدولة المدنية التي تبيح الحريات الأساسية، وتقيم نظام العدالة والمساواة والحريات هي أيضا الدولة القوية التي تقيم سلطتها وهيبتها في فرض النظام العام والأمن والقانون، وإنهاء حالة الانفلات الأمني والإرهاب، وتوفير الأرضية الملائمة لتحرر المجتمع من هيمنة وتدخلات الجماعات السياسية التي تمتلك قوي مسلحة وميليشيات.

ولا تقتصر مزايا الدولة المدنية علي إنهاء الصراعات السياسية والاحتمالات المتكررة للحرب الأهلية وحسب، بل إنها تطلق أيضا الطاقات الخلاقة لدي مواطنيها، وتجعلهم – علي حد تعبير روسو – خاضعين للعدل وليس للغريزة. لقد أشاع نظام المحاصصة نمطا ‘مافيويا’ للحكم، غير مألوف في التجارب السياسية، مما أدي إلي انعدام تام للثقة لدي المواطن في الدولة ذاتها. لقد أدت تفاعلات القوي المتنفذة إلي حبس المواطن في مدارج الهواجس الطائفية والإثنية، وجعله مجرد أداة في الحشد الطائفي والعرقي – يلجأون إليه فقط في الانتخابات التي يريدون من خلالها الوصول إلي السلطة، دون أن يكون شريكا حقيقيا فيها – مما أوصل المواطن إلي حالة استلاب.

إن الدعوة إلي قيام الدولة المدنية في العراق لا تأتي في مواجهة الدول الدينية، كما قد يتبادر إلي الذهن، بل إن هدفها في العراق أوسع وأشمل، وهو دحض مشاريع الدولة الإثنو -الطائفية، ودولة الميليشيات، والدولة الفاشلة، والدولة العسكرية الأمنية، وقطع الطريق علي دولة التبعية الأجنبية. إن خصوصية الوضع العراقي تتطلب أن تكون الدولة ضامنة للحريات الأساسية وحقوق الإنسان، بغض النظر عن دين مواطنيها ومذاهبهم، كما ينبغي ألا يتعارض دستورها القائم علي أساس أن مصدر السلطة هو الشعب، مع جوهر فلسفة الدين ومبادئه من خلال حمايتها حرية الضمير وحرية العبادة.

وإذا كانت هناك حاجة ملحة، وأرضية خصبة، توفران عوامل نجاح إقامة الدولة المدنية، فإن ما هو مطلوب هو إطلاق حركة شعبية وجماهيرية واسعة، تأخذ علي عاتقها مهمة تحويل شعار الدولة المدنية إلي حقيقة واقعة خلال الفترة القادمة. هناك الآن أفراد عديدون ضمن النخبة العراقية، وجماعات صغيرة، تعمل في كنف حركة المجتمع المدني، تنشط في الدعوة إلي الدولة المدنية. لكن ما تحتاج إليه، إضافة إلي المثابرة، هو العمل، علي جميع الأصعدة السياسية والقانونية والثقافية، لاستقطاب الأغلبية الصامتة من العراقيين التي تجد حاجتها الأساسية في قيام الدولة المدنية الحامية لحقوقهم ومصالحهم كمواطنين، بعيدا عن الدولة الإثنو – طائفية

*مجلة السياسة الدولية/ يناير 2011

          أمــام العــراق فرصــة أخيــرة

تتدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في العراق بشكل خطير‏ حتي أصبح القول إن البلد ينحدر بسرعة نحو حرب أهلية‏ هو تقرير حالة‏‏ وليس تهويلا‏ أو مبالغة يتهم بها المتشككون أو المتشائمون من نتائج العملية السياسية الجارية‏.فعمليات القتل علي الهوية‏ والتهجير القسري‏‏ والتطهير الطائفي‏‏ والهجمات المتبادلة بقذائف الكاتيوشا والهاون‏ واستهداف دور العبادة والمناطق والتجمعات السكنية‏ لأسباب مذهبية‏‏ وانهيار سلطة الدولة‏‏ وتشرذم البلد إلي أرخبيل من جزر منعزل تحكمها الميليشيات العصبوية‏‏ كلها سمات عامة من سمات الحرب الأهلية‏ كما تدل علي ذلك التجارب الأليمة التي مرت بها بعض شعوب العالم وبلدانها من قبل‏. وإذا كان العراق يقف فعلا علي تخوم حرب طائفية‏ كما هو واضح من المشهد الذي هو عليه الآن‏ فإن السؤال المطروح هو‏:‏ هل ثمة فرصة بعد لكبح جماح هذا الاندفاع الجنوني نحو الهاوية الوطنية وإنقاذ العراق من مصير ليس محتما؟

اما هو مؤكد أن العراق يقف اليوم علي مفترق طرق‏.‏ وفي مثل هذه المنعطفات المصيرية التي تمر بها الشعوب‏‏ هناك دائما إحساس غير مريح بإمكان حدوث مفاجآت غير سارة‏.‏ إلا أنه من المؤكد أيضا‏‏ أن الفرصة لاتزال سانحة‏  لكي يدرك العراقيون أن طريق الحرب الأهلية التي وضعوا فيها ليس إجباريا‏ وأن بإمكانهم أن يجتازوا هذا الاختبار الشاق الذي وضعوا فيه بطريقة فاعلة‏ لا توقف فقط هذا الانحدار المدمر‏ بل توقظ لديهم أسباب البقاء‏ كشعب ودولة‏.‏ وتجعلهم قادرين أيضا علي العيش معا كبشر ومواطنين‏ ذوي هوية ومصالح وتطلعات مشتركة‏.‏ غير أن كل ذلك سيعتمد‏‏ بالدرجة الأولي‏‏ علي قوة الضمير الأخلاقي للقيادات التي تتولي دفة الأمور داخل العملية السياسية وخارجها‏‏ وبراعتها السياسية‏.‏ كما سيعتمد‏ ثانيا‏ علي همة العراقيين وعزمهم علي استعادة الإرادة الوطنية التي دمرتها النتائج المروعة للفترة الماضية‏.‏

هناك الآن عملية سياسية جارية‏‏ تمثل رغم الأسس الركيكة التي قامت عليها‏‏ والعثرات التي تعتريها هي‏ الوسيلة الوحيدة المتوافرة للخروج من المأزق الوطني الذي يمر به العراق‏‏ ولمنع انزلاق العراقيين إلي صراع طائفي ينتهي بتقسيم بلدهم إلي كيانات تتوزع بين شيعته وسنته وعربه وأكراده وتركمانه‏.‏ وبما أن الإطار المرجعي الذي تقوم عليه هذه العملية هو اقتسام السلطة والثروة بين مكونات المجتمع العراقي الاثنية والدينية‏ علي أسس المحاصصات والصفقات‏‏ وهو الإطار الذي جوبه برفض قوي من قبل أغلبية السنة العرب‏ فإن فحوي الصراع الحالي يدور حول إمكان إعادة التفاوض بشأن عملية الاقتسام هذه‏‏ بهدف تحقيق التوازنات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بين المكونات الثلاثة الرئيسية‏,‏ والضرورية لوضع العملية السياسية علي أسس أكثر واقعية وعدالة‏‏ وبهدف البدء بعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع‏‏ اللذين تم تفكيكهما بالحرب الأمريكية التي شنت لإسقاط نظام صدام حسين.

المشروع الذي طرحه رئيس الوزراء نوري المالكي للمصالحة والحوار الوطني‏‏ ومؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي تدعو الجامعة العربية إلي عقده الشهر المقبل هما‏ المبادرتين الوحيدتين الآن اللتين تسعيان إلي المساعدة علي الخروج من هذا المأزق الوطني‏.‏ وفي الوقت الذي يرسي مشروع المالكي قواعد أولية للحوار‏‏ فإن الجامعة تعتمد في إنجاح مبادرتها علي حسن نيات الأطراف المشاركة في المؤتمر المزمع لإنجاح عملية الوفاق‏.‏ غير أن ما يؤخذ علي المبادرتين‏‏ علي الأقل في المرحلة الحالية‏ هو عموميات أهدافهما وافتقادهما للرؤي والاستراتيجيات‏ ومن ثم الآليات المطلوبة لتنفيذ حلول وسط وتسويات منصفة وواقعية يتم الاتفاق عليها لإرضاء جميع الأطراف المتنازعة‏.‏

من الضروري أن تجري عملية الوفاق والمصالحة الوطنية علي خمسة مسارات متوازية ومتزامنة إذا ما أريد ضمان نجاحها‏:‏

*‏ أولا‏:‏ من المهم العمل علي تحقيق الأمن والاستقرار‏ بهدف تحقيق مناخ مناسب لعملية الوفاق‏.‏ وهي مهمة تتحمل جميع الأطراف‏,‏ سواء كانت مشاركة في العملية السياسية الحالية أم خارجها‏,‏ مسئولية القيام بها وبشكل يؤدي إلي اجتثاث كل أنواع العنف ومن يقف وراءه‏.‏ يتطلب هذا الأمر من الحكومة التعجيل ببناء جيش وقوات أمن علي أسس وطنية ومهنية وحل الميليشيات المسلحة‏‏ وكل جماعات العنف المنظم‏.‏ ومن شأن هذه الخطوات إرساء مناخ من الأمان والثقة يشجع علي الانخراط في عملية المصالحة وإنجاحها‏.

*‏ ثانيا‏:‏ يشكل بقاء قوات الاحتلال تحديا كبيرا في وجه أي عملية مصالحة وطنية ناجحة‏.‏ مما يتطلب الاتفاق علي مستقبل وجود هذه القوات‏‏ في إطار من الواقعية السياسية‏‏ والحاجات الوطنية الفعلية‏‏ خارج ثنائية الاحتلال ـ المقاومة التي استحكمت بأداء بعض الأطراف‏‏ خاصة العربية السنية‏.‏ وجود الاحتلال هو قضية وطنية ينبغي معالجتها في إطار وطني بعيدا عن المزايدات واتهامات التخوين وعقد الصفقات معه لمنحه الفرصة للبقاء مدة أطول‏‏ أو تغير شكله من خلال منحه رخصة للإقامة الدائمة عبر بناء قواعد ومواطئ قدم‏.‏


*‏ ثالثا‏:‏ من الضروري توسيع المشاركة السياسية لكي تشمل أطرافا خارج الجماعات والتشكيلات الطائفية والعرقية التي هيمنت إلي الآن علي العملية السياسية واحتكرتها‏‏ أو تلك التي قاومتها‏.‏ وذلك من خلال ضم ممثلين عن التيار الوطني العام والمجتمع المدني‏‏ كمشاركين حقيقيين في صياغة عقد سياسي جديد قائم علي تحقيق توازنات منصفة وواقعية بين وجهات النظر المتعددة والمصالح والآمال التي لدي كل جماعة في سياق عراق جديدد‏.‏ وفي هذا الإطار ينبغي البدء بعملية إدماج وطني علي المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية علي أساس مبدأ التنوع داخل الوحدة‏.‏

* رابعا‏:‏ يشكل تحقيق العدل في الأوضاع الحالية‏ من خلال كشف الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين‏ سواء من قبل النظام السابق‏ أو من زمر الإرهاب والعنف بعد سقوطه‏‏ مهمة ذات أولوية قصوي‏.‏ هدفها إحقاق الحقوق وإزالة مناخ عدم الأمان والخوف‏‏ وهي عوائق ستظل‏‏ إذا لم تتم إزالتها بحل ما‏ مانعا لتحقيق أي مصالحة ووفاق وطني‏.‏ وعلي هذا الأساس‏‏ فإن وضع آلية عملية لتحقيق العدالة الانتقالية‏ وتسليط الضوء علي إرث الانتهاكات الفظيعة التي حصلت ومعالجتها بالطريقة التي تحقق العدالة للضحايا وتغسل جراح الماضي وأحقاده وضغائنه هي مهمة ضرورية لإنجاح عملية المصالحة الوطنية‏.

‏‏
*‏ خامسا‏:‏ لا يمكن لأي عملية مصالحة ناجحة أن تجري دون جهد حقيقي وسريع لإعادة البناء الاقتصادي‏.‏ من خلال آليات جديدة لتوزيع الثروة بشكل عادل ومنصف بين مناطق العراق المختلفة‏ وإرجاع العراق إلي سوق اقتصادية واحدة ودفع عجلة التنمية والاستثمار بهدف القضاء علي البطالة والفقر وتوفير فرص العمل وزيادة النمو وتحقيق رخاء اقتصادي يوفر مناخا موائما للاستقرار والأمن‏ ويكون سياجا ماديا حاميا للوفاق والوحدة‏.

 هذه فترة حاسمة في تاريخ العراق‏‏ والأشهر القليلة المقبلة ستكشف فيما إذا كان قادة الجماعات العراقية قادرين علي التعلم من أخطاء الماضي‏,‏ البعيد والقريب‏‏ أم أنهم سيعيدون ارتكابها‏ دافعين ببلدهم وشعبهم نحو حضيض حرب أهلية طاحنة‏.‏ رغم نذر الشؤم‏‏ فإن المناخ الآن مناسب أمام كل الأطراف لمراجعة الذات والتخلي عن الأنانية والبحث عن الامتيازات من خلال لعبة السلطة المدمرة‏‏ من أجل مصالحة الادعاءات المتضاربة والتوقعات المتعارضة وتسخير كل ذلك من أجل إعادة البناء‏ وإلا فإن التاريخ سيسميهم بأشنع الأوصاف‏‏ وسيحكم علي أفعالهم‏‏ ليس باعتبارها أخطاء‏،‏ بل كونها أعمالا شريرة‏‏ أدت إلي خراب العراق وانهياره‏.‏ هذه فرصة أخيرة كي يقف هؤلاء القادة أمام ضمائرهم‏‏ وأمام برك الدم البريء‏‏ وأمام الركام لكي يحققوا المعجزة العراقية‏‏ أن ينهض العراق من جديد من تحت الأنقاض التي يراد دفنه تحتها

ينبغي على العراقيين في هذه اللحظة من تاريخهم أن يطرحوا كل المرارات ويضعوا مأساتهم خلفهم وأن يتطلعوا إلى الغد ويقوموا باكتشاف أشياء أخرى عن المستقبل، ويضعوا لأنفسهم أحلامًا وطموحات جديدة تدفعهم إلى الأمام، وأن يبدؤوا منذ الآن باتخاذ قراراتهم بأنفسهم لا أن يتخذها غيرهم بالنيابة عنهم. فاليوم يجود الزمن على العراقيين بهدية مختلطة بطعم المرارة والألم أعظم ما يمكن أن تُمنح لشعب وهي الأمل بأن يبدؤوا من جديد بناء وطنهم الذي دمرته عقود الطغيان والظلم والحروب.لكن هذا الأمل مشوب بتحديات جمة سيكون عبورها بنجاح هو المعيار الوحيد لقدراتهم، ليس فقط على التعلم من دروس الماضي الأليمة، بل على إثبات كونهم بشراً قادرين على تخطي آلامهم والنهوض من رماد الحروب والفواجع والقهر، واستعادة ذاتهم الوطنية التي دمرتها سياسات العسف والتغريب.

الاهرام 17/12/2015

قضيا عربية

    أزمة تنظيمات المجتمع المدني في العالم العربي: 

                    العرض مستمر 

تثير المحاولات الجارية منذ فترة في بعض البلدان العربية للجم حركة المجتمع المدني الوليدة اهتماما سياسيا وإعلاميا واسعاً، بحيث أصبح من المتعذر تجاوزها كحالة عابرة واستثنائية. والنتيجة ان هذه المحاولات اثارت الجدل من جديد عن مستقبل وآفاق العملية الديموقراطية في العالم، في ضوء التحديات الجسيمة التي تواجهها المجتمعات العربية والتطلعات المتزايدة التي تعبر عنها التيارات السياسية المختلفة للنخب الاقتصادية والثقافية الصاعدة، وكذلك في ضوء الضغوط والتحديات العديدة التى تواجهها الانظمة والتي تمتد من مساءلة شرعيتها الى مأزقها التاريخي والى الاستعصاءات التي تضرب شتى مناحي الحياة وتعرقل حل المشاكل الجمة التي تغص بها غالبية المجتمعات العربية.

وتتضح هذه المحاولات التي وصفت احيانا بأنهاهجمة منظمة بقيام العديد من الانظمة العربية باصدار قوانين وأنظمة وقرارات من شأنها أن تضعف من الأطر القانونية والتنظيمية التي انتزعتها لحد الآن منظمات المجتمع المدني عبر جهد جهيد ونضالات شاقة. كماتحاول أن تخلق بيئة تكبح امكان أي تطور ديموقراطي حقيقي عبر المشاركة الشعبية في صنع القرار وايجاد حلول جادة للمعضلات والعلل والمخاطر التي تواجه مجتمعاتنا العربية. إن ما يضيف الى جدية وخطورة هذه الهجمة هو أنها تجري على خلفية جمود تام في المناخ السياسي العام في بقع عدة من العالم العربي، حيث تكبل طرق الانفراد بالسلطة وحماية الامتيازات المتحققة للنخب الحاكمة وتهميشها لقطاعات اساسية في المجتمع من أية امكانية جدية للانفتاح والتحول الديموقراطي الحقيقي.

وهناك مستويات وأنماط عدة للمشاركة السياسية في مختلف البلدان العربية تطورت وفقا لأشكال انظمة الحكم فيها وآليات السلطة التي تدعمها وحجم وقوة الجماعات السياسية وقواعد اللعبة التي يدار على أساسها الصراع من أجل التحول الديموقراطي، ما يبني فَرْقا جوهريا عند النظر الى مشكلة الديموقراطية وأزمتها المستعصية في كل من هذه البلدان على حدة. إلا أن من غير المجازفة القول إن المسرح السياسي العربي يتماثل الى حد التوافق بل الوحدة أحيانا في انسحاب المحكومين من النظام السياسي ومن مجمل العلاقات السياسية، نتيجة تثبيط الهمم بإمكان تغيرها وترك الأمور للحاكمين لكي ينفردوا بإدارة السلطة على أهوائهم بغية المحافظة على الوضع القائم.

إن احد اوجه التماثل هو هذه المحاولات التي تجري للتضييق على بعض مؤسسات المجتمع المدني مثل النقابات والجمعيات الأهلية وفرض الوصاية عليها، بعد أن جرت عبر عقود طويلة محاولات مستميتة لتدمير المعارضة السياسية وانهاكها وتشتيتها بغية تحييدها ومن ثم إخراجها من حلبة الصراع الجاري والساعي الى انجاز التحولات الديموقراطية المنشودة.

إن نظرة بسيطة الى أحوال المجتمع المدني ومؤسساته في طول العالم العربي وعرضه تكشف عن محاولات مستميتة من الأنظمة لتكريس القطيعة بينها وبين هذه المؤسسات، خصوصاً تلك التي يقترب نشاطها من الميدان السياسي من جهة، وخلق الوقيعة بينها وبين جماهيرها من جهة ثانية. فتحت حجج حماية الأمن القومي والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والقيم المتوارثة يتزايد فرض القيود على عمل هذه المؤسسات وتفريغ نشاطات هيئات المجتمع المدني من محتواها، بل ويتعدى الأمر ذلك الى وضع سيف العقوبات الزجرية مسلطا عليها، كما تنشط الدعاية الحكومية في تأليب الرأي العام ضدها لاصقة بها أنكر التهم وابشعها مثل الخيانة والعمالة للأجنبي.

ولكن لماذا ترفض الدولة اليد التي تمتد اليها بغية مساعدتها على مواجهة المصاعب والتحديات التي تواجهها عبر المشاركة والتعاضد؟ لماذا تكون الاستجابة دائما سلبية لمحاولات دفع العمل التطوعي والتعبئة الايجابية للجماهير بهدف تنمية حيوية المجتمع وزيادة فاعليته؟ لماذا يجري تهميش قطاعات واسعة من المجتمع وتهمل في وقت تختزن طاقات إبداعية وقدرات خلاقة يمكنها أن تساهم في تنمية المجتمع وتطوره؟ ثم بعد كل ذلك لماذا يجري غلق الابواب امام المؤسسات والأفراد الذين ينهجون نهجا سلميا في الحوار ويتطلعون الى العمل تحت سيادة القانون في أطره التعاقدية؟ وباختصار لماذا هذا الانشغال بترسيخ النهج المعادي لحركة المجتمع المدني السلمية الوليدة وتطلعاتها الواعدة حتى قبل أي محاولة جادة لاختبارها وتفحصها؟

ومما يزيد من القلق ويشحذ الاهتمام بهذه القضية الحيوية هو أنها تجري على خلفية هذا الركود المفزع الذي يهيمن على الحياة السياسية داخل معظم إن لم يكن كل المجتمعات العربية، حيث تضرب الازمات اطنابها امام تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بالغة الخطورة وتوقعات سيناريوهات اشد قتامة. قد يجد البعض أن هناك انزلاقاً الى التشاؤم ومبالغة في حجم مثل هذه الصورة السوداوية، الا أن من المؤكد ووفقا للمعطيات والخبرات والرؤى المتوفرة، فان محاولات رسم صورة وردية بديلة سوف لن تكون عقيمة فقط بل مزيفة ومضللة ايضا.

ولم يعد سراً ان اسباب كل هذا هو انعدام الحيّز السياسي الطبيعي القائم على الاختيار الحقيقي من داخل صناديق الاقتراع والتمثيل الشعبي والمشاركة والتعددية والتداول السلمي للسلطة والحوار والتكافل، واستبدال كل ذلك بمختلف اساليب التفرد والاستئثار بالسلطة والاحتكار والاقصاء والتهميش. فالخريطة التي أمامنا تكشف عن انظمة، وتيارات فكرية وايديولوجية ايضا، لا تخفي احتقارها لأفكار التنظيم السياسي القائمة على منهجية ديموقراطية وترفضها، بينما تهيمن على البقية منها أحزاب قائدة ورائدة تحتكر العمل السياسي وتصادر الحق بتمثيل الوطن واحيانا الأمة. اما القلة الباقية من الانظمة التي تتزين ببرقع شفاف من الديموقراطية فإنها قادرة دائما على إدارة الدفة بما يسمح بهامش صغير من المعارضة المقيدة التي هي بالأساس نتاج منهج تلفيقي تحاول من خلاله تحقيق هدف مزودج: ادامة هيمنتها على السلطة ومحاولة ضبط التشنجات السياسية والاجتماعية التي يمكن ان تحصل نتيجة المنازعة على شرعية الحكم، إضافة الى كون “ديكور” المعارضة هذا يسهل غايات تفادي الآثار السلبية التي يمكن ان تمنع اندماجها في آليات العولمة المتزايدة.

والواقع أن الكثيرين ممن كان ولا يزال يقلقهم هذا السبات الذي يخيم على الحياة السياسية العربية تمنوا لو أن الفرصة تســـنح لهيـــئات وجمعيات المجتمع المدني، لكي تمارس دورها البــــناء وتطوره في خدمة الصالح العام مادامت الدولة تفرض شروطها على التنظيم الســــياسي، وتكـــبل تطلعاته وقدرته على الوفاء بمطالب الجماهير غير القادرة اساسا على الانخراط في تجمعات تعبر فيها عن رأيها ومصالحها وتطلعاتها في السيطرة بشكل سلمي أو المشاركة في السلطة.

وجانب مهم من أزمة هيئات المجتمع المدني يتحمله المجتمع ذاته، سواء بسبب الثقافة السياسية السائدة أو عزوف الأفراد، خصوصاً المثقفين، عن الانخراط فيها ودعمها على رغم أنها مراكز حرة وحيوية للحوار والمشاركة وللتعبير عن القدرات الخلاقة في العمل الجماعي والتضامن. إن سيادة مفاهيم القرابة والانتماء الضيق الى العشيرة أو البلدة أو الطائفة أو العصبوية السياسية والعلاقات الناشئة عنها لا تزال تلعب دوراً سلبيا كبيرا سواء حين تحول هذه التنظيمات الى ادوات لخدمة اهدافها الضيقة خارج الاطار المجتمعي الاشمل أو حين تستنكف المشاركة فيها، مفضلة تجمعاتها الفئوية. إن أحد أوجه القصور في هذا الجانب هو موضوع تمويل الجمعيات الذي تستخدمه الحكومات في اتهامها لها بالتبعية للاطراف الاجنبية التي تساهم في تمويلها. فالمفارقة التي تكشف عنها الوقائع كل يوم هي أن هناك الملايين من الدولارات يتبرع بها افراد عرب الى منظمات خارجية تحت مسميات وواجهات شتى، أو يبذرها البعض الآخر على أوجه اللهو إلا انهم يأنفون عن دعم نشاطات انسانية واجتماعية تساعد علي تنمية مجتمعاتهم من خلال هذه الجمعيات. إن دفع هذه الجمعيات الى الاعتماد على التمويل الاجنبي يمثل خللاً اخلاقيا حين يكون البديل هو إما تركها فريسة للعوز أو وصمها بالخيانة.

وفي الجانب الآخر فإن توجه بعض هذه الجمعيات الى دروب خاطئة في نشاطاتها وفي الأدوار التي تتطلع الى لعبها ســـــهّل من توجـيه الطعون اليها، خصوصاً في مسألتين اساسيـــتين، اولهما الاندماج المبالغ في الدور الذي تفرضه ســـلوكيات مســـرح العولمة، الأمر الذي فــــسر كونه محـــــاولة للحـــصول على رعاية خارجية، ما برر اتـــهامها بالتبــــعية الخارجية، وثانيهما ولوج نشاطات تدخل في حيز العمل السياسي، ما يتعارض مع قواعد اللعبة والمعايير التي يفرضها طابع العلاقة المراوغة بين مجتمع مدني ناهض ودولة تسلـــــطية. إن الســبيل الامثل لتفادي هذه الاشكالية التي هي احد أوجه الأزمة القائمة، هو تأكيد هذه الجمعيات شرعيتها من خلال استثمارها في مسرحها المحلي ووضع رهاناتها على المجتمع الذي تحاول تطويره.

*الحياة/  21/7/1999

           جمهوريات وراثية” … ولكن كيف ولماذا ؟

 
حسناً فعل بعض الكتاب والمعلقين العرب حين فتحوا باب النقاش العلني حول قضية ما يسمى الخلافة الجمهورية أو الجمهوريات الوراثية والاستعدادات، الظاهرة منها والمستورة، التي تجري في بعض الجمهوريات العربية لتولية أبناء رؤسائها سدة الحكم بعد رحيل آبائهم عنها. ورغم أن ما ظهر من هذه الكتابات حتى الآن تُشتمّ منه رائحة التأييد والمباركة، العلنية منها والضمنية، وهو أمر مفهوم لا تخفى دلالاته، فإن الاقلام القليلة التي تناولت الموضوع على صفحات الجرائد لا بد أن تستحق الثناء لأنها بذلك تكون ايقظت الاهتمام بقضية جوهرية لم تأخذ حقها من النقاش العلني حتى الآن على رغم أنها اصبحت حديث العامة والخاصة على طول العالم العربي وعرضه.

والواقع أن هناك وجهاً للغرابة لم يعد يحتمل تجاهله، وهو أن قضية بهذه الأهمية لم يتم فتحها للنقاش العلني بالرصانة والجدية المطلوبتين من جانب المعنيين بالشأن العام في عالمنا العربي، من كتاب ومثقفين وسياسيين واحزاب، ما قد يعني أحد أمرين، فإما أن مفكرينا وسياسينا وكُتابنا لا يأخذون الأمر بجدية، مستخفّين بما يقال وبما يجري من تهيئة ذهنية ومادية باعتباره مجرد شطحة من شطحات خيال الانظمة الحاكمة التي لن يكتب لها النجاح وبالتالي لا تستحق منهم جهد المتابعة وعناء التحليل والأهم التصدي لها، أو أنهم على العكس من ذلك، يتعاملون معه بلا مبالاة حين يرون أن الأمر، شأنه شأن تولي الانظمة ذاتها الحكم في غفلة من الزمن، قدر وأمر مفروغ منه لن ينفع معه أي تحليل أو دراسة ناهيك عن الاعتراض او المواجهة.
لكن اياً كان السبب فإن النيات التي كشف عنها بعض الأنظمة العربية، بل الخطط التي يبدو أنها سائرة عليها بتؤدة، ولكن بإصرار، لتوريث سدة الحكم فيها لأولاد رؤسائها، لا بد أن تثير الاهتمام، إن لم يكن القلق، من جانب اولئك المعنيين بقضية الديموقراطية ومستقبلها في العالم العربي وبخاصة مجتمعاته المتطلعة لأن تشهد المراحل المقبلة انفراجاً في أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لبدء عصر بناء الدولة الحديثة القائمة على الشرعية الدستورية والوطنية والاختيار الحر والمشاركة الحقيقية والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنة. فالمطلوب، إذن، كتابات لا تزين للأنظمة غيّها وتبارك لها مغامراتها ولا تخدع الجماهير بالاوهام بذريعة الواقعية والاستمرارية والحفاظ على الاستقرار والسلم الاجتماعي الذي يدعي تحقيقه، بل الدخول في نقاش سياسي فكري جدي لتبيان الخطورة التي ينطوي عليها هذا الابتكار العربي الجديد، نظام الجمهورية الوراثية، على مجمل العملية التاريخية الجارية في عالمنا العربي، وفي القلب منها مسألة الديموقراطية التي هي الركيزة الأهم والأكثر الحاحاً للتقدم والتحديث.

يطرح دعاة تأييد الجمهورية الوراثية مباركتهم للفكرة من زعم ملاءمتها الواقعية للحالة التي يمر بها عالمنا العربي، وهي من وجهة نظرهم ابتكار خلاق ومنطقي لمواجهة الواقع الذي راكمته هذه الانظمة الجمهورية التي جاءت الى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية، معظمها ضد أنظمة ملكية وراثية، وبقيت ممسكة بناصية الحكم من خلال توليفة من الاساليب القهرية والمهارات السياسية والدعوات الشعبوية التعبوية، لكنها ظلت هشة الى حد كبير، لسبب رئيسي هو الشكوك التي حامت ولا تزال تحوم حول شرعيتها وجدواها. فالملاحظ أن مؤيدي هذا الاتجاه، أو على الاقل من أفصح منهم عن رأيه حتى الآن، يقولون إن واقع الحال يشير الى أن هذه الانظمة ليست جمهورية بالمعنى الذي ينطوي عليه المفهوم السياسي المتعارف عليه سواء بطريقة الوصول الى السلطة او ممارستها بل هي أقرب، في واقع الحال وفي شكل نظام الموالاة الذي ركزته في المجتمع، الى أي شكل من أشكال الانظمة الأبوية التقليدية المعروفة.

ويتمادى البعض من هؤلاء المنظرين للخلافة الجمهورية ربما يأساً وإحباطاً، إن لم يكن تملقاً، الى حد القول إن شعوب هذه الجمهوريات أصبحت تقبل بتلك الحال طواعية وعن اقتناع وتتعامل معها على أساس أنها أمر واقع لا ينبغي مقاومته أو تغييره.
لكن هناك بين مؤيدي فكرة ولاية العهد الجمهوري ومروجيها من ذهب في النقاش الى مدى أبعد مما ذهب اليه دعاة القبول بخيار الامر الواقع الاستسلامي في الترويج لها، حين اسبغوا عليها إطاراً قانونياً وسياسياً فأفتوا بأن الأمر جائز، بل مطلوب، لأنه ضمان لاستمرار الشرعية التي استطاعت هذه الانظمة الجمهورية أن تنتزعها لنفسها والتي يزعمون انها قد تم اختبارها عبر تحديات داخلية وخارجية عدة وكبيرة مما أهلها، اضافة الى انجازاتها وكارزميتها، لتثبيت التجربة وترسيخ المنهج في التربة التي رعتها عبر توريثها الى أولاد رؤوسها باعتبارهم، حسب هذه النظرية، الأكثر قدرة على صيانة الامانة ومواصلة المسيرة التي بدأها اباؤهم.


تتطلب فكرة الشرعية، التي يبني عليها دعاة التوريث نظريتهم بضرورة دعم الاتجاه ضماناً للاستمرارية، النقاش الجاد، لأنها تتجاوز الخفة التي تنطوي عليها دعوة الواقعية المضللة لدى التيار الأول وتؤسس نموذجاً لنظام سياسي إذا ما اتيح له ان يقوم فعلاً فإنه يعني إغلاق الابواب امام كل الاحتمالات والآمال المرجوة بالتطوير الديموقراطي عبر المشاركة الحقيقية في الحكم، بل الانزلاق الى مهاوي الفتنة. تقوم دعوة التوريث أساساً على فكرة توسيع مفهوم الشرعية في الفكر السياسي الحديث بإرجاعه الى مفهومه القديم وهو حق الولد الشرعي للملك في أن يرث والده في ملكه. وهي فكرة لم تعد تلقى قبولاً اليوم حتى عند الانظمة الملكية التي ترى ان الشرعية أصبحت تستمد من قبول الناس ورضاهم بالنظام وليس من مجرد الحق في وراثة العرش. فالشرعية بهذا المعنى الذي يروّج له تعود الى رأس النظام وليس الى نظام الحكم نفسه، وهي في حال الانظمة العربية المعنية مفهوم شديد التناقض مع الاسس السياسية والفكرية الشعبوية التي تقوم عليها هذه الانظمة، اضافة الى حقيقة أن الشرعية كحالة لا يمكن أن تأتي هبة أو إرثاً بل هي محصلة اقتناع الشعب واحترامه وطاعته، المتحققة ليس بالقدرة على فرض الإرادة بالقوة او بالاستمرارية والاتكال على الرموز الوطنية والقومية لوحدها بل بالحكم الصالح القائم على الدفاع عن الوطن والمواطنين ومصالحهم واحترام إرادتهم وعلى التنمية وتحقيق العدالة والمشاركة في المسؤولية وفي اتخاذ القرار.

لذا يمكن القول إن الاختباء وراء حجة الشرعية لترويج فكرة الجمهورية الوراثية هي فكرة عرجاء لا تستند الى واقع لأن الشرعية التي يتحصنون بها قد واجهت هي نفسها ولا تزال تواجه تحديات كثيرة، بسبب الطريقة التي وصلت بها هذه الانظمة الى السلطة والظروف التي رافقت قيامها وساد فيها الاحتكار وتركز السلطة المطلقة وممارسة القوة، وغابت عنها اي مشاركة حقيقية أو فرص للتنافس والاختلاف. إن اقرب التحليلات الى فهم عملية الترويج لهذه الدعوات هي أنها تجري على خلفية المحاولات المستميتة لإعادة انتاج السلطة بعد الغياب المنتظر لمؤسسي الأنظمة من خلال تثبيت رموزها وإبقاء هياكلها وتجديدها وتطوير آلياتها والسيطرة على ميدان الصراع المتوقع على السلطة بعد غياب الاباء، كل ذلك من خلال عملية تطويع للجماهير وتهيئتها لقبول فكرة هدفها النهائي هو الإبقاء على الوضع القائم وتحصينه.

ليس المقصود هنا نظاماً بذاته، ولا هي دعوة للتحريض او محاولة للمس بالسيادة، بل إن الكلام يجري عن ظاهرة سياسية هناك شواهد كثيرة على أنها تتسع لتشمل عدداً لا بأس به من الانظمة الجمهورية العربية تجري فيها الاستعدادات او على الاقل تُهيّأ فيها الاجواء لذلك، ما يستلزم حواراً رصيناً بدلاً من التسريبات الخجولة او الكتابات المنافقة والمضللة، خصوصاً أن القضية المطروحة للنقاش تتعلق بمسألة جوهرية ومصيرية يكفي للتدليل الى أهميتها أن قضية مماثلة حدثت قبل نحو اربعة عشر قرناً من الزمان حين ولى معاوية بن أبي سفيان الملك لابنه يزيد خلافاً لنظام الشورى والبيعة الذي سنّه الخلفاء الراشدون، لا تزال تلقي بظلالها الداكنة على مجمل حياتنا وجدالنا إن لم يكن على صراعنا الفكري والسياسي. لقد تناولت الصحافة العالمية هذا الموضوع بالكثير من الأخبار والتعليقات، ومن المتوقع أن يظل زاداً لكُتابها ومحلليها لفترة من الوقت. ولم يعد مستساغاً اللجوء الى استراتيجية النعامة من جانب صحافتنا العربية ومحافلنا السياسية بذرائع شتى، فلا يفسح في المجال الا للمهنئين وحاملي المباخر والمصفقين وحدهم.
بطبيعة الحال لا احد يستهين بالمشاكل والاحتمالات المفتوحة التي تواجه العديد من الأنظمة العربية في موضوع تداول السلطة، بل إن ذلك هو في صميم إنشغالات ليس المعنيين بالشأن العام وحدهم، بل الناس العاديين ايضاً. لكن الازمات المستعصية لبعض الانظمة ومآزقها السياسية والوطنية لا يمكن أن توجد لها حلول من خلال إعادة انتاج السلطة برموزها وأدواتها ومن خلال تطويع الجماهير وتيئيسها ورفض الإقرار بمشروعية أحلامها وآمالها في أن يكون لها صوت في عملية صنع حياتها ومستقبلها في عالم يسير بخطى حثيثة نحو الديموقراطية والتعددية والمشاركة. لقد واجهت مجتمعات عدة في العالم النامي المعضلة التي يخلفها غياب زعامة تاريخية حقيقية بطريقة حضارية ومؤسساتية حظيت بإعجاب العالم بأسره، ولعل أبرز وأروع مثال على ذلك هو تنحي نلسون مانديلا عن زعامة جنوب افريقيا وهو من لا يستطيع أحد أن يجادل في شرعيته وإنجازه وكارزيميته، ليس على مستوى شعبه فحسب، بل على مستوى العالم برمته. من المؤكد اننا سنسمع اصواتاً تقول إننا لسنا جنوب افريقيا ولم يخرج من بيننا مانديلا، ولكن السؤال الذي لا يزال يقلقنا طرحه ويعذبنا الجواب عنه هو: لماذا لا يمكن أن نكون؟

*الحياة/ 18 – 11 – 1999

على العرب والإيرانيين تخطي مرحلة الغزل سريعاً 

تتركز الأنظار منذ فترة على العلاقات العربية – الإيرانية واحتمالات تطوراتها المستقبلية، وذلك في ضوء الاتصالات الجارية بين إيران وبعض الدول العربية، وبخاصة منذ مجىء الرئيس محمد خاتمي الى السلطة والمناخ الذي أشاعه بأطروحاته الإصلاحية والانفتاحية في الداخل ودعواته المتكررة إلى الحوار والتفاعل الحضاري بين الشعوب في الخارج. لكن الأجواء المبشرة التي حفزتها هذه الاتصالات والتفاعلات الإيجابية التي أفرزتها غالباً، لا تزال أيضاً تثير الكثير من الاسئلة وأحياناً الشكوك بسبب الضغوط التي خلّفتها سياسات الماضي وتوتراته على مر العقود.

أهم ما يبرز أمام الدارسين للتطورات الأخيرة في العلاقات بين إيران وبعض الأطراف العربية أنها لا تزال في مرحلة الطقوس الاحتفالية عند الجانبين، لذا يكثر فيها الكلام المنمَّق عن الصلات التاريخية والدينية والحضارية، كما يتم تبادل الزيارات والاتصالات كمسعى ضروري لتجاوز الشكوك، لكنها على أرض الواقع لم ترتقِ حتى الآن عملياً الى مرحلة الثقة المتبادلة والالتزامات دائمة والمصالح المشتركة.

ثم إن هناك إشكاليتين أسياسيتين، أولاهما: تتعلق بوضع السيولة الذي يعاني منه النظام السياسي الإيراني والصراعات المستمرة بين تيارات الحكم والنخبة والشارع التي تنعكس جميعها على أداء السياسة الإيرانية الخارجية، وثانيهما: تتعلق بالجانب العربي، حيث يتضح بشكل سافر ان النيات المعبر عنها تفتقد إلى الإجماع، بل إنها في الواقع مسألة خلافية شديدة التجذر، كما عبر عن ذلك الموقف المدوي الأخير لدولة الإمارات العربية المتحدة، أو صمتاً كما يعبر عن ذلك الموقف العراقي المتوجس أو حتى أن يكون مشحوناً بالشك المفرط والتردد إزاء النيات الإيرانية، كما هي الحال في الموقف المصري.

يمكن اختزال الموقف الراهن بوجود رغبة جادة في تخطي مرحلة الصراعات والتشنجات إلى مرحلة احتواء التناقضات أولاً ثم البدء بالبناء لمرحلة إقامة علاقات احترام ومصالح متبادلة. وإنه لمن المنطق السليم القول بأن أي مسعى لبناء أو تطوير علاقات بين طرفين يتطلب ليس التقاء نياتهما فقط بل إراداتهما ايضاً وعملهما الدؤوب لإنجاح مثل هذا المسعى. ولعل ما يمكن أن يهيئ الأرضية المناسبة لفرص نمو العلاقات العربية – الإيرانية هو جملة من العوامل الإيجابية التي تبلورت على مر العقد المنصرم منذ نهاية الحرب العراقية – الايرانية، وصولاً الى تسلم الرئيس خاتمي منصب الرئاسة في ايران. وأهم تغيير قيمي جرى على مسرح المنطقة منذ ذلك الوقت هو انهيار نظرية تصدير الثورة الإسلامية وانزوائها لمصلحة تيار الدولة، الأمر الذي ساعد على قبول ايران وإعادة اندماجها في المنطقة وفق الصيغ والأدوات التقليدية للعلاقات الدولية. كان لذلك التطور الحتمي منحى إيجابي كبير على الصعيدين الداخلي والخارجي هيأ لإيران الفرصة لإعادة بناء ما دمرته الحرب على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية ولترميم علاقاتها الدولية والإقليمية وفق مقولات وقواعد جديدة بعيدة عن أساليب المنازعة والتهديد.

ان ما أتم هذا التغيير واستبدل النمط التصادمي الإكراهي بدعوات للحوار وحتى مشاريع للتعاون، هو النتائج التي أفرزتها حرب الخليج الثانية في المنطقة على الأصعدة السياسية والعسكرية والأمنية التي حجمت القوة العسكرية الإيرانية وحدّت الى مدى كبير من قدرة ايران على تغيير قواعد اللعب في المنطقة أو تحقيق مكاسب تتجاوز الخطوط المرسومة. ومع ذلك ينبغي عدم الركون الى الاستنتاجات العامة. إذ أن ما ساعد إيران الإسلامية على التلاؤم مع الوضع الجديد هو حقيقة ان سياستها وديبلوماسيتها، على خلاف خطابها الجموح لعهد ما قبل خاتمي، كانا دائما شديدي القدرة على التكيف مع متطلبات المصلحة القومية، وحتى في أثناء فترات التشنج في علاقاتها الخارجية كانت الديبلوماسية الايرانية تظهر مقدرة ملحوظة في إدارة شكل واقعي من العلاقات أتاحت لها دوما ان تستثمر الفرص، سواء تلك التي تتيحها العلاقات الثنائية أو مركزها الإقليمي، لكي تحقق أية نتائج مثمرة ممكنة. ان الفرق الجوهري لعهد خاتمي، الذي لا يمكن انكار انه يؤسس لمرحلة جديدة، هو دخول عناصر أكثر عقلانية على الخطاب الايراني في إمكانها عندما تترسخ أن تتيح لإيران ليس الدفاع عن مصالحها القومية المشروعة فقط، بل إقامة علاقات أفضل مع جاراتها، ولربما ما هو أهم من ذلك بكثير وهو الاندماج في المنطقة كشريك فاعل.

أما على الصعيد العربي فلا يمكن إلا التسليم بأن العلاقات العربية – الإيرانية كانت على مر العقود الأخيرة، ومنذ زمن الشاه محمد رضا بهلوي أشكالية بمجملها ولدّت الكثير من الأحقاد والشكوك والتفاعلات العدائية. لقد خلفت سياسات الشاه التوسعية وتطلعاته بالهيمنة وإصراره على لعب دور شرطي الخليج رواسب عميقة سواء على واقع النظام الاقليمي أو في الوجدان العربي تعمقت بعد الثورة الاسلامية، حين نزعت التيارات المتشددة الى محاولة تصدير شعاراتها الأمر الذي اعتبر توجهاً أصيلا في الثقافة الايرانية تجاه الجيران العرب وليس مجرد متغير مرحلي. لقد أدى هذا النوع من النزوع غير العقلاني في التوجهات الايرانية والإفراط في استخدامه احيانا الى فرض واقع جديد مليء بالتوترات على المنطقة وشعوبها أضر بالتالي بأمنها واستقرارها وبفرص نموها. لقد كان من نتيجة ذلك ردود الفعل العربية التي انزلقت هي الأخرى الى الوقوع في شركين خطرين أولهما تفضيل الاستعانة بالقوى الخارجية الكبرى لرد الاخطار التي مثلتها ايران على امنها واستقرارها، وثانيهما التعامل مع التحديات التي مثلتها سياسة الشاه التوسعية ومحاولات تصدير الثورة وفق رؤية تختزن وتعمم اطاراً مرجعياً ملتبساً هو مزيج من العداء للقومية الفارسية والرفض للمذهبية الشيعية. ان النتيجة الفعلية لذلك تمثلت في ضياع التقدير العقلاني لإقامة تكافل وتكامل إقليمي بعيدا عن محاولات الهيمنة والاحتواء الدولية، وتعميق الالتباس في الحيز الثقافي والانساني، وفقدان فرص عدة للتوفيق بين مصالح الطرفين الجارين.

والآن، كيف يمكن نقل الامنيات والرغبات المتبادلة لترميم العلاقات العربية – الايرانية الى ارض العمل في ظل الواقع السياسي الجديد والخطاب الإيجابي السائد لدى الجانبين، أو على الأقل لدى أطراف اساسية فيها؟ لا جدال في أن هناك اشواكاً كثيرة على الطريق خلفتها مراحل المواجهة والصراع ونمَّتها طرق التفكير المتضاربة للنظر الى المصالح والاهداف وربما ايضا الى الهويات والمشاريع القومية، كما ان هناك سوء تقدير يتعلق بالسياسات ضيقة الأفق التي تتجاوز القواسم المشتركة سواء تلك التي تختزلها عوامل التاريخ والجغرافية أو تلك التي تكمن في الاحتياجات والمشاركة والمنافع المتبادلة التي يمكن ان يحققها أي مشروع للتكامل الإقليمي.

هناك نوعان من المشاكل تقف عثرة في طريق اطلاق العلاقات العربية – الايرانية الى ما هو أرحب من الغزل المتبادل ودعوات الانفتاح أو محاولات الترقيع وسد الفجوات، اولهما ذو طبيعة وأبعاد استراتيجية، وينطوي تحت هذا الوصف معضلات أمن الخليج والتهديدات والتحديات التي يواجهها الاقليم ودور كل طرف في مواجهتها، احتلال ايران للجزر الاماراتية، الوضع في العراق واحتمالاته المفتوحة، وكذلك النفط، اما المجموعة الثانية من المشاكل، فهى أقل وحدة وأكثر استجابة للحلول مثل اختلاف المواقف حول عملية السلام ورغبة ايران في التأثير فيها سواء عن طريق علاقاتها مع حزب الله في لبنان او الفصائل الاسلامية في فلسطين وكذلك مشاكل إعادة تكيف ايران مع اوضاع المنطقة بعد انحسار المد الثوري فيها وتراجع المنافسة على دعوات تمثيل الاسلام، ان ما يفاقم من تأثير النمطين من المشاكل على امكانات تجاوزها هو انه ذات علاقة ارتباطية، ما يعني انها في حاجة الى الكثير من الجهد المشترك وابداع الخيال لابتكار حلول لها ضمن سياقات اقليمية ومفهوم جديد للعلاقات بين الطرفين.

في مقابل ذلك، نظرياً على اقل تقدير، هناك الآن فرص حقيقية لإعادة ترتيب المسرح الخليجي وتوزيع الأدوار فيه انسجاماً مع مقتضيات تقسيم العمل الدولي لفترة ما بعد تسوية صراع الشرق الاوسط وحل المسألة العراقية، ما يقتضي من كلا الطرفين العربي والايراني الانتباه والحذر من الوقوع مجددا في دوامة النزاعات والتشتت، كما جرى عشية الانسحاب البريطاني من الخليج أو اثناء الحرب العراقية – الايرانية. ان ما يدعو الى التفاؤل هو ان هناك لدى الجانبين من يستشعر تلكم الاخطار ويحاول جاهداً تفاديها وكبحها، غير ان الحقيقة تتطلب الاشارة الى ان هناك، مثلما كان الامر دائماً، منشقين داخل كل طرف سواء على مستوى الافراد او الجماعات، والارجح أنهم سيحاولون تقييد حركة المراجعة الجارية لإعادة العلاقات العربية – الايرانية الى مسارها الصحيح.

لقد دفع العرب في الخليج والايرانيون عبر العقود الماضية ثمناً باهظاً كان معظمه لسياسات قصيرة النظر وفي احيان كثيرة حمقاء عبأت مواردهم العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية في اتجاه كان اخطر ما فيه هو انه قلص فرص نمو مجتمعاتهم، بل ربما اصابها بالشلل. ان اهم دلائل على خطر استمرار هذه السياسات هي تلك التي تكمن في المؤشرات السلبية التي يحفل بها الاداء الاقتصادي لدول المنطقة في وقت تتذبذب فيه اسعار النفط وتتراجع قيمته الحقيقية وتزداد فيه أعداد السكان ومتطلباتهم. فإيران حققت هذا العام نسبة نمو اقتصادي سلبي، بينما ازدادت معدلات التضخم والبطالة ونسبة العجز في ميزانها التجاري، اما في الخليج فإن السياسات التقشفية التي اخذت تتبعها حكوماته هى خير دليل على الصعوبات التي تواجهها اقتصادياتها وخطط التنمية فيه. وفي كلتا الحالين فلم يعد في إمكان العرب والايرانيين الاستمرار بالنفقات الجسيمة لسباق التسلح الذي أنهك قواها، في وقت أثبت عدم جدواه في تحقيق الموازنة الأمنية الاقليمية ذاتياً عندما فتحت مياه الخليج وشواطئه امام الأساطيل الاجنبية لكي تحقق المعادلة المستعصية بسبب ضعف الأطر الإقليمية.

نعم ليس هناك حل سحري لمشاكل أورثتها عقود طويلة من الصراع بين العرب وايران، كما انها لن تنتهي بمجرد عبارات غزل، لكن سيكون من عدم المسؤولية رفض المحاولات الجارية او تجميدها او محاولة تفريغها من محتواها وغايتها الاساسية ألا وهي إنهاء حال النزاع واستبداله بتعاون وربما اندماج إقليمي.

*الحياة/  16/6/1999

  قضايا حياتية أكثر أهمية من قضايانا “المصيرية”! 

تشغل حياتنا نحن العرب هموم واهتمامات بالقضايا والأزمات السياسية الكبرى التي تتوالد وتتكاثر وتحيط بنا من كل صوب، حتى اصبحنا من اكثر شعوب الارض ادماناً على ما نسميه بالقضايا المركزية والمصيرية. ووسط كل هذا الولع بالتشبث بتلك القضايا ومع عجزنا الواضح عن حلها، تبرز حقيقة اساسية، وهي اننا بسبب انشغالنا بتلك القضايا غفلنا عن قضايا اخرى لعلها اكبر واكثر اهمية لحياتنا ومستقبل وجودنا كبشر، فعمّق تجاهلنا لها الهوة المادية والحضارية التي جعلت من اخفاقنا في حل القضايا المصيرية امرا ممكنا.

خذوا مثلا قضايا الديموقراطية والاصلاح السياسي والحريات وحقوق الانسان والمجتمع المدني وتحقيق العدالة والتكافؤ الاجتماعي والتنمية البشرية. أليست كل هذه قضايا بديهية، تعبنا جميعاً من القول إن من غير تحقيقها لا يمكن للعرب ان يواجهوا الأزمات السياسية الكبرى التي تعصف بهم. ومع ذلك فإن أموراً كهذه تبقى دائما خارج الاجندة العربية الحقيقية، في الوقت الذي اصبحت مسلمات، ولم يعد هناك شك في أنها لا تؤدي الى تطوير المجتمعات العربية وانتشالها من دائرة التخلف والجمود فقط، بل هي قادرة ايضا على تعزيز عناصر القوة والمكانة لدى كل شعب وأمة.

كثيرون يعطون تحرير فلسطين والعراق ودحر المشروع الصهيوني هنا وهناك الاولوية القصوى. لكن أليس الانسان وحياته ومستقبله وحقوقه وكرامته هي التي يجب ان تأخذ هذه الاولوية في العمل الجاد، في الوقت الذي تدل المؤشرات كافة على ان نوعية الحياة الانسانية للفرد العربي هي التي اصبحت مهددة في الصميم، حتى من دون مقارنة ذلك بنوعية الحياة الانسانية في عوالم اخرى؟ بالامكان مثلا وعلى سبيل الجدل فقط، تأجيل استحقاقات الديموقراطية والاصلاح والتعددية والمشاركة الى حين، ولكن ماذا عن الفقر والبطالة والفساد وانتشار الجريمة وتعطيل حكم القانون؟ وماذا ايضا عن نقص المياه للشرب وللاستخدامات البشرية الاخرى، وتدهور البيئة والتلوث وتحول الشوارع الى امكنة لرمي القمامة وانتشار الامراض المرتبطة بها؟ وماذا عن الزحام في شوارع المدن العربية وسوء الادارات المرورية وضعف انظمة المواصلات التي تقتل سنوياً آلاف البشر وتحول حياة ملايين آخرين الى رحلات عذاب يومية؟ وماذا عن الفكر والثقافة والفنون التي أصبحت مجرد وسائل للاستلاب وبث الضحالة وحتى الجهل؟ والاهم من كل ذلك، ماذا عن الشعور المتزايد باللاجدوى وبانعدام الامل بالمستقبل والاستسلام للقدر، بخاصة عند الاجيال الجديدة التي لا تمد بصرها نحو الخارج فقط، بل تدفع احيانا كثيرة حياتها ثمنا، وهي تحاول عبور البحار خلسة سعيا وراء فرص افضل بالحياة؟

حسنا، هل يجب ان ندع كل ذلك ايضا جانبا طالما ان الاولوية يجب ان تظل للقضايا الكبرى ولابقائها جذوة مشتعلة لتأكيد الذات القومية المضطربة، وأهداف الأمة السامية، ام ان نلتفت الى الاخطار والمصائب المحدقة بنا والتي تهدد وجودنا في الصميم؟ لنأخذ مثلا ايضاً موضوع الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية التي أصبحت الشغل الشاغل للعالم بسبب الآثار الخطيرة التي تهدد الحياة البشرية والطبيعة. فإذا أدركنا ان الارض العربية تشكل حوالي عشر مساحة اليابسة وان سكانها يشكلون حوالي 7 في المئة من سكان المعمورة فإن بإمكاننا ان ندرك ايضاً حجم التهديدات التي يتعرض لها الانسان العربي بسبب هذه التغيرات الدراماتيكية، وبخاصة في موضوعين أساسيين هما التعرية الساحلية الناتجة عن زيادة نسب مياه البحر التي تهدد بغرق مدن ومناطق بأكملها، والتصحر المتزايد الذي يفقد الدول العربية مساحات شاسعة من اراضيها الزراعية. إن اول مشكلة تواجهنا في سعينا للإلمام بأبعاد هذا التهديد هي شح المعلومات وانعدام البحث العلمي عن التغيرات المناخية في المنطقة العربية والذي تعتمد غالبيته على دراسات دولية تضعها في الاطار الاوسع إما الشرق اوسطي أو الافريقي أو المتوسطي.

فمثلا لا تتوفر دراسات حديثة دقيقة عن التغيرات المناخية في المنطقة العربية بخصوص درجات الحرارة ومعدلات الامطار ومعدلات التبخر والاتجاهات المناخية عموماً وتأثيراتها الطبيعية على الانسان والحيوان والنبات، بكل التنوع البيولوجي فيها، مما يصعب معه تصور وادراك حجم المشكلة، بل ايضا الوصول الى استنتاجات صائبة ووضع سيناريوهات مستقبلية لمواجهتها. كما ان العجز يبدو واضحاً في المعلومات التي تتعلق بالتغيرات المناخية على مستوى الكرة الارضية وتأثيراتها المتوقعة على المنطقة العربية، خصوصاً ان هذه التبدلات أصبحت تجري بوتائر اسرع مما كانت عليه وما كان متوقعا واحيانا بشكل مفاجئ. ولعل اهم دليل على حجم التغيرات المناخية المتوقعة في المنطقة يأتي من ان الصحارى تشكل 88 في المئة من مساحة الوطن العربي التي تبلغ 314 مليون كيلومتر مربع فيما تزحف الرمال بفعل تأثيرات الاحتباس الحراري على الـ12 في المئة من الاراضي الباقية. كما ان جميع الدول العربية تملك سواحل بحرية هي عرضة، بشكل او بآخر، الى عمليات النحت الجارية في السواحل بسبب زيادة مستويات مياه البحار الناتجة عن ارتفاع معدلات ذوبان الثلوج والتي تنحو نحو الزيادة بسبب التغيرات المناخية العالمية.

ان غالبية المعلومات التي نشرت أخيراً مثلاً عن التأثيرات المتوقعة على مصر جراء التبدلات المناخية جاءت من تنبؤات مؤسسات دولية، كالبنك الدولي، والتي حذرت من إمكان تعرض معظم المدن الساحلية ومنها الاسكندرية وبورسعيد ودمياط وجزء من دلتا النيل للغرق مع نهاية القرن الحالي، بسبب زيادة مستوى المياه في البحر المتوسط، بما يعادل متراً او اكثر. واذا كانت التوقعات تشير الى وصول سكان مصر الى حوالي 160 مليون نسمة منتصف القرن، فبالإمكان تصور الكارثة المحدقة بأكبر بلد عربي، لو صح وقوع جزء بسيط من هذه التنبؤات. ان ما يعزز من هذه المخاوف وتأثيرات التغيرات المناخية على باقي الدول العربية، كما حصل في عمان أخيراً، هو اولاً حقيقة زيادة نسبة ذوبان الجليد خلال العقد الماضي بحوالي بوصة واحدة سنويا، وثانياً من ان وتيرة سرعة التغيرات المناخية هي اكبر مما كانت عليه خلال كل القرون الماضية وان البعض يتوقع تغيرا جذريا وسريعا في المناخ العالمي بما ينذر بتحولات كبرى ربما في غضون عقود من السنين لا أكثر.

ادرك ان كثيرين غير مستعدين لاستيعاب الأمر وقبوله، البعض منهم يبرر ذلك بغياب نظرية ذات صدقية بشأن منظومة المناخ العالمي، وآخرون لأسباب تتعلق بالتشبث بالافكار القديمة، سواء الايمان بنظرية التوازن الطبيعي، او بثقافة الاتكال والقدر، وغيرهم يضعون الامر برمته في اطار نظرية”المؤامرة”على العرب. الا ان المؤكد ان المنطقة العربية تواجه مخاطر جمة مع ارتفاع كل درجة حرارة على الارض ومع ارتفاع كل متر في البحار والمحيطات. واضافة الى ان المنطقة العربية، سواء بسبب اتساعها او طبيعتها الجغرافية، ستكون من اكثر المناطق تعرضا للاخطار الناتجة عن التغيرات المناخية الحادة، فانها لا تبدو مستعدة لوضعها على سلم اولوياتها ومواجهتها بأي وسيلة كانت، إما لأنها مشغولة باهتمامات اخرى تجدها اكثر الحاحاً، أو لأنها تجد الأمر كله شيئاً من الخيال العلمي او حتى الفانتازيا غير القابلة للتصديق.

هناك الكثير الذي ينبغي عمله، أولاً من جانب النخبة، وخاصة العلمية، التي عليها ان تمنح القضية اهتماما اكبر في الدراسة والبحث وفي النقاش، مما يمكن ان يخفف من وطأتها، وثانياً من قبل الجمهور ومنظمات المجتمع المدني والاحزاب التي يجب ان تتبنى قضية التغيرات المناخية باعتبارها تحديات وجودية عليها النضال من اجل مواجهتها مثلها مثل المطالبة بحقوق الانسان والديموقراطية. لكن قبل ذلك فان من واجب صانعي القرار السياسي ان يدركوا ان تأثيرات التغيرات المناخية ليست من نوع تلك المخاطر والتهديدات التي يمكن مواجهتها بالانتظار والتلاعب والترحيل الى المستقبل، انما هي قضية حياة او موت لملايين من عرب الحاضر ومن اجيالهم المقبلة. مع ذلك اتمنى الا يقترح احد عقد قمة عربية طارئة، او خاصة، بالمناخ، كي لا تنضم هذه القضية الى باقي القضايا المصيرية التي تنتظر حلولا منذ عقود. فالمطلوب خطوات اكثر جدية، سواء على المستوى الوطني، او من خلال العمل الجماعي الاقليمي المنظم، او من خلال الاندماج في المنظومة الدولية التي يجب اقامتها للتعامل مع الاخطار التي تهدد بالنتيجة، البشرية جمعاء.

*الحياة/ 9/11/2007

   هل تشعل تفجيرات نيويورك وواشنطن صراع

           الحضارات بين أميركا والعرب ؟ 

في صباح اليوم التالي للتفجيرات التي أطاحت بمركز التجارة الدولي في نيويورك ودمرت اجزاء كبيرة من مبنى البنتاغون خرجت جريدة “كرستشين ساينس مونيتر” الاميركية المعروفة عادة بالجدية والرصانة في اسلوب تناولها للأحداث، بتقرير عن الهجمات الارهابية مع مانشيت بارز “خبراء الارهاب يقولون وحده ابن لادن يمتلك الامكانات للقيام بهجمات مثل هذه”.

إلا ان صحيفة “بوسطن هيرالد” الصادرة في اليوم نفسه تجاوزت التخمينات والتوقعات وجاءت بما يفيد بأن اجهزة الشرطة في ولاية ماساشوتيس تمكنت من تحديد هوية خمسة من العرب الذين يشتبه بأن لهم ضلعاً في عمليات التفجير مستدلين في ذلك على عثورهم على سيارة مستأجرة مهجورة في مطار لوغان حيث انطلقت واحدة من الطائرات الانتحارية وبداخل السيارة كراسة تدريب على الطيران باللغة العربية، وكما أفادت الصحيفة فإن التحقيقات الأولية تشير الى أن مستأجري السيارة الذين يحملون جوازات سفر من دولة الامارات العربية المتحدة استقلوا الطائرة الانتحارية التي كانت متوجهة من بوسطن الى لوس انجليس وان احدهم هو طيار محترف.

لكن الرأي العام الاميركي الذي لم يكن قد استمع بعد الى الرواية الرسمية عمن يقف وراء حوادث التفجير، حينئذ، لم يكن بحاجة الى تقارير صحافية ومانشيتات مثيرة مثل تلك لكي يجري تعبئته في حملة الكراهية والتحريض ضد العدو الوحيد المحتمل قيامه بتلك العمليات الارهابية، إذ ان شاشات التلفزيون الاميركية كانت طيلة الليلة السابقة قد امتلأت بمعلقين ومحللين وخبراء في شؤون الشرق الاوسط والاستخبارات وفي قضايا العالم الاسلامي يدلون بدلوهم ثم يشيرون بأصابعهم بثقة باتجاه واحد نحو العرب، وعلى رأسهم اسامة بن لادن، كمتهمين مؤكدين وليسوا فقط محتملين في عمليات التفجيرات.

وإذا تجاهلنا التقارير الصحافية التي تتحول في مثل هذه الظروف الى مجرد وجبات سريعة مصحوبة بكل عناصـر التشــويق والاثارة فلم يكن اي من اولئك المحللين، مثل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، يشقى بالمنطق وبالبحث عن الأدلة لكي يصل من خلال الشك الى الحقيقة وبالتالي الربط بين السبب والنتيجة، إذ ان الحاجة، في وقت اطلقت شبكة سي. إن. إن الاخبارية على تغطيتها للاحداث “اميركا تتعرض للهجوم”، لن تكون للمنطق الديكارتي او حتى للتفكير البرغماتي الذي اخترعته اميركا نفسها بل الى كلام يدغدغ المشاعر عن اعداء اميركا الحقيقيين والمتخيلين امثال صدام حسين واسامة بن لادن ليس رودوفان كاراجيتش او كيم جونغ ايل وحكومات تضمها قائمة الدول المتهمة بالارهاب لوزارة الخارجية الاميركية مثل العراق وسورية وليبيا ليس صربيا أو كوريا الشـمالية.

في الجهة المقابلة كان العالم العربي يقف مذهولاً امام ما حدث حيث تسمّر معظم العرب امام شاشات التلفزيون التي راحت محطاتها الفضائية تتسابق في نقل الاحداث المتسارعة من نيويورك وواشنطن يراقبون ما يجري وكأنهم يشاهدون فيلماً هوليوودياً من تلك الأفلام التي أثارت خيال المخرج الاميركي ستيفن سبيليبرغ قبل أن يصحوا سريعاً على التلميحات او الاتهامات المباشرة التي تشير اليهم بأصابع الاتهام بالكارثة القومية التي حلت تواً بأميركا والتي ربما لا توازيها في الاحساس بالهزيمة والمهانة إلا كارثة ضرب اليابانيين لميناء بيرل هاربور اثناء الحرب العالمية الثانية.

انهيار الجسور

ولكن بغض النظر عن ردود الفعل العربية تجاه الحدث، التي تراوحت بين صمت وحيرة او تلقائية وعابرة صفقت له لأسباب عاطفية تتعلق بتاريخ مأزوم من العلاقات بين الطرفين، أو تنديدات سارعت بها القيادات العربية وبيانات التعاطف التي ادلت بها، فإن ما كان ينهار يومها أمام ناظر العرب جميعاً ليس فقط مبنى مركز التجارة الدولي والبنتاغون بل جسر آخر من تلك الجسور التي سعى الطرفان لبنائها عبر عقود طويلة كي تكون معابر للتفاهم والتوافق اللذين ظلا هشين وعصيين بسبب اختلال التوازن في المصالح، خصوصاً في ما يتعلق بالصراع العربي – الاسرائيلي. ولأن الهدف هذه المرة ليس قوات المارينز التي نزلت في بيروت أو المدمرة كول التي رست في ميناء عدن بل صرحان عملاقان يمثلان رمز القوة الاميركية فإن ترقب الغضب الاميركي لا بد ان يتعدى التوقعات عن الثأر بضربات عابرة الى ما هو أبعد من ذلك ويقيم بين العرب والاميركيين حفرة عميقة بدلاً من الجسور التي تقطعت مع التفجيرات الارهابية في نيويورك وواشنطن.

والاكيد الآن، وخصوصاً إذا ما ثبت من خلال ما ستسفر عنه التحقيقات أن هناك يداً عربية لها علاقة في تدبير وتنفيذ ما حدث فإن المواقف الاميركية من العالم العربي في الإطار الاستراتيجي العام وعلى مختلف الاصعدة لن تكون مستقبلاً كما كانت عليه قبل تفجيرات يوم 11 ايلول سبتمبر 2001، ذلك أن اميركا نفسها بل ربما العالم كله لم يعد كما كان قبل ذلك التاريخ الذي ربما سيوازي في اهميته يوم اكتشاف البارود والصاروخ والقنبلة الذرية، إذ ان ما حدث يومها وعلى حد قول وزير الخارجية كولن باول كان حالة إعلان الحرب على اميركا أو كما وصفها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأنها كانت هجوماً على نمط الحياة الاميركية الحرة بهدف سلبها تلك الحرية. ستنسى الولايات المتحدة أن ابن لادن هو صنيعتها وأنها انتصرت به على الجيش الاحمر في افغانستان وهو الانتصار الذي فتح الباب بعدئذ لانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية وتتذكر فقط بأنه زعيم التطرف الاسلامي والعربي وعدوها الرقم واحد الذي نقل تلك الحرب الى قلب الحصن الاميركي وضرب رموز قوتها العسكرية والاقتصادية وحينها فإن “الاسلام فوبيا” وهو رديف “العرب فوبيا” والتهديدات المتصورة منها ستكون هي العنصر الأبرز في السياسة والاستراتيجية الاميركيتين المقبلتين وربما ستحظى بأولوية مطلقة على تلك المصالح المرتبطة بحماية اسرائيل والنفط التي ظلت محور استراتيجية الهيمنة الاميركية في المنطقة منذ عقود طويلة.

بعد يوم واحد من وقوع تلك الهجمات كانت النغمة السائدة بين مسؤولي ادارة الرئيس بوش هي عن تحالف دولي بدت واشنطن داعية وساعية لإنشائه للرد على الارهاب الذي طرق بابها بعنف هذه المرة، وإذا ما افترضنا ان مثل هذا التوجه جاد فإن الاسئلة التي من الضروري ان تُطرح هو ممن سيتكون هذا التحالف وضد من؟ وهل سيكون تحالفاً موقتاً أم بعيد المدى تتم تعبئته خلف نظريات مثل “صدام الحضارات” وبذلك يبدأ العد العكسي لتوقعات صاموئيل هنتنغتن عن الصراع المرتقب الذي ستؤججه الاصولية الاسلامية بين الغرب المسيحي والعالم الاسلامي؟ لنفترض للحظة واحدة ان ذلك أمر سيسعى اليه الصقور الذين تحتشد بهم هذه الادارة الاميركية رداً على ما تعرضت له الولايات المتحدة ودرءاً لتهديدات وضربات مقبلة إذا ما تركت الامر من دون عقاب. فما الذي سيحدث وكيف سيكون بقدرة الخيال ان يتصور المنحدر الذي ستنزلق اليه العلاقات العربية ـ الاميركية، ليس في طابعها الرسمي بل على مستواها الحضاري والتاريخي لو ساد نتيجة الهجمات الاخيرة مزاج في اميركا تجاه العرب يتسم بالغلو والتشدد والاستياء؟

الولايات المتحدة، وحتى بعد ان تفيق من الصدمة ستبدو مثل نمر جريح يريد ان يثأر لكرامته، ولأن الأمر سـيكون متعلقاً بالعالم العربي هذا الكيان الضعيف من وجــهة نظرها، فإن اكثر ما يمكن ان يخشاه المرء هو أن ينزلق صقور الادارة الى استخدام قوانين الغاب بدلاً من اسلوب التعاون والمشاركة في جهد دولي منظم لاستئصال الارهاب، خصوصاً وأن هناك الكثيرين، كما فعل بعض القادة الاسرائيليين، أو لحسابات تتعلق بصراعات اقليمية مثل تلك التي بين الهند وباكستان او روسيا والشيشان الذين سيجدون ان من مصلحتهم الدفع بالطرفين الاميركي والعربي نحو الهاوية.

لكن الأمور، مع ذلك، قد لا تكون او تصبح بالسوء الذي تبدو عليه. ففي اوقات الازمات يميل القادة – والاميركيون ليسوا استثناء – الى الانسياق وراء العواطف الجياشة ويدلون بتصريحات نارية بسهولة بالغة بهدف اشباع الغرائز التي فلت عقالها كما قد تنحدر سلوكيات بعض الاميركيين في موجة معاداة العرب الى سيكولوجية القطيع، لكن اميركا دولة عظمى بكل المقاييس وعليها مسؤوليات اخلاقية والتزامات تاريخية لا يمكن ان تسمح لها في هوجة الغضب والتعصب الاعمى بالوقوع في خطأ تحويل “الاسلام فوبيا” إلى صراع أو نزاع حضاري مع العرب والمسلمين.

هناك درسان على الادارة الاميــركية ان تعيهما في معالجة الازمة الحالية لو ثبت فعلاً ان اطرافاً عربية نفذت او شاركت في الهجمات الارهابية في نيويورك وواشنطن. الدرس الاول الذي عليها ان تتعلمه هو من التنديدات القوية بالانفجارات التي أتت من شخصيات وتنظيمات اسلامية، مثل الرئيس الايراني محمد خاتمي والسيد محمد حسين فضل الله وشيخ الأزهر الشريف الشيخ محمد سيد طنطاوي وحركة الاخوان المسلمين.

أما الدرس الثاني، والذي عليها ان تنبذه، وهو من الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، إذ لا ينبغي عليها ان تتعلم من اسرائيل كيفية الانتقام من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة بأسلوب عشوائي وغريزي كلما وقع انفجار في تل ابيب أو نهاريا، فتجربة الانتفاضة اثبتت مثلما حدث ذلك عبر التاريخ الانساني كله، أن ارهاب الدولة لا يقضي على الارهاب وسيكون من المدهش حقاً ألا تكون الولايات المتحدة قد تعلمت ذلك بعد.

* مجلة الوسط 19 سبتمبر 2001

  ساعة ونصف مع المرشد العام للإخوان المسلمين

في الطريق إلى مكتب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف، اختمر في ذهني معظم الأسئلة التي كنت انوي أن أوجهها الى رجل ربما يحمل الآن على عاتقه مهمة تاريخية كبرى تتمثل في تحديد «معالم على الطريق»، يفترض أن تكون جديدة، أو حتى مغايرة، لتلك التي وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا قبل نحو ثمانية عقود وجددها أسلافه الستة، كما تختلف بالتأكيد عن تلك التي وضعها مفكر الجماعة الأبرز سيد قطب. فالمؤشرات الداخلية والإقليمية والدولية تدل كلها الى أن الجماعة التي ظلت طوال هذه العقود – مصرياً في قلب الحركة الوطنية ودولياً في قلب الإسلام السياسي النشط – تواجه الآن اكبر اختبار في تاريخها في ما إذا كانت قادرة أخيراً على أن تبلور مواقف تستجيب للتحديات الكبرى التي تواجهها مصر والعالم الإسلامي أم أنها ستفشل في ذلك.

لا تدل الشقة الصغيرة في حي المنيل في وسط القاهرة والتي تتكون من ثلاث غرف وردهة ويتخذها مرشد الإخوان المسلمين مقراً لقيادته على أن الجماعة تقف على خط الشروع في احدى معاركها الكبرى مع النظام في مصر، إذ لا يمكن مقارنة هذا المكتب الشديد التواضع والمنزوي على ناصية شارع ضيق مع البناية العملاقة لمكاتب الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم على بعد بضعة كيلومترات ولا حتى مع مكاتب فروعه المحلية المنتشرة في كل المدن.

وبالتأكيد لا يمكن المقارنة بين الإمكانات الهائلة للدولة ذاتها وإمكانات أي جماعة سياسية معارضة، وبخاصة إذا كانت سرية. إلا أن أول سؤال يتبادر إلى الذهن عندما يدخل المرء هذا المكتب الذي يدب بنشاط وحركة غير عاديين، هو: هل أن الإخوان المسلمين الذين اظهروا كل هذه القدرات الهائلة على التعبئة والحشد أخيراً في وجه السلطة يستعدون الآن لاجتياز مرحلة التمكين التي طالت سبعة وسبعين عاماً والاستعداد لتحقيق هدف الوصول إلى السلطة الذي انتظروه طوال هذه الفترة؟

ما يتبع هذا السؤال هو لماذا الآن؟ وما تفسير علاقة التزامن الواضحة في توقيت التصعيد الأخير في مطالبات الإخوان «الإصلاحية»، مع طرح أجندة الإصلاح الأميركية المدعومة دولياً على المنطقة والإشارات الواردة فيها في شأن سياسة جديدة تدعو إلى نبذ تهميش الإسلاميين المعتدلين وإدماجهم في العملية السياسية الديموقراطية المنشودة وإشراكهم في السلطة بل استعداد الولايات المتحدة للتعامل معهم كأطراف أساسية؟

ولأن الحماس الذي دب في جهود «الإخوان» أخيراً لا يمكن أن ينطوي على عنصر الصدفة مثلما لا يمكن أن يكون مجرد استعراض للقوة بلا هدف سياسي حقيقي، فإن تساؤلاً لا بد أن يدور حول مدى استعداد الحركة للدخول في حوار مع الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تسهل خطوة مشاركة «الإخوان» في العملية السياسية وربما المشاركة في السلطة من دون تفاهمات وترتيبات مسبقة، تضمن ليس فقط تراجع المواقف المعادية لأميركا التي ميزت خطاب «الإخوان» حول قضايا خلافية عدة مثل قضية فلسطين، بل أيضاً ضمان التزام إخواني واضح وصريح بالعمل السلمي وقضايا الديموقراطية ومبدأ تداول السلطة وحرية السوق والحريات الأساسية مثل العقيدة والتفكير وحقوق الأقليات والموقف من المرأة.

تساؤل آخر له علاقة وثيقة أيضاً بهذا السؤال، وهو هل أن الحركة على رغم تباهيها بقوتها العددية الكبيرة وإمكانات الحشد الهائلة التي تمتلكها في مجتمع مأزوم سياسياً من ناحية وشديد الولاء لإسلاميته من ناحية ثانية، مستعدة عملياً للمشاركة في السلطة أو لاستلامها كلياً في دولة مؤسساتية تعتمد منذ أكثر من خمسين عاماً في إدارة شؤونها على بيروقراطيات مدنية وعسكرية وأمنية شديدة الولاء لتقاليدها وذات خبرات متجذرة في إدارة الصراع ومتخندقة وراء تحالفات داخلية ودولية تتيح لها فرصة عالية من المناورة والكسب؟.. هذا الاستعداد لا يرتبط فقط بوجود الكادر البشري التقني المدرب والمهيأ للانتقال من أوكار الجماعة السرية إلى إدارة الدولة، بل ما هو أهم من ذلك بالفكر الذي يواجه تحديات العصر ومتطلباته، خصوصاً توضيح العلاقة بين ما هو ديني وما هو مدني وبين ما هو شرعي وما هو سياسي. أي بمعنى آخر هل لدى الحركة برنامج عملي مفصل واضح تجاه القضايا الأساسية في السياسة والاقتصاد والثقافة التي تواجهها الدولة والمجتمع في مصر؟ (على سبيل المثال الموقف من معاهدة السلام مع إسرائيل والموقف من العمليات المصرفية والائتمان والموقف من التعددية الثقافية والدينية والحريات الشخصية والفكرية).

ربما كانت هذه الأسئلة قديمة ولكني اعتقدت وأنا أعيد طرحها على المرشد العام للإخوان المسلمين خلال ساعة ونصف الساعة بأنها ترتبط هذه المرة باللحظة التاريخية التي تمر بها الجماعة، بل تمر بها مصر والمنطقة برمتها، والتي تستوجب الإجابة على السؤال الأساسي الذي يواجه أي حركة سياسية وأي أمة في مثل هذه اللحظات الحاسمة: ما العمل؟

قد لا تكون الإجابات أيضاً جديدة، فهي بالتالي لا بد أن تتماشى، لأسباب ذاتية وموضوعية مع الأهداف والتكتيكات والشعارات التي ترفعها الحركة وتستجمع قواها في هذه المرحلة من أجل خدمتها. لكنها مع ذلك قد تلقي بعض الضوء على الاتجاهات الرئيسة السائدة داخل الجماعة، والتي أكد عاكف أنه لا يصوغها لوحده بل من خلال الشورى في هيئات الجماعة القيادية، وهو تأكيد يراعي مستلزمات الدعوات الديموقراطية السائدة.

بإيجاز، لا يرى عاكف، في شأن السؤال الأول، أن الإخوان هم الذين افتعلوا المعركة مع النظام أو أنهم بصدد فتح مرحلة جديدة ساخنة في صراعهم معه، «كل ما في الأمر أنهم يطالبون في حقهم الدستوري بالتظاهر السلمي من أجل الإصلاح» الذي قابلته السلطة بإلقاء القبض على مئات من أعضاء الجماعة من الكوادر الوسطى التي تشكل حلقات الوصل بين القيادات والقواعد.

وينفي المرشد العام تهماً عن التهاون مع النظام في ما مضى، على رغم أنه يؤكد أن الجماعة كانت «تتفاهم» سابقاً مع النظام «لمصلحة هذا البلد». بيد أن تلك المرحلة التي كانت الحركة تقبل فيها التعامل مع النظام من خلال القيادات الأمنية انتهت وحان وقت التعامل معها سياسياً من وجهة نظر المرشد، «فنحن موجودون ونملأ الشارع».

أما في ما يتعلق بالسؤال الثاني، فإن عاكف يضع مجدداً خطوطاً حمراء أمام الانخراط في مشروع التغيير المفروض على المنطقة حين يشدد على ثلاثة مواقف يعتبرها أساسية، وهي رفض أجندة الإصلاح الأميركية على رغم أنه يقر بأن «بعض الناس يرون فيها أمراً حسناً»، لكنه يرتاب فيها. ويقول: «كيف اطمئن إلى أنها تبغي الإصلاح وليس ابتزاز أنظمتنا»، كما أنه يرفض أن يكون «مساعداً لنظام خارجي ضد نظام بلدي مهما كان ظالماً»، كما يرفض الحوار المباشر مع المسؤولين الأميركيين إلا في وجود ممثلين عن وزارة الخارجية المصرية «حتى لا يقال إنني أتحاور مع قوى أجنبية في غيبة النظام».

عدا هذا، فإن لدى عاكف حلولاً لما تطرحه أجندة الإصلاح من معضلات يبدو أن بعضها محاولة الالتقاء في منتصف الطريق، مثل التمسك بالشورى كبديل إسلامي للديموقراطية والإيمان بحقوق المرأة من دون حقها في الولاية الكبرى، أو رأيه في طرح القضايا الفقهية الخلافية مثل مسألة الفوائد المصرفية على الاستفتاء العام لبيان رأي الناس فيها.

أما عن التساؤل الثالث، فإن عاكف ينفي أن هدف ما تفعله الجماعة حالياً هو القفز على السلطة، على رغم أنه يرى أن السلطة الحالية «فاسدة ومنتهية». وعلى حد قوله، فإن ما يسعى إليه الإخوان من خلال الانتخابات المقبلة هو «المشاركة لا المبالغة» بل ويذهب عاكف إلى أبعد من ذلك حين يؤكد عدم قدرة فصيل واحد على أن يحكم مصر، مضيفاً: «لا بد أن يحكمها ائتلاف بين كل القوى السياسية». أما في شأن آليات تحقيق ذلك، فإنه يشدد على أن الإخوان لم يلجأوا إلى «الصدام أو العنف» بل سيظلون يدعون إلى «الحب والسلام».

ما يعكسه كلام عاكف، بل ما يمكن ملاحظته في نشاط الإخوان في هذه المرحلة، هو غلبة السياسي على الديني وغلبة الحركي على الدعوي وهو تطور يعكس إدراك القيادة الإخوانية لظروف المرحلة ومتطلباتها خارج الشعار الفضفاض: «الإسلام هو الحل». لكن السؤال يبقى إلى أي شوط يمكن لهذه القيادة أن تمضي بهدف ولوج العملية الديموقراطية وليس فقط العمل السياسي بهدف الوصول إلى السلطة.

لا ينبغي على القيادة الإخوانية أن تسيء فهم اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة ودعوات الإصلاح المتزايدة، فهي لا تعني الأنظمة والمجتمعات فقط، على الرغم من أنها الأولى بالإصلاح، بل هي تعني أيضاً الحركات السياسية، خصوصاً الكبرى منها التي ظلت متجمدة وعصية على دخول العصر. هناك حاجة شديدة لفتح باب الاجتهاد الشجاع والجريء حول المسائل الكبرى التي تواجه الأمة الإسلامية مثل تحديد العلاقة بين الديني والسياسي وعملية السلام والديموقراطية والعولمة بروح المسؤولية، وعلى اعتبار أن الإيمان والحرية صنوان يمنحان الشخص المسلم حقوقه ويعززان كرامته الإنسانية.

غير أن الأمر لا يقف على الإخوان وحدهم إذ على الأطراف الأخرى، سواء من كان منها في الحكم أو خارجه، أن تتخلى عن سياسات الإقصاء والتهميش للإسلاميين المعتدلين التي مارستها طوال عقود طويلة والتي لم تؤد إلا إلى المزيد من قوقعتها وانفصامها عن مجتمعاتها وعن العالم. المطلوب من هذه الأطراف مد اليد إلى كل الإسلاميين الذين يرون في العملية الديموقراطية طريقاً للتغيير حتى إذا كان ما يطرحونه من نماذج لا يرتقي كليا إلى الكمال المنشود. إن هذه الأمور تتطلب حوارا ديموقراطيا مفتوحاً بين كل قوى المجتمع من إسلاميين وعلمانيين وممثلي التيارات المختلفة حول المستقبل، حواراً يدخل في صلب القضايا المطروحة وليس هامشها، حواراً يتناول طبيعة الدولة وعلاقتها مع الدين، علاقة أجهزة الدولة كالجيش والأمن ومؤسساتها الإدارية بالأحزاب السياسية، معاهدة السلام مع إسرائيل ومستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، العلاقة مع الغرب، وضع الأقليات الدينية، التحديث، قضايا الحرية وحقوق الإنسان… الخ.

هناك منعطف تاريخي يمر به الإخوان المسلمون مثلما تمر به مصر والمنطقة، غير أن الطريق يبقى طويلاً قبل أن يحسم فيه الصراع، صراع إذا ما حسم على ضفاف النيل فإن من المؤكد تجاوزه في دول أخرى في المنطقة وفي العالم الإسلامي.

*الحياة 13 ـ 06 ـ 2005

         مات عرفات لكن أحلامنا اغتيلت قبله

التقيت ياسر عرفات للمرة الأولى في خريف عام 1972 وكان وقتها يشارك في مؤتمر للتضامن مع العراق بعد تأميمه للنفط. وخلال أيام انعقاد ذلك المؤتمر وجدتني وجهاً لوجه أمام هذا المارد الذي كان حينها تجسيداً حياً لآمالنا وتطلعاتنا نحن الجيل العربي الذي تفتح وعيه على هزيمة حزيران والانكسار المبكر الذي هز وعينا وحفر في ارواحنا اخاديد لا تردم. ولم يكن ذلك افتتان شاب عربي تتفتح آفاقه السياسية بالبطل الاسطوري. فقد كان ابو عمار طوال ايام المؤتمر نجماً ساطعاً تلتف حوله كوكبة من كبار قادة حركات التحرر في العالم المشاركين في المؤتمر والذين بدوا كأنهم يحتضنونه بروح تضامن الضحايا المتطلعة للحرية والانعتاق. كنت اقف الى جانبه في احدى دعوات العشاء احمل سكيناً وشوكة احاول ان التقط قطعاً من سمك المسكوف العراقي الشهير حين داعبني بلهجته المصرية «انت بتعمل ايه يا بني، في حد يأكل السمك كده» ثم غمس يده في السمكة وقطع منها جزءاً ووضعه في صحني. في تلك اللحظات الرومانسية جالت بخاطري صور هوشي منه وتشي غيفارا وابطال آخرين لحروب التحرير الشعبية وتذكرت قصيدة سعدي يوسف التي كان كتبها قبل فترة في الذكرى المئة لوفاة فلاديمير ايليتش لينين والتي يقول فيها «لم تكن نجماً ولا كنا مجوساً، انما انت مناضل معنا جنباً الى جنب تناضل».

هكذا كان مشهد ابو عمار قوياً وآخاذاً، وأخال ان ذلك لم يكن استنتاجي وحدي بل كان وعي جيل عراقي وعربي كامل رأى في الثورة الفلسطينية درب التحرير لا لفلسطين فحسب بل للاوطان الاخرى التي كانت تنهش فيها انظمة الهزيمة والقهر والتبعية. فأنا وأبناء جيلي قامت ثقافتنا السياسية على اسطورة ان فلسطين هي قضيتنا المركزية الاولى كما تربينا على اوهام حاكتها النخب الحاكمة عن الادوار البطولية التي خاضتها الجيوش العربية في حرب عام 1948 والتي لم يخسروها إلا بسبب الاستعمار وتبعية الانظمة الحاكمة حينها للقوى الاجنبية. لكن الحقيقة التي عرّتها الاحداث اللاحقة للنكبة، ومنها هزيمة أنظمة ثورية قامت على انقاض الانظمة الرجعية العميلة السابقة في حرب اخرى مع اسرائيل عام 1967، هي ان العرب بدولهم ومجتمعاتهم وحكوماتهم وجيوشهم مشلولون تماماً وعاجزون عن الفعل وان انبثاق الثورة الفلسطينية لن يكون العمل الذي يحرر فلسطين فقط بل سيحررنا جميعاً مما نحن فيه من تجزئة وموالاة وتخلف وطغيان.

وخلال اكثر من ثلاثين سنة، رأيت عرفات بل عايشته عن قرب، كانت خلالها سيول سياسية جارفة كثيرة قد مرّت تحت جسر العرب المتهاوي. تشظى الحلم العربي خلالها وغرق جيلنا مرة اخرى في واقع عربي اكثر انقساماً وتبعية وارتداداً واستبداداً. كما ان الثورة الفلسطينية، التي ظن جيلي انها كانت الأمل الذي سينتشل الاوطان من المستنقع الآسن الذي رمته فيه انظمتها، انتهت هي الاخرى الى مجرد سلطة تنتظر انطلاق مشروع سلام مقابل بقايا ارض تبتلعها المستوطنات وتسيجها حدود آمنة ليست لها ولكن لاسرائيل. والآن بعدما ودّع ابو عمار دنيانا مخلفاً وراءه ارثاً من تلك الاحلام الجميلة التي تراود اجيالاً جديدة من الفلسطينين والعرب، فإن ما تحتاجه هذه الاجيال ليس تدبيج الرثائيات البالية والغناء على اطلال زمن جميل لم يأت ابداً، بل إن الامر يتطلب منا جميعاً عملية مراجعة معمقة وشاملة ونقدية لتلك المرحلة من تاريخنا القريب ليس لأننا فقط مطالبون بالتعلم من اخطائنا التي دفعنا بسببها اثماناً باهظة بل بسبب مسؤوليتنا تجاه المستقبل الذي ينبغي ان يكون غايتنا وبؤرة اهتمامنا.

 وكعراقي تثقله اليوم آلام المحنة التي يمر بها بلدي، أجد نفسي، في اطار المراجعة هذه، امام تساؤلات عديدة عن نمط العلاقة التي اقامتها الثورة الفلسطينية وقائدها عرفات بالنظام البعثي في بغداد خلال العقود الثلاثة الماضية والتي لا يمكن لأي باحث جاد ان ينكر انها اثرت تأثيراً جوهرياً في مجريات الاحداث ليس في العراق وفلسطين فحسب بل في عموم المنطقة وفي مجرى تطورها التاريخي والسياسي والاجتماعي. ليس ضرورياً الآن العودة الى ملفات الماضي كلها لاثبات ان علاقات الطرفين كانت معقدة واشكالية إلا أنني لا اعتقد ان هناك من يختلف معي على ان غزو صدام حسين للكويت وحرب الخليج الثانية عام 1991 كانا في أساس ما آلت اليه الآمور الآن في العراق وفي فلسطين وفي عموم المنطقة. فالحقيقة المؤكدة الآن هي ان الحرب الاخيرة، وهي وليدة طبيعية ثانية للغزو، لم تضع المنطقة برمتها تحت الهيمنة الاجنبية فحسب بل انها حسمت والى مدى بعيد جداً الصراع العربي – الاسرائيلي ومكّنت اسرائيل من اقامة مشروعها التاريخي في فلسطين.

مرات عدة سألت ابو عمار لماذا اتخذ موقفاً مؤيداً لصدام في غزو الكويت، وكانت اجوبته تنم عن اقتناع شديد بان نتيجة المواجهة بين صدام والاميركان ستكون لمصلحة قضية الشعب الفلسطيني من دون ان يعطي تفسيراً مقنعاً. طبعاً تبرع العديد من الكتاب والمحللين لتفسير موقف عرفات حينها بأنه جاء انعكاساً لتوقعات الشعب الفلسطيني الذي افتتن بصدام وبتحديه السافر للولايات المتحدة وتهديده بحرق نصف اسرائيل بأسلحته الكيماوية وتوقع انتصاره الباهر مما ادى الى سحب قيادته وعلى رأسها ابو عمار وراء ذلك الموقف الشعبي. ادرك ان اكثر الاستنتاجات صواباً بشأن موقف عرفات من الازمة العراقية – الاميركية تحتاج الى شهادات ووثائق تنتظر من يوفرها، لكني وقد عاصرت ذلك وكنت قريباً من عرفات ايام الازمة بعدما اتخذ بغداد مقراً ثانياً له، اقتنعت دائماً ومنذ البداية بأن العكس كان صحيحاً تماماً وان ابو عمار كان يرمي بموقفه الداعم لصدام الى بلورة رأي عام فلسطيني مسلح بآمال عريضة عن صدام وآلته العسكرية لخدمة هدف آخر كان يدركه منذ البداية وهو دخوله المفاوضات مع اسرائيل والتوصل الى حل سلمي للصراع بعد هزيمة العراق الاكيدة وتدميره. كانت خيبة الآمل الفلسطينية المتوقعة هي بمثابة بساط الريح الذي سينقل عرفات الى مفاوضات السلام، والتي بدأت فعلاً بعد عام في مدريد. وبذلك لم يكن موقف عرفات مبنياً على اساس خطأ في الحسابات وسوء التقدير، كما قيل دائماً في تفسير تأييده لصدام، بل كان موقفاً مدروساً ومبنياً على حسابات دقيقة.

ما حملني على هذا الاستنتاج هو مواقف كثيرة كنت شاهداً عليها مع الرئيس الراحل في مرحلة اقترابه الكبرى من دخول عملية السلام مع اسرائيل والتي ارتبطت بالنشاط الذي دب في عمل القنوات السرية التي كانت بدأت عام 1986 خصوصاً بعد بيان بسام ابو شريف الشهير عام 1987 والذي اقر فيه «بحق اسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها». وهو بيان تابعت صياغته عن قرب في مكتب عرفات في بغداد قبل نشره. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1988. وفي مقابلة صحافية رتبتها مع عرفات اقر الرئيس الراحل بقبوله قرار مجلس الامن 242 للمرة الأولى قبل ان يقبل ذلك رسميا في الاجتماع الاستثنائي الذي عقدته الجمعية العامة للامم المتحدة في جنيف يوم 13 كانون الأول (ديسمبر) 1988 قبل ان يطلق تصريحه الشهير في باريس بأن الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان يدعو الى تحرير فلسطين ليس إلا «كادو»، بالتعبير الفرنسي، وهي خطوات كان من المطلوب اتخاذها شرطاً لدخول المفاوضات.

كان يجب تحويل غزو الكويت الذي فاجأ القيادة الفلسطينية مثلما فاجأ العالم الى فرصة فلسطينية، الا ان عرفات وحده من بين باقي القيادات راهن على ان ذلك يأتي من خلال المضي مع صدام الى الشوط الاخير من مغامرته فيما رأت العديد من القيادات الاخرى ان ذلك سيجر على الفلسطينيين الويلات مثلما افصح لي صلاح خلف (ابو أياد) بعد مقابلته الاخيرة مع صدام في لقاء معه في فندق الرشيد في بغداد وقبل ايام من اغتياله في تونس في 14 كانون الثاني (يناير) 1991، اي قبل الحرب بيومين في ما بدا ثمناً للموقف الذي اتخذه وأشهره في وجه صدام. قبل اسبوع من ذلك كان ابوعمار يقف منادياً صدام في احتفال اقيم في بغداد بمناسبة يوم الشهيد الفلسطيني بفارس العرب الذي سيدخل على حصانه الابيض معه وسوية الى القدس ثم يخاطبه بالآية القرآنية التي طالما رددها بعد ذلك من سورة الاسراء «وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة». سألته بعد الاحتفال الى من تعود واو الجماعة في الآية الكريمة فأجابني بطريقته المعهودة ألا تعرف تاريخك جيداً؟ ألححت عليه بأن يخبرني هو، سألني ثانية، ألم يكن نبوخذنصر عراقيا وهل نسيت صلاح الدين.قلت كلا لم انس وبدا كلامه مثل خطابه منسجما تماما مع رهانه على مغامرة صدام تلك.

ولم يكن من المدهش بتاتا ان يكون ذلك هو نفسه استنتاج بل رهان اعدائه الاسرائيليين.ففي كتابه المعنون «الحروب على صدام» يذكر الكاتب والمراسل التلفزيوني البريطاني الشهير جون سيمسون انه التقى مع بنيامين نتانياهو حين كان نائباً لوزير الخارجية الاسرائيلي بعد غزو صدام للكويت وبعد ان انتهى من التسجيل امام الكاميرا سأل نتانياهو عن وجهة نظر اسرائيل الحقيقية في الغزو وتوقعاته عن نتائجه على اسرائيل، فما كان منه إلا ان طلب التأكد من اقفال الكاميرا اولا ثم ليقول لسيمسون انها فرصه لا يمكن ان تقدر بثمن لاسرائيل. والحقيقة المؤكدة الآن انها كانت كذلك.

ما حصل بعد ذلك لا يزال قائماً امام العيان، اذ يكفي النظر الى ما يجري في فلسطين وفي العراق الآن لكي يستنتج المرء كم كان عرفات واهماً في ذلك الرهان. فلربما حمله حصان صدام الابيض الى سلسلة من المفاوضات لا تزال جارية منذئذ ولكنه لم يحمله الى القدس بينما انتهى صدام الى جحر سحيق والعراق نفسه الى احتلال.

ليس هدفي هنا ان اضع موقف عرفات، رحمه الله، من غواية صدام في ميزان حسناته او سيئاته، فتلك مهمة سيتحمل مسؤوليتها التاريخ. كما اني لست بصدد تسجيل شهادتي بالرجل او بقضيته التي حملتها، مثلي مثل اي عربي في وجداني، لكنها فرصة، اراها ليست شخصية، وفرها موته الدرامي للنظر الى الخلف من دون غضب، الى مرحلة والى احلام أمة برمتها، ماتت بل اغتيلت قبل عرفات، بعوامل العجز والاخفاق والفشل الذي انتهت اليه دولها، وانظمتها وحكامها وقبل ذلك كله ثقافتها التي اوصلتها الى هذا الدرك. 

*الحياة 2004/11/24

                 خيار واحد للإصلاح

تريثنا كثيراً، زملائي وأنا، في المؤسسة الصحافية التي اعمل فيها، قبل وصف قرار الرئيس المصري حسني مبارك الطلب الى مجلسي الشعب والشورى تعديل الدستور ليتيح اختيار الرئيس بالاقتراع العام والسري والمباشر بدلاً من طريقة الاستفتاء على شخص واحد المتبعة منذ عقود. هناك في جعبتنا نحن العاملين في الصحافة تعبيرات جاهزة لمثل هذه الحالات، كأن نصف الخطوة او الحدث بأنه مفاجىء أو مهم أو بارز أو غير مسبوق، واحياناً كثيرة نقول انه تاريخي، وكلها تعبيرات نستلها على عجل من خزانة لغة الحرفة التي نغرف منها في كتابة الخبر. غير ان مغزى الخطوة التي أقدم عليها مبارك كانت بكل المعايير اكبر من ان تختزلها «كليشيهات» صحافية. وكلما امعنا في الأمر حينها مستعيدين تاريخ هذا البلد العريق وجدنا امامنا حقيقة دامغة وهي أنها المرة الاولى التي سيتاح فيها للمصريين اختيار رئيسهم بأنفسهم منذ عهد الأسرة الاولى التي وضعت مداميك الدولة المصرية القديمة قبل أكثر من خمسة آلاف عام.

والواقع ان ما بدا في حينه حدثاً مصرياً يحتاج الى توصيف موضوعي ودقيق كان حدثاً عربياً ايضاً، لأنه كشف لحظتها كيف ان منطقة مهمة في هذا العالم كالمنطقة العربية كانت مهد الحضارات الانسانية ظلت كل هذه القرون تهجع في كهف الحكم الفرداني والتسلط والدكتاتورية والشمولية وترفض بعناد دخول العصر من بوابات الحرية والديموقراطية بينما لا تزال شعوبها غير قادرة على اختيار حكامها في انتخابات حرة ونزيهة. وفي حين ان موجات الديموقراطية، العارمة تتوالى على مختلف بقاع العالم منذ عقود طويلة حتى ان الديموقراطية التمثيلية التي تعبر بها الجماهير عن ارادتها في اختيار ممثلين ينوبون عنها لحكمها وادارة شؤونها اصبحت نمطاً شائعاً حتى في بلدان لم يكن لها وجود على الخارطة العالمية منذ سنين قليلة.

لا نعرف على وجه اليقين نتائج الخطوة التي اقدم عليها مبارك على الواقع المصري، وهي لن تكون في التحليل النهائي معزولة عن خطاب التغيير والتطوير والاصلاح الذي يسود المنطقة منذ عامين ولا عن سلسلة التطورات الهائلة منذ تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر) 2001 ثم الحرب على العراق عام 2003، على رغم أن البعض سيصرّ على رفض مثل هذا الاستنتاج. فهي جاءت بعد اسابيع من الانتخابات الفلسطينية والعراقية والسعودية وقبل يومين فقط من الهبّة الشعبية التي اسقطت حكومة عمر كرامي في لبنان ثم اجبرت الرئيس السوري بشار الاسد بعد ذلك على اعلان استعداده للانسحاب من لبنان. وقبل كل ذلك أتت بعد سلسة خطوات اصلاحية اتخذها بعض دول الخليج ومبادرات خارجية وداخلية اتخذها الزعيم الليبي معمر القذافي وتوقيع حكومة الخرطوم على اتفاق السلام مع الجيش الشعبي لتحرير السودان وابدائها الاستعداد لمصالحة وطنية مع اطراف المعارضة الشمالية… وهذه كلها كانت جزءاً يسيراً من استحقاقات على المنطقة طال انتظارها.

الاسئلة الآن كثيرة وكلها تتمحور حول ما اذا كانت منطقتنا التي ظلت انظمتها التسلطية عقوداً طويلة تقاوم رياح الديموقراطية والحرية قد لانت أخيراً واستسلمت لقدرها أم انها لا تزال عصية على التغير والاصلاح وما هذه الخطوات سوى انحناء عابر ريثما تلقي تلك الرياح بثقلها؟من المؤكد أن اليقين في الاجابة على هذه الاسئلة هو مسألة محفوفة بالمخاطر، كما ان من المبكر جداً اعلان هزيمة الانظمة والجماعات والافكار الاستبدادية والتسلطية والشمولية التي لا تزال تهيمن على الحياة العربية وترفض ان تنكس رايتها امام زحف الحرية الذي بدأ يدب في شوارع العديد من المدن العربية. ففي العراق وعلى رغم النتائج الباهرة للانتخابات، إلا أن اعداء الديموقراطية يصطفون على مختلف الجبهات ويقبعون في مختلف الخنادق يحاولون الانقضاض على الوليد الجديد. وفي فلسطين لا يزال التحدي الاكبر امام بزوغ شمس الحرية هو قيام دولة فلسطينية مستقلة تمنح لحياة الانسان الفلسطيني معنى وكرامة. اما في لبنان فإن امام انتفاضة الاستقلال مشواراً لا يزال طويلاً قبل ان تتحول فيه الى سلطة الشعب الحقيقية بعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية والسياسات الفئوية ومصالح امراء الحروب والمليشيات الذين سيحاولون ثانية العودة بلبنان الى عهد الهيمنة والاحتراب. وفي كل مكان آخر في هذا العالم العربي خطت الانظمة خطوة واحدة الى الامام على طريق الاصلاح والتطوير هناك تهديد حقيقي بخطوتين الى الخلف في اللحظة التي تضعف فيها ارادة المطالبة بالتغيير.

ان فهم عملية الاصلاح الجارية وتوصيفها الوصف الصحيح مطلوب اولاً لتفادي الوقوع في أحابيل الانظمة التي تطبل للخطوات الصغيرة التي تقوم بها باعتبارها منجَزاً ديموقراطياً تمن به على شعوبها وليست حقوقاً لهذه الشعوب طال أجل سدادها. وثانياً لتجنب الإغراق في التفاؤل بأن عصراً من الديموقراطية والحرية قد حلّ اخيراً بين ظهرانينا بعد كل عقود الاستلاب والقهر. إن ما يجري في عالمنا العربي في الحقيقة هو مطلع لمشهد خلاب،على جانب منه نرى شعوبا تتطلع إلى الانعتاق وتسعى اليه، وعلى الجانب الآخر، حكومات وانظمة بدأت تقر بعدم قدرتها على تجاهل هذه المطالب او لجمها لكنها تسعى الى احتوائها بالطرق الاحتيالية التي تجيدها. ما يعنيه هذا هو ان الطريق لا يزال شاقاً ووعراً ويحتاج الى ما هو أكثر من التمنيات والنيات الطيبة او حتى الالحاح اللجوج في المطالب التي بدأ يعبر عنها تيار عام داخل المجتمعات العريية. فالمهم اليوم هو إدراك الاشكاليات التي تواجه عملية التحول الديموقراطي في العالم العربي والتعامل معها بجدية ورصانة بعيداً عن كل اشكال التسويف والذرائعية والضبابية وخلط الامور وعلى اعتبار ان الفشل او حتى التأخر في انجاز هذا التحول سيكون وصفة اكيدة للارتداد الذي سيسلم العالم العربي هذه المرة إلى القوى الظلامية التي تعشش فيه.

اول هذه الاشكاليات هو العلاقة بين الداخل والخارج في العملية الديموقراطية التي تستغلها الانظمة لاغراض سافرة في التحريض والابتزاز والترهيب والتي نجحت الى حد كبير في نشر الاوهام بان دمقرطة المنطقة واصلاحها هو مطلب خارجي وبالذات أميركي ولمصلحة اجندات اجنبية. ان الديموقراطية برموزها وقيمها ومؤسساتها هي حاجة وطنية خالصة عبرت عنها النخب العربية التي خاضت معارك الاستقلال ضد الاستعمار مثلما تعبر عنها نخب اليوم المقاومة للهيمنة. ومن الضروري فضح محاولات التشكيك والاتهام لدعوات الاصلاح بأنها معبرة عن مصالح واهداف اجنبية. فالوقائع الحية تشير الى ان معظم هذه الانظمة لم يكن بإمكانها الاستمرار في الحكم طوال هذه السنوات من دون عون واسناد خارجي، بينما كانت هي تضرب بعرض الحائط كل القوانين والدساتير ومعايير الحكم الصالح ومواثيق حقوق الانسان الدولية التي انتجتها البشرية. وبالتالي فإن من استقوى بالقوى الخارجية ضد شعوبه طوال كل هذه السنين لا يمكنه الآن الادعاء بأن المطالبة بالاصلاح هو عزف على نغمات خارجية لمجرد أن الولايات المتحدة وجدت في لحظة ما ان حماية امنها القومي ضد الارهاب يتطلب تعزيز ونشر الديموقراطية في المنطقة.

وفي هذا الاطار يندرج ايضاً ما يطرح بشأن اشكالية الخصوصية الوطنية والبيئة المحلية ودعاوى التناقض بينها وبين مبادرات الاصلاح المطروحة على المنطقة وكأن التطوير والتحديث واقامة ديموقراطية حقيقية واحترام حقوق الانسان وكرامته وتوسيع فرص مشاركة المرأة والشباب وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة والقضاء على الفقر ومكافحة الفساد ليست قيماً عليا أصيلة للعرب ومطالب يرفعونها منذ اول مشاريع للنهضة طرحها مفكروهم قبل قرنين من الزمن. ان دعاوى المرحلية والتدرج وعدم حرق المراحل وعدم اختبار المجتمعات العربية لطرق الحداثة وغياب المشروع الليبرالي تستخدم ايضا ككوابح لعرقلة عمليات الاصلاح وكثيراً ما تطرح ابواق السلطة مبررات اخرى كعدم جاهزية المجتمعات العربية وافتقارها للوعي السياسي وعدم نضجها الثقافي لقبول مشاريع التطوير وكلها ليست إلا تبريرات فاسدة وادعاءات استخدمت ولا تزال لاطالة عمر الاستبداد.

مع ذلك ينبغي الاعتراف بأن المنطقة العربية تعاني وعلى المستوى الجماهيري من حالة استلاب مرضي فظيع يتمثل في حالات من اللامبالاة والقدرية والتشكيك والارتباك والتي هي نتاج خيبات الامل المتتالية بقدرات وارادات انظمتها على الاصلاح والتخلي عن النزعات الشمولية والاحتكار. ولطالما شاهدتُ بنفسي اثناء انتخابات جرت في بلدان عربية عديدة أناس يأنفون من الذهاب الى مراكز الاقتراع وهي على بعد بضعة امتار من بيوتهم للادلاء باصواتهم معللين مواقفهم تلك بعدم ثقتهم بنزاهة الانتخابات وبنتائجها التي يرون انها مقررة سلفا من قبل النظام. ان استعادة ثقة الناس بجدوى عملية الاصلاح هي أمر جوهري لكنها عملية لا يمكن ان تقوم بها الانظمة التي لا ترى لها مصلحة في ذلك، بل يتطلب الأمر تطوير واحياء ثقافة ديموقراطية جماهيرية كانت دوماً عاملاً حاسماً في نشأة الديموقراطية وتطورها وتماسكها. حقا ان الشعوب دائما ما تثور كالبراكين عند لحظات تاريخية معينة لكن موجات الديموقراطية تحتاج الى ما هو اكثر من الغضب،الى ثقافة وسلوك وقيم ديمقراطية بامكان مؤسسات وكتابات ان تغرزها في النفوس التواقة،والمجتمعات العربية هي الاكثر حاجة الآن وبشكل استثنائي الى الخروج من حالة الياس والاحباط وزجّها في صلب العملية الجارية.

هناك أيضاً قضية غياب النخب المهيأة لقيادة مطالب الاصلاح والتحديث والتي تعتبر من المستلزمات الاساسية لنجاح هذه العملية التي ينبغي ان تتمحور على مستوى شعبي وقاعدة جماهرية اجتماعية عريضة خارج اطارات الدولة الرسمية وأجهزتها السياسية التي ستحاول بكل قوة الالتفاف على مطالب التغير أو افراغها من محتواها وتسخيفها. لقد أضعفت سياسات الهيمنة والاقصاء والاحتكار التي مارستها انظمة الحزب الواحد وتدخلات اجهزتها الامنية والبيروقراطية الاحزاب والهيئات والنخب السياسية الاخرى وانهكتها حتى بدت في معظم الاحيان مهمشة ومهزوزة ومخترقة وفي صورة كاريكاتورية مقززة لا يمكنها ابداً الحصول على ثقة الناس بقدرتها على مواجهة السلطة وقيادة الحركة الاصلاحية. ان اولى خطوات الاصلاح ينبغي ان توجه الى رفع يد الدولة وكل اجهزتها عن الاحزاب وهيئات المجتمع المدني والكف عن الوصاية التي تمارسها عليها ومحاولات اختراقها باشكال مباشرة او غير مباشرة. ان عمليات توسيخ وتوحيل القيادات التي تتصدى لقيادة حركات الاصلاح، ومحاولات نزع الشرعية والاسناد الشعبي عنها، هي محاولات خطيرة لأنها لن تؤدي إلا الى تحول الحركة الاصلاحية الى الشارع الذي سيأخذ حينئذ المبادرة بيده وهناك مؤشرات عديدة على ذلك.

ما لذي يجعل الأمر مهماً بل خطيراً الى هذه الدرجة؟ انه الموقف الحساس والحرج الذي تمر به المنطقة العربية بعدما فشلت انظمتها في القيام بواجباتها في تلبية كل متطلبات الحياة الحرة والكريمة لشعوبها وآلت بها الى هذا التداعي والعجز امام التحديات الداخلية والخارجية. انها المخاوف والمخاطر التي تكمن وتتربص بالاوطان وتندس في كل ثناياها وفي ارواح شعوبها التي سوّدها القهر والعسف والطغيان. ومن المؤكد ان هناك خيارا للتغير والاصلاح غير خيارات صدام حسين أو قرار 1559 أو حتى مبادرة الشرق الاوسط الكبير. انه ببساطة خيار الخروج من دائرة التسلط والاحتكار والوصاية والتخلي عن الاعيب السلطة واتخاذ انصاف الخطوات. إنه خيار الانصياع لارادة الشعوب العربية ولتطلعاتها في أن تعيش مثلها مثل باقي شعوب العالم بحرية وكرامة ورفاه وسلام.

*الحياة 19-3-2005

            هل يمكن انقاذ العرب من انفسهم؟

حتى مع السعي الحثيث للبحث في كل ما نشر وسرب عن الجولة التي قامت بها وزير الخارجية الامريكية كوندليزا رايس وزميلها وزير الدفاع روبرت غيتس للمنطقة الاسبوع الماضي ومن ضمن ذلك القراءة المتأنية لما بين السطور في تصريحاتهما، فان المرء ليحار حقا في استجلاء الاهداف الحقيقية من تلك الجولة غير التقليدية والتي جاءت في ظروف في غاية الاستثنائية.واذا كان التعتيم الامريكي مفهوما باعتباره جزءا من الاستراتيجة التي يبدو ان الادارة الامريكية تخطط لكي تفاجئنا بها خلال الفترة القادمة، فان المؤسف حقا ان الاطراف العربية المعنية مارست هي ايضا الكثير من الاحابيل السياسية والاعلامية، اما لانها هي الاخرى كانت عاجزة على فك شفرة هذه الاستراتيجية، او بدوافع التضليل، التي عادة ما تلجأ اليها حين تحشرها السياسات الدولية في مسارات لا تجد لديها لا الشجاعة على رفضها، ولا على  تبرير قبولها بها.

غير ان الغموض الذي احاط بتفاصيل مباحثات رايس وغيتس ونتائجها لم يمنع الكثيرين من المحللين الملمين من الوصول الى استنتاجات عن الاهداف التي تناولتها المباحثات والتي بدت جميعها تصب في النهاية في صميم القضايا الملحة التي تواجها المنطقة والتي تسعى ادارة الرئيس بوش الى ان تمسك بخيوطها وتديرها وفق اجندتها الخاصة التي تحاول ان تفرضها على دول المنطقة ومجتمعاتها، دون اكتراث لا بوجهات نظرها، ولا بمصالحها الحقيقية وتطلعاتها.ان بعض هذه الاستنتاجات التي تم التوصل اليها من خلال القراءات المتأنية لجولة رايس/غيتس مرعبة في نتائجها مثل توجيه ضربة عسكرية الى ايران، او فرض الانسحاب من العراق كـأمر، واقع قبل انجاز الاستقرار السياسي والامني فيه، او الشروع بتأسيس كيان فلسطيني هزيل في الضفة الغربية دون تسوية نهائية منصفة للقضية الفلسطينية.والمؤسف حقا هو ان التعتيم الرسمي العربي حول تفاصيل النقاشات التي دارت خلال هذه الجولة والنتائج التي توصلت اليها يضفي المزيد من القلق حول قدرة ما يسمى بالنظام العربي على تجاوز، ربما اخر اختبار في صدقيته، بل لوجوده ذاته.

ان احدى السيناريوهات الممكنة وفقا لهذه القراءات هو ان الدعوة الامريكية للمؤتمر الدولي في الخريف القادم تهدف الى اقناع العرب والفلسطينيين بقبول قيام دولة فلسطينية وفق اعلان مبادئ مهلل ودون حل لقضايا المرحلة النهائية المعروفة كالحدود والقدس واللاجئين.ان مجرد الدعوة لهذه المؤتمر يمثل لغما خطيرا لم نعرف لحد الان كيف سيتعامل الطرف العربي معه، اذ بينما ستكون المشاركة فيه والقبول بالحل المطروح مقتلا للمبادرة العربية ومعادلة الارض مقابل السلام، التي شكلت اخر ورقة لعب فيها العرب على طاولة هذا الصراع المرير، فان عدم الذهاب اليه ربما يترك السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس امام اختيارت قاسية، تؤدي به بالنهاية الى قبول حل الدولة المهلهلة، بكل ما سينتج عن ذلك من تفكيك فلسطيني وتفكك عربي.وبالمقابل فان الجمود في عملية السلام في ظل العجز العربي، من جهة، وبقاء استيلاء حماس على غزة والتدخلات الاقليمية في الوضع الفلسطيني، من جهة ثانية، سيعني المزيد من التدهور والدفع نحو حروب اسرائيلية في الاراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا وفوضى على الحدود مع مصر والاردن.

 ويشكل المشهد العراقي تحديا اخر للمنظومة العربية التي تهاونت ايضا طيلة السنوات الاربع والنصف الماضية في لعب دور ايجابي في انهاء المأساة هناك، بل ربما ساهمت في صنعها بشكل او بأخر.لا ينبغي التعويل كثيرا على التصريحات والمواقف وحتى السجالات الامريكية بشأن العراق فالموقف على الارض يشي بصعوبة تحقيق اختراق قريب والسيناريو الممكن الان هو ان يتخلى الامريكان عن فكرة العمل على ابقاء عراق موحد ومستقر وعزو ذلك الى فشل العراقيين والتدخلات الاقليمية والاستعانة بالامم المتحدة في توفير استراتيجية خروج مشرفة.ان احدى الرسائل التي حملتها جولة رايس/غيتس هو ان على العالم العربي ان يستعد لمرحلة اخرى في العراق،مرحلة مفتوحة النهايات ،سيضطر فيها بعض جيران العراق من العرب الى التعامل مع حقائق جيبولتيكية جديدة، اخطرها عليهم هو بروز كيانات عراقية طائفية وقومية تطل باشعاعها، بل وامتداداتها، الى داخل دولهم ومجتمعاتهم، مع كل الاستقطابات التي ستخلقها في الاقليم المتوتر اساسا جراء صراعاته وازماته المستفحلة.

اما اكثر الاستنتاجات التي دارت حول الجولة فهي التي انصبت على احتمال توجيه ضربة عسكرية لايران في وقت ما خلال الاشهر القليلة القادمة قبل ان يغادر الرئيس بوش البيت الابيض والتساؤلات حول الانعكاسات الاقليمية المحتملة لذلك والمواقف العربية الحقيقية ازاء قرار امريكي بهذا الشأن.حقا ان بوش لا يبدو الان وكأنه قد وضع اصبعه على الزناد، ولكن الجولة وما سبقها من تصعيد لاتهامات امريكية للاجهزة الايرانية في التدخل في العراق، وما رافقها من ترويج لعمليات تسليح في المنطقة بحجة مواجهة الخطر الايراني، قد اشعلت التكهنات بالضربة الاستباقية سواء اجاءت امريكية ام اسرائيلية بحتة او اسرائيلية ولكن بموافقة ودعم امريكي.وعلى اساس هذا التحليل ومع احتمال توفر اجماع، او شبه اجماع امريكي على الضربة الاستباقية لايران بعد تحميلها وزر كل المشكلات التي تعاني منها امريكا في المنطقة، وبسبب انسداد افق حل المشكلة النووية الايرانية سلميا فان السؤال الاكثر الحاحا الان هو ليس فيما اذا كانت ضربة ايران قادمة ام لا بل ما هو التوقيت المحتمل لذلك.

هناك اذن متلازمة ثلاثية تواجهها المنطقة خلال المرحلة القريبة القادمة، وهي تسوية فلسطينية اسرائيلية جزئية دون غطاء عربي، انسحاب امريكي من العراق يخلف وراءه فراغا امنيا وسياسيا رهيبا، وحرب امريكية/اسرائيلية-ايرانية.ومن البديهي ان يكون السؤال عندئذ ما الذي يمتلكه العرب من خيارات للتعامل مع تلك الاحتمالات، وهل هم على استعداد للتعامل مع نتائجها؟من الواضح ان الجواب هو لا شيء اطلاقا، اذ ليس هناك اي مؤشر حقيقي على ان العرب يتعاملون مع هذه الاحتمالات بالجدية او الوعي اللازميين، وكأنهم مرة اخرى يمشون كالنيام، او المنومين، الى الحافة.انها اشبه بحالة انسلاب وخضوع ليست للقدر، كما يحصل في الميثولوجيا، بل للعجز والتنازل عن حق اتخاذ القرار الخاص بمصائر المنطقة وشعوبها.

طبعا هناك احتمال ايضا الا يحدث كل هذا وهو بدوره يطرح تساؤولات عن الرؤية العربية  لمرحلة ما بعد المبادرة العربية، عليهم خلالها التعامل مع واقع فلسطيني منقسم بين كيانين متشرذمين من داخلهما ومطوقين بعزلة وحصار اسرائيليين من الخارج ودون اي افق سياسي للتسوية.وفي العراق، وبغض النظر عن زمن الانسحاب الامريكي وحجمه، فالسؤال هو ما هي الاستراتجية العربية البديلة للتعامل مع عراق لم يزل يتشضى ويتفتت ويتحول الى قاعدة صراع اقليمي ضار وبرميل بارود طائفي في المنطقة.اما بالنسبة لايران فان الطريقة الوحيدة لتفادي المجابهة العسكرية هو صفقة تاريخية كبرى بينها وبين امريكا واسرائيل سترسم فيها موازين قوى ونفوذ جديدة في المنطقة، من نافل الكلام انها ستكون على حساب العرب ومصالحهم ومستقبلهم.وهنا ايضا لا يبدو ان للعرب بدائل واضحة غير التخبط والارتباك والترنح في ظل المبادرات الخارجية التي يعاد انتاجها باستمرار.

هكذا يبدو المشهد في العالم العربي اذن غداة جولة رايس/غيتس،قاتما وملبدا، حيث تواجه دوله ومجتمعاته اقسى الخيارات وامرها دون ادنى استعداد ذاتي او حتى حصانة لمواجهتها.والسؤال كما يبدو لم يعد كيف يستطيع العالم العربي مواجهة التحديات الخارجية، فتلك هي الاستجابة التي هي بديهة من بديهيات الحياة، والحاجة الى البقاء، لكن السؤال الاهم الان هو هل بالامكان انقاذ العالم العربي من نفسه ومن سياسات تدمير الذات المفجعة التي يتبعها.من المشكوك فيه ان يحظى هذا السؤال باجابة ايجابية ذلك ان اداء الانظمة وسياساتها ازاء الملفات الرئيسية لاتزال في منتهى السلبية كما انها تفتقد القدرة على المراجعة مثل افتقادها للقدرة على الاجماع او حتى التوافق.ان المعضلة الرئيسية الان هي ليست اخفاق الانظمة العربية في حل مشكلات مثل فلسطين والعراق ولبنان والملف النووي الايراني، بل في ايقاف زحف الانعكاسات السلبية لهذه الملفات على امن كياناتها واستقرارها السياسي والاجتماعي.

احدى اهم الاسئلة الغائبة وسط الفوضى الحالية هو سبب احجام العالم العربي عن فتح حوار مع ايران طالما هي القاسم المشترك في هذه المتلازمات خاصة وان الادارة الامريكية ذاتها منخرطة في حوار مع طهران بالاقل في ملف العراق، بينما ينوب عنها التحالف الغربي في حوار حول الملف النووي.ان بامكان المرء ان يحاج ان فتح حوار استراتيجي معمق مع ايران وتقديم مبادرات لها على اساس تبادل وتوازن المصالح هو اليوم اكثر الحاحا من تقديم مبادرات لا تلقى ترحيبا او حتى صدى في اسرائيل او واشنطن.ان حوارا جادا مع طهران من شأنه ليس فقط  زرع الثقة بين الطرفين والعمل على حل النزاعات الكبرى التي تواجهما، بل وايضا نزع الطابع المذهبي لاحتقانات اخرى في المنطقة ترقد تحت رماد تلك الازمات.اليس مفجعا حقا ان تنقلب الاولويات في منطقتنا رأسا على ذيل، وان ينتزع من ايدي ابنائها القدرة على حل مشكلاتها، وان يتركوا لضاربات الودع يستبصرون لهم اي من السيناريوهات الخارجية هي التي ستصبح واقعا.

* الحياة/

               الطائفية: تحدي المنطقة الجديد

ظهر أخيراً تعبير يدعو إلى وقف التدخل أو مد النفوذ الثقافي إلى العراق في وثيقتين عربيتين رسميتين، الاولى أصدرتها الجامعة العربية عبر بيان ختامي لاجتماع وزراء خارجية اللجنة العربية المعنية بالعراق، والثانية عبر بيان القمة الخليجية التي عقدت بالرياض أخيرا.

ولان المحفلين اللذين صدر عنهما البيانان لم يكونا مؤتمرين للأدباء والكتاب أو وزراء الثقافة العرب، بل مؤتمران سياسيان بالدرجة الاولى، فكان الامر لافتا ان يتم التحذير من مد النفوذ الثقافي، على رغم ان الاشارة كانت واضحة، وان المقصد كان جليا في المرتين، حيث استعيض عن تعبير النفوذ المذهبي الشيعي الايراني بالتعبير عن النفوذ الثقافي.

واذا كانت تطورات الاوضاع في العراق، والتي اصبح متفقا عليها، انها جزء من صراع يصطبغ بصبغة طائفية، شكلت الخلفية التي على اساسها جاء التحذير في البيانين، فان الوثيقتين الرسميتين صدرتا ايضا على خلفية تطورات اخرى في المنطقة لا تخلو بدورها من هذه الصبغة، سواء الصراعات في لبنان، او ازمة الملف النووي الايراني، والتي تشكل جميعها، اضافة الى ملفات اخرى، الخلفية التي جاءت على اساسها تحذيرات الوثيقتين من أبرز مؤسستين اقليميتين عربيتين، جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي

والواقع ان المشكلة الطائفية بمعناها الاوسع، اي شاملة ومتضمنة للصراعات بين كل الطوائف الدينية والاثنية والثقافية في المنطقة، هي مشكلة قديمة، حتى قبل ان يطلق عليها الدارسون في عصور قديمة تعبير الملل والنحل، الا انها بقيت مشكلة لسبب وحيد، هو رفض الجميع في هذه المنطقة على عكس مناطق اخرى في العالم، الاقرار بها والتعامل معها كحقيقة وواقع، والاستمرار في ذلك التبجح الساذج، بأن الأمر لا يعدو ان يكون من صنع الآخر المعادي والغريم والذي دائما ما يُتهم بخلقها وتأجيجها.

 ولم يقتصر الامر على التعالي على المشكلة ورميها في ملعب العدو والخصم، بل ظلت تزداد عمقا حين حولت الى تنميط من الادعاءات الزائفة، سواء ما تعلق منها بوحدة وتجانس الجماعة الوطنية والقومية، على مستوى الدولة والأمة والدين، او ربطها بعلاقات ومتغيرات خيالية وافتراضية لا اساس لها في الواقع، مما اضاع السبل في مواجهتها ومعالجتها بالحكمة والبصيرة المطلوبة.

ولذلك وعلى رغم قساوة وفظاعة الواقع العراقي المأسوي لا بد من الاقرار بأن الفضل يعود اليه في ابراز هذه المعضلة الازلية الى واجهة المشكلات التي تواجهها المنطقة، والتحديات التي تفرضها عليها، لعلها تنجح هذه المرة في ان تجد لها حلولا جذرية، مثلما استطاعت مناطق ودول وأمم اخرى في العالم حلها بطرق بارعة حققت فيها العدالة والاستقرار، قطبي المعادلة في اي حل للمشكلات الاثنية والطائفية. ان ابرز ما افرزه المثال العراقي هو سيولة الواقع الاجتماعي والسياسي في هذه المنطقة، مثلما هو في دولها، وفي خصائص الجماعات التي تشكل شعوبها وفي الاطار الاخلاقي والمعرفي والمرجعي الذي يشكل علاقات الذات مع الآخر، على مستوى الفرد والجماعة، بل في دونية ووحشية المعايير المتوفرة للتعامل مع المعضلة ومواجهة حلها.

فحتى في العراق الذي طالما دُمغ تاريخه الممتد عبر خمسة آلاف عام بالعنف والدم والقسوة، لم يكن احد يتوقع ان ينفجر فيه هذا الصراع الوحشي، الذي لم يعد بالامكان وصفه الا بالطائفي المبني على عصبيات مذهبية تاريخية، مهما حاولت الجماعات المتناحرة ان تؤوله سياسيا. فالحقيقة المرة هي ان ما كان يؤمل ان يتحول الى عملية اعادة بناء الدولة والمجتمع المدمرين نتيجة الحرب والغزو الخارجي، من خلال مشاركة وطنية، تحول الى صراع من اجل الذات والجماعة العصبوية، افرز ما في نفوس العراقيين من كراهية وعدوان مكبوت والذي عمق بدوره الانقسام الوطني، بدلا من ان يحل المأزق الوطني المتمثل في تدمير الدولة والمجتمع، حلا واقعيا ومنصفا. وما يعنيه كل ذلك هو ليس فقط فتح جروح الماضي وتقييم التجربة التي مرت تقويما سلبيا، بل الحكم كذلك على المستقبل باستحالة العيش المشترك.

ومع ذلك فنحن نعرف الآن ان سبب المأساة الطائفية التي يمر بها العراق ليس الخلاف على من هي الطائفة المنصورة وفقا للرواية، بل هو الصراع الازلي بين بني البشر على السلطة والثروة، الذي طالما شكل جوهر النزاعات بين الجماعات الوطنية ولا يزال. ومرد ذلك كما نعرف ايضا هو الفشل الذي زامن تأسيس الدولة العراقية الحديثة، مثل باقي دول المنطقة، في ان تكون دولة مدنية لكل مواطنيها تحقق لهم العدالة والانصاف، لا دولة الاقلية التي تزرع بذور التسلط والاحتكار والتهميش وترسخ كل معاني القلق والارتياب والتمييز والتعصب. فما يحصل الآن هو نتيجة حتمية لذلك الاخفاق في بناء دولة مواطنين والذي انتج بالتالي ثقافة تتغذى على الاحباط والكبت وتقف دوما على خط التماس الطائفي وتنتظر لحظة الانفجار العصابي.

غير ان صراعات الهوية اللعينة تطلق حراكا بل تحمل، كما هو شأنها دائما في التاريخ الانساني، ابعادا ومضامين ايديولوجية وفكرية وسياسية قد تتجاوز نطاقها العصبوي الضيق الى نطاق اوسع تتشابك فيه الهويات وتتقاطع المصالح مما ينذر بتحولها، وخاصة في اقليم هش، مثل المنطقة العربية، من تباين او حتى تنافس ثقافي وسياسي وفكري، او حتى مذهبي، الى صراع جيوبوليتيكي، مثلما يحاول البعض تصوير البروز السياسي للشيعة في العراق وفي المنطقة منذ سقوط نظام صدام حسين.

وهكذا ففي الوقت الذي يخلق الصراع الطائفي في النهاية آليات استنزاف ذاته، من خلال الحسم، او التوصل الى توازنات او قواسم مشتركة، فان المخاطر تزداد حين يراد اعتبار فكرة ان اي شكل من اشكال التغيير السياسي الذي يقوي مركز جماعة معينة في دولة ما، سوف يؤثر بالضرورة على الدول المجاورة التي تتشارك في الجماعات نفسها، سواء اكان ذلك التغيير طائفيا في طبعه، ام لم يكن كذلك.

 ولعل ابرز مثال على هذا هو المخاوف التي تثار عن الصعود الشيعي في المنطقة، من احتمالات تذهب الى حد قول البعض، ليس من الغلاة فقط، بل من النخب السياسية والفكرية، ببزوغ التحالف الشيعي الايراني الاميركي الصهيوني في المنطقة.

اذ بينما تحمل صراعات المنطقة التقليدية، التي اطرافها العرب وايران واسرائيل والتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ابعادا جيوبوليتيكية، فان الصراع المذهبي الشيعي السني في العراق والمخاوف منه، لا تحمل مثل هذه الابعاد، ولا ينبغي الدفع بها لان تكون كذلك، من خلال تلك المقولة الخرقاء. هناك تصورات في المنطقة يغذيها القلق والخوف من استعراضات القوة الايرانية، او حتى نيات الهيمنة، كما يدفع بها مع الاسف البعض من المتعصبين والمتطرفين، في الربط بين الحراك الشيعي في المنطقة وايران، وهي تصورات تفتقد الى الاثباتات الحقيقية وتقوم على الكثير من المبالغات والاوهام.

 وعلى هذا الاساس فان المطلوب اعادة نظر جذرية في السياسات التقليدية التي ورثتها الدول العربية من السلطنة العثمانية وغذتها النزعات الشوفينية والطائفية لبعض الحركات والتي تسعى بشكل تعسفي لاثبات علاقة ارتباطية بين الشيعة العرب والسياسات الايرانية المعبرة بالضرورة عن المصالح القومية للدولة الايرانية وليس عن مصالح الشيعة في اي مكان.

هناك ضرورة للنقاش الجدي والموضوعي والصريح عن هذه القضية التي لم يعد يقتصر الحديث عنها لمزا او تلميحا، بل انتقلت الى المحافل السياسية العليا التي اصبح البعض يرى فيها دومينو شيعياً كان العراق اول حجر يقع فيه. فالعويل الطائفي يجب ان لا يحجب الرؤية عن حقائق المنطقة التاريخية وعن منابعها ومكوناتها الثقافية والفكرية والتي صمدت في كل اوجه التحديات خلال المئات من القرون واعطت للعالم مثالا مشرقا على قدرة حضاراتها ان تنصهر في بوتقة واحدة وتحافظ على تعدديتها الدينية والمذهبية والاثنية في وقت واحد.

هناك ضرورة اكبر للإقرار بأن جوهر المشكلة سياسي، وتتمثل اساسا في ازمة الحكم العضال، هي نابعة عن الحاجة للديموقراطية وتعميق المشاركة الشعبية وتحقيق العدالة والمساواة في توزيع الثروة الوطنية وتقليص الفجوة بين الجماعات الحاكمة والمحكومة. اما النفخ في البوق الطائفي فلن يكون الا محاولة جديدة للهروب الى امام من مستحقات حقبة جديدة، على المنطقة ان تواجهها بصبر وحكمة وشجاعة وباعادة تقييم جذري لاوضاعها.

ان جزءاً لا بأس به من المأساة الطائفية في العراق اليوم يعود الى الرسائل الخطأ والتحريض والدعم الذي أتى من الخارج، فالعراق ربما لم يكن واحة للتعايش المشترك لكنه ظل عبر تاريخه قادرا على ترسيخ قاعدة للتعددية المذهبية والاثنية تجاوزت بكثير قدرات الكثير من جيرانه الذين يمتازون ايضا بذلك القدر من التنوع. ان تقييما موضوعيا لحصيلة الفترة الماضية لا بد ان ينبني اولا: على حقيقة ان اعادة عقرب الساعة في العراق الى ما كانت عليه هي من الامور المستحيلة،
وثانيا: على ضرورة مساعدة العراقيين على بناء دولة مواطنة تقوم على اساس لعدالة والانصاف والمشاركة والتعددية، وثالثا: على محاولة حل الازمات الطائفية والعرقية الكامنة في المجتمعات العربية حلا ديموقراطيا حضاريا، ورابعا: على تفكيك ازمات المنطقة وعدم الربط القسري بين ما هو مأزق داخلي بنيوي وبين التحديات والتهديدات الخارجية التي بامكانها ان تستغل المأزق لكنها قد لا تكون وراءه.

ما الذي علينا ان نفعله في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها المنطقة؟ هناك طرق عديدة من بينها النفخ في الطائفية، كما يفعل البعض بطريقة عصابية لامسؤولة، وهناك من يظهر استياءه بطريقة تضعه في خانة طائفية حتى ولو لم يقصد، وهناك ايضا من يحاول بسلبية او استعلاء، تجاهل المشكلة او رميها في ملعب القوى الخارجية.

من الواضح اننا لا نعلم، بالأقل هذا ما تدل عليه الاحداث، كما لا نمتلك لا على المستوى السياسي ولا الفكري تصورات عن حل قضايا التنوع والتعدد في مجتمعاتنا والتي هي حقا بمثابة برميل البارود، الذي لا بد ان ينفجر مثلما انفجر في العراق، اذا بقيت من دون حلول قضية التوزيع العادل للسلطة والثروة، التي هي لب المشكلة وجوهرها الحقيقي.

*الحياة/  4-1-2007

              مأزق «حزب الله» ومأزق المنطقة


تدور رحى حرب الشرق الأوسط الجديدة على جبهتها العربية تحت راية «حزب الله»، وفي ذلك دلالات أكثر من رمزية، الحرب الأولى دارت تحت رايات الأنظمة العربية والحربان اللتان تلتاها دارتا تحت راية القومية العربية بطبعتيها الناصرية والبعثية، ثم دارت حرب أخرى تحت راية ياسر عرفات التي اصطفت وراءها التيارات التي أفرزتها مرحلة انكسار المشروع القومي.


أما هذه الحرب فقد كان طبيعيا، في زمن المد الأصولي، أن تخاض تحت راية «حزب الله»، مما يطرح سؤالا عما إذا كانت دائرة الصراع الآن قد استكملت دورتها حول كل الرايات السياسية والعقائدية المرفوعة في عالمنا العربي منذ أكثر من ستين عاما، مما يفتح باب التكهنات واسعا ليس حول مستقبل هذا الصراع القاسي والمرير فقط، بل عن مستقبل المنطقة برمتها، في ما إذا أثبت واقعها المزري أنه أكثر حضورا من التوقعات، من نوع اعتبار «حزب الله»، أنه يخوض «آخر حروب إسرائيل»، والمعنى هنا واضح.


تتطلب الإجابة عن هذا السؤال ومحاولة استكشاف التوقعات الناتجة عن هذه الحرب العودة إلى شيء من تاريخ الصراع، خصوصاً ذلك الجزء الذي عايشته الأجيال العربية الحالية، وبالخصوص تلك التي تمتلك القدرة على أن تنظر إليه الآن متجردة من الافتتنان المفرط في أساطيره ومن عادة التحديق النرجسي في الصورة القومية، وكذلك من خلال الرغبة في التعلم من تجارب الماضي الأليمة بهدف إعادة اكتشاف الذات، على اعتبار أن القراءة النقدية للتاريخ هي من الضروريات الأساسية للخروج من نفق التراجيديا الكبرى الذي دخلت فيه المنطقة منذ أكثر من ستين عاماً. فالمشكلة الحقيقية في ما يحدث الآن هي أن التاريخ يعيد نفسه، كما ظل يفعل منذ ذلك الحين، بينما يغيب النقاش الجوهري باسم الضرورات المختلفة، وكأن تاريخ الصراع الطويل هو مجرد قصة من قصص النوم التي تروى للأطفال، وليس وعاء للذاكرة القومية وعملية تعلم ضرورية، يتحمل المنخرطون فيها مسؤوليتهم تجاه الحاضر والمستقبل.

لا يجادل أحد أن العرب منذ عام 1948 هم ضحايا أكبر عملية افتئات جرت في التاريخ البشري الحديث، وأن إسرائيل – مهما حاول المرء أن يزين هذه الحقيقة بدعاوى أخرى – تصرفت منذ ذلك الحين بأسلوب المنتصر، الذي يحاول أن يقهر ضحيته ويسحق كل محاولة لديها للنهوض والتحدي. غير أن الحقيقة هي أيضا أن الكارثة التي حلت على العرب يومئذ، والمستمرة لحد الآن، كانت نتيجة سلسلة من الإخفاقات والعجز والتخبط والسياسات العشوائية والتناحر وكذلك التبريرات التي تحاول أن تعفي العرب من أية مسؤولية وتلقي بتبعات هزيمتهم التاريخية على عدوهم.
ملخص القراءة المتفحصة لتاريخ الصراع منذ فوزي القاوقجي وعزالدين القسام وأمين الحسيني مروراً بنوري السعيد والملك عبدالله الاول والملك فاروق وجمال عبدالناصر وأنور السادات وصدام حسين، حتى خالد مشعل وحسن نصرالله وسائر قادة المواجهة الحاضرة، هو افتقاد العرب لرؤية واستراتيجية موحدة، الأمر الذي يعني أنهم بغض النظر عن الرواية المتداولة، لم يكونوا يحاربون إسرائيل على جبهات مختلفة، بل ومتناقضة، فقط، بل كانوا فعليا يحاربون بعضهم بعضاً.

فالحقيقة المرة أنه ومنذ الحرب الأولى والأنظمة والجماعات العربية، كانت تخوض الحروب مع إسرائيل، أو تدفع نحوها، باسم الأهداف القومية الكبرى، إلا أن الوقائع التاريخية تشير، بعد أن يجري تمحيصها وإزالة الشوائب عنها، إلى أن هذه الأنظمة والحركات كانت غالبا مدفوعة في مسعاها ذلك بمصالح خاصة وغايات قطرية أو ذاتية ضيقة، والأمر كان دائما يتعلق بالبحث عن أو ترسيخ شرعية مفقودة أو مهزوزة أو تعزيز أدوار تخبو ويعفو عليها الزمن. هذا ما حصل في الحروب الخمس الأولى على رغم كل الشعارات القومية التي غلفت الخطابات الرسمية والنخبوية السائدة يومها، والتي أنتجت بعدها سلسلة من الانقلابات العسكرية والسياسية، جاءت بالأنظمة المتتالية التي جاهدت كي تحافظ على التوازن بين متطلبات الكفاح المشترك ضد العدو الواحد، اسميا، وبين حاجات ومتطلبات البقاء، عمليا.

بعمليته التي أطلقت شرارة الحرب فإن «حزب الله» جاء يحاول القضاء على الحالة الراهنة أو كما قال قادته تدمير قواعد اللعبة التي بنيت خلال ستين عاماً من إدارة الصراع مع إسرائيل. فالحزب، من وجهة النظر هذه، هو مجرد حركة سياسية تسعى للحفاظ على شرعية ودور اكتسبته في مرحلة غابت فيها الدولة اللبنانية عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك مقبولا ما دام الأمر لا يتناقض مع الشرعية التي اكتسبها النظام الرسمي العربي ولا يتحدى أسلوب إدارته للصراع. إلا أن إطلاق «حزب الله» لهذه الحرب السادسة كان أكثر من محاولة لاختبار قدرة النظام العربي على التورط في حرب جديدة لم يكن مستعدا لها، بل اعتبر ما قام به مسعى لاختطاف قرار دولة عضو في هذا النظام، مما اعتبر محاولة تدمير نهائي للمنجز التاريخي الأكبر لهذا النظام.

غير أن الأمر لم يقتصر على هذا فحسب، بل إن عملية «حزب الله» هددت بتدمير النظام العربي نفسه من خلال ثلاث قضايا أساسية ارتبطت بما قام به، وهي:

1- اعتبار الحرب التي شنها حربا بالوكالة نيابة عن أطراف بعضها غير عربي، وربما تحمل أجندات مغايرة أو حتى معادية للنظام العربي. 2- أنه حزب أصولي سيسمح انتصاره في هذه الحرب بيقظة أصولية تهدف أساسا الى تحطيم هذا النظام. 3- الحزب حركة شيعية قريبة من ايران وسيخلخل انتصاره، بأي شكل من الأشكال، حالة التوازن الهشة القائمة في المنطقة وينمي جملة الهواجس والمخاوف المذهبية الناتجة أساسا عن تجليات الوضع في العراق.

من هنا يأتي هذا الأحساس بأن «حزب الله» أساء في تقديراته التي قام على أساسها بتأجيج الحرب الأخيرة من دون تحليل صائب للوضع اللبناني والاقليمي والدولي الذي يقوم على حسابات سياسية واستراتيجية أعقد كثيرا من حسابات البازار وعقلية الدكاكين والثنائيات المبسطة. لم يكدر «حزب الله» الوضع الراهن ولا حاول توريط العرب بحرب جديدة فقط، بل كان خطؤه الأكبر أنه وضع العالم العربي الذي يمر بمرحلة قلقة أمام تحديات ناتجة هذه المرة عن موقف صعب يتعلق باعتبارات مذهبية ذات طبيعة جيوسياسية تمس توازنات إقليمية فائقة الحساسية. ومن الطبيعي أن تكون هناك إرادة في الصمود والمقاومة والكفاح من أجل الحقوق طالما هناك إحساس شديد بالظلم الناتج عن الاحتلال الغاشم وقهره، ومن المؤكد كذلك أن النظام العربي أثبت فشلا ذريعا في مواجهة التحدي الاسرائيلي، لكن التخبط والخطوات الأحادية وانعدام الجدية في التعامل مع الواقع وخلط الأمور تؤدي إلى المزيد من التشوهات في القضية وتعقد طرق حلها.

 لقد كشفت كل حرب عربية – إسرائيلية منذ عام 1948 عن علل الأنظمة العربية الكثيرة التي كانت وراء إخفاقاتها وهزائمها، بل إنها كشفت أيضا عن العيوب التي تمتاز بها الشعوب العربية وعلى رأسها الضعف والاتكالية والاستسلام أمام الأمر الواقع، والتي جعلت من هزائمهم معا شمولية عميقة الأثر. غير أن ما يميز الحرب الجديدة هو أنها سلطت الأضواء على واحدة من أخطر العلل التي يعاني منها الجسد العربي، وهي الانقسامات المذهبية التي ظلت بعيدة عن مجرى الصراع مع إسرائيل حتى أطلت برأسها الآن بسبب التفاعلات في المنطقة الناتجة عما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بنمو النفوذ الشيعي نتيجة تطورات الحرب في العراق.

هناك أسئلة جوهرية لا بد من طرحها ضمن إطار تحليلي لمستقبل المنطقة والتحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها إذا نجح «حزب الله» فعلاً في تغيير قواعد اللعبة فيها. ما هي القواعد الجديدة التي ينوي «حزب الله» فرضها وهل يسعى ان يكون هو فيها لاعباً رئيسياً وبالطريقة نفسها التي يدير بها قواعد لعبته في لبنان، أي اختطاف قرار الدولة، والانفراد باتخاذ القرار الاستراتيجي، والهيمنة على باقي القوى السياسية في البلاد؟ ما هو مستقبل علاقة «حزب الله» الاستراتيجية مع إيران في الوقت الذي ترى فيه بعض الدول العربية أن إيران التي تسعى لاستخدام أزمتها النووية مع الغرب لتعزيز موقعها الإقليمي تشكل أيضا تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي؟


لقد كان على «حزب الله» أن يدرك الإشارات العديدة التي أطلقها قادة في المنطقة منذ الحرب الأميركية على العراق عام 2003 حول الدور الشيعي المتصاعد والمخاوف من تنامي العلاقات بين الشيعة العرب وإيران وفي ظل الطموحات الإيرانية المتصاعدة في المنطقة. كان عليه ان يدرك أيضا أنه في ظل الدعوات المتجددة لبناء شرق أوسط جديد فان لبنان بتجربته التاريخية، ورغم عثراتها، لا يزال يقدم نموذجا جيدا للتعايش بين المذاهب والطوائف والأديان، وهي تجربة لا ينبغي تدميرها بل صقلها وتنميتها لكي تقدم لباقي دول المنطقة. لقد كان على «حزب الله» أن يدرك كذلك أن العمل، في هذه المرحلة البالغة الخطورة، على إعادة تأصيل التشيع العربي، كعنصر تاريخي وروحي وثقافي أساسي في المنطقة هو أهم بكثير من تحقيق أهداف جزئية في مجرى الصراع الجاري في المنطقة وعليها.

ها هو تاريخ المنطقة إذن يعيد نفسه، ولكنه يعيده، كما في كل مرة، تراجيديا، وبغض النظر عن الرايات التي تخفق فوقها. قد يكون «حزب الله» في مأزق، نتيجة رد الفعل غير المتوقع لإسرائيل، كما أقر قادته، ولكن المنطقة كلها في مأزق دائم. هل هناك ديناميكية خفية، كما كان يسأل إدوارد سعيد، نقوم من خلالها بتكرار أخطائنا وكوارثنا من دون أن نتعلم من ماضينا أو حتى نتذكره؟ لقد انتجت حرب الـ1948 خريطة جديدة للمنطقة، وها هي حرب الـ2006 تبشر بشرق أوسط جديد. إننا دائما، حسب سعيد، عند نقطة البداية نبحث عن حل «الآن»، حتى لو كان هذا «الآن» يحمل كل علامات ضعفنا التاريخي ومعاناتنا الإنسانية.

*الحياة/14/08/2006

         عن السلام ومن يصنعه ومن يحميه 

من مساوئ الجدل المشحون بالعواطف والانفعالات، وهو النمط السائد في المشهد السياسي والفكري العربي، انه غالباً ما يحوّل النقاش في شأن مسألة ما مهما كانت أهميتها، الى مجرد عراك ديكة ينهش فيه المتحاورون بعضهم بعضا. بل إنه في حومة الغبار الذي يثيره مثل هذا النوع من المبارزة اللفظية يحجب الكثير من الحقائق أو سبل الوصول اليها من خلال الحوار الموضوعي الهادف بغض النظر عن أين يقف المتحاورون من القضية المطروحة للنقاش. وليس أدل على هذه الحقيقة من موضوعة اعلان كوبنهاغن وما تمخض عنه من ولادة جماعة عربية سميت “حركة القاهرة للسلام” هدفها كما هو معلن هو التوجه مع رديفتها الاسرائيلية الى الرأي العام العربي والاسرائيلي وتحفيزهما لدعم عملية السلام في المنطقة، في ظل التعثر الذي تواجهه ومن منطلق أن العملية هي أهم وأكبر من أن تترك للسياسيين وحدهم لإدارتها.

فمنذ كانون الثاني يناير 1997، وهو تاريخ التوقيع على الاعلان من جانب شخصيات عربية واسرائيلية غير رسمية في العاصمة الدنماركية، والجدل مستعر في العواصم العربية بين دعاة الاعلان ومريدي الحركة التي تمخض عنها من جهة، وبين خصومهم من جهة أخرى، وحتى أنه تجاوز صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون ووصل أو كاد يصل الى ساحات المحاكم. فالمدافعون عن “التحالف العربي- الاسرائيلي من أجل السلام”، وهو أحد الاسماء العديدة للتحرك، يشددون على أنه مجرد حركة شعبية لا تمتلك صفة رسمية أو تفاوضية، هدفها الاساسي هو دعم المفاوض العربي في العملية الجارية والتعبير عن الإسناد لحركة السلام الاسرائيلية التي تقوم بدور مشابه في مواجهة المواقف المتشددة لليمين المتطرف في اسرائيل. وفي شكل عام، فإن هدفهم هو العمل على بلورة رأي عام ينسجم في توجهاته مع استراتيجية السلام التي اختارتها الحكومات العربية. أما الطرف الآخر فظل يرى في الحركة مجرد حفنة من المثقفين الذين يروجون للتطبيع خدمة لأهداف اسرائيلية وبالغ في نقده لهم حين حذّر من أن استمرار ذلك النهج سيؤدي الى حرب أهلية داخل المجتمعات العربية.

ولفترة ما ساد الاعتقاد بأن الأمور ستهدأ وتنتهي الى تلك الحدود من الجدل بين معسكرين من المثقفين، كلٌ يتخندق وراء موقفه ومصطلحاته وشعاراته، خصوصا في ظل تدهور عملية السلام ذاتها ووصولها الى حافة الانهيار. حتى جاء تأسيس “حركة القاهرة للسلام” والاجتماع المشترك الذي عقدته مع نظيرتها الاسرائيلية في شهر حزيران يونيو الماضي وما تمخض عنه من بيان مشترك أفصح عن نية التحالف وبخاصة طرفه العربي في ولوج مرحلة العمل الفعلي لتنفيذ ما عزموا عليه من أهداف التحالف.

هذا الإصرار العنيد، على رغم المواجهة الضارية من تيار رفض التطبيع، على الانتقال من مرحلة الاعلان عن المشروع الى آلية الفعل، بل الى التطلع الى مرحلة الشراكة في التفاوض، كما عبرت عن ذلك النقاط السبع التي جاء بها البيان المشترك الصادر عن اجتماع القاهرة، يكشف، من بين حقائق عدة، الكثير عن موازين القوى السائدة على الساحة العربية غير الرسمية والامكانات المتاحة أمام التيارات والاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة في بلورة مواقفها أمام الرأي العام العربي واكتساب دعمه وتأييده وبالتالي الادعاء بمشروعية تمثيله. إن مثل هذا الاندفاع يجد تفسيره في المقولة التي بدأ مريدو التحالف في ترويجها اخيرا وهي أن معارضيهم عاجزون ويقفون على رصيف الأحداث. ما يعني، حسب استنتاجهم هذا أنهم بالمقابل يتفوقون عليهم لأنهم يقفون في الصميم منها، إن لم يكونوا من صناعها.

إن الفكرة الجوهرية هنا، كما تعبّر عنها هذه المقولة، هو أن دعاة “التحالف من أجل السلام” يعتقدون الآن أنهم كسبوا الرهان، مستندين في ذلك، على ان موقفهم يرتكز الى المعطيات الجديدة التي خلقتها عملية السلام، وهي عملية من وجهة نظرهم سائرة في طريقها وغير قابلة للارتداد رغم العراقيل التي تواجهها في المرحلة الحالية. أما خصومهم في المعسكر المضاد، فهم، استناداً إلى وجهة النظر هذه، لم يخسروا الرهان فقط بل إنهم أصبحوا خارج حركة التاريخ. ومن المؤكد ان التيار الرافض، وبمختلف أجنحته العقلانية والمتزمتة والعاطفية، يرى في مثل هذا الزعم الكثير من التبجح والاستعلاء، ليس على المعارضين فقط، وانما على المعطيات نفسها التي يجادل المريدون بها.

لقد كان من الواضح منذ البداية أن انشاء حركة سلام عربية بالمفهوم الذي قام عليه “تحالف كوبنهاغن”، ليس بالأمر اليسير، ليس بسبب خاصية النزاع العربي- الاسرائيلي وتاريخه وتعثر العملية السلمية الجارية وأيضاً تصورات كل طرف المستقبلية عن حلّه، وهي كلها عوامل شديدة الوطأة على ذهنية طرفي الصراع والاستعداد النفسي لديهما، بل أيضاً لسبب آخر يتعلق بالطريقة التي أعلنت فيها الحركة عن نفسها والتي تميزت، أولا بظهورها كحركة نخبوية من غير أية امتدادات شعبية على رغم ان “اعلان كوبنهاغن” يشير صراحة الى أن موقعيه “يعكسون ارادة غالبية شعوب المنطقة”.

وثانياً، هو ظهور الحركة من خلال خطابها السياسي والفكري وأسلوب عملها في شكل تبدو فيه لصيقة بالاتجاهات الرسمية للانظمة والحكومات ومعبرة عن تكتيكاتها التفاوضية ما أثار شكوكها في امكان تعبيرها عن الارادة الشعبية التي هي فعلاً تواقة ليس للسلام العادل فقط وانما الى أن تلعب دوراً فاعلاً في تحقيقه.

وثالثاً، فقد ولدت الحركة ونشطت فيما تعاني الجبهة العربية، كعادتها دائماً، من انقسام وتمزق واضحين أمام الخيارات المطروحة عليها إسرائيلياً، الأمر الذي زاد في شكوك المعارضين لها وقلّب المواجع من جديد، ولكن هذه المرة ليس بين الانظمة ذاتها بل بين محازبيها وأنصارها، ولعله أيضاً بين تيارات جادة في الرأي العام العربي تتعامل مع موضوعة السلام كقضية مصير ومستقبل.

الملاحظ انه في حومة الاتهامات والاتهامات المضادة وما بينهما من تبجح من طرف وركون الطرف الآخر الى اللغة القديمة التي تقتصر على التعبير عن الابيض والاسود ضاعت، كشأنها دائما، فرص كثيرة كان في إمكانها أن تلعب دوراً حيوياً في بلورة نقاش مفيد، والأهم من ذلك، رأي عام عربي جاد وناضج ومسؤول ازاء واقع ومستقبل الصراع العربي- الاسرائيلي، الذي يتفق الجميع على انه “أم التحديات” التي تواجه المنطقة وشعوبها. ومن هنا كان التساؤل دائماً: هل يكفي القول، كما يجادل دعاة الحوار، بأن حركتهم هي امتداد طبيعي لمعطيات الواقع ولقبول الانظمة العربية بخيار السلام الاستراتيجي، أو كما يفعل الطرف الآخر حين يحاول احتكار الحقيقة بالضد من منطق الحياة والأشياء. وكل ذلك من دون اكتراث من الطرفين لدور الشعوب ورأيها في العملية الجارية الذي يجري استلابه وادعاء تمثيله تماماً كما تفعل الأنظمة.

إن القول بأن هناك رغبة ومصلحة في السلام للعرب مثلما هو للاسرائيليين، هو قول صائب تماما. ولكن هل إن بالدفع بهذه المعادلة وحدها يمكن بناء الحجة لإقناع الرأي العام العربي المتردد والمشكك بجدوى السلام المطروح عليه؟ فالسؤال سيظل لدى العرب مثلما هو لدى الاسرائيليين- أي نوع من السلام؟

الواقع الحالي يشير الى ان الاسرائيليين مخضوضون، ذلك أن لديهم الكثير من الفرص في تقرير نوع السلام الذي يريدون من حكومتهم أن تنجزه ووفقاً للثمن الذي هم على استعداد لدفعه. ولا أحد يستطيع أن يجادل في أن هذا أمر جوهري لا يتعلق فقط بمبدأ ديموقراطية الحكم واتخاذ القرار بل بمبدأ بسيط يتعلق بصلب العملية وهو ان السلام لكي يكون مقبولاً لا بد أن يكون معقولاً وعادلاً وعندما يكون كذلك يكون الشعب، أي شعب، مستعداً ليس للقبول به بل الدفاع عنه وحمايته. ذلك لأنه خياره وقراره.

إن هذه المقاربة بين وضع الرأي العام العربي المهمّش والرأي العام الاسرائيلي الفاعل في تقرير نتيجة عملية واحدة تكشف عن مفارقة هائلة تستدعي من دعاة السلام العرب أن يتنبهوا لها في خطابهم لها من دون تعالٍ واستنكاف. والقدر نفسه من الانتباه مطلوب من الطرف الآخر الذي يتحتم عليه في هذه الاوقات الحاسمة ان يتخلـى عن الإفراط في التظاهر والمصادرة وأن ينخرط في عملية الحوار باعتبارها جزءاً من الصراع الأكبر لا ضد شرور العالم وأخطائه فقط بل ضد أخطائنا والشرور التي نبتت بيننا ايضاً.

إن عملية صنع السلام، أو رفضها أو الاحتجاج على شروطها – ولا ينبغي لنا إلا أن نستعين بالتجربة الاسرائيلية ثانيةً ودائما طالما هي المعادل المقابل في العملية – لا يمكن صنعها من خلال البيانات المشتركة والتظاهرات، مهما كانت القوة الادبية والسياسية للذين يقفون وراءها. بل هي تتم وفق معادلة شديدة الارتباط بمفهوم موازين القوى والتشابك القائم في المصالح والتطلعات بين الدول والشعوب. ومن الواضح أن هناك إقراراً لم يتزعزع منذ إنشاء دولة اسرائيل حتى اليوم بأن الرأي العام الاسرائيلي، بما يمثله من احزاب وهيئات، يشكل جزءاً مهماً من “ميكانيزم” القوة في المجتمع الاسرائيلي، وبالتالي في دعم التوازن الذي تشكله القوة المادية التي تملي شروط السلام. ولعل خير مثال على فاعلية الرأي العام الاسرائيلي، بمختلف اتجاهاته الشديدة التباين، في مجرى العملية السلمية هو ما نعرفه جميعاً عن مدى تأثيره في إلهام الاحزاب السياسية في صوغ برامجها الانتخابية ومواكبتها في تنفيذها، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة. كما لم يعد سراً انه في كل المفاوضات التي جرت منذ كامب ديفيد وحتى الآن، كان “بارومتر” القبول والرفض لدى الجانب الاسرائيلي هو قبول ورفض الاغلبية، سواء كان ذلك في الكنيست او في الشارع المعبِّر عن رأيه بمختلف الطرق والوسائل. واليوم يلمِّح رئيس الوزراء الاسرائيلي الى احتمال الدعوة الى استفتاء عام حول أي اتفاق جديد ينوي التوصل اليه مع الفلسطينيين، وهذا إذا ما تحقق سيكون قمة الانصياع لإرادة الرأي العام، بغض النظر عن رأينا فيه.

ومن الصعب ألا تثير كل هذه المشاركة الفاعلة من جانب الرأي العام الاسرائيلي في صنع عملية السلام الاسئلة الكثيرة عن الدور المقابل الذي يمكن ان يلعبه الرأي العام العربي في سياق عملية واحدة يُراد لها ان تحقق اهداف وطموحات الاثنين. حقاً لا أحد في إمكانه أن يشكك أو يتجاهل ضرورة وجود مبادرة على مستوى تنظيمات المجتمع المدني تُبدي رأياً مفيداً في عملية صنع السلام اذ ان هذا ما هو متوقع من المجتمعات الحرة التي تقرر مصيرها بنفسها في مناخ من الديموقراطية وحقوق المواطنة. لكن هل يكفي ان يكون للبعض تحت مختلف الذرائع الصوت المدوي في التعبير عن ما يرونه من إرادة وتطلعات هذه المجتمعات، فيما يغيب صوت الاغلبية وينزوي في ظل انعدام المشاركة سواء في العملية الجارية أو في مجمل الممارسة الديموقراطية الغائبة؟ تقول التجربة التاريخية إن الشعوب الحرة التي تمتلك قرارها بيدها هي وحدها القادرة على صنع السلام وحمايته وجعله عملية لا رجعة فيها، وليس المعاهدات أو التحالفات. وإذا كان مثل هذا الاستنتاج، بكل تبعاته لا يزال بعيداً عن اليقين بقدر ما يتعلق بالجانب العربي فمن المشكوك فيه، اذا ما استمرت العملية السلمية في مسارها على نحو عادل ودائم، أن يقبل الطرف الاسرائيلي ضمانات أقل مما يوفرها هو نفسه من خلال قناعة الرأي العام عنده بها ودعمه لها.

*الحياة/ 15/7/1998

          قمة الرياض في مواجهة حرائق المنطقة

ليت بإمكان القمة العربية المقبلة المقررة أواخر هذا الشهر في الرياض ان ترتقي فعلاً، كما تأمل الشعوب العربية، جميعا الى طموحاتها، وتستطيع أن تنجز ما عجزت عنه القمم العربية السابقة، في التصدي الى معضلتين أساسيتين طالما واجهتهما منظومة العمل العربي المشترك وخصوصاً خلال الستين عاما الاخيرة، وهما مواجهة التحديات الخارجية والتصدي للأزمات الداخلية. بعض هذه التمنيات تعود الى ميزة المكان الذي ستعقد فيه القمة والدور المتوقع ان تلعبه المملكة العربية السعودية بحكم الدور التقليدي البارز الذي تلعبه في السياسة العربية، بينما يعود البعض الآخر الى مناخ اليأس الذي يسود المنطقة بسبب الاوضاع والتحديات التي تواجهها والرغبة بالتشبث بالأمل التي ستظل تراود الشعوب العربية في هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها دولها ومجتمعاتها.

غير أننا إذا اردنا فعلاً ان نرسم توقعات معقولة، بحكم الضرورة والتجربة التي نعيشها منذ اول مؤتمر قمة عربي عام 1964، لا بد ان نتريث قليلا وننزل من سقف التمنيات الى ارض الواقع المر، لنتبين ما الذي يمكن ان تنجزه هذه القمة بينما المنظومة العربية تمر بإحدى اكثر المراحل خطورة في تاريخها. هذا يتطلب أولاً عدم تحميل القمة، وخصوصا في رمزها المكاني، أي دولتها المضيفة، اكثر مما تحتمل، في ظروف يدرك الجميع، ليس فقط شدة صعوبتها، بل ايضاً، مسؤولية اطراف عربية اخرى، عما وصلت اليه الامور في عالمنا العربي من ترد، ومسؤوليتها ايضا عن العمل الجدي للخروج من هذه الحالة. كما يتطلب، ثانياً، الاقرار بأن القمم العربية منذ اطلاقها لم تكن سوى منبر لصوغ خطاب تعبوي او اتخاذ مواقف متواضعة الانجاز، تجاه معضلات كبرى واجهت العالم العربي في مراحل معينة، وليست آلية صلبة ترتكز على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، للتحديات القديمة والمستجدة التي يواجهها هذا العالم.

والواقع ان هذه القمة ربما تكون الاولى التي يواجه فيها العالم العربي جملة من القضايا والمشكلات والازمات الداخلية والخارجية المتشابكة والمترابطة، بطريقة لم يواجهها العرب عبر تاريخهم الحديث، مما يضيف الى حجم التحدي الذي عليها مواجهته لتفكيك هذه الازمات، والتي لم تعد تواجه الدول والحكومات فقط، بل اخذت تنحو منحى مجتمعيا داخل النسيج الشعبي العربي، الذي بقي متماسكا الى حد كبير خلال كل النكبات والنكسات التي مرت، واصبحت الآن تهدد كيانه بمخاطر الفتنة والتفتيت. فنظرة الى حزمة القضايا الرئيسية التي ستتبوأ جدول اعمال القمة ستوضح، ليس فقط الى اي مدى أصبح العالم العربي غارقا في الازمات، بل الى حقيقة ان هذه الازمات تحورت تماما، مثلما يتحور اي فيروس مرضي، وأخذت تهدد بالاستيطان داخل حجرات البيت العربي ذاته.

إن أي نظرة الى القضايا الكبرى التي تواجهها المنطقة، بدءاً من الصراع العربي – الاسرائيلي، ومروراً بالأزمتين العراقية واللبنانية، وانتهاء بشبح امتلاك ايران لسلاح نووي وطموحات فرض هيمنتها على المنطقة، تؤكد ليس فقط الارتباط الاقليمي البنيوي المستجد الذي أصبح يربط بين هذه القضايا، ولكن ايضاً امتداداتها السلبية سواء بشكل مباشر، أم عبر تفرعاتها وتجلياتها، وخصوصاً السياسية والايديولوجية والطائفية، الى داخل المجتمعات العربية نفسها، ما يزيد من عبء مواجهة كل من هذه القضايا، سواء من خلال حصرها في نطاقها الضيق، او باعتبارها تحديات خارجية مفروضة تواجه المنظومة العربية برمتها، وليس ركناً من أركانها فقط.

كما أن نظرة الى طبيعة الازمات في فلسطين ولبنان والعراق تبين ان الصراع لم يعد مع قوى الاحتلال والهيمنة الخارجية فقط، بل تدنى الى صراعات بين القوى المحلية والعربية والاقليمية، قالباً معادلات التناقضات التقليدية في المنطقة، ومبرزا الثانوي منها على الرئيسي، حتى اخذ ينحدر شيئاً فشيئاً، الى مستوى شديد الفئوية والطائفية. فالصراعات الحمساوية – الفتحاوية في فلسطين وصراع الموالاة والمعارضة في لبنان انضمت الى حرب الطوائف الدامية في العراق، باعتبارها تعبيرا فاضحا عن الصراع على السلطة وعلى القرار الوطني، بعد أن كان المفترض فيها ان تبقي على الصراع كونه كفاحا من اجل التحرر والاستقلال وتأكيد الذات الوطنية. واذا كانت كل هذه الازمات أخذت مداها السياسي والاعلامي المدوي، فإن المعارك الدامية بين الحكومة اليمنية والحوثيين هي دليل آخر على نوع الصراعات الكامنة في المنطقة التي يمكن ان تخرج عن السيطرة وتتحول الى بؤرة اخرى من بؤر التوتر الطائفي فيها.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إن هذه الصراعات اتسعت واضحت الآن تتميز ببعدين في منتهى الخطورة، اذا لم يسارع الى تجاوزهما، الاول هو البُعد المذهبي سواء كان مكشوفاً ام مستتراً، والثاني، امتداد التدخلات عبر الحدود، سواء لاسباب مذهبية او سياسية او مصالح جيوستراتيجية. واذا كانت هذه التدخلات تتجلى في اوضح صورها في العراق، حيث لم يعد بالامكان اخفاء الاستقطاب الحاد الذي يعكسه الاقتتال الطائفي الشيعي – السني هناك على مجمل اوضاع المنطقة، فإن الوضع اللبناني ايضا كشف بدوره عن درجة معينة من هذا الاستقطاب، لا بد أن يتسع إذا فشلت الجهود الرامية لحل الازمة اللبنانية. وبدورها فضحت الأزمة الداخلية الفلسطينية مدى عمق التأثير الخارجي المتعدد الاقطاب، لا على مسار عملية السلام مع اسرائيل فحسب بل على الوضع الفلسطيني ذاته الذي أصبح منذ فوز «حماس» في الانتخابات الاخيرة رهينة التجاذبات الاقليمية ورهانات قواها النافذة.

هناك عامل مشترك يجمع بين كل هذه الازمات الكبرى في المنطقة، وهو ايران، والذي اذا اضفنا اليه ازمة ملفها النووي، فإنها تشكل الهاجس الاكبر الذي على المنطقة برمتها، وليس المنظومة العربية وحدها، مواجهته بطريقة خلاقة توازن بين حاجات الاستقرار والامن الاقليمي، وبين المصالح الوطنية والقومية لدولها، وكذلك الهوية الاسلامية لمجتمعاتها، التي شكلت بوتقتها الثقافية والحضارية على مدى أربعة عشر قرناً. وما يضفي على الهاجس الايراني ابعادا اكثر درامية، المخاطر المحدقة بالمنطقة جراء الاحتمالات الجدية القائمة بشن الولايات المتحدة او اسرائيل ضربات، او حرباً محدودة ضد ايران، الأمر الذي سيضع العرب أمام تفاعلات سياسية وامنية تمس صميم نسيجهم الديني والثقافي والاجتماعي، ربما تفوق في مداها خبرة منظومتهم السياسية وتجاربها على مقاومتها، او حتى الصمود امام رياحها الراعدة.

واذا كانت ايران، سواء من خلال مواقفها السياسية المعلنة، او نفوذها او امتداداتها، هي اللاعب البارز في معظم ملفات المنطقة الآن، فإن السؤال هو كيف ستستطيع القمة العربية بلورة موقف عربي موحد لمواجهة هذا التحدي الجديد، بمنطق ومنهج وتصورات ورؤى، توقف أي امكانية لتحول الهواجس من ايران وطموحها في أن تتحول الى قوة اقليمية، الى صراعات داخل البيت العربي. هناك حاجة أساسية لاستراتيجية عربية تقوم على مسارين أساسيين أولهما التعامل مع ايران بمنطق الدولة التي لديها مصالح واهداف قومية ترنو الى تحقيقها، وليس بمنطق هويتها المذهبية الشيعية. هذا المسار ليس ضرورياً لعزل ايران عن التوترات المذهبية في المنطقة وكبح جماح تعاظمها وتحولها الى عامل تغير جيوبولتيكي، بل الاهم من ذلك، لتأكيد الهوية الوطنية للشيعة العرب وانتمائهم الى بلدانهم كجزء من نسيج مجتمعاتهم الوطنية.

أما المسار الثاني فيقتضي تفكيك ملفات الأزمات الكبرى التي تواجهها المنطقة بطريقة تحد من ربطها، بعضها بالبعض الآخر، ومن وجود ايران كقاسم مشترك بينها.

ما نجده اليوم هو غياب هذه الرؤية الاستراتيجية العربية تجاه إيران والهواجس التي تقوم حول ادوارها في ملفات الأزمات العربية، ووجود هذه الاستراتيجية سيبقى المعيار الذي يحدد نتائج القمة الحالية. وهذا يتطلب أولاً: اقناع ايران بضرورة قيام علاقات ومصالح على اسس من الشراكة والجوار والاحترام المتبادل، وثانياً: الحذر من الوقوع في شرك الفخاخ التي تنصب لكل من ايران والعرب من قبل قوى خارجية يهمها نشر الفوضى في المنطقة لاهدافها الخاصة، وثالثا: عدم الاكتفاء برد الفعل او ترك زمام الأمور للطائفيين والمتشددين الذين لا يقفون امام طموحات ايران، بقدر ما يمنحونها من أوراق اضافية ضاغطة، بسبب ما يذكونه من التعصب ونيران الاحقاد المذهبية.

قمة الرياض التي تعقد والحرائق تشب، او تكاد، في العديد من اجزاء المنطقة حولها، قد لا تأتي بالعصا السحرية التي تطفئ نيرانها بطرفة عين، لكنها تبقى بالتأكيد مؤهلة كي تضع لبنات بناء الجدار الذي يواجه العاصفة التي تحاول ان تذريها الى أجزاء اخرى.

*الحياة  2007-3-15

       أمام «حماس» فرصة… وكذلك المنطقة


ان اليقين هو أن الأصوات التي تغرق الإعلام في هذه الأيام باطلة، فأمام أنظارنا لا يتخلق شرق أوسط جديد فقط بل رؤية آخر الزمان أيضاً. يوجد بين محللينا من يزعمون أن الذئب يوشك أن يعاشر الكبش، وأن مواطني إسرائيل المساكين الذين كانوا يوماً أسوداً أصبحوا يأكلون التبن… كالبقر». هذه العبارات هي لكاتب في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية غداة فوز حماس بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهي تخلص الى أن هذا الفوز سيشكل شرق أوسط جديداً سيمثل بدوره كارثة على إسرائيل وتهديداً عظيماً لها. هل يختلف هذا الاستنتاج الإسرائيلي كثيراً عما قرأناه نحن في صحافتنا العربية أو سمعناه من محللينا الإستراتيجيين اياهم الذين انشطروا، كما هو متوقع، بين من بشر ببداية النهاية للهجمة الإمبريالية الصهيونية على يد الإسلاميين القادمين، وبين من أطلق النذير من أن نسيم الديموقراطية الذي طالما انتظرناه لم يأتِ الا بـ «تسونامي» أصولي طاغ لن يخلف وراءه الا المزيد من الحسرات وخيبات الأمل.

بلا ادنى شك جاءت نتائج الانتخابات الفلسطينية مذهلة للجميع، بمن فيهم حماس ذاتها، لكنه ذهول لا يكشف فقط عورات الأنظمة التسلطية ومدى بغض الناس لها، ولا هول الركام الهائل من الدمار السياسي والنفسي الذي ألحقه طغيانها بمجتمعاتها، ولا علاقات التبعية والموالاة التي أنتجت وأدامت ذلك، بل كشف أيضاً حجم التحديات التي تفرزها مرحلة التحولات الكبرى الجارية في المنطقة، والتي جعلت الكثيرين يخشون من أن دواء الديموقراطية الشافي الذي أنتظرته طويلاً لن يكون إلا داءً جديداً يضاف إلى عللها المزمنة. فهل أن الانتصار الإنتخابي الكاسح الذي أنجزته حماس والكسب الذي حققته قبلها حركة «الإخوان المسلمون» في مصر، وقبلهما صعود التيار الأصولي الشيعي والسني في العراق، تمثل حقاً إنتصاراً للإرادة الشعبية، أم نكوصاً وإرتداداً للحلم العربي الديموقراطي، أم أن الآمر برمته لا يعدو كونه سيراً في الإتجاه ذي الممر الواحد الذي فرضته مرحلة تحول تجيء بعد عقود طويلة من التكلس التي عاشها العالم العربي؟

يطرح فوز حماس الإكتساحي تساؤلات شتى، مع تصاعد السجالات في العالم العربي وتسارع التطورات والتفاعلات السياسية لدفع جهود الإصلاح وتعزيز الديموقراطية بهدف الخروج من حال الإستعصاء السياسي والركود التنموي والجمود الثقافي الذي يعشش في المنطقة والذي أصبح يهدد كياناتها ومستقبل وجودها. غير أن أهم هذه التساؤلات هي تلك التي تتعلق بعلاقة تنامي دور حركات الإسلام السياسي وصعودها الانتخابي في التحولات الديموقراطية الجارية، وكذلك في تأثير عملية التطور الديموقراطي المستعصية في مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلاقة هذا الزحف بالضغوط الخارجية للإصلاح في العالم العربي. ومن المؤكد أن فوز حماس مرتبط مباشرة بهذه القضايا الثلاثة.

ليست هناك أجوبة جاهزة عن هذه التساؤلات. والمرحلة التي تمر بها المنطقة، كاشفة لكنها مخاتلة أيضاً، مما يستوجب التأني والحذر من المتفائلين والمتشائمين قبل الشروع بالإحتفال أو عزف موسيقى الجنازة. فما يحدث، ومن ضمن ذلك إنتصارات الإسلاميين في الإنتخابات، ما هو الا تجليات مرحلة «الفوضى البناءة» التي وضعت فيها المنطقة بعد الحرب الأميركية على الارهاب في 2001 والحرب الأميركية الأخرى عام 2003 لإسقاط نظام صدام حسين في العراق. فما افرزته الحربان هو بداية إنهيار «الوضع القائم» الذي رسم وضع المنطقة لعقود عديدة ومهد الطريق لعملية تفكيك ومن ثم إعادة بناء من الصعب التنبؤ بالمدى الزمني الذي ستستغرقه أو طبيعة التغيرات التي ستنتج عنها.

تهدف الإستراتيجية الأميركية، المدعومة من الغرب، كما هو معلن، القيام بعملية إصلاح سياسي وتحقيق الديموقراطية في العالم العربي كوسيلة للقضاء على بؤر التطرف التي تغذي العداء للغرب وتشن حرب إرهاب عليه. وقد عبر الرئيس جورج بوش مرات عديدة عن هذا التوجه الذي شكل جوهر مبادرة الإصلاح في «الشرق الاوسط الواسع» الذي يدعو اليه. ويفترض هذا الهدف أن محاصرة التطرف والتشدد بكل أشكاله وتجفيف منابعه الفكرية والمادية، إضافة إلى نجاح العراق في إقامة نظام تعددي تشاركي، سيؤدي إلى نشر الديموقراطية في المنطقة وبالتالي الى تحصين أميركا والغرب ضد الإرهاب. الحاصل الآن هو أن خطر الإرهاب والتطرف لا يزال ماثلاً، كما أن المسافة بين العراق والديموقراطية لا تزال طويلة. وكل ما تحقق حتى الآن هو أن عملية التفكيك التي أطلقتها الحربان في المنطقة، أي الفوضى البناءة، تنذر نتائجها الأولية بصحوة جديدة لتيار الإسلام السياسي لا تتوفر أي ضمانات بعدم تحولها إلى مقدمات ليقظة بؤر تطرف جديدة، في ما يبدو مغامرة تجريبية أخرى في سلسلة التجارب التي أخضع لها العالم العربي خلال تاريخه الحديث.

فاليوم أنتجت الانتخابات العراقية وضعاً صعدت فيه الأصولية الشيعية والسنية معاً في الوقت الذي أفرز الوضع بمجمله دائرة رخوة في عموم المنطقة تتقاطع فيه الصراعات المذهبية والعرقية مع المصالح والتطلعات الاقليمية، وكلها مع الإستراتيجيات السياسية والأمنية والبترولية الدولية، لتولد بؤرة توتر قادرة على أشعال المنطقة برمتها. أما في مصر فجاء فوز الإخوان المسلمين بخُمس مقاعد البرلمان ليقرع أجراس الإنذار عن أمكان زحف الأصولية الإسلامية رويداً رويداًً نحو هدفها بإنشاء الدولة الدينية التي يخشى قيامها قطاع عريض من المصريين الرافضين أو غير المتحمسين لربط الديني بالسياسي، سواء في أجهزة الدولة أو في المجتمع وفي طبقة رجال الأعمال الذين أصبحوا يديرون دفة الإقتصاد بالإرتباط بشبكة واسعة من الإستثمارات الدولية أو الأقباط أو النساء وغيرهم. أما فوز حماس ففجر كل ينابيع القلق بشأن مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي الذي ظل طوال العقود الستة الاخيرة الصخرة التي تتحطم عليها كل احلام الديموقراطية والحرية في المنطقة.

هناك في دول أخرى في العالم العربي بؤر توترات مشابهة، بعضها ظاهر، والآخر مستتر، أفرزتها كذلك عملية فتح ملفات الإصلاح في المنطقة، والتي ستفتح معها آجلاً أو عاجلاً، الملفات نفسها التي فتحتها الانتخابات العراقية والمصرية والفلسطينية، أي علاقة الديموقراطية بالإسلام والتيارات الدينية المسيسة، الصراع العربي – الإسرائيلي، العلاقة مع الآخر، والأهم الإرتباط الوثيق بين هذه الملفات بعضها بالبعض الآخر. بالتأكيد هذه الأسئلة ليست جديدة بل كانت دائماً في صميم الإشكالية التي واجهت عمليات الإصلاح في المنطقة لكن قدرها أن تقف هذه المرة أيضا أمام المرآة لتطرحها على نفسها من جديد. هل يمكن إقامة ديموقراطية حقيقية تحت عباءة نظام ديني في الوقت الذي لا يزال يخيم على المنطقة شبح التطرف والإرهاب، وهل هناك علاقة بين حل القضية الفلسطينية وإقامة الديموقراطية، وهل تنجح الديموقراطية في ظل علاقات التبعية والهيمنة التي أصبحت تربط المنطقة العاجزة والمهمشة والموبؤة بالفساد بكل أنظمتها السياسية والإقتصادية والثقافية مع المركز المتنفذ الداعي والداعم لمسيرة الإصلاح؟

تبين النتائج التي افرزتها الانتخابات الأخيرة في العراق ومصر وفلسطين أن هناك حاجة ملحة من جانب الأنظمة والحركات السياسية والإجتماعية والنخب الفكرية والثقافية النافذة في العالم العربي إلى التركيز على ما فتحته وستفتحه ملفات الإصلاح من إحتمالات ربما لم تكن في الحسبان، أو أسيء تقدير نتائجها وإنعكاساتها. فما نشاهده اليوم أن العالم العربي وضع أمام خيارين، أما الرضوخ للأمر الواقع الذي تمثله الأنظمة المتسلطة داخلياً، والقابلة بحل للصراع العربي – الإسرائيلي قائم على اساس الأرض مقابل السلام، والخاضعة للهيمنة الخارجية، مع بعض التحسينات، أو القبول بخيارات الحل الذي تطرحه الإنتخابات، وهو الأصولية الإسلامية المتسلقة فوق سلم الإنتخابات والديمقراطية مع إجندتها المتصلبة داخليا،والمتمسكة بخيار مقاومة الحل السلمي للصراع مع إسرائيل والمتشككة أو حتى المعادية للآخر، خصوصاً الأميركي والغربي المهيمن على مقدرات المنطقة.

هل العرب أذن أمام محنة جديدة جاءت بها دعوات الإصلاح؟ أغلب الظن أن تلك هي الحقيقة، فالعالم العربي يقف اليوم أمام منعطف يصعب فيه القبول بخيار العودة إلى الوراء، في الوقت الذي يكون المضي إلى أمام سيراً في طريق المجهول. ما يحصل الآن في المنطقة هو عملية كبرى، لفتح كل الدمل ونكأ الصديد المتراكم، وحتى بتر ما أستعصى على الجراحة منها، ودفعها بعد ذلك الى لعق جراحها ببطء، ثم الانتظار لرؤية ما اذا كان الشفاء ممكناًُ. ولا يقتصر الامر على العراقيين والفلسطينيين والمصريين، فالفوضى البناءة كما هو واضح تعم دول المنطقة، من محيطها إلى خليجها، وكل يقف أزاءها حسب ظروفه وأوضاعه، وهناك قواسم مشتركة يفترض أن تساعدهم على فهم التحديات وعلى مواجهتها أيضاً، وخاصة تلك التي تتعلق بأرتباط التطور الديمقراطي بالإسلام السياسي وبالصراع العربي – الأسرائيلي وبالعلاقة مع الغرب، هذا الثالوث الذي سيشكل وحتى فترة ممتدة آتية، القاعدة التي تشد اليها أي محاولة للإصلاح في العالم العربي.

وفي ظني أن المثال الفلسطيني الذي يطرحه إكتساح حركة حماس للأنتخابات هو الأكثر تمثيلا للمعضلة التي تواجها المنطقة في كيفية مواجهة مرحلة الإصلاح والإستحقاقات المترتبة عليها مثلما سيكون نجاحها هو الملهم للنجاح المرجو لها للخروج من نفق الفوضى الذي دخلت اليه. على حماس، التي شاركت الإنتخابات الفلسطينية وهي مدركة انها تقطع شوطاً طويلاً بين الجهاد لتحقيق حلم تحرير كامل الأرض من البحر إلى النهر إلى القبول بقواعد اللعبة الإنتخابية التي وفرتها اتفاقات أوسلو، أن تأخذ فرصتها، وعلى العرب أنظمة وجماعات ونخباً أن يعينوها لتتخذ قرارها الصحيح الذي ينسجم مع مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح المنطقة وشعوبها ومع التحديات الجسام التي تواجهها. غير أن عليها أن تدرك أيضاً أنها أمام فرصة، فرصة هي إختبار لها وللمنطقة، وعليها ان تصيخ السمع خلالها لنداءات المستقبل وليس لندّابي الماضي. – الحياة اللندنية 24/2/2006 –

*الحياة 2006/2/24

                                                            العرب وإيران والخطابات الطائفية

يأخذ الكلام في العلاقات المصرية الايرانية عادة منحي مذهبيا‏,‏ اي في اطار اعادة انتاج خطاب الفتنة التاريخي بين السنة والشيعة‏,‏ وهو ما تجلي مؤخرا بشكل سافر في مناسبتين‏,‏

هما زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد للقاهرة التي صاحبها الكثير من القيل والقال, ونص رسالة منشورة لعدد من المفكرين ورجال الدين الايرانيين معنونة للرئيس المصري محمد مرسي اثير ايضا حول مضمونها ودوافعها الكثير من الجدل الطائفي.
وبالرغم من صعوبة إنكار العامل المذهبي في صراعات المنطقة, سواء كونه حقيقة تاريخية, او عنصرا حاضرا في ازماتها الحالية, الا ان التركيز علي هذا الخطاب ومحاولة منحه الاولوية المطلقة علي العوامل الاقليمية المتفاعلة, يثير تساؤلات عديدة بشأن مبرراته وجدواه, وان كان الامر حقا يتعلق بنزاعات الهوية المتجذرة وقضايا التعايش, ام يتعداه الي مجمل وضع ومستقبل المنطقة في عالم ما بعد الثوارت العربية. وما يثير المخاوف حقا هو عما اذا كان الخطاب المذهبي سيصب في مقولة الصراع داخل الاسلام الذي يتوقعه البعض كتحصيل حاصل للتغيرات الناتجة من صعود الاسلام السني وهيمنته علي المشهد السياسي وقواعد الحكم في بعض دول الربيع العربي, مقابل تزايد النفوذ الايراني والبزوغ الشيعي في المنطقة الذي تحقق بتميكن شيعة العراق من الدولة اثر الغزو الامريكي له. وما أريد ان اشير اليه بشكل اكثر وضوحا هنا هو العلاقة الوثيقة بين الصراع الطائفي واحتمال تصاعده ومستقبل الثورات العربية وكيف ان العزف علي الاوتار الطائفية وتأجيج الفتنة السنية الشيعية سيؤدي بالنتيجة الي ضعضعة العملية التاريخية الجارية في عموم المنطقة لتحقيق اهداف الثورات وعلي رأسها وضع اسس الديمقراطية وبناء مجتمعات ودول حديثة متطورة علي انقاض انظمة الاستبداد والاستغلال والتخلف.
من هذا المنظور فان الصراع الحقيقي الجاري في المنطقة الان هو ليس بين اتباع مذهبين في دين واحد ويعبدون إلها واحدا وداخل شعوب تمتلك هوية وطنية وقومية جامعة, كما قد تظهره التشنجات والجعجعات والتطرفات المذهبية, بل هو في الحقيقة بين قوي المستقبل التي تريد ان تبني تلك المجتمعات علي اسس الحرية والعدالة والتقدم, وتلك القوي التي تريد ان تشدنا بعيدا الي وراء, وهي قوي موجودة داخل كل مذهب ودين تتضافر لاعقلانيتها وارتداديتها مع ما تحمله داخلها من اوهام الهوية لكي تنتج ذلك الشحن العدواني تجاه الاخر وللحداثة والديمقراطية. ويظهر التاريخ الاسلامي عبر قرون طويلة ان قوي الغلو والانغلاق ومحترفي الفتنة المتحالفين مع التسلط والاستبداد بالذات هم الذين أججوا الصراعات واعتاشوا عليها لكي يحولوا الدين الحنيف من رسالة سمحاء قائمة علي اساس العدل الالهي والاحسان وتكريم الانسان واحترام حريته الي ملك عضوض قائم علي بيعة مشتراة, او نيابة ولائية مطلقة لا اساس لها في العقيدة.بل ولعل التاريخ يكتشف اكثر من ذلك وهو ان هلاك الكيانات الاسلامية وخراب العمران لم يأت من التنوع وحتي من الاختلاف المذهبي والعقدي, وانما من فساد الملك وجدب العقل عند اهل الرأي والاستشارة.
بايجاز فإن القضية المطروحة علينا الان كشعوب في هذه المنطقة ليست مواجهة سنية- شيعية بالمعني الفكري والاعتقادي, فذلك اصبح مكانه رفوف الكتب, بل هو صراع سياسي, ان لم يكن مقبولا فهو مفهوم, بين دول وكيانات علي المصالح والثروات والنفوذ والقوة, وهذا ما اثبتته التجربة العراقية وتبرهن عليه التجربة السورية وما يحيط بهما من استقطابات وتحيزات.واذا كان مطلوبا بقوة ايقاف تداعيات هلال الازمة الطائفية المآساوية تلك فمن الاجدر والاولي وقف اتساعه وتوظيفه باستدعاء اطراف ودول اخري في المنطقة وتعميمه لمنع ليس فقط المزيد من تشظي المنطقة وتقسيمها, بل الانهيار النهائي لها ككيان عربي- اسلامي.
ليس لدي أدلة قوية تدعم ما يقوله الرواة من ان هناك مؤامرة خارجية تحاول ان تستغل ثورات الربيع العربي بهدف تأجيج صراع سني- شيعي وتفتيت المنطقة من اجل بقاء اسرائيل وخدمة مصالح الغرب, ولكني مثل غيري لدينا ما يكفي من الحدس وسعة الافق والخبرة بان نري ان هناك تمثلات وممارسات تتيح امكانية الاقتناع بتلك النبوءات الكارثية.ما يمكننا رؤيته ببصيرة هو ان البعض منا قد يعمل, حتي دون قصد ولكن بحمية حاملي مشعل الدفاع عن الهوية, علي تقديم يد العون لمن يعملون علي ذلك السيناريو البغيض.
العلاقات العربية الايرانية بمجملها قضية اشكالية في تاريخ المنطقة المشترك بين الامتين اساسها هو وجود نسختين متعارضتين لديهما من هذا التاريخ.في العصر الحديث ضاعت فرص كثيرة لترميم هذه العلاقة واعادة بنائها علي اسس عقلانية ترتبط بمفاهيم الدولة الحديثة والعلاقات الدولية البناءة وحسن الجوار والشراكة في الاقليم او لم تأت بالنتائج المرجوة.المرحلة القادمة التي ستختلط وتتشابك خلالها عوامل كثيرة في تلك العلاقات ستكون ضبابية وخاصة لحين حسم مستقبل الحكم وهويته لدي كل طرف. وحتي ذلك الحين سيكون ضروريا مواجهة تحدي العلاقات مع ايران بتفادي اطلاق العنان للوساوس والهذيان الطائفي, بمناسبة او بدونها, والاستعانة بدلا عن ذلك بآليات الحوار والمنابر الدبلوماسية المتوافرة وبالحفاظ علي المصالح المشتركة كجيران في اقليم واحد.

الاهرام 27/2/2013

                   ‏ البعض يراه هوسا قطريا‏!‏

الموقع الالكتروني الذي بث أخيرا ان قطر اشترت حصريا حقوق تنظيم جنازة ابرز رئيسة وزراء بريطانية البارونة ثاتشر في عاصمتها الدوحة‏,‏ كان سيحقق سبقا صحفيا هائلا لولا أن المتابعين للمصدر يعرفون جيدا أنه موقع يجنح للسخرية السياسية كأسلوب للتعامل مع قضايا المنطقة‏

رغم أن اكثر قضاياها هي فعليا من أنواع الكوميديا السوداء التي يجدر بعد مشاهدتها القول ان شر البلية ما يضحك.
قبل ذلك بأيام اثار مقدم البرامج الساخر باسم يوسف ضجة عندما حور نشيد الوطن الاكبر في حلقة من حلقات برنامجه والتي استهدف فيها قطر في تعبير يعكس استياء طيف واسع من المصريين مما يرونه من محاولات قطر في دس أنفها بشئون بلادهم واستغلال ظروفها الصعبة لاهداف مريبة. وفي الحالتين تقف قطر, التي يراها المتشككون مجرد ظفر إبهام يبرز كنتوء علي ساحل الخليج العربي يتعملق امام رموز ذات دلالات كبري, مثل لندن وكاتدرائيتها الشهيرة سانت بول حيث سيسجي جثمان ثاتشر, في الحالة الأولي, في حين أنها وقفت في الثانية ازاء ايقونات خالدة في الوجدان الشعبي المصري كالوحدة العربية وجمال عبد الناصر, وبطبعية الحال مصر ذاتها.


في الواقع ان طموحات قطر مقارنة مع صغر حجمها كانت دوما موضع علامات استفهام واحيانا سخرية منذ اختط اميرها الحالي بعد توليه الحكم عام1995 لها هذا النهج الطموح. واذا كان أكثر ما يروي يظل في خانة التنكيت فان ما هو موثق ان الرئيس السابق حسني مبارك لم يستطع أن يحبس احساسه بالازدراء حين زار عام2000 مبني تليفزيون الجزيرة, وهو رمز الدورالقطري الاشهر, حين تساءل كيف بإمكان علبة كبريت صغيرة أن تثير كل ذلك الضجيج. لكن هل تستحق قطر فعلا كل هذه السخرية في حين تقف اليوم في الصف الاول من الدول التي تلعب ادوارا بارزة في السياسة والاقتصاد والاعلام والرياضة وغيرها من المجالات الحيوية بفضل تلك الاموال المهولة التي في حوزتها والتي تستثمرها في ميادين متعددة, أم أن الأمر ينطوي علي عدم استيعاب وسوء فهم من قبل المشككين للتغيرات في موازين القوي في المنطقة وللتطورات الدراماتيكية الجارية فيها؟. بطبيعة الحال لا يمكن لقطر ان تتكلم عن مكونات جغرافية او تاريخية أو بشرية أو ثقافية أو ايديولوجية أو عسكرية, وغيرها من عوامل القوة والقيادة التقليدية, إلا أن مصادر القوي المتمثلة بثروتها من مليارات الطاقة والحيز الذي تدير به سياساتها الخارجية ربما لا يقل اهمية عن كل تلك المكونات, ان لم يكن اكثر اهمية في عصر العولمة والسماوات المفتوحة وتكنولوجيا المعلومات والتي تؤهلها كقوة ناعمة ان تكون شريكا في نادي الفاعلين الدوليين.
فقطر تضع نحو250 مليار دولار في استثمارات متنوعة تتوزع علي قارات العالم, هي الاضخم عالميا نسبة لسكانها, وبما ان وارداتها السنوية تزيد علي100 مليار دولار في بلد لا يتجاوز عدد سكانه ربع مليون نسمة الا قليلا ولن يكون بحاجة الي اي استثمارات كبيرة في البناء التحتي لسنوات طويلة, فلنا ان نتخيل حجم هذه الاستثمارات خلال الاعوام المقبلة. وفي حين ان القيادة القطرية ترفض الربط عادة بين هذه الاستثمارات وسياسات المعونة السخية التي تتبعها وبين اي طموحات او اجندات فان شاشات الرادار لا يمكنها ان تخطئ في رصد الابعاد السياسية للدور القطري المتصاعد سواء في دعم اقتصاديات الدول الغربية المنهارة أو في ملفات اقليمية عديدة ومحاولاتها المستميتة لتولي دور قيادي في المنطقة, محل قوي تقليدية آفلة بعد ان تعرضت مراكزها للاهتزاز خلال العقد الأخير.

هذه المسألة بالذات هي التي تثير الكثير من الاسئلة بشأن السياسة الخارجية لقطر.هناك سؤالان هما الاكثر إلحاحا; اولهما لماذا تقوم قطر بكل ما تقوم به, وهل ينسجم ذلك مع حاجاتها الاساسية ومصالحها الوطنية من ناحية, ومتطلبات الأمن والاستقرار في الاقليم, من ناحية ثانية, في حين يتمادي البعض في السؤال عما اذا كانت تلك السياسة القطرية تعمل لمصالحها فقط ام وفق اجندة خفية تتناغم فيها مع مصالح قوي دولية واقليمية واهدافها.
أما السؤال الثاني فهو الي اي مدي نجحت قطر فعليا الي الآن في تحقيق أي من مرآبها او اشباع طموحاتها كي يكون ذلك معيارا حقيقيا للحكم علي فاعلية نهجها هذا, أم أن الأمر سيبقي في نطاق التجريب, او في حدود المغامرات التي لن توصلها الي نتائج فاعلة او حقيقية, عدا طبعا الارتدادات التي تتحق فعليا علي الأرض.

في الحقيقة ليس هناك اجابات شافية لهذه ولغيرها من الاسئلة في ظل غموض قطري بشأن أجندتها الخارجية كما يغيب اي تفسير مقنع عما تقوم به, سواء في ضوء حجم الاستثمارات القطرية المهول عالميا, او الدور المتزايد الذي تلعبه الدوحة في ملفات اقليمية بالغة الخطورة, في حين تلجأ القيادة القطرية هي ايضا كما يفعل مهندس هذه السياسة رئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم ال ثاني بالرد الي طريقة لاتقل سخرية عن تلك التي يلجأ اليها منتقدو قطر.

ومع ذلك فان غياب, او بالاحري احجام قطر عن أن تطرح اطارا مرجعيا لسياستها الخارجية او اي رؤية نظرية لها لا يعني بأي حال من الاحوال أن ما تقوم به طلسم يستعصي علي الفهم والتحليل, فسلوكيات أي دولة ضمن أي نظام اقليمي أو دولي هي بالتالي التي تفسر سياساتها الخارجية, وليس بيانات او تصريحات قادتها التي لا تخرج عادة عن معسول الكلام. وهناك عدة ملفات تتأبطها قطر الآن هي الأخطر في حاضر ومستقبل المنطقة, وخاصة بسبب ارتباطها بمواقف دولية واقليمية متشابكة, وهي الاسلام السياسي وعلاقاته بالثورات العربية وما يتفرع من ملفات وخاصة التمويل, القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي والنظام العربي المتمثل بالجامعة العربية, التي اصبحت فعليا تدار بريموت كونترول قطري.
إن السخرية السياسية التي تطال قطر لا تعبر عن استعلاء أو حسد أو غيره, بل هي موقف نقدي تجاه ما يراه البعض من هوس قطري بالادوار والمواقع والزعامات الوهمية ينبغي ألا تصم القيادة القطرية آذانها عنه, كما فعلت تلك الانظمة العربية التي عملت وتعمل قطر علي اسقاطها

الاهرام  16/4/2013

          إعلام أقوي أفضل للجميع

في ذكري اليوم العالمي لحرية الصحافة التي صادفت الجمعة الماضية توقفت صحيفة العالم العراقية عن الصدور بعد ان اتهم محرورها الحكومة بالسعي لــ كسر هيبة الجريدة وتوجيهها ضربات جديدة للإعلام المستقل‏.

قبل ذلك بايام اغلقت صحيفة مصر المستقلة الصادرة باللغة الانجليزية عن مؤسسة المصري اليوم لاسباب قال محرروها ايضا انها تتعلق بعدم ارتياح الادارة من السياسة التحريرية للصحيفة التي لاقت نسختاها الالكترونية والورقية قبولا واسعا منذ صدورها قبل اربع سنوات.
قد تختلف ظروف اغلاق الصحيفتين إلا ان ما تكشف عنه الملابسات المحيطة بتوقفهما وكذلك الوقائع التي افصحت عنها تقارير دولية بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة في بلدان عربية عديدة هو ان الصحفيين في العالم العربي لايزالون يتعرضون لمحاولات والتركيع, بل الترويع التي تستهدف استقلالهم وحريتهم, حتي بعد ربيع الثورات الذي عقدوا عليه آمالهم في نهاية السياسات القمعية التي مارستها الانظمة البائدة ضد الصحافة.
انه لشيء محزن ان الثورات العربية لم تغير كثيرا من حال الصحافة والاعلام في العالم العربي, بل ان الوقائع تشير الي تراجعات وانتكاسات في بعض الاحيان, مما ادي الي تعطيل مهمة الصحافة في ان تصبح اداة من ادوات التغير الثوري, ولعله اكثر من هذا حين يستمر الاعلاميون والكتاب بالتعرض لعقوبات او ضغوط لانهم انحازوا لقضايا الثورة والحرية ورأوا ان ولاء الصحافة والفكر يجب ان يظل للناس وليس للسلطة او للجماعات السياسية المتناحرة او مصالح رجال الاعمال.
كان متوقعا ان تجري في بلدان الثورات اعادة هيكلة للمنظومات الصحفية والاعلامية وتطوير البني التشريعية سواء بما يتلاءم مع التطورات الهائلة في الثورة التكنولوجية الاعلامية العالمية, او بما يمنح العاملين فيها الحرية والاستقلالية التي تمكنهم من اداء عملهم في السياق الجديد الذي يتطلب دورا اكبر للصحافة الحرة, ليس كأداة للاتصال الجماهيري فقط, بل كإطار مرجعي مشترك وأداة للتغيير الديمقراطي الجذري في مجتمعات مابعد الثورات.
لم يتحقق ذلك بعد, بل ان هناك شواهد كثيرة ان قوي سياسية بعينها, بعضها من الحكام الجدد, وبعضها الآخر من فلول وازلام الانظمة البالية, لا ترغب بان تجري اعادة الهيكلة بطريقة تضعف من قبضتها علي اجهزة الاعلام لاستخدامها في معاركها المستمرة.في تونس مثلا اعلن هذا الاسبوع عن تشكيل الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري لكنها لم تحظ بالقبول الواسع من اصحاب المهنة بسبب الشكوك التي تحوم بشأن تركيبتها وقدرتها علي القيام بإصلاح ذاتي وهيكلة داخلية متطورة لاجهزة الاعلام في اثناء المرحلة الانتقالية.
وفي مصر تواجه الصيغ المطروحة لتشكيل المجلس الوطني للإعلام صعاب اعادة هيكلة كامل المنظومة الاعلامية الموروثة من النظام القديم, كما تواجه تحديات تضارب المصالح بين القوي الفاعلة واعتراضات سببها الخشية من افتقاد التوازن بين ضرورات حماية المجتمع ومواجهة الاحتكار والتزام وسائل الإعلام بأصول المهنة وأخلاقياتها, وبين الحريات والحقوق التي ينبغي توفيرها للممارسة الاعلامية الحرة.
واذا كانت التجربتان التونسية والمصرية, وما ينتظره بلدان اخري, موضع تشكيك وريبة فان التجربة العراقية وبعد عشر سنوات من اعادة هيكلة المنظومة الاعلامية الموروثة عن نظام صدام حسين تشي فعليا بالكثير من المثالب التي تدل علي فشل ذريع في اطلاق اعلام حر ومستقل ففي حين تخضع هيئة الاعلام والاتصالات العراقية وذراعها شبكة الاعلام العراقي لهيمنة سلطة الاحزاب الحاكمة وتدخلاتها فان اجهزة الاعلام الخاصة والحزبية تعاني من مشكلات جدية من عدم المهنية والفوضي وهيمنة الاحزاب علي المال السياسي, والاسوء استشراء الطائفية بابشع تجلياتها.
ان التجربة العراقية المبنية اساسا علي نموذج هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي التي لا تزال تروج نموذجها بعض المنظمات الدولية التي تساهم بجهود اعادة هيكلة الاعلام في دول الثورات هي ذاتها التي تحولت الحريات الصحفية في ظلها الي الأسوأ منذ سقوط نظام صدام عام2003 حسب التقرير الاخير لــ مرصد الحريات الصحافية العراقية مما يستدعي دراسة اسباب فشلها وعجزها عن تحقيق اهدافها والبحث عن بدائل مناسبة.
يكمن مستقبل الحريات الصحفية في صلب عملية التطور الديمقراطي في عالمنا العربي وسيكون الصحفيون في مقدمة صناع التغير, الامر الذي ينبغي ان يوفر لهم الفرصة ان يقوموا بواجبهم في توفير المعلومات وزيادة الوعي الوطني لدي الناس بكل شجاعة واستقلالية ويسر وشفافية.صحيح ان التشريعات والتنظيمات ستبقي ضرورية في معركة الحرية هذه إلا ان هناك جانبا حيويا يبنبغي التركيز عليه ايضا وهو كيفية مساعدة الصحفيين والاعلاميين علي تطوير ادائهم بما يتلاءم مع المتطلبات التي تجعل من ممارسة المهنة ومن اماكن عمهلم مواقع اكثر حيوية وانتاجية وابداعا.
هناك حاجة ملحة لان تكون الصحافة في عالمنا العربي اكثر قوة, وهو ما يتأتي حين تكون اكثر حرفية, الامر الذي يعني ان هناك ضرورة قصوي بالاستثمار في الصحفي نفسه من خلال تدريبه وصقل مواهبه وتطوير مهاراته في مهنة اصبحت تجمع في متطلبات ادائها اضافة الي الدراسة المتخصصة الاستعداد الذاتي والطموح والمعرفة الموسوعية والي مختلف انواع العلوم, كما تستخدم انواع التقنيات الحديثة التي اصبح من الصعب رؤية العالم دونها.

من يتابع الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الصحافة والاعلام من قبل القوي المضادة تحت ذرائع الفوضي والعشوائية وعدم المهنية سيري انها كلمة حق حتي لو اريد بها باطل.فجزء كبير من الممارسات الاعلامية يخلو من اي معايير مهنية واضحة, بل احيانا تنعدم فيه المصداقية والنزاهة ويقترب من حدود الشائعات والكذب والتدليس وهي كلها مثالب تضعف من قوة الاعلام ودوره النبيل وتتيح لاعداء الحرية توجيه ضرباتهم له.
من العراق حتي المغرب سيكون هناك دور محوري للاعلام خلال السنوات والعقود القادمة في عمليات التحول في العالم العربي اكثر من اي وقت مضي نظرا لضعف ادوات التغيير الاخري كالاحزاب ومنظمات المجتمع المدني وقوي الشارع, مما يدل علي ان هذا القطاع الحيوي سيكون ميدان معارك كبري للسيطرة علي العقول والافئدة, من جهة, وفي معارك الحرية, من جهة ثانية.

احد الدروس المستنبطة من تجارب الثورة المصرية هو ان سلميتها جاءت, الي حد كبير, من الدور الذي لعبه الاعلام( برغم عيوبه) في امتصاص موجات الغضب مما يعني ان اعلاما اقوي واكثر تطورا سيكون افضل قدرة علي يجاد وعي جماهيري لانجاز متطلبات التحول الديمقراطي سلميا.

الاهرام 7/5/2013

                           قوة الحشود

في معرض احد تعليقاته الأخيرة حول الانتقادات الموجهة لادارته بشأن طريقة تعاملها مع تطورات الاوضاع في مصر علي ضوء خروج الملايين من المصريين المطالبين برحيل رئيسهم قال الرئيس الامريكي باراك اوباما ان سياسة الو
لايات المتحدة الخارجية لا تتغير بالاستناد الي عدد الرؤوس المشاركة بمسيرات التظاهر.

كلام اوباما, بطبيعة الحال, والذي بدا وكأنه يتحدث عن رؤوس في مزرعة بصل, كان يعكس دون مواربة, وايضا بفضاضة, نظرة التندر او حتي الاحتقار, التي تنظر فيها السياسة الخارجية الامريكية للحشود الجماهيرية والارادة الشعبية في عملية التغيير, علي الرغم من ان الانتفاضات والحركات الجماهيرية استقرت منذ زمن طويل في الفكر والعمل السياسي باعتبارها اداة اساسية من ادوات النضال والتغير.

هذه النظرة الامريكية الاستعلائية ليست جديدة فصناع السياسة الخارجية والاعلام في واشنطن دأبوا منذ زمن طويل علي توجيه النعوت السلبية والشتائم, كالغوغاء والرعاع والحثالة, للحشود الجماهيرية التي لا تأتي تطلعاتها او مطالبها علي هوي التوجهات والسياسات الامريكية, لاسباب يطول شرحها هنا, لكن يمكن اختصارها بكراهية هؤلاء للطابع الثوري والوطني الذي عادة ما تنطبع به هذه التحركات ازاء المصالح الامريكية وتجاه حلفائها المحليين.
في الادبيات المتعلقة بالثورات فان ما من ظاهرة تاريخية اهملها التاريخ الغربي كما يقول المؤرخ البريطاني والمرجع في تاريخ الثورات جورج رودي مثل ظاهرة الحشود التي يراها صانعة التغير الحقيقي من اسفل.هذه الملاحظة بشأن تجاهل الحشود تنطبق بشكل خاص علي الطريقة الاستشراقية التي تتناول بها السياسة والاعلام في الغرب شئون الشرق الاوسط, كما رأها الباحث الايراني يرفند ابراهميان وهو يسجل تاريخ الحشود في بلاده التي نجحت بالاطاحة بنظام الشاه عام.1979

يجدر التنبيه هنا بأن الحشود كوسيلة تعبيرعند الجماهير من اجل التغير وكبنية اجتماعية متماسكة ومتوافقة علي اهداف وطنية هي غير اعمال العصيان او الشغب العفوية او حملات الشحن والتعبئة الهستيرية التي تندرج ضمن استراتيجيات التهيج الجماهيري التي اعتادت عليها الانظمة والحركات الشمولية والفاشية في تجيش انصارها او العوام مستثمرة سيكولوجية القطيع في معاركها وفي تصديها للمقاومة, في حين ان التحشيد هو فعل ادراكي واستراتيجية ايجابية للتغير والنهوض. لكن بغض النظر عن الموقف الامريكي, الذي لا تخفي عنا دوافعه, فان السؤال الذي يواجه المحللين اليوم, وبالتأكيد المؤرخين غدا, هو هل ان الحشود المصرية التي توجت سلسلة انتفاضاتها منذ ثورة25 يناير بالهبة الجماهيرية الكبري الحالية هي فعلا شيء مجرد وانها لا تصنع سياسة بقدر ما تثير الكثير من الهياج وما يصاحبه من غبار قد يحجب الرؤية الحقيقية للوقائع, ام انها فعل ثوري حقيقي مؤسس للسياسة والتاريخ.

أهمية هذا السؤال تأتي ايضا من السجالات والمحاججات التي انطلقت مباشرة بعد اعلان القوات المسلحة المصرية عن عزل الرئيس السابق محمد مرسي, وخاصة في الاعلام الغربي وبالذات الامريكي, عما اذا كان ذلك انقلابا عسكريا ضد رئيس منتخب ديمقراطيا في مسعي للنيل من الشرعية الثورية التي مثلتها مطالب التحشيد وفي تأجيج ردود افعال مضادة.

لعل نظرة فاحصة للجهود التي خططت ونظمت وادارت الهبة الجماهيرية التي فجرت الموجة الجديدة للثورة المصرية في30 يونية, واقصد بذلك حركة تمرد, تبين لنا انها كانت تراهن بالدرجة الاولي علي حشد الجماهير ودفعها للنزول للشارع للدفاع عن ثورتها وانقاذها قبل فوات الآوان.بالتأكيد ان تاريخ الثورات العالمية سيدون ذلك في سجلاته ولكننا نحن الاحياء قد شهدنا كيف ان المصريين بكل انتماءاتهم وخلفياتهم قد توحدوا في كتلة صلبة, وفي ظروف شديدة التعقيد, في عملية تحشيد جبارة كانت هي الوسيلة الوحيدة المتبقية للتعبيرعن وجودهم.

ان اللجوء للحشد الجماهيري في الحالة المصرية الاخيرة كان الخيار الاخير بعد حالة الاستعصاء التي واجهتها العملية الانتقالية بسبب محاولات الهيمنة التي مارسها الفريق الذي اعتبر ان نجاح مرشحه بانتخابات الرئاسة هو بمثابة تفويض شعبي للتمكين من كامل السلطة في الدولة والمجتمع, كما انه كان مسعي ضروريا لادامة الروح الثورية واستكمال تحقيق اهداف الثورة.

والحقيقة ان الحشود الجماهيرية كانت الاسلوب الامثل والانبل الذي اتبعته الثورة المصرية منذ البداية كأداة جديد وفريدة في حركات التغير والنضال في مصر وفي المنطقة عموما في نهج مغاير لذلك الذي استحكم في الفكر والعمل السياسي العربي لعقود طويلة والذي كان دائما ما يلجأ الي التغير من اعلي كالتغير بالغلبة او بالانقلابات او حتي بالغزو الاحتلال الاجنبي وليس التغير من اسفل من خلال المشاركة الجماهيرية.

ما قامت به عملية التحشيد في الثورة المصرية في صفحتها الثالثة هو تأصيل مشروع الثورة ليس باعتبار ذلك صراعا علي السلطة بين حكام ومحكومين, بل باعتباره ايضا صراعا علي روح وهوية وقيم المجتمع المصري التي واجهت جميعا تهديدا وجوديا علي يد التيار الذي تمكن من الحكم في الفترة الانتقالية والذي لم يخف نيته في تغير كل ذلك وفق برنامجه الذي كان بالتأكيد مغايرا, ان لم يكن نقيضا لاهداف الثورة وبرنامجها.

وما لا يقل اهمية عن النجاح الباهر الذي حققته الحشود في تحقيق هدفها المعلن في اسقاط الرئيس هو اسقاط اخطر مشروع للمنطقة وللعالم كانت عرابته الولايات المتحدة الامريكية وذيولها والذي كان يستهدف اعادة صياغة المنطقة بما يمكن من صعود تيار الاسلام السياسي الي سدة الحكم ليس حبا فيه بل كاستراتيجية جديدة يأتي علي قمة اهدافها تدجين هذا التيار والحاقه بالتبعية الامريكية ودمجه بجهود ما يسمي بعملية السلام مع اسرائيل وتحويله بالتالي الي حارس لاسرائيل وضامن لامنها.

ان خير دليل علي فعالية الحشود وقوتها في هذا السياق هو ان الولايات المتحدة التي استهانت في البداية بحملة تمرد وسخر رئيسها من عدد رؤوس المشاركين في الزحف الذي خرج يوم30 يونية هي التي عادت بعد ثلاثة ايام الي تغير موقفها بعد ان ادركت ان وراء هذه الحشود ارادة شعبية عارمة لن يفل عضدها اي شئ الا بعد ان تنتصر وتضمن تحقيق مطالبها.

هناك كثيرون سيدعون فضلا فيما جري خلال الاشهر والاسابيع والايام الماضية الا ان الحقيقة الاكيدة هي ان الملايين من المصريين التي لبت نداء نزل الي الشارع هي التي استطاعت بالتالي اسقاط مرسي والمشروع الذي جاء به برمته.هناك حقيقة اخري يؤكدها المؤرخ البريطاني جورج رودي في كتابه االحشد في التاريخ وهي تتعلق بموقف الجيش والذي علي اساسه يتحقق مصر الحشد, وهو ما اثبته الجيش المصري حين انحاز للحشود ولخياراتها.

الاهرام 6/6/2013

          أخلاقيات السياسة وسقوط جدران الخوف

قبل أن ينهمك الفلاسفة الإغريق بالبحث في العلاقة بين السياسة والأخلاق بوقت طويل انشغل البشر عموما بهذه المسألة الجوهرية حتي أن عقائد الحضارات القديمة في مصر وبلاد بابل وآشور والهند والصين تناولتها في إطار الالتزامات السامية التي تربط بين الكائن والمعبود والواجبات المناطة بكل طرف‏.‏

كان الهدف دائما هو ضبط هذه العلاقة كي لا يجور منطق السياسة ومصادرها علي القانون الأخلاقي وإلا تستلب السلطة حقوق وكرامة ورخاء وسعادة البشر. اليوم ومع التغيرات الثورية التي أطلقها الربيع العربي يطرح السؤال من جديد علي ضوء التجارب العربية في العقود الماضية التي سادت خلالها أنظمة قمعية واستبدادية فاسدة استباحت كل القوانين والقواعد والمبادئ الأخلاقية والسياسية وأحلت محلها شريعة الغاب وسطوة القوة الغاشمة.والسؤال علي وجه التحديد هو هل ستقع الأنظمة الجديدة في غواية السلطة.


من الطبيعي أن الناس الذين عانوا الأمرين من لا أخلاقية السياسة التي مارستها الأنظمة البائدة وسلوكياتها السيئة ينتظرون من الأنظمة الجديدة ومن رجالاتها ممارسة السياسة وفق أعلي المعايير الأخلاقية كالعدل والصدق والنزاهة والأمانة والإخلاص والوفاء والالتزام بالوعود والصراحة, وغيرها. إن علو سقف توقعاتهم أمر بديهي لأنه مرتبط بفكرة الثورة وأخلاقياتها, من ناحية, وبالتضحيات التي قدموها من اجل جني ثمارها, من ناحية ثانية, وبالخبرات التي اكتسبوها في السياق الجديد لقطع الطريق علي محاولات خداعهم, من ناحية ثالثة.

ربما يحاج أن من المبكر الحكم علي الأداء الأخلاقي للأنظمة الجديدة طالما أنها لا تزال في مخاض الفترات الانتقالية وان التغير لم يتحول بعد إلي ثورة, إلا أن علينا أن نتذكر أن هذه هي الفترة بالذات التي تتصارع فيها التيارات المختلفة علي السلطة وعلي مواردها وتتكون إثناءها النخب الجديدة وتصاغ خلالها نظريات الحكم وتوجهاته والتي يستوجب الانتباه خلالها إلي سلوكيات الحكام الجدد ولفت النظر إليها حين تحيد عن الصواب الأخلاقي والسياسي معا.

إن أكثر ما يشد الانتباه في سلوكيات محرومي الأمس الذين تتاح لهم الفرصة في الاستحواذ علي السلطة من خلال الهيمنة علي المواقع الجديدة هو الجموح في استخدامها لمصالحهم النفعية الشخصية والخاصة, علي حد سواء, معيدين بذلك إنتاج السياسات والممارسات التي كانوا هم ضحايا لها علي يد النظام السابق.ولعل من ابرز هذه السلوكيات المريضة هي ما يكتسبه الحكام الجدد من مظاهر السلطة وشططها كالتعالي والإفراط والإنكار والضيق بالنقد, وهي سلوكيات لا تتناقض فقط مع خلفياتهم المتواضعة, بل أيضا مع متطلبات النزاهة والشفافية والبساطة, وغيرها من الفضائل والسياسات الأخلاقية التي تتطلبها حركة الإصلاح والتقدم في المجتمع الجديد.

ولعل ابرز تعبير عن المخاوف من هذه الحالة ورفضها هو شعار مصر ليست عزبة الذي علا دويه منذ ثورة25 يناير والذي يجد صداه لدي التونسيين والليبيين واليمنيين, وقبلهم العراقيون, بان بلادهم ليست ضيعات يرثها الحكام الجدد وحاشيتهم الذين يستغلون السلطة التي وقعت بأيديهم.
هذا السلوك الاستحواذي الذي يعتبر محصلة التغيير مجرد غنيمة يؤدي بالنتيجة الي واحدة من اخطر العلل التي تصيب مرحلة التحول, ألا وهي الاحتكار, احتكار الحقيقة أولا والسلطة ثانيا, وبالتالي التهميش ومن ثم الاقصاء لكل المخالفين, او لمن هم ليسوا علي هوي الحكام الجدد.ان ابشع ما تفعله هذه الممارسات هو انها تفسح المجال للمتعطشين للسلطة للحصول علي المزيد منها مما يعني بالنتيجة استبدال نظام مضطهد بنظام مضطهد جديد.
لقد اشيع منذ زمن طويل وحتي قبل ان يضع ميكافيلي آراءه في السياسة التي اشتهرت بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة ان السياسة قذرة وانها ميدان للخداع والتلاعب في مسعي لدحض الفكرة الافلاطونية عن متلازمة الاخلاق والسياسة التي توفر للانسان المعرفة بالشروط التي تحقق الهدف النهائي له- السعادة.لكن تلك لم تعد افكارامسوغةفي عالم ما بعد الثورات الشعبية, ناهيك عن عالم ما بعد الثورة الالكترونية والمعلوماتية, والتي ما كان ميكافيلي ليتجاسر عندها ليحتقر الشعوب باعتبارها بلا اخلاق, مبررا بذلك لااخلاقية الامير, الذي يجب, حسباستنتاجهالنهائي ان يخاف لا ان يحب.

واذا كان اعظم انجاز حققته الثورات العربية هي اسقاطها جدران الخوف, كما يبدو إلي الآن, فان الجدل الشائع بشأن العلاقة بين الاخلاق والسياسة يبدو محسوما مرة اخري لصالح مبادئ السياسة الاخلاقية ولصالح برنامجها التطبيقي العقد الاجتماعي كما رأه آباء الثورة الفرنسية لوك وهيوم وروسو باعتباره خطة طبيعية للحكم تعد بمقتضاها كل السلطة السياسية أمانة لصالح الناس وضمان ان يعيشوا متمتعين بحقوقهم الطبيعية.

ان معني كل ذلك ان اولئك الذين تولوا السلطة في العهود الجديدة ولم يألفوا بعد حقيقة ان جدار الخوف قد انهار سيرتكبون خطأ فاضحا لو اعتقدوا ان بامكانهم ان يبرروا لانفسهم اي عسف او استغلال او سوء معاملة او تخويف سيرتكبونه تجاه الناس في ظل النظام الجديد بحجة متطلبات الأمن والاستقرار, وغير ذلك مما يثار عادة تبريرا للسياسات اللااخلاقية التييرتكبونها. ولن يقتصر الامر علي ذلك بل انهم سيدركون ان الحلول للمشكلات التي سيحاولون فرضها علي الناس بالمكر والمناورات والمساومات, او حتي تحت ذرائع الحقوق المكتسبة من صناديق الانتخاب والاستفتاءات, سيكون نصيبها الفشل الذريع لانهم سيجدون امامهم اناسا لم يعد يخشون السلطة وهم علي استعداد دائم ان يرفعوا اصواتهم بالشكوي والاحتجاج.

ولعل الانتفاضة التركية الحالية ضد رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان تقدم دليلا آخر علي ان الشعوب لم تعد ترضي ان تكون مجرد دمي ترقص علي حبال شهوة السلطة او ان تقبل بمحاولات خداعها علي ايدي السياسيين الذين يعتقدون انهم ما داموا وصلوا الي الحكم فان من حقهم ان يحصلوا علي شيك علي بياض.

*الاهرام 15/6/2013

How 9/11 changed the Arab world

How 9/11 changed the Arab world

Twenty years after the 11 September, the tragedy has wide-ranging geopolitical and humanitarian impacts on the Arab world, writes Salah Nasrawi.

Two decades ago at the beginning of the 21th century, the Arab world looked at a crossroad facing huge challenges and perspectives. The region was moving forward cautiously a decade after the Gulf war to remove Saddam Hussein’s forces from Kuwait and the signing of the Palestinian-Israeli peace agreement.

The new modus operandi had provided a degree of stability that so many had hoped would allow the Middle East to enter a new era of peace, stability, cooperation that could ensure a flourishing future for its people.

Yet, suddenly the lots of the Arab region had dramatically altered as the world watched on 11 September smoke billowing from the collapsed twin towers in New York and from the Pentagon in Washington by terrorist attacks swallowing almost 3000 lives in an instant and changing the world as we knew it.

The Bush administration had thrust of American power into the light of the day, and unleashed its global war on terrorism and with it invaded Afghanistan and Iraq and in doing so it deeply unsettled much of the world put particularly the Arab World, the geopolitical center of the Middle East.

While US leaders blamed the fateful 9/11 attacks on the al-Qaeda terror group and its leader Osama bin Laden, not Muslims in general, rhetoric, reactions and some political trends stoked Islamophobia and anti-Arabism.

Nowhere was that evident than in the Arab world where American power manifested by US counterterrorism strategies were mismanaged in the 11 September aftermath, creating new security, political, and social problems whose impact can be felt even today.

When faced with decisions to respond to the scourge which American commentators were quick to compare it to a new “Pearl Harbour”, President George W. Bush vowed that the United States “will make no distinction between the terrorists who committed these acts and those who harbour them” in the war he declared on terrorism.

As it became clear that nineteen hijackers of the commercial airlines and carried out the attacks on New York and  Washington came from Arab countries and acted under orders from bin Laden’s al-Qaeda group, it became evident the US relationships with the Arab and Muslim world seemed fated to change radically and permanently.

Driven by anti-Muslims hysteria, fight against terrorism has become the defining issue first for the US administration and then by Western governments. Anger and furry triggered by the 11 September attacks soon became the norms in how the United States and Europe engaged the Arab world.

From intense scrutiny and distrust that was unleashed after the attacks, visa restrictions, headscarves bans, abuse of “ostensible” religious Muslim symbols to physical assaults on Muslims, a toxic environment have prevailed ever since for Arabs in the United States and the West in general.

This discriminatory backlash shaped by the events of 9/11 and their aftermath had created multilayered unease in America’s political and cultural relationships with Arabs that deepened the mutual misunderstanding wrought by the traditional misguided and hostile US foreign policy choices in the Middle East.

Though the war on al-Qaeda which was made US top priority was meant to eradicate Islamic Jihad threats in the way that stopping Communism once was the Western grand strategy, the crusade has utterly failed as a more powerful terror terrorist organization the self-proclaimed Islamic State (IS) with worldwide appeal soon emerged.  

Despite twenty years of military actions by the United States and its international partners aimed at stamping out terrorism that have exacted major tolls on al-Qaeda and IS, the two groups have been able to adapt and expand in too many hot spots and put their violent extremism into action.

Perhaps the worst manifestations in the “war on terror” was the two wars that the Bush administration waged in Afghanistan and Iraq which resulted in dramatic geopolitical and humanitarian impacts that continued to have ripple effects across the region.

Less than a month after 11 September, 2001 US troops invaded Afghanistan in an attempt to dismantle al-Qaeda, the terrorist group that claimed responsibility for the attacks and remove the radical Taliban government harbouring it.

The Afghan war which came to an end last month was America’s longest war and one of US worst foreign policy gambles. Its death toll in Afghan national military and police amounted to 66,000 in addition to 47,245 Afghan civilians and 51,191 Taliban and other opposition fighters. Millions of Afghans were either war refugees abroad or internally displaced.

The financial cost of the war in Afghanistan was over $2 trillion, nearly $300 million a day according to some modest estimates while the violence continued to destroy lives and induced breakdown of security, public health, security, and infrastructure.

America’s stunning retreat from Afghanistan was widely seen as strategic miscalculation that has sweeping implications. The hasty withdrawal did not only affect Afghanistan but constituted a major defeat which dismayed key US allies and allowed US main global adversaries, China and Russia to seek reaping advantages.

Closer to the Arab world, the invasion of Iraq and the overthrow of Saddam regime in 2003 was more catastrophic when the occupation of an Arab powerhouse ended in a series of failures and epidemics of violence effecting much of the region more than Iraq and unleashing a perfect storm of political and sectarian conflicts.

 The United States and a coalition of allies invaded Iraq vowing to destroy Iraqi weapons of mass destruction (WMD) and cut al-Qaeda’s links with Saddam’s regime which the Bush administration alleged dating back to the early 1990s, and was based on a common interest in confronting the United States. 

The Bush administration claimed that overthrew of Saddam would bring peace, prosperity and democracy into Iraq but the declared objectives for invading Iraq soon proved illusory and ever since, violence, civil warfare and economic pitfalls have wracked the country. Hundreds of thousands of innocent people were dead and wounded and millions others have been displaced and enormous resources have been squandered.

As a violent insurgency arose, Iraq laid in wreak wasted by terrorism which later hatched IS, a monster of Islamic extremism which managed to seize large swathes of Iraq for a while and expanded into a network of supporters in several countries with affiliates increasingly carried out attacks across the region and in Europe.

The group has re-established its clandestine intelligence network in parts of Iraq after it was kicked out of major cities and towns in 2017 and resumed conducting lethal attacks against government forces, village chieftains, and targets like oil pipelines and electricity grids.

The Iraq invasion also set off the chain of turbulent events in the region that led to empowerment of anti-regimes activists who triggered the Arab Spring nearly ten years later. It also had indirect connections to Iran’s growing influence in the region and allowed the Islamic Republic to expand its power and achieve its strategic objectives.

Fast-forward two decades, and the picture in many parts of the region doesn’t look very different. While terrorist groups are either active or lurking in hubs, extremism has not abated since 9/11 and is still posing ideological and security threats to the region.

The chaotic and humiliating US withdrawal from Afghanistan and the dramatic comeback of the Taliban is a likely boost to Islamic radicalism in the Arab world and could increase dangers of  terrorist groups proliferated in ways unimagined in 2001.

The 11 September attacks gave the United States an opening for a crusade conducted through sheer power, arrogance and vengeance. The Arab region, apart from the rest of the world, will continue to experience this blowback from the US-led international war on terrorism well into the near future.

Published in Al Ahram Weekly, 9/92021

What could the US-Iraq talks yield?

There are doubts and questions swirling on all fronts as US and Iraqi officials brace for talks to charter a new course, writes Salah Nasrawi

Next week the world will watch Iraqi and US officials meeting in Washington to hammer out agreements on how for the two countries going forward as Iraq is mired in political chaos and the Trump administration remains at a dangerous crossroad in the Middle East.

There have been plenty of speculations about the talks, their goals, and the purposes and the interests they serve. Questions also have been raised on whether adequate preparations have been made for the meeting.

The talks which have been dubbed a “strategic dialogue” is scheduled for mid-June and the future of the US military presence in Iraq is expected to top high on the table with an official agenda has yet to be worked out.

US Secretary of State Mike Pompeo who broke the news of the dialogue on 7 April said the talks were a US proposal and will cover “all strategic issues between our two countries.” He said that will also include “how best to support an independent and sovereign Iraq.”

Iraq’s former Foreign Minister, Mohammed Ali al-Hakim said his office had received a letter from the State Department “suggesting procedures for negotiations based on the concepts in the Strategic Framework agreement.”

Iraq’s new Prime Minister Mustafa al-Kadhimi discussed briefly the upcoming negotiations with Pompeo but his office disclosed no details about their brief telephone conversation following his endorsement by the parliament on 6 May.

While it is still hard to know exactly the possible approaches each sides will be taking to address the increasingly hard issues in the Iraqi-US relations, the talks will likely provide a perspective for the possible trajectory of their future ties.

Reading into Pompeo’s remarks and a statement by the US embassy in Baghdad, Washington seems to be setting a sort of guidelines for a strategic US-Iraqi partnership placed on a stable and long-term footing.

Under such a perspective, Washington is probably looking for a framework for its relations with Baghdad which is capable of maintaining the current level of cooperation and preserving a functional order for the future.

Moving beyond press-release diplomacy, however, multiple questions remain about how the Trump Administration can resolve serious issues that have been bedeviling US-Iraqi relationships and move the ball forward.

For a starter, the United States has to face up to Iran, the active regional power in Iraq after years of US policy failure which has turned the Islamic Republic to a key player in the country’s affairs and a Middle East powerhouse.

A major win for the United States in the upcoming talks will have to come directly from its efforts to apply concerted diplomatic, economic, and military pressure to constrain Iran and its allies in Iraq.

Washington should assume that this would be part of its “Maximum pressure” on Iran and that America’s confrontational posture is diminishing Iran’s influence in Iraq and would help to empower the anti-Iran forces and US Iraqi allies.

But in order to achieve that goal Washington should have a clear, comprehensive and functional strategy in Iraq in addition to another grand strategy in the Middle East and concrete plans to implement them.

Apart from lacking a viable strategy, miscalculations and political blunder by successive US administrations have created a geopolitical void in Iraq and the region that helped Iran’s influence to surge.

A critical first step towards creating some form of lasting US-Iraqi relationship is to help Iraq get back on its feet, a mission the United States has failed to fulfill after its invasion of the country in 2003.

American ME pundits have been making proposals to the administration with regard to the upcoming talks which focus primarily on the size of the US troops in Iraq which American negotiators should discuss with their Iraqi counterparts.

The discussions among the league of US Iraq’s experts is whether Washington should keep the same level of the combat assistance mission in Iraq, or maintain a small force of military advisers to help train and develop Iraqi military capabilities.

Yet, for the United States to help Iraq defend itself it should retake the responsibility it has abandoned in helping Iraqis rebuilding their state and their nation fractured by its own invasion and mishandling of its occupation of Iraq.

If Washington is keen to have a constructive “strategic dialogue” with Iraq it should start with engaging in state and nation-building efforts in Iraq, an obligation it has long ignored in favour of the “no strategy” and “non-decision” the successive US administrations have adopted in Iraq.

The upcoming talks should, therefore, focus on forging a stable strategic partnership — one that will not center on countering threats from extremism and Iran but helping Iraqis to fix the failed state that has become a breeding ground for terrorism and Iran’s intervention. 

A US approach in the talks should start with a new playbook for bilateral relations that seeks to upgrade the Strategic Framework Agreement (SFA) which was intended to shape “the legal, economic, cultural and security relations between the two countries.”

The 2008 agreement which states that the US should work to “support and strengthen Iraq’s democracy and its democratic institutions and enhance Iraq’s capabilities” suffers from both clarity gaps and mechanism on how to be put things in action.

For Pompeo’s words that the dialogue is to show “how best to support an independent and sovereign Iraq” to be meaningful, Washington should now seek a new assertive and reliable framework for this new phase of Iraqi-US relationships cohered into the outlines of a longer-term strategic cooperation.

For Iraq’s part, it is a time of choosing – continue to be a playground for regional tension, conflicts, international powers’ ambitions and terrorism or open a new chapter of opportunity to achieve stability and sovereignty? 

The “strategic dialogue” with Washington could be a rare opportunity for Iraq to break free from this vicious circle of Iran’s hegemony and effectively establish a solid position for itself in the world’s geostrategic environment and promote its own national interests.

Thus far, indecision has reigned in the Iraqi leadership, which is paralysed by inefficiency, corruption, political and sectarian divisions and competitive foreign and regional influences.

The core question for Iraqi policy-makers at this juncture is whether Baghdad should ask Washington to withdraw its troops from Iraq or seek to keep the troops in until Islamic State (IS) is completely defeated on the battlefield.

Iraqis are sharply divided on this issue which is expected to top the talks’ agenda with the internet ablaze with rumours, chatter and speculations about a US withdrawal, limited withdrawal or no withdrawal and the implications for both sides.

In January, the Iraqi parliament voted to remove US troops from Iraq. Some 168 members of 328-assembly endorsed a resolution submitted by Iran-backed Shia groups which specifically calls for expelling the US troops from Iraq.  

Most Sunni and Kurdish lawmakers boycotted the session, which was held two days after the killing of General Qassem Soleimni, head of Iran’s Quds force in Baghdad by a US airstrike.

Sunni and Kurdish political leaders have repeatedly made it clear that they don’t want the US troops to leave for fear that Iran will fill vacuum and Iraq could be dragged down to chaos.

Adel Abdul-Mahdi, Iraq’s caretaker prime minister at the time, said his government will work to implement parliament’s resolution. He also said that if US troops remains then they will be considered an occupying force.

Tehran-backed militias which have frequently attacked US interests in Iraq in the past also vowed to target some 5.550 US forces which they are believed to be in Iraq if they stay.

While al-Kahdimi’s government has yet to make its mind about its security needs from the US troops, it has also to tackle the accumulation of problems left by the former government as well as other challenges that emerged thereafter.

With coronavirus pandemic raging and plummeting oil revenues threatening Iraq’s economic collapse, its leadership will likely need help from outside sources to fix the country’s economic and financial woes.

In addition to direct assistance from Washington, Iraqi leaders realize that US support is essential for getting help from these sources such as the World Bank, Gulf Arab states, the European Union and the United Nations to confront its systemic difficulties.

More specifically, the Iraqi leadership needs a comprehensive strategy based on a careful assessment of both its needs and the US intents and purposes to negotiate a new deal with Washington that will guarantee Iraq’s rebuilding, a commitment overlooked by successive US administrations since 2003.

So far, the shallow rhetoric from both sides about the talks have little to show for this effort that it would successfully put Iraq on a pathway to peace, stability and prosperity?

How Baghdad and Washington resolve such a dilemma remains unclear while there’s little political and diplomatic infrastructure being adequately prepared for what may come from their “strategic dialogue.”

END

Analysis & views from the Middle East