دولة علي بابا

cover 5

 

 6)                          

                                             قمة جبل الفساد

 

 

ما ان سقط “نوري المالكي” من سدة الحكم بعد فشله في الحصول على ولاية ثالثة اثر الانتخابات التي جرت في شهر نيسان (ابريل) 2014 حتى بدأت تتضح صورة الفساد الذي تراكم في عهده والذي استمر ثمان سنوات وكان ينتظر منها ان تكون المرحلة الانتقالية لاعادة بناء الدولة العراقية الجديدة.لم تمر معركة اسقاطه التي اجتمعت فيها اطراف عراقية واقليمية ودولية عديدة بسهولة فقد تشبث المالكي باسنانه واضافره بكرسي رئاسة الوزارة حتى اللحظة الاخيرة.ولولا الضغوط التي مارسها عليه حلفاؤه، وخاصة ايران، والفصائل الشيعية الرئيسية، والادارة الامريكية، ما كان المالكي ليقبل بالخروج من المنافسة رغم انه ضمن منصبا آخرا يوفر له المكانة والدور في الحكومة الجديدة وفي مؤسسة الحكم والاهم من ذلك الحصانة من المحاسبة.كانت القشة التي قصمت ظهر البعير وادت الى زوال فرص تجديد الولاية هي انهيار الجيش والقوات الأمنية في الموصل والتي سهلت عملية اجتياح تنظيم داعش الإرهابي لمدن اخرى اضافة الى استيلاء البيشمركة الكردية على اراضي شاسعة في اربع محافظات عراقية وضمها الى اقليم كردستان مما افقد الحكومة المركزية السيطرة على مساحة تعادل نحو ثلث مساحة العراق.لم تكن كل تلك الفجيعة ممكنة الوقوع من دون الفساد الذي كان مستشريا في صفوف قادة الجيش والشرطة وضباطه والذي مهد الى تلك الهزيمة المريعة، وما ترتب عليها لاحقا من دخول البلاد في نفق مظلم اصبح يهدد كيانه بالتمزيق.(1)

كانت هناك آمال بفتح ملفات الفساد الذي جرى في عهد المالكي بعد فشله في تولي رئاسة الحكومة لثالث مرة، ولكنها آمال سرعان ما تبددت ولم تلق التجاوب المطلوب من الحكومة الجديدة لاعتبارات عديدة، اهمها ان الفساد خلال الفترة السابقة اصبح منظومة مهولة راسخة تغطي كل مفاصل الدولة والطبقة السياسية الحاكمة، وبالتالي فانها لم تكن تشمل المالكي وبطانته فحسب، بل كذلك جماعات وشخصيات نافذة من كل الأطياف السياسية، وشبكة واسعة من المصالح والمنتفعين، مما يعني ان القيام باية عملية كشف حساب حقيقية عن الفساد وجذوره ستواجه بمقاومة شديدة من اقطاب هذا المعسكر الذين كانوا مراكز قوى اساسية.ما يرتبط بهذا ايضا هو ان المالكي نفسه كان يمتلك ملفات ومعلومات عن فساد اقطاب الطبقة السياسية والتي ستجعل الكثيرين من افرادها يتردون في فتح ملفات فساد حكومته خشية من كشفهم ايضا، او التشهير بهم وملاحقتهم قانونيا.اضافة الى كل ذلك فان تعيين المالكي في منصب نائب الرئيس اعتبر نوعا من الحصانة منحت له في صفقة من التفاهمات مع الأطراف الاخرى بغية ضمان عدم ملاحقته قانونيا.هذه وغيرها من الأسباب زادت من الشكوك لدى العراقيين بامكانية ان تقوم حكومة حيدر العبادي بكشف حجم الفساد الحقيقي الذي جرى خلال تلك الفترة وفي جميع مفاصل الدولة.

غير ان سقوط الموصل في شهر حزيران (يونيو) 2014، واستيلاء داعش على أراضي ومدن في خمس محافظات والذي تزامن مع اعلان نتائج الانتخابات والأزمة التي اعقبتها بشأن تشكيل الحكومة، سلطت الأضواء بقوة على قضية الفساد، وخاصة بعد ان اتضح بان الفساد في القوات الأمنية وسؤ الادارة كانا العاملان الرئيسيان في الانتصارات المدوية التي حققها الارهابيون.لقد كان سقوط الموصل نكبة وطنية سرعان ما اتضح انها كانت ناجمة عن الانهيار السريع في صفوف الآلاف من أفراد القوات الأمنية امام زمرة، لم يتعدى عددها المئات، مما ادى الى زيادة وتيرة الحديث عن اداء هذه القوات التي كان معروفا للقاصي والداني انها تعاني من اخفاقات كبيرة على كل المستويات نتيجة لما عانت منه من فساد مالي واداري ناجم عن فشل قيادة المالكي للحكومة وللقيادة الأمنية طيلة الأعوام الثمانية السابقة.

خلال السنوات العشر التي سبقت الانهيار المدوي في الموصل وباقي المحافظات قامت الحكومة العراقية والجيش الامريكي بصرف بلايين الدولارات على بناء وتجهيز وتدريب واعداد القوات الأمنية العراقية.فبين عامي 2003 و2011 انفق الجيش الامريكي نحو عشرين بليون دولار على اعداد وتدريب القوات العراقية اضافة الى مبالغ اخرى لأغراض متفرقة، في حين صرفت الحكومة العراقية اضعاف هذا المبلغ على بناء القواعد والمعسكرات واعداد القوات وتجهيزها وتسليحها وتهيئتها للقتال ضد الإرهابيين.(2)

فمنذ حل الجيش السابق جرى بناء الجيش الجديد على أساس الاعتماد على خلطة من الأفراد من اقلية منتقاة من بين ضباط الجيش القديم، واغلبية من المتطوعين الجدد، اضافة الى اعضاء في الجماعات الشيعية المسلحة التي كانت قد شكلت في ايران من قبل معارضي صدام لمحاربة جيشه.ولقد اثبتت الأحداث التي توجت بسقوط المدن العراقية بيد داعش ان هذه الخلطة المتنافرة العناصر لم تنجح بالاندماج الفعلي بما يكفل تشيكل نواة لجيش وطني، خاصة انها افتقدت لتوازن حقيقي بين المكونات العراقية.كان من النتائج المباشرة لهذا الفشل في عملية الاندماج هو العجز عن بناء قوات امنية تتمتع بالكفاءة والقدرة في مواجهة التحديات الأمنية التي يواجهها العراق، وخاصة الارهاب، في حين ان من بين النتائج الاخرى هو الإخفاق في تعزيز الهوية الوطنية عن طريق خلق جيش يكون رمزا لوحدة العراقيين من خلال تمثيله لجميع المكونات والجماعات على قاعدة المساواة والمواطنة، وليس المحاصصة الطائفية والعرقية، كما حصل.

عشية سقوط الموصل كان الجيش العراقي الجديد يتكون من خمسة عشر فرقة عسكرية تضم كل فرقة منها بين 12-15 فردا حيث قدر “معهد ستوكهولوم لابحاث السلام” المجموع الكلي بحوالي 190,000 جنديا في حين ان القوات الأمنية الاخرى كانت تضم فرق قتالية من الشرطة الاتحادية، ومن قوات مكافحة الارهاب، وقوات جوية وبحرية وغيرها تضيف آلافا اخرى لعدد القوات الأمنية العراقية المسجلة في سجلات الدولة رسميا.(3).

ومقارنة بجيوش اخرى في المنطقة وفي العالم فان قوات امنية تضم هذه الأعداد الهائلة من الأفراد، وتحظى بميزانيات هائلة، وتدريب جيد من قبل واحد من اكبر جيوش العالم، لابد ان تكون على مستوى عالي من الخبرات ومن الاداء ومن الروح القتالية.الا ان الوقائع المعروفة يومئذ كما النتائج التي تحققت في انهيار القوات الأمنية امام فلول داعش، اثبتت ان اوضاعها كانت اسؤ بكثير مما كان معروفا ومتوقعا.وفي حين ان عوامل كثيرة لعبت دورها في وصول القوات العراقية الى هذه النتيجة، الا ان الفساد بكل انواعه، في المؤسسة الامنية يبقى العنصر الأساس وراء الكارثة التي حلت بالعراق بصعود داعش في صيف عام 2014 والتكلفة المادية والبشرية العالية التي دفعها العراقيون بعد ذلك بالدم والدموع والخراب من اجل طرد الإرهاببين من المدن التي احتلوها.(4)

ومثلما سلطت كارثة سقوط الموصل الأضواء على عوامل فشل القوات الأمنية العراقية امام داعش فانها منحت الفرصة للأطراف لتقديم معلومات هائلة عن حجم الفساد داخل المؤسسة العسكرية الذي هيأ الاجواء لتلك الهزيمة.الطرف الامريكي صحا فجأة على وجود فساد مستشري في هذه المؤسسة التي ظل يتبجح انها من بنات ابداعاته، وبدأت وسائل الاعلام الامريكية تنشر المزيد من التقارير عن ملفات الفساد في الجيش والشرطة، كما اتضح من الحملات التي قامت بها صحف امريكية رئيسية كـ”الواشطن بوست” و”نيويورك تايمز” و”لوس انجلس تايمز” و”وكالة انباء الاسوشيتدبريس” ومن خلال تسريبات واضحة.لكن الهدف الامريكي هنا لم يكن ردا على مطالبة الادارة الامريكية من قبل “الكونغرس” والرأي العام الامريكي بان تجيب عن السؤال كيف انهارت هذه القوات التي اشرفت على اعدادها وتدريبها وتمويلها بهذه السرعة والكيفية، ولكن من اجل تمهيد الطريق امام عودتها للعراق وقيادتها التحالف الدولي لمحاربة داعش الأمر الذي كان يتطلب وضع مسألة معالجة الفساد الذي تغرق فيه الأجهزة الأمنية العراقية امام الحكومة العراقية وعلى الطاولة كشرط من شروط عمل التحالف الدولي لمحاربة داعش.(5)

ومثلما حاولت الولايات المتحدة ان تدفع عن نفسها تهم الفشل في بناء مثل هذه القوات وبالتالي ان تتحمل مسؤولية كارثة الموصل وغيرها من مدن العراق فان اطرافا عراقية كانت ضالعة في سقوط الموصل لعبت لعبة كشف وقائع الفساد في القوات الأمنية في الموصل بغية تبيض صفحتها، وغسل يدها، من المسؤولية عن تلك النبكة.فوفقا لمحافظ الموصل “أثيل النجيفي” فان المدينة كانت ساقطة بيد داعش “منذ سنوات” بسبب الفساد المتفشي بين الضباط، وتغاضي الحكومة والاميريكان عن عمليات التهريب الكبرى التي كان ينفذها تنظيم “داعش”، وعن فرضه اتاوات على التجار والشركات.وحسب شهادة النجيفي فان رئيس الوزراء “نوري المالكي” رفض الإستماع الى معلومات قدمها له شخضيا عن تورط ضباط كبار في الاستخبارات في تسهيل عمل “داعش” في الموصل، وفي عمليات تهريب النفط بالتعاون مع التنظيم.ووفقا للنجيفي فان “ضباط الاستخبارات” في وزارة الداخلية وفي الفرقة الثانية المنتشرة في الموصل “كان عملهم يقتصر على ابتزاز المقاولين والمتعهدين واصحاب مواقف السيارات ومحطات الوقود” وليس في محاربة داعش.(6)

ومع ان التقارير الأمريكية، وشهادات خصوم للحكومة، تبقى مشكوك في دوافعها الا انها تضيف بعض الأبعاد لصورة الجريمة التي اقترفت بحق العراق والتي لن تمحى اثارها ابدا.غير ان المشكلة ايضا هي ان حكومة “دولة علي بابا” لم تتخذ اية خطوة جادة للكشف عن حقيقية ما جرى في قصص سقوط المدن العراقية واحدة تلو الاخرى بيد داعش بداية من الشهر الاول لعام 2014، وبالتأكيد تفريطها في العثور على المتسببين بذلك ومحاسبتهم، مما يعني انها تولت بذلك حماية الفاسدين والمفسدين وجبل الفساد الذي اقاموه داخل المنظومتين العسكرية والأمنية.

المحاولة اليتيمة التي جرت في التحقيق بسقوط الموصل هي تلك التي قام بها البرلمان تحت ضغط الانتقادات الشعبية المتصاعدة والتي تم من خلالها تشكيل لجنة تحقيق شاب عملها الكثير من العيوب والنقائص من النواحي القانونية والفنية كما شابها خلافات وصراعات بين القوى السياسية ادت بالنتيجة الى الخروج بتقرير بائس يفتقر الى الخبرة والكفاءة في تحديد المسؤوليات وفي رسم صورة دقيقة وتفصيلية لما جرى في الموصل.ومع هذا فقد عجزت الدولة بأجهزتها التنفيذية والقضائية في فتح التحقيقات اللازمة في ما ورد من وقائع تدين الكثيرين من المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين في مأساة الموصل، بل ان العديد من اولئك ظلوا يمارسون عملهم وادوارهم في “دولة علي بابا” في تحد صارخ لدماء الآلاف من العراقيين الذين سقطوا ضحايا الغدر عند تسليم تلك المدن لداعش والآلاف الآخرين الذي ضحوا من اجل تحريرها.(7)

واذا كانت قصة الفساد في الأجهزة الامنية تبدأ مع تشكيلها بالطريقة التي اشرنا اليها، فان الوقائع التي كشف عنها خلال السنوات اللاحقة عن الفساد وسؤ الادارة تؤكد على ان حصاد تلك التجربة المرة كان يتطابق مع الأسس الخاطئة التي اقيمت عليها هذه المؤسسة المهمة.كانت اكثر صور الفساد انتشارا في القوات الأمنية هي ظاهرة “الفضائيين”، وهو تعبير عبقري من نتاجات ابداعات فن التهكم الشعبي لدى العراقيين، اطلقوه على الجنود والضباط المسجلين في سجلات القوى الأمنية والذين يستلمون رواتبهم وإستحقاقاتهم الاخرى دون ان يكون لهم وجود حقيقي على الأرض في صفوف القوات العاملة.كانت ظاهرة الفضائيين شائعة في كل مفاصل الدولة الا انتشارها الأوسع كان في القوات الأمنية بسبب الانفلات والتسيب الذي شاب عملها من جهة وتدخلات الجماعات السياسية المهيمنة من جهة ثانية.لم يتم الكشف عن هذه الظاهرة علنا الا بعد كارثة سقوط الموصل حين اتضح ان عدد القوات المسجلة لدى الفرق والالوية وباقي الوحدات العسكرية والامنية في الموصل كان يتجاوزر ثلاثين الفا لكن من كان موجدا فعلا في الخدمة على الارض لم يتجاوز بضعة آلاف.من هنا بدأت الاسئلة تطرح عن الأعداد الكلية للفضائين في الجيش والشرطة، وعن مجمل الأموال التي هدرت على رواتبهم وإعاشتهم وتجهيزهم دون ان يكون لهم وجود فعلي.لم يتسنى للعراقيين الحصول على اي من هذه الاجوبة ولا الاطلاع على مظاهر الفساد الاخرى المؤكد ارتباطها بذلك وتأثيرها على اداء الجهاز الأمني وعلاقات ذلك بجرائم الإرهاب التي حصدت حياة الآلاف من العراقيين الأبرياء.

في خضم هذا الجدل والمطالبات الشعبية بالكشف عن تفاصيل فضيحة سقوط الموصل وتحديد مسؤولية القادة السياسين والعسكريين فيها اضطر رئيس الوزراء الجديد العبادي” للحديث عن قيام حكومته بالغاء وظيفة 50 الف جندي فضائي في وزارة الدفاع خلال شهر واحد، وهو رقم رغم تواضعه، اذهل العراقيين الذين بدؤا يطالبون بكشف الحقيقة عن الفضائيين كاملة سواء في وزارة الدفاع او في باقي الاجهزة الامنية.(8)

لايبدو ان هذا هو فقط عدد الجنود والضباط الفضائيين، ولا يمكن ان يكون خمسون الفا من الذين تم اعفائهم هم فقط من يتحمل نتائج تلك الكوارث.فقد ارتفعت اصوات برلمانيين وسياسيين وخبراء تؤكد ان اعداد الفضائيين تفوق ذلك بكثير وان الظاهرة عميقة الجذور ومستمرة منذ سنوات وان المتورطين فيها لا يعدون ولا يحصون.واذا ما اخذ بنظر الإعتبار ان العدد الذي كشف عنه هو في فرق عسكرية محدودة العدد فان العدد الكلي لا بد ان يكون اكبر من ذلك بكثير ضمن الأرقام التي كشف عنها، ولعل اهمها الرقم الخاص بالعسكريين الذين ادلوا باصواتهم في انتخابات 2014 والذي بلغ نحو 700 الف حسب ارقام رسمية منشورة.هناك فجوة كبيرة بين عدد المصوتين في الاقتراع من القوات الامنية وبين الأعداد المحتملة في الوحدات العسكرية، وحتى مع إحتمالات وقوع التزوير، وتضخيم الأعداد للاغراض الانتخابية،  فان العدد الفعلي لهؤلاء الأفراد يبقى متضخماً مما يؤكد ان عدد الفضائيين الذي كانوا يتسلمون رواتبهم اكثر بكثير مما قيل يومها.  

ان مجرد الكشف عن رقم لا يعني شيئا دون تحقيقات شفافة تجري من قبل قضاء نزيه ومستقل تكشف عن كل المتورطين من محرضين وفاعلين اساسين في هذه الجريمة.كيف سيثق العراقيون بالقوات الأمنية بعد الان وهم يعرفون ان ارواحهم واموالهم واعراضهم ووطنهم لم تكن بايدي امينة.هل من المعقول ان تجري هذه العملية الواسعة النطاق ولا تجري اي عملية مراقبة، او مراجعة، او محاسبة، كي لا تتسع الكارثة الى هذا المدى الإجرامي الدنيء.هناك حاجة لكي يعرف العراقيون ان كانت هذه عملية منظمة ومن يقف وراءها من قوى محلية واجنبية كانت تسعى لتدمير الجيش والاجهزة الأمنية كي تصل الى ما وصلت اليه، وبالتالي فهي ليست مجرد عملية فساد داخلي، بل هي عملية منظمة ترتقي الى مصاف الخيانة الوطنية التي راح ضحيتها الآلاف من الشباب كما كلفت البلد تدميرا كاملا لمدن عديدة. 

لقد طبلت وزمرت اجهزة الإعلام المختلفة لخطوة العبادي في الكشف عن وجود 50 الف جندي فضائي، لكن لم يسمع العراقيون عن اية اجراءات فعلية في التحقيق عن هذه الوقائع وملاحقة المسؤولين عنها واحالتهم للقضاء.فقد نشرت جريدة “الشرق الاوسط” يوم 10 كانون الاول (ديسمبر) 2014 وقبلها موقع “باسنيوز” الاخباري يوم 4 كانون الاول (ديسمبر) 2014، نقلا عن تحقيقات اجريت من قبل الامانة العامة لمجلس الوزراء مع “الفريق علي غيدان” قائد القوات البرية اثناء اقتحام الموصل ان “مكتب رئيس الوزراء السابق (نوري المالكي) كان على علم بالجنود الفضائين في الدفاع والداخلية وأن 40 بالمائة من رواتب الفضائيين كانت تستقطع وترسل الى مكتب القائد العام للقوات المسلحة، اي مكتب المالكي نفسه.(9)

واذا كانت ظاهرة الجنود والضباط الوهميين قد اثارت الكثير من الاهتمام بسبب طبيعتها الشاذة وتلازمها مع قضايا اصلاح القوات الامنية والحرب على داعش وشروط التحالف الدولي فان القليل من ملفات الفساد الاخرى في القوات الامنية التي تبرعت أجهزة اعلام عراقية بالكشف عنها خلال هذه الفترة القصيرة تم تجاهلها رغم الالحاح الشديد على رئيس الوزراء والبرلمان والطلبات المتكررة للقضاء والادعاء العام لفتحها باعتبار ما ينشر بشانها بلاغات رسمية تستوجب التحقيق فيها قانونيا.

ما بدأنا نشهده مع كشف العبادي عن اعداد “الفضائيين” هو مجرد قمة جبل الفساد في المؤسسة الأمنية التي كان منوطا بها حماية البلد من الارهاب والتهديدات الاخرى. لكن جبل الفساد نفسه ظل مطمورا في غياهب التردد في فتح ملفات الفساد الاخرى والتحقيق فيها وفي بدء عملية المحاسبة وجلب المتهمين امام القضاء وانجاز العدالة التي يستحقها العراقيون الذين دفعوا اثمانا باهظة نتيجة لهذا النمط من الفساد بالذات.كانت احدى الملفات المهمة هي تلك التي تتعلق بهروب السجناء من الارهابيين، او المتهمين بالارهاب، مرات عديدة من المعتقلات والسجون وتمكنهم بعد ذلك من الالتحاق بالجماعات الارهابية والعودة لممارسة نشاطاتهم في القتل والتفجير والتدمير.وعلى الرغم من ان عمليات الهروب تلك استمرت لسنوات طويلة وفي سجون امتدت من الموصل الى البصرة، واحيانا من مراكز، اعتقال شديدة الحصانة في بغداد، الا انه لم يجر اي تحقيق رسمي، او محاسبة، للمسؤولين عن هذه السجون في حين تمكن الأرهابيون من الافلات والعودة التي تنظيماتهم السابقة.كانت كل التقارير تشير الى وجود شبكات من الضباط والمسؤولين المتواطئين الذين يسهلون عمليات التهريب لإسباب شتى، تتراوح بين التعاون مع المنظمات الارهابية الى تلقي الرشاوي لتسهيل الهروب.(10).

وتمثل عملية هروب الارهابي الداعشي الخطير “شاكر وهيب” احدى القصص المثيرة عن تواطئ الأجهزة الأمنية وحراس السجون في التعاون مع المنظمات الارهابية لتهريب عتاة الارهابيين من السجون وعودتهم لممارسة نشاطاتهم في القتل والذبح، كما هي في حالة وهيب.فوفقا لصفحة أحمد الجلبي على االفيسبوك فان “شاكر وهيب” كان يقبع في سجن المطار الذي وصفه الجلبي بانه “سجن لا يدخله ولا يخرج منه سوى الجن لكثرة الأبواب الموصدة فيه”.ويتساءل الجلبي كيف تمكن وهيب من الخروج عبر هذه البوابات وفي ظل “وجود مايقارب 50 نقطة حرس.” الا ان الجلبي يسارع  للاجابة بنفسه بان ذلك تم عبر “صفقة تجارية كبيرة” مكنته من “الخروج بسيارة عسكرية من المطار” وبعلم “كل القادة العسكريين في المطار.”

ما حصل بعد ذلك هو عودة وهيب الى ممارسة دوره الاجرامي ونشره بعد فترة قصيرة لفيديو يصوره وهو يذبح عددا من سائقي الشاحنات وهم يقومون بعملهم على الطريق الذي يربط العراق بسوريا والأردن قبل ان يعود الى قيادة التنظيم ليتزعم الارهابيين الذين استولوا على مدن محافظة الانبار شتاء عام 2014.

غير ان الهروب الكبير لنحو 1000 نزيل معظمهم من الإرهابين من “سجن ابو غريب” ليلة 21 تموز (يوليو) 2013 اثار فضيحة مجلجلة لحكومة المالكي بعد ان تمكن معظم الهاربين من الإفلات ووصولهم الى قواعد ومضافات التنظيمات الارهابية وعبور اعداد كبيرة منهم الى سوريا للانظمام الى تنظيمي داعش والقاعدة.ومرة اخرى لم يكن ذلك الهروب الكبير نجاحا لتنظيم داعش الذي ادعى مسؤوليته عن عملية الهجوم لتحرير السجناء، بل لفساد القوات التي تحرس المعتقل شديد الحراسة وعدم كفائتها وسؤ ادارتها.وبإمكاننا ان ندرك حجم الجريمة التي ارتكبت هنا اذا ما عرفنا ان بضعة مئات من ارهابي داعش فقط هم من شارك في الاستيلاء على الموصل بعد اقل من عام على حادثة الهروب تلك وان سقوط الموصل قد استدعى حربا شاملة وتحالفا دوليا لاخراج الارهابيين بعد ثلاثة اعوام.(11)

ومن الطبيعي في مؤسسة يضرب فيها الفساد بكل مفاصلها ان يشمل ذلك عقود التسليح التي تشكل مصدرا هاما للرشاوي والصفقات المالية التي تتم مع الشركات المجهزة والإطراف الوسيطة.اذ لم يمض على تأسيس وزارة الدفاع في “دولة علي بابا” سوى اشهر معدودات حتى تكشف ان وزيرها حازم الشعلان وطاقمه القريب قد وقعوا على نحو اربعين صفقة سلاح كانت اغلبها تشوبها عمليات فساد بلغت اكثر من مليار دولار وهي الفضيحة التي وصفت بانها الأكبر في تاريخ الفساد في العالم يومئذ.(12)

وتكشف وقائع هذه الصفقات وملايين الدولارات التي تم سرقتها من قبل حفنة صغيرة من هؤلاء اللصوص الكثير عن قصة الفساد في العراق، اولا، بسبب حجم الأموال التي تم الحصول عليها وتهريبها، وثانيا لانها لم تكن لتتم لولا معرفة ودراية ادارة الاحتلال الامريكي التي كانت لاتزال تدير العراق، وثالثا لانها جرت في وقت مبكر جدا من عمر الاحتلال مما يوضح العقلية الفاسدة التي كانت تتحكم بزمر المعارضة التي كانت في المنفى والتي جاء بها الغزاة ونواياها المبيتة.تم الحكم على الشعلان بالحبس 25 عاما بعد فترة طويلة من هروبه الى لندن وظل هناك يتمتع بالأموال التي سرقها والاستثمارات التي اقامها تحت حماية الجنسية البريطانية والأمن البريطاني.ولعل قصة الشعلان هي التي سنت السنة التي مضى على طريقها من جاء بعده حيث استمر الفساد وتعاظم في المؤسسة العسكرية حتى انه لم يكن هناك صفقة واحدة من صفقات الأسلحة التي اجريت بعد ذلك لم يطالها حديث الرشاوي والعمولات والتكسب غير المشروع.(13)

ان كل هذه الوقائع بدت يومها اشبه بقصص خيالية لكنها في الحقيقية كانت قصص واقعية من حكايات الفساد في عراق ما بعد صدام، ومع الاسف الشديد ستكتب تفاصيلها لاحقا بالدم والدموع والرماد.لقد كانت كلفة هذا الفساد المالية والمادية في المؤسسات العسكرية والأمنية باهظة جدا حيث بلغت تكاليف العمليات العسكرية لاخراج ارهابي داعش من المدن بين عامي 2014 و 2017 نحو 100 مليار دولار أمريكي، كما اعلن العبادي نفسه، هذا طبعا غير المليارات الاخرى التي تكفلها الخراب الذي حل بالمدن والبنى التحتية وبالاقتصاد العراقي.اما الخسائر البشرية سواء ممن ضمتهم مقابر داعش الجماعية او الشباب والرجال الذين قدموا حياتهم ودماءهم قربانا لدحر الارهاب والمعانات الانسانية التي تكبدها ملايين العراقيين الآخرين فبالتأكيد انها لاتقدر بثمن.ولم يكن كل ذلك ليتحقق لولا تفاقم الفساد وسؤ الادارة في المؤسسة العسكرية والأمنية الذي ادى منذ البداية الى الفشل في تحقيق الأمن والاستقرار، ثم مكن بعد ذلك داعش من الوصول الى تلك المناطق التي احتلتها وتطلب اخراجها منها كل تلك الأثمان الباهظة من التضحيات البشرية والمادية الجسام.(14)

 

 

 

                         هوامش ومصادر ومراجع الفصل السادس

 

 

1-انظر:”كيف دمر المالكي العراق”،مجلة فورن بولسي،19/6/2014 بالانكليزية

http://foreignpolicy.com/2014/06/19/how-maliki-ruined-iraq/

2-انظر:تقرير معهد ستوكهولم لابحاث السلام،29/1/2016

https://www.sipri.org/commentary/essay/2016/international-responses-isis-and-why-they-are-failing

3-انظر:”حقائق وارقام عن الجيش العراقي”، وكالة انباء رويترز،11/12/ 2011

https://www.reuters.com/article/us-iraq-withdrawal-military/factbox-iraqs-military-strength-idUSTRE7BA0GS20111211

انظر كذلك:”لماذا انهار الجيش العراقي”، جريدة الاخبار اللبنانية، 13/6/2014

http://www.al-akhbar.com/node/208484

وايضا:تقرير معهد ستوكهولم لابحاث السلام، 29/1/2016 المذكور اعلاه

4-انظر:”فساد ام عدم كفاءة؟”، صلاح النصراوي، الاهرام ويكلي، 9/5/2013

http://weekly.ahram.org.eg/News/2549.aspx

انظر ايضا:”محنة تسليح العراق”، صلاح التصراوي، الاهرام ويكلي،6 /8/2015

http://weekly.ahram.org.eg/News/12928.aspx

 5-انظر:”بعد 1.6 مليار دولار من المساعدات الأمريكية الجيش العراق يعاني”، واشنطن بوست، 10/6/2016

https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/iraqs-army-is-still-a-mess-two-years-after-a-stunning-defeat/2016/06/09/0867f334-1868-11e6-971a-dadf9ab18869_story.ht

6-انظر:”قصة تسليم الموصل إلى داعش، الحياة اللندنية، 1/7/ 2014

http://www.alhayat.com/m/story/3342425#sthash.7ug06REh.dpbs

7-انظر:”تقرير لجنة سقوط الموصل يتهم المالكي بالمسؤولية بعد ثلاث سنوات”، الصباح نيوز، 10/6/2017

http://www.assabahnews.tn/article/152637/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B5%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-3-%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA

8-انظر:”العبادي يكشف عن الغاء 50 الف جندي “فضائي خلال شهر واحد”، موقع السومرية، 30/11/2014

http://www.alsumaria.tv/news/117654/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D9%8A%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7-50-%D8%A7%D9%84%D9%81-%D8%AC%D9%86%D8%AF%D9%8A-%D9%81%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%AE/ar

9-انظر:”فضائيو العراق.. جيش من الفاسدين تحت الأرض، الشرق الاوسط، 10/12/ 2014

http://archive.aawsat.com/details.asp?section=45&article=797602&issueno=13161#.WjABZYaWbIU

انظر ايضا:”بإعتراف علي غيدان :المالكي كان يسرق رواتب نحو 20 الف منتسب وهمي في وزارة الدفاع”، موقع باسنيوز، 4/12/2014

http://buyerpress.com/?p=13796

10-انظر:”الفساد وراء هروب 4000 متطرف من السجون العراقية”، صحيفة الناشنال (بالانكليزية)،3/5/2011

https://www.thenational.ae/world/mena/corruption-blamed-for-escape-of-4-000-militants-from-iraq-prisons-1.414743

11-انظر:”فرار قرابة 1000 سجين من أبوغريب بعد هجوم للقاعدة”، موقع العربية 22 /7/2013

https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/2013/07/22/%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B3%D8%AC%D9%86%D9%8A%D9%86-%D9%82%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D9%86%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%86-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A2%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AC%D9%86%D8%A7%D8%A1-.html

12-انظر:”الفساد في العراق يولد الارهاب”، صلاح النصراوي، الاهرام ويكلي، 26/7/2017

http://weekly.ahram.org.eg/News/22027.aspx

انظر ايضا:”وزير الدفاع العراقي السابق مطلوب بتهم فساد بقيمة مليار دولار” الغاردين، (بالانكليزية) 20/9/2005

https://www.theguardian.com/world/2005/sep/20/iraq.michaelhoward

انظر كذلك:”حازم الشعلان في قفص الاتهام”، موقع ايلاف، 29/9/2005

http://elaph.com/Web/AsdaElaph/2005/9/94048.htm?sectionarchive=AsdaElaph

13-انظر:” ملف تسليح الجيش العراقي: فساد بحجم موازنات دول”، موقع العربي الجديد، 24/2/2016

https://www.alaraby.co.uk/politics/2016/2/24/%D9%85%D9%84%D9%81-%D8%AA%D8%B3%D9%84%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D8%A8%D8%AD%D8%AC%D9%85-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%D9%88%D9%84

14-انظر:”المسائلة المتسحقة”، جريدة المدى، 13/11/2017

http://www.almadapaper.net/ar/news/538695/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%A1%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%82%D8%A9#.WgiBQlxrtl4.facebook

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *