“منذ عدة سنوات قمت بترجمة رواية الكاتبة الفرنسية الاسرائيلية فاليري زيناتي “عندما كنت جندية” بعد ان قرأتها بالانكليزية واثارت انتباهي شكلاً وموضوعاً.ورغم ادراكي للمواقف المعارضة لترجمة الادب الاسرائيلي الى العربية الا اني كنت، ولا ازال، اعتقد ان الاعتراضات بشأن نقل ذلك الادب الى لغتنا لا تتسم بالحكمة ولا بالموضوعية وهي تدخل اما في خانة الجهل والغباء او في خانة المزايدات المبتذلة التي عانت منها القضية الفلسطينة على مر تاريخها المرير.تقدمت الى احد الناشرين البارزين في القاهره بالترجمة لطبعها الا انه لم يتكلف حتى بالرد وعذرته لاني كنت متيقنا من خشيته من السهام التي قد تطاله، ولم اكرر التجربة.ثم جاءت الثورات العربية واخذت من مشاغلنا بها ومن حياتنا ما أخذت حتى نسيت تلك الترجمة وخشيت ان تختفي من ملفات الحاسوب او يطوي نسختها الورقية الغبار.وها انا اقدمها هنا على مدونتي متسلسلة، متحملا كل مسؤولية ادبية وسياسية واخلاقية عن ذلك.لقد عشت حياتي كلها لصيقا بقضية فلسطين ومأساة شعبها وفترات طويلة قريبا من فصائلها المناضلة ومن قيادتها التاريخية واخالي اجزم ان من ضيع فلسطين والحق بشعبها تلك الكارثة هي الحماقة التي اعمت اجيالا من العرب عن معرفة الاسرائيلي وكيف يفكر ويعمل وهي المقاربة التي كان ينبغي ان تصدم كل عربي منذ ان قال موشي ديان ان العرب لا يقرأون..

                                  عندما كنت جندية
                                    فاليري زيناتي
                                          ترجمة                       
                                   صلاح النصراوي


الجزء الثاني
الفصل الاول 
                                القدس، حبي 
أشر جندي ضجر إلى بناية مغبرة بيده وأخبرني بأن أنتظر.
“كم؟” سألته.
“إنتظري فقط.” أجاب، بمنطق تام. “على أي حال، ليس لديك شيء آخر تفعلينه.”
أضع كيس متعلقاتي على الأرض وأجلس متكئة عليه.أخذ كتاباً من حقيبتي وابدأ بالقراءة، وكأني لم اقرأ شيئاً منذ فترة طويلة.ما أعنية هو أني لم أعد “فاليري”، بل أصبحت شخصية في الكتاب.
أتوقف عن القراءة لأني أشعر بأن أحداً ما يراقبني.كيف بإمكاننا أن نستشعر تلك الأشياء.ربما أننا معتادون على لامبالاة الآخرين مما يجعل أية إشارة إهتمام تصل إلى رؤسنا بشكل مباشر دون أي إعاقة في الطريق.
أتطلع إلى الأعلى، ملازم نحيفة في حدود الأربعين ذات شعر أشقر، تنظر إلي بإستغراب.أتساءل، ربما هي قائدتي، أقفز على قدمي، وأفكر في ما اذا كان على أن أقف في حالة إنتباه.ومن العجيب أن ذلك ما أربكها، وكأنها أرتكبت خطأ ما، فتبتسم لي وتمضي.أقبع هناك أفكر.رغم بزتها العسكرية ورتبتها الا أنها بدت غير متلائمة مع المكان.بدل رد فعلها وطريقة إعتذارها لجندية مبتدئة غريبة جداًً.فتحت كتابي ثانية ولكن ظلاً خيم علي.
“فاليري”؟ رقم 3810159؟”
كانت هناك رقيبة-امرأة قصيرة، نحيقة بشعر طويل وبوجه قبيح نوعاً ما هي التي سألتني السؤال بصوت لايخلو من اللطف.
“نعم.”
“أهلاً بك في قاعدتنا.إتبعيني.”
سحبت كيس أغراضي إلى غرفة قميئة.عريف تجلس إلى طاولة وهي تدخن مع ان عينيها نصف مغمضتين.طويلة، قصة شعر رجالية أنيقة، عينان لوزيتان، قوية البنية مع شعور بالثقة واضح.
“أهلاً، أنا “تامار” قائدة الدورة وهذه هي “رومي” نائبتي.
“لوريل وهاردي”، أفكر بينما أودي التحية لهن.
“هناك عشر منكن في هذه الدورة.الآخريات أمرن بأن يأتين صباح يوم غد.أنت طلب منك القدوم اليوم لأنك تسكنين في مكان بعيد.على أي حال، عليك أن تكوني خارج هذه البناية في تمام الساعة الثامنة غداً صباحاًًًًً .تقدمين نفسك إلى المشجب لأخذ سلاحك قبل أي شيء أخر.سأعطيك أمر الإستلام، ورخصة بمغادرة القاعدة.أراك صباح الغد.”
ياللهول!ماهذا الإحساس وهذا التعقيد في طريقة القائها.ظننت أن القبيحة ببساطة لا يمكن أن تكون لطيفة في حين أن الجميلة لابد أن تكون كذلك.سهل جد مثل هذا التنبؤ.لدي ثلاثة أشهر لكي أتعمق بالغلاف الخارجي لكل من “لوريل وهاردي”…دفعتني الفكرة للإبتسام.
رمقتني العريف “تامار” بنظرة إستغراب لكنها لم تنطق بكلمة.أديت التحية وخرجت.
بحسبة سريعة فان القاعدة قريبة من تل أبيب وعلى بعد 120كليومتراً من بئر سبع.على الناحية الأخرى القدس على بعد 60كيلومتراً.اذا ما أستيقظت مبكرة صباح الغد فبإمكاني أن أكون هنا في الموعد المحدد.
آن آوان المدينة المقدسة.ليس من أجل الصلاة، ليس من أجل البكاء، لا من أجل التظاهر، ولا لكي أتنفس من عبق الهواء الذي تنفس منه داود والمسيح ومحمد، ليس من أجل شراء مجوهرات السياح الكريهة من السوق في البلدة القديمة.القدس لانها المكان الذي يقطن فيه من أحب، كما أن هناك صوت رفيع يهمس في أذني انه هذا هو الوقت، الآن أو لا للابد.
حرة:اشعر بحرية لم أشعر بها من قبل في هذه الحافلة الممتلئة والتي تشق طريقها.ها نحن تجاوزنا المكان الذي يدعى “شعار هاغي”، العرب يسمونه باب الواد.كلا الأسمين يحملان نفس المعنى، بوابة النبع.هنا وقعت أكثر المعارك دموية في حرب الإستقلال عام 1948.العربات العسكرية تركت حيث توقفت على جانبي الطريق الشديد الإنحدار لكي تذكر الماريين بتلك الحقبة من التاريخ.هذه المرة لم أنم، كنت أفور بالأمل وبالأسئلة:لن يكون هناك، سوف يكون هناك، لن يكون لوحده، سوف يقول أن أحداً ما معه هناك، سوف يصطنع أعذاراً لكي لا يراني، سوف يشعر بالزهو حين يراني وقد ارتسم الحب على محياي، وسوف يضحك مني، سوف يأخذني بالأحضان، لن يفهم لماذا أنا هنا فجأة.سوف أخبره الحقيقة، ولكن اية حقيقة؟
أمرر أصابعي فوق سبطانة البندقية.بندقية “عوزي”، تلك التي يسلمونها للفتيات وللجنود المستجدين، ولكن “جين-ديفيد” لا يحتاج لأن يعرف كل ذلك.أريد أن أثير فيه الإعجاب، أن أبعث فيه السعادة، أن أغويه.أريد أن أغلب تلك البنت التي إنتزعته مني.هي فرنسية خالصة لم تؤدي الخدمة العسكرية أبداً، وتلك نقاط لاتحسب لها.بطريقة ما فأني أتعكز على الجيش لكي يساعدني أن أسترد حبي الأول.
في اللحظة الراهنة نحن الأن فوق قمة تلة، ولكن اذا ما أخذنا حجم التلال من حولنا فاننا نتحدث عن جبال.منذ وقت قصير مضى رمى فلسطيني بنفسه فوق سائق حافلة تسير على هذا الخط (400)، دافعاً بها تهوى إلى السفح.النتيجة:16قتلى مع شعور فضيع بالخوف خيم على البلاد كلها.دفع الحادث شركة “أغيد” لكي تصرف مئات الالاف من الشيكلات كي تحصن الحافلات بشبكات لحماية السائقين.تم بناء نصب تذكاري لاولئك الذين قتلوا في الحادث.نحن نسير بسرعة فائقة لذلك ليس بإستطاعتي قراءة أسمائهم.
نهبط من التل ثم نعود إلى قمة تل آخر.من أي إتجاه تحاول أن تدخل إلى القدس فأن الطريق يبدو طويلاً ومرهقاًً .
عند مركز المدينة المخصص للمشاة، الساعة الخامسة، تبدو المقاهي مكتظة بالناس، ولكن متى لم تكن كذلك؟اتصلت منذ خمسة دقائق فرد جهاز التسجيل فأغلقت التلفون.بعد ساعتين وثلاثة محاولات رد أخيراً .
“هالو”،(لايزال بنبرته الإسرائيلية الثقيلة.)
“جين-ديفيد، هذه أنا التي تكلمك.”
“أهلاً ايتها الجندية.هل لديك أخبار من الجبهة؟”
“ليس هناك جبهة، أيها المدني الجاهل.وعلى أي حال، فأن من الواضح أن الأخبار السرية للغاية هي الآن عناوين في كل الصحف.شغل التفزيون لكي تعرف عماذا يتكلمون.”
“من أين تتحدثين؟”
“من مقهى في شارع “بن يهودا”.”
تنتابه عبرة، أنا متأكدة أنه يختنق، أخيراً يتوقف.
“فــــي القد….؟”يتلعثم أما من فرط الرعب أو المفاجأة، ليس بإمكاني أن أخمن أي منهما.
“القدس، أو أورشليم اذا مارغبت، وفي كلتا الحالتين ليس بعيداً عن المكان الذي تسكنه، اذا ما كنت أتذكر بشكل جيد.لدي إجازة حتى صباح الغد، ليس لدي وقت لكي أذهب إلى البيت، فقررت المجيء إلى هنا.”
“هل تريد…..؟”
“أن أراك، نعم وربما المبيت لديك”، أقول وبهمس أضيف،”ان كان لديك متسع من المكان…”
“سوف نجد حلاً، اذا ما بدا الأمر سيئاً، الحمام ليس مريحاً بالكامل.سوف أذهب لأشتري شيئا لإطعامك.تعالي خلال ساعة.اذا كنت تحملين الكثير من الأمتعة خذي الحالفة رقم 9وانزلي عند الموقف الثاني عند شارع “عزرا”.هناك طريق فرعي إلى اليسار، شارع برلين.أنا في رقم 14 الدور الأرضي، بخدمتك.”
“شكرا لك، أراك قريباً.”
أغمض عيني، منتشية، متوترة، مرعوبة، متعجلة، مشتاقة، قلقة.حمداً أن هناك الكثير من المفردات التي يمكن التعبير بها عن مشاعري في تلك اللحظة.
16أكتوبر، الساعة السادسة وعشر دقائق صباحاً.
في الحافلة الأولى المتوجهة إلى تل أبيب.
فتح لي الباب وبرقت عيناه، مفاجأة البزة العسكرية.فتح ذراعية وكأنه يستسلم بسعادة.قبلته.اردت أن أبقى بين ذراعيه لساعات.ضيفني قهوة.أخبرته عن الدورة، بالغت بالأمر، فان لم يكن يحبني، فعلى الأقل بإمكانه أن يعجب بي!تناولنا الأكل في شقته.شيء جدير بزوجين أن يفعلاه،أن يأكلا سوية.لم أتجرأ أن اقول ذلك.
بين الحين والآخر كان يلمحني بتلك النظرات الغريبة.مستعدة أن أمنحه عشرين عاماً من عمري لكي أعرف مالذي يفكر فيه عني، وما هي مشاعره.
تكلمنا، صمتنا.وضع شريط إبتهالات” فوغيه” التي يحبها.قلت له أنها تجعلني حزينة. في حين أن “موزارت” يبعث بي إحساس بالسلام ويدفعني للغناء.نحو منتصف الليل سألته أين سأنام.
تضاهر بأنه يفكر، ثم سألني،” أين تحبين أن تنامي.”
لو كان بإمكاني لخنقته وقضيت بقية حياتي في عذاب الضمير لقتله.كل ذلك لمجرد سرير.اذا كان ذلك ما اقصده.
حملت شجاعتي كلها بين يدي الأثنتين.
“هناك شيء يدعى حق الجندي بالنوم.سأنام في سريرك، واذا ما رغبت فأني سأترك لك مكاناً صغيراً .”
وهكذا إنطلقنا.نحو السرير.أطفال.(نلمع كالذهب)، مرتدين قمصاننا.مشدودين تماماً، حذرين الا نلمس أحدنا الآخر.
مال نحوي لكي يقول تصبحين على خير.قبل جبيني، أنفي، عيني.قبلت جبينه، أنفه، عينيه.عانقنا أحدنا الآخر بشدة طيلة الليل.نخبط وجيهنا، ناعسين، عفيفين، مثل طفلين يحبان أحدها الآخر سراً، كان ذلك أقوى من أية علاقة غرامية، أكثر جمالاً من كل لحظات حياتي اذا ما جمعت سوية.
نظرت إليه طويلاً قبل أن أغادر هذا الصباح.فتح عينيه وقال:”إعتني بنفسك.تعالي لرؤيتي.”
أغلقت الباب بهدؤ وفكرت لو أني مت غداً فلن أبالي.لقد حظيت بما أردته من الحياة.
****

                                      عندما كنت جندية
                                        فاليري زيناتي
                                              ترجمة                       
                                       صلاح النصراوي
ج1 ف10

                                            رمي
يصعب علي ان أعود لأصبح 3810159بعد كل تلك المتعة خلال عطلة نهاية الأسبوع.أنا على إستعداد الأن أن أمنح عشرة أيام من عمري مقابل بضعة أيام من الحرية.أن أكون مع “راحيل”، وأواسيها، ولماذا أكذب، أن أخذ الحافلة التالية إلى القدس.لكن لا شيء من ذلك ممكن.سأكون هنا حتى الجمعة وبعدها سأكون ضمن رعية عدد آخر من الضباط والرقباء.هناك يد خفية اختارت مكان خدمتي وقررت حياتي.هل هذا هو ما يعني أن تكون ناضجاً.درس الرمي الأخير سيكون ظهر هذا اليوم- قبل اليوم الكبير غداً-حين سنرمي طلقات حية للمرة الأولى.تدريب مكثف هذا الصباح:ساعتان من الجري حول القاعدة، تسلق الحيطان، الزحف بين الشبكات، كل ذلك ربما بهدف إعدادنا ليوم الحساب.بعد ذلك إجتماع كل القوة مع “أنبار كاتز”(تبدو الآن أكثر إثارة) حيث تعطينا الإرشادات التالية:“ايتها الجنديات، في ميدان الرمي من الضروري جداً إتباع الأوامر حرفياً.هنا لن يعد الأمر يتعلق بالأقدمية، بل هي مسألة حياة أو موت.الإهمال، عدم الإنتباه، والأخطاء البسيطة قد تؤدي إلى كوارث لايمكن معالجتها.يجب أن تضعوا في رؤسكن إنكن لسن مسؤلات عن انفسكن فحسب بل عن الآخرين أيضاً.هناك شيء مفزع في نبرات صوتها، جدية تقول:”انتبهوا هذه ليست لعبة.”أنتن لا تقمن بالتمثيل في فلم من تلك الأفلام التي تحوز على الأوسكار، أو حتى فلم من الدرجة الثانية.حين نطقت كلمتي حياة وموت، فأنهما تأخذان معنين متماثلين بطريقة خاصة، فالكلمتان تتعلقان الآن بطلقة صغيرة من عيار 9 ملم.ها هي الإثارة التي شعرنا بها منذ دقائق تختفي.ذلك بالضبط ما كانت تسعى إليه.نصعد إلى لوريات نقل الجنود، شبيهة تماماً بتلك التي نرى فيها الجنود ينقلون إلى الحدود مع لبنان.يسود الصمت.من المستحيل الكلام، على أي حال، لأننا القينا، دون أي إعتبار، في لجة هزات لاتتوقف.نحن في خطر التعرض للموت حتى قبل أن نرمي طلقاتنا الأولى.ميدان الرمي:تراب، حصى، أهداف مصنوعة من الكارتون مرسوم عليها صور بشرية، بحجم الأنسان.سنقوم بالرمي كل عشرة منا مرة واحدة-كل سرية مقسمة الى مجموعتين.الجنديات اللواتي لا يقمن بالرمي يقفن في منطقة أمنة.أي واحدة تتحرك من غير رخصة ستعاقب بالحبس شهراً.ألمح “اينايا” والتي تلوح لي مشجعة من بعيد.كانت هي من بين المجموعة الأولى التي بدأت الرمي، وها هي تعود بإبتسامة.أجلس بعيدة شيئاً ما عن الآخريات.الشمس حارقة والبدلة المضادة للرصاص التي أرتديها تجعلني أتصبب عرقاً.أسمع طلقات الرصاص ولكني لا أرى الفتيات اللواتي يطلقنها.أستعيد التعليمات التي أعطيت لنا بشأن إطلاق النار على “المشتبه به” بأننا نطلق لنقتل.أصغي إلى تلك الكلمات فتصبح التعليق للتقرير الذي شاهدته على التلفزيون يوم السبت الماضي عن الأراضي، مثله مثل التقرير الذي شاهدته قبل أسبوعين.حسناً تقريباً مثله، الصور كانت متشابهه،(حجر ينطلق من مقلاع، إطارات سيارات تحترق، إطلاقات نارية) ولكن ليس نفس الرجال الذين يسقطون موتى.الجنديات لايرسلن للقتال في الأراضي.الجنديات لايرسلن للقتال أبداً.مالذي يمكن أن أفهمه من درس الرمي هذا اليوم، حتى ولو كان أهداف من قطع كارتون، لايسعني النظر إليها؟تمتزج الدموع الآن بحبات العرق العذبة التي تنزل من جبيني.احداهن تضع يدها على كتفي.”كينيريت” تبتسم.
“هل أنت على مايرام؟”
“لا، لست كذلك.”“
هل أنت خائفة من الرمي؟”
“ليس الأمر أني خائفة، أنا أفكر فقط بتبعات ذلك.”
تجلس إلى جانبي.“أية تبعات؟”
“إنه أمر معقد، كنت أفكر مالذي علي أن أفعل لو أن على أن أطلق النار، على شخص بلحمه ودمه.كما أني أتساءل في أي جانب أنا، كنت أتمنى أو ان بإمكاني أن اتفادى هذا المعسكر أو ذاك.”
“مالذي تعنيه بمعسكر؟”
“أنت تعرفين مالذي أعنيه”، أتمتم “الحجر، أم البندقية.”
 تأخذ نفساً عميقاً، وتقول،” لقد سألت نفسي نفس السؤال عندما قمت بالرماية في المرة الأولى، هنا بالضبط، قبل عدة أشهر.الإنتفاضة ساعدتني على معرفة الجواب.هل تعرفين مالذي تعنيه كلمة تسحال؟”
“نعم أعرف ذلك، أنها الحروف الأولية لجيش الدفاع الإسرائيلي.”
“بالضبط.ذلك ما عليك أن تتذكريه:جيش الدفاع.ليس عليك أن تستخدمي سلاحك ضد شخص، الا اذا كان ذلك الشخص يهدد حياتك.عليك الدفاع عن نفسك، لحماية نفسك ولحماية الآخرين.”
“ولكن لماذا يجب أن يكون هناك عدو يريد قتلي؟”
“لا تختبأي خلف تلك النظرة الماكرة.بالتأكيد فأنك في اللحظة التي ترتدين فيها البزة العسكرية لم تعودي فيها شخصاً عادياً، بقدر ما يتعلق الأمر بالآخرين.أنت تمثلين الجيش الإسرائيلي، الجيش الذي يواجه الفلسطينيين كل يوم…مهما كانت مشاعرك وقناعاتك.تلك هي الحقيقة، ولكن لا ينبغي أن تمنعك من التفكير.”
”لا أزال حائرة.“
“لا تقلقي، كل شيء سيكون على مايرام.”
بدؤوا الآن بالنداء على أرقام من السرية (د).نقف في خط مستقيم وراء صف من أكياس الرمل، مع بنادقنا المدلاة من الكتف إلى الخصر.يمنحوننا واقيات الأذن لحماية طبلات الأذن من دوي الإطلاقات.تقف “أنبار كاتز” على رأس الصف إلى يميني.
“ايتها الجنديات، من الآن ستنفذن أوامري حرفياً ومباشرة…انزعن الحامل من البندقية.”
نعمل ما أمرنا به، ضربات القلب تتسارع.
“وضع الإنبطاح، خذ.”
“ركبن المخازن، صوبن البندقية بإتجاه الهدف.لاتضعن الأصبع على الزناد.”
“صوبن نحو الهدف، انزعن مسمار الأمان، إقفلن على الهدف وفق خط النار.الآن إستعدن، لكن عليكن الإنتظار للأوامر ببدء الرمي لكل من الطلقات الخمس.”
“إنتباه …، إستعداد، إرمي.”
هناك برهة من التردد بعد صدور أمرها، ثم بعض الإطلاقات الخافتة (اذا كانت تلك الإطلاقات الصارخة تعتبر خافتة) يتردد صداها.أركز، أشد بندقيتي إلى كتفي وفكي لكي أتجنب أي جرح يمكن أن يسببه إرتداد البندقية.ثم أرمي.
“إرمي.”إطلاقة ثانية.لايسعك التفكير بأي شيء آخر عندما ترمي، إنها الشيء الوحيد الذي تفكر فيه.
“إرمي.” إطلاقة ثالثة، لابد أنها كانت قريبة من قلب الهدف.
“إرمي.”، إطلاقة رابعة.
أعتقد أن تهديفي أصبح أفضل من السابق.
“إرمي.”
تتساقط ظروف الإطلاقات على الأرض تحت أنفي.إطلاقة خامسة، وأخيرة.إنتهينا.
“دعن السبطانة بإتجاه الهدف.إنزعن المخزن.تأكدن من خلوه من الإطلاقات.اعدن مسمار الأمان.لاتتحركن.“
“الرقيب “كينيريت.”
“نعم سيدتي.
”فتشي صفوف السرية، عدي الظروف وتأكدي من خلو المخزن من الطلقات.”
لم أحرك جفناً.متسمرة وأنظر إلى الامام، ولكني متأكدة أن “كينيريت” أبتسمت وهي تلم الظروف المتساقطة مني.
“جنديات، أرضاً سلاحً.الرقيبة “كينيريت” تأكدي من الأهداف.”
“كينيريت” تنادي بالنتائج.صوبت طلقتان إلى قلب الهدف، باقي الطلقات إلى جانبه مباشرة.من الواضح أن تلك نتيجة جيدة لأول مرة وعلى مسافة خمسة وعشرين متراً.
11 أكتوبر، الساعة 6مساءً.
موسم الرمي أمس:أنا ممزقة بين أن أفتخر وبين أن أندهش.الواجبات تبدوا مختلفة هذه الليلة.واجبات حقيقية، أنا سأقوم بحراسة موقع إستراتيجي، المشجب، منذ منتصف الليل.كلمة السر اللية، بدر.بعض الناس ليس بإمكانهم الا أن يكونوا شاعريين.
12 أكتوبر، الساعة 2والنصف فجراً.
كان الأمر غريباً.اللية تبدو حالكة الظلام أكثر من المعتاد، وأكثر غموضاً، وخوفًا.كانت بصحبتي فتاة من خيمة أخرى يبدو أنها تخاف بسهولة، لم يكن الأمر صعباً أن تنتقل عدوى الخوف إلي.كان أي حفيف لأوراق الشجر، أو طنين بعوضة أكثر مما هو معتاد يجعلها تشك أن أحداً هناك.الأمر أشبه عندما تكون شاباً ويتركونك تقضي الليلة في البيت وحدك.
لبرهة كان الصوت فعلاً مقلقاً.بدا وكأن أحداً كان يتسلل قريباً منا.بدأنا بعبارات التحذير المعروفة، مرعوبتين بصدى صوتينا.لم أكن متأكدة أن كان علي أن أرمي في الهواء.أضأت مصباحي فأضاء كتلة من الخشب قريبة منا.كانت عائلة من الفئران تلعب بسعادة بين العيدان.صرخنا بقرف.لم نزل في حالة خوف حين جاءت الحارسات البديلات.
جاءت “كينيريت” لترانا، مازحتنا بلطف.
اليوم سنؤدي القسم.ننام متأخرات:منبه الساعة على الساعة السادسة صباحاً.
الساعة العاشرة صباحاً.
شيء غير عادي.نستبدل بدلات القتال ببدلات الإحتفال.تتجمع الكتيبة في ساحة الإستعراض.هناك صف طويل من الضباط من بينهم قائد القاعدة (الذي لمن نره ابداً).يلقي خطاباً من منصة، وخلفه كانت هناك حروف من نار تلتهب.تقول “أقسم”.
قال لنا إننا الآن جنديات حقيقيات، وإن الجيش والوطن يعتمدان علينا، إن كل واحدة منا بأهمية الآخرى، مهما كانت المهمة التي سنكلف بها.نمر به واحدة بعد الآخرى و”أنبار كاتز” تعطي كل واحدة منا كتاباً مقدساً وبندقية.نضع يدنا اليمنى على الكتاب المقدس واليسرى على البندقية،وبوقار نؤدي القسم:
“أقسم أن أكون مخلصاً لجيش الدفاع ولدولة اسرائيل.أقسم بأن أخدم بلادي وأن ألتزم بقوانينها.أقسم بأن أحترم الحياة وأن أحميها.”
بعد ذلك، وسط إنفعالنا بحروف النار تلك والتي لاتزال متوقدة نغني النشيد الوطني، هاتفيكا-الأمل.
نسلمهم معداتنا ومن ثم يقيمون لنا حفلة صغيرة نضحك ونبكي خلالها كثيراً.من الصعب أن يمضي كل منا في طريق بعد تلك الفترة التي قضيناها سوية.
أعلم، من غير أن أفاجئ بأني عينت في الخدمة السرية.علي أن أتقدم بنفسي إلى القاعدة يوم الأحد الساعة الحادية عشر، وعلي الا أخبر أحداً أين تكون القاعدة، سواء عن طريق الكلام، أو كتابة.سوف أمضي ثلاثة أشهر في التدريب هناك.تم تكليف “إينات” في وحدة رادار.كانت محبطة الا أن الجميع قالوا لها أنه عمل ممتع.هم يحسدوني لأن في كلمة “الخدمة السرية” شيء من الغموض والإثارة.سوف نرى فيما اذا كان ذلك صحيحاً حين نكون هناك.
ربما سأذهب إلى القدس هذا الأسبوع، ومن الممكن أن أمارس الحب مع “جين- ديفيد”، لكن لن تكون هناك علاقة بيننا.من الواضح أننا في وحدتنا الجديدة سنمنح إجازة كل ثلاثة أسابيع مرة.هو لم يخلق لكي يكون زوجة بحار (من سؤ الحظ ليس بالإمكان الحديث عن زوج جندية!)
أشعر وكأني امضيت مائة عام في هذه القاعدة.إنها بالكاد أربعة أسابيع.بقي لي ثلاثة وعشرون شهراً في البزة العسكرية، في قواعد أخرى، مع أناس آخرين.
ربما ذلك هو معنى أن تكوني ناضجة، أن تعتادي أن تعيشي حياتك، أن تغادري مسكنك والناس وأن تبدأي حياتك في مكان آخر.
****