عندما كنت جندية
                                     فاليري زيناتي
                                            ترجمة                       
                                    صلاح النصراوي
ج1 ف3
                                  العد العكسي إلى الجيش
 عندما أخبرت أولاد عمي في فرنسا الصيف الماضي بأني في طريقي إلى الجيش بعد البكلوريا ذهلوا تماماً، خاصة البنات اللواتي لم يكن بإستطاعتهن فهم أي واقع يمكن أن يختبأ خلف كلماتي تلك.بنات في الجيش، في البزة العسكرية، أسلحة وكل شيء آخر، بدا لهم وكأنه شيء من فولكلور غامض، تماماً مثل لعبة ترتدي فيها البنات ملابس الأولاد لبعض الوقت.كان بإمكاني الإستنتاج بأنهن لن يفهمن مطلقاً وأن علي أن أتخلى عن محاولة الشرح.
الجيش هنا هو جزء من حياتنا.حتى قبل أن يتم تجنيدنا، وحتى قبل أن يتم فحصنا لأول مرة (الفحص الذي يرعب كل الفتيات لأنهن يعرفن أنهن سيوضعن في مجموعة من خمسة حيث عليهن الإصطفاف والمرور عاريات على الأطباء الذين يكونون بالغالب من الرجال، الفكرة بحد ذاتها مثيرة للخوف لديهن.)
الجنود هنا، سواء أكانوا فتياناً أو فتيات هم أبطال الماضي، أولئك الذي ربحوا حرب الإستقلال، حرب الأيام الستة، وحرب يوم الغفران.في يوم الشهداء كل عام يعرضون أفلاماً وصوراً بالأبيض والأسود عن جنود، يسلبون الألباب بأناقتهم، ينظرون إلى الكاميرا، في حين تبدو على محياهم ابتسامة ذابلة، مبهرة.نمر بهم كل يوم في الشارع، في السينما، في مراكز التسوق، في النوادي، في محطات الحافلات، عند جيراننا، عند أصدقائنا، معظمهم في لباس الخاكي، وأقل عدداً في بزات القوة الجوية الرمادية.يعودون إلى بيوتهم من قواعدهم، أو بالعكس، في ساعات راحتهم، يخرجون للنزهة، يغازلون.لا أحد يلاحظهم بالذات لأن هناك الكثير منهم، ولأنه شيء مألوف، ولأن كل واحد منهم أما أنه كان في الجيش أو لايزال فيه، أو سيكون فيه يوماً ما.ولكن حين ينام جندي على كتف شخص ما في حافلة، فأن الجميع يتبادلون تلك النكات المحببة، ورغماً عنه فان الشخص الذي يتكأ عليه الجندي يبدي حرصاً الا يتحرك لكي لا يوقظ ذلك الفتى، أو تلك الفتات في الثامنة عشر من أعمارهم، والذين ينذرون عامين أو ثلاثة من حياتهم لخدمة الوطن، كما يقولون عندنا.حين يتعلق الأمر بالجيش فأن الجميع يتفق على شيء واحد:إنه أمر مرهق، ولكنه ضروري.
دائماً ما يكون الجيش والجنود هناك، في الأفلام القليلة التي أنتجت في إسرائيل، في الأغاني التي لا عد لها والتي تعزف في الإذاعات دائماً.في كل شريط لـ”شلومو أرتيزي”، مطربي الإسرائيلي المفضل، هناك أغنية عن الجندي.أشعر كأن الشريط الذي ظهر قبيل التحاقي بالجيش المعنون “حر يوليو-أغسطس” يروي قصتي، كأنه كتب خصيصاً لي، كأنها هذه الأشهر من الصيف، الأخيران من الصيف، هما ملكي، يختزلان في خمس عشرة أغنية:حب يتلاشى وسط الآلام، ومشاعر الذنب، وجع الحنين، وسواد هذه الإنتفاضة، الذي يجثم فوق كل شيء، يستهلكنا، أو كما يقول البعض، يهدد بإبتلاع أرواحنا.
والحقيقة، وأخيراً وليس آخراً.فالجيش بالنسبة للفتية هو البنات وبالنسبة للفتيات هو الفتيان.وبتعبير آخر فان كل بنت (نأخذهن على سبيل المثال) تأمل بأنها ستجد في ذلك (الكتالوغ) الكبير من ينتظرها من الفتيان الذين هم في الثامنة عشر أو في العشرين من أعمارهم، شاب يبدو لديه متسع من الوقت لكي يصارحها بحبه، شاب يعني كل ذلك بالنسبة لها:أنا رجل، رجل حقيقي، قوي ولكن حساس، أنا هنا لكي أحميك.أما الآخريات اللواتي لديهن أصدقاء فيعشن في خوف، تنتاب  كل واحدة منهن الكوابيس كل ليلة، من أن جندية رائعة الجمال، تستحق الموت من أجلها، ربما تظهر لصديقها وتعرض له كتفها لكي يبكي عليه.ومن بين الأشياء الأخرى أن الجيش هو مسرحنا الكوميدي.
نحن أمة عالقين بين الأغاني والبحر والحرب.بلد الموت فيه مقبول من سن الثامنة عشر، ولكن ذلك لا يجعل من أي شخص أكثر ذكاءً.بلد نحن فيه مقتنعون بان الحب يمكنه الإنتظار في تلك القواعد العسكرية التي تحيط بها الأسلاك الشائكة، تحت الخيام، في أكياس النوم.هذا هو بلدي، لذلك فاني أعرف وأفهم كل ذلك بشكل طبيعي.ومع ذلك فأني أحس تجاهه باني غريبة، أجنبية.
لدي متسع من الوقت، شهور، لكي أفكر بيومي الأخير، قبل الموعود المحتوم.سأذهب لحمام السباحة مع “جين-ديفيد”، سألعب معه التنس، طبعاً سأغلبه، دعوني أقول 46، 46، 57، سيقبلني ويهمس لي، “مبروك ايتها العقيد” وسنمضي بعد ذلك إلى بيتنا حيث يلحق بنا الجميع، “يوليا”، “راحيل” وصديقها “فريدي”، “إيلان”، “رافي” و”توفا”.سيجلب “إيلان” غيتاره معه، وسيغني الجميع بالروسية، أغنيات لا أفهمها ولكني أحبها، أنا و”جين-ديفيد” سنغني بالفرنسية، وستبتسم أمي والدموع في عينيها، بينما تأخذ لنا صوراً، وهي تقول “يا لكم من شباب رائع.”
“جين-ديفيد” سيقضي الليلة معي، (أمضيت أياماً أتوسل إلى أمي لكي تتفضل بالموافقة على ذلك) وفي صباح اليوم التالي 19 سبتمبر سيذهب معي إلى مكتب التجنيد، سيضمني إليه وسيقبلني لمدة طويلة بينما يراقبنا أصدقاؤنا بحنو، في حين أن البنات الأربعين من بئر سبع اللواتي سينضمن إلى الجيش سينقسمن بين من هي غيورة، ومن هي معجبة، وهم يروني أودع صديقاً جميلاً ببشرة بيضاء، وجاكيت شبابي، يدخن سجائر مالبورو بالعلبة الحمراء.
اليوم هو الثامن عشر من سبتمبر ولا شيء يحدث وفقاً للخطة.الشخصية الرئيسية في السيناريو لايزال غائباً ومنذ الصباح وأنا أتمتم مع نفسي “وغد، وغد، وغد”.لم يعد الأمر مؤلماً (كما كان طيلة الصيف حيث قضيت الليالي ساهرة أستمع إلى أغانينا المفضلة.)-فالان أنا غاضبة فقط عليه لأنه أفسد السيناريو الذي وضعته.
صباح اليوم ذهبت إلى “اكسترافارم” لكي أعمل للمرة الأخيرة.الجميع إحتفوا بي حتى أنهم علقوا بالونات في مخزن البضائع مع لافتة كتب عليها:”ايتها الجندية، إذهبي بسلام وعودي لنا بالسلام”.وجدت الأمر برمته مضحكاً، ومثيراً للعواطف.كما أنهم أهدوني قنينة سائل تلطيف الجسم ماركة “نينا ريتشي”.شكرتهم من كل قلبي، رغم أني كنت أعرف بأنها ليست غالية الثمن لأن العاملين يحصلون على خصم قدره 30بالمائة.كنت أفضل قنينة عطر، وأشعر بالإستياء أن لا أحد فكر بذلك.لدي مزاج يتسم بالقرف، في رأسي أصوات تطحني، ومع هذا فاني أبقى مبتسمة، أقبل الناس، أضحك على نكتة تافهة حول الجيش سمعتها مئات المرات، وأوافق دون تردد على أشياء يصرون عليها:
“سترين…ستكبرين..الجيش يغير كل شيء…ستشعرين بالحنين إلى البيت…وخاصة طعام أمك.إن ذلك من أجل الوطن، إنه شيء عظيم..عليك أن تعملي شيئاً للوطن..إنها تجربة، إنها جامعة الحياة…، أضبط أعصابي.أجوبتي غامضة، أدمدم بعبارات لا يصغي إليها أحد، لاني لست هنا لكي أتكلم، بل لكي أصغي الى الحكم البليغة لهؤلاء الناس الذين يفخرون بتجاربهم، كما أنهم سعداء لأن الفرصة واتتهم لكي يستعيدوا ذكرياتهم في الجيش للمرة المليون، مصحوبة، كما لابد منه، بـ”طبعاً أنها كانت أكثر صعوبة حينذاك.”إنهم لطفاء، لقد قدموا لي هدية، كما أنهم إشتروا قطعتين من الشكولاتة البيضاء،(أيضاً مع تخفيض 30بالمائة)، كما أنهم حملوا عني عبء العمل-“ستحتاجين إلى طاقتك نظراً لما تنتظرينه غدا-ولكني أشعر أن علي أن اشحنهم جميعاً الى غزة(كما نقول هنا)، أرغب بأن أقول لهم إذهبوا إلى الجحيم بكلماتكم الجوفاء، التي لاتصلني، أشعر بالضجر أكثر فأكثر، حزينة وغاضبة، دون أن أدري لماذا.ادعي ان لدى صداع كي استطيع أن أغادر مبكرة، لا أحد يسألني.والحقيقة أنها ليست كذبة:الالم الغامض الذي اعرف كنه جيداً، حين أكون عصبية يدك رأسي.أخلع بزة العمل الزرقاء للمرة الأخيرة.أمضي خارجة.انها الساعة 3:27.
أذهب إلى الحمام، حيث لا حيلة إلا أن أشاهد أمامي الميثاق المشهور بالوصايا العشر.أحمل في حقيبتي قلماً احمراً للخط.أخرجه، يصبح دافئاً في يدي، أو لربما أن يدي هي التي تصبح دافئة بعد ملامستها له.لقد نسيت تماماً أن كان درس الفيزياء أم الكيمياء هو الذي يفسر ذلك لنا.أرفع الغطاء، أتردد ليس بسبب خوفي من أن يمسكوني، بل بسبب أني لم أقرر حتى تلك اللحظة مالذي يمكن أن اكتبه.احتاج لكلمة واحدة، جملة واحدة صاعقة، تقول كل شيء، شيء محدد يمكنه أن يعكس مشاعر الثورة التي في داخلي.تورية، شيء مختصر، كلمة منحوتة، ضربة معلم.أخيراً أختار:”وقال الرب: “ليكن هناك رأسمالية متوحشة، “فكان هناك “اكسترافارم”.وأشير إلى مرجع:اصحاح الشغيلة المستغلة، الفصل الأول، الآية 7.
أودع العاملين المجتمعين بالشركة وامتطي دراجتي.لم أكن لأهتم لو أنهم أمسكوا بي-في الواقع كان سيبدو الموقف مثيرا للضحك في رؤية وجوههم حين يتوجه العشرات منهم إلى الحمام لكي يعلقوا على وجهة النظر الجاحدة تلك-ولكن كان على أن أعود إلى البيت بسرعة.رأسي تنفجر.
الشقة فارغة.اخذ ثلاثة أقراص أسبرين.أشيائي منثورة على فراشي، أمي رتبتها بعناية، وفقاً للقائمة التي أرسلت من قبل الجيش.الملابس الداخلية يجب أن تكون بيضاء، الجواريب سوداء، أو بيضاء،وبمواصفات خاصة، الا تكون بشرائط، أو بحافات ملونة، أو مطرزة.المجوهرات ممنوعة تماماً خلال التدريب.بإمكاني أن اخذ معي مواد تكفيني لإسبوعين.أعلم أني سأغادر غداً ولكن لا أعلم متى ستكون إجازتي الأولى.
أنظر إلى الأكوام الصغيرة التي صفت بعضها فوق بعض، الحقيبة الجديدة التي يمكن تنظيفها بالماء، والتي اشتروها للمناسبة.كأني ذاهبة إلى مخيم لقضاء عطلة.أو لفسحة.ولكن من بإمكانه أن يذهب لقضاء عطلة في مخيم لمدة عامين؟فجأة أشعر بموجة من الرعب في داخلي.ماذا لو كتبت وصيتي؟قد يكون هذا هو الوقت المناسب.في هذا الوقت من الغد سأكون بعيدة جداً من هنا…أضيف جهاز الستريو الخاص بي إلى كومة الملابس، معه أشرطة غنائية، بضمنها أشرطة إغاني فرنسية، أريد أن يكون جزءاً، ولو صغيراً من فرنسا معي.كذلك كتاب، كتاب جيد يمكنه أن يبكيني ويضحكني في آن.ذلك هو تعريفي للكتاب الجيد، مزيج من التعاسة والسعادة.
هل سيكون هناك وقت للقراءة؟لايهم.لكن ينبغي أن يكون هناك دائماً كتاب معك.وكذلك دفتر ملاحظات لأدون فيه.إنهما ضروريان من أجل البقاء.
يرن الهاتف.أتردد لبرهة، ربما هو مدير “اكسترافارم” لكي يخبرني كم هو محبط من نكراني للجميل….بعد كل ما فعله من أجلي…أغادر بتلك الطريقة، أشوه الوصايا العشر!ليس لدي رغبة بأن أصغي إليه.لا أشعر بأني قادرة أن أشرح له.غير أن الهاتف يظل يرن.ليس لدينا جهاز تسجيل المكالمات، إنه غال.لايهم فلن أعرف أن كان هو أو شخص آخر.
أنتظر توقف الرنين قبل أن أرفع السماعة.أريد أن أكلم أي كان لكي أبدد عصبيتي.”لويبا” اخت “يوليا” الصغيرة تقول لي أن “يوليا” ذهبت إلى المدينة، ربما بصحبة “راحيل”، هي ليست متأكدة.أم “راحيل” تقول لي أن ابنتها بالخارج، ربما ذهبت إلى المدينة مع “يوليا”.تتمنى لي حظاً سعيداً في خدمتي العسكرية.حظاً سعيداً…لا يمكنني أن أعرف مالذي يعنيه ذلك، ولكني أشكرها بأدب.أنا فرنسية وعلى أن أحافظ على سمعتنا الوطنية في ميدان اللياقة.
أحاول الآن أن اعثر على “فريدي” صديق “راحيل”.هو طويل، عريض المنكبين، وذي عينين خضراوين تجعلك تشعر أنه يصغي للشخص الذي يكلمه.أنا متيمة به.تتوتر “راحيل” حين تسمعني أقول ذلك، ولكنها الحقيقة، ولا أرى أني أسيئ إلى آحد في ذلك.تم تجنيد “فريدي” قبل ثمانية أشهر في سلاح الهندسة.أعتبر يومها أكثر الجنود براعة من بين أفراد دفعته.ولكن ما أن عرض قابلياته وبرهن على براعته خلال شهور الدورة الست، فانه لم يستطع الإستمرار بتلقي الأوامر التي إعتبرها أحياناً غبية، لذلك فقد هرب من الجيش، بما يعني أنه عاد إلى البيت في آحد أيام الجمعة، قبل أسبوعين، ولم يعد ادارجه يوم الأحد التالي.لا يبحث الجيش عنه بجدية الآن، وبالنسبة لنا فنحن نحاول أن نستغله بأكثر ما يمكنا، سيارته، مهاراته في المطبخ، وصوته المحبب الذي يغني به بالعبرية أجمل من أي أحد آخر.ليس في ذلك ما هو غريب، فقد ولد هنا، فهي لغته، بغريزته يضع المقاطع الصوتية في مكانها تماماً، دون أي عناء بشأن عدد المقاطع أو بناء الكلمة.هو الأخ الأكبر الذي تمنيته أن يكون لي.لسنوات كنت أظن أن ذلك كان سيحل لي كل مشاكلي.
لكن لا أحد يجيب في بيت “فريدي”، ولذلك اقفل السماعة، وأنا يائسة.أين هم؟لماذ إختارت “يوليا”، والأهم “راحيل” هذا اليوم بالذات لكي يتبخروا بالهواء الطيار.في هذا المساء الذي احتاجهم فيه، كان يفترض أن يكون أمر منتهياً منه، ولكن لا، كان يجب أن اخبرهم،” يا بنات، سوف أذهب إلى الجيش في التاسع عشر من سبتمبر.إن لم تكن لديكم مشكلة، فأنا لن أمانع اذا ما التفتوا حولي يوم الثامن عشر.تعلمون أن بودي أن أتحدث إليكم، أعني اذا كان لديكم ما هو أهم من ذلك تعملوه، فلا تتردوا أن تتظاهروا بأني لست هنا، فأنا بالتأكيد لا أود أن أنتهك حريتكم، فأنا أعلم كم هي مهمة.في أقل من أربع وعشرين ساعة سوف لن يتبقى لي أي شيء منها.
أذهب لاتمشى حول المبنى فربما اجدهم فوق العشب، يتبادلون الأحاديث بسعادة، وغير مكترثين بي.لا أحد هناك.أعود إلى الشقة لكي اخذ المضرب والكرة والعب مع الحائط في نادي الألعاب، المواجه لمبنى السكن.بعد ساعة من توجيه الضربات المباشرة، أقرر بأنني قد هزمت نفسي، 46، 46، 57.الضربة الأخيرة كانت مشكوك فيها، ولكني لم أعترض.
أمي تحيني بإبتسامة عريضة.
“أين كنت؟أختك تكلمت من القاعدة لكي تتمنى لك حظاً سعيداً.تتأسف لأنهم لم يسمحوا لها بالمغادرة الليلة.
“سونيا” في القوة الجوية منذ عام، في قاعدة كبيرة على مسافة نحو سبعة كيلومترات من هنا.قاعدة خمس نجوم، كما هي كل القواعد في القوة الجوية.لديهم ساحات للتنس، حمامات سباحة، دور سينما، غرف موسيقى وسوق كبير.تستمتع “سونيا” بأوقات رائعة.لديها إجازات إعتيادية، أما باقي الوقت فتستمتع فيه بحياة مريحة في قاعدتها المرفهة.وهي أيضاً تعتقد بأنك تأملين بأن تكوني محظوظة.
“ذهبت لألعب التنس لوحدي.ألم يتصل أي أحد آخر، عدا “سونيا”؟”
“لا.”
“لا “راحيل”، لا “يوليا”، لا “فريدي”؟”
“لا، لا أحد.”
مجروحة، أشعر بأنني مجروحة بجد.أعرف أن ذلك يبدو غريباً، ولكن ذلك ما أشعر به.أمي قلقلة.
“هل هناك أي مشكلة؟”
“لا، لا، كل شيء على مايرام.(أقول ذلك بالانكليزية، لأني حين أفعل ذلك، أشعر بأني أكثر حرية واقل إنكشافاً)
“كيف كانت “اكسترافارم”؟”
“ممتازة، ممتازة تماماً.نفخوا بالونات واطلقوها، نشروا الزينة في كل أنحاء المتجر.كان شيئاً عظيماً، شعرت بأني مثل طفلة في الثالثة من عمرها.”
“تبدين ساخرة جداً.”
“لا، لست كذلك.”
“نعم، أنت كذلك.عندما تتكلمين الانكليزية فانت ساخرة.أنا أعرفك جيداً.”
“أولاً وقبل كل شيء، أنا تغيرت نوعاً ماً، منذ أن كنت طفلة.ثانياً، هذه ليس وقت النكات.ثالثاً من الذي يطبخ هذا المساء أنت، أم أبي؟”
“أبوك.فكر بالبيتزا، هل سيلائمك ذلك؟”
“ممتاز، جدـــ”
أستدير نحو الهاتف الذي قرر فجأة أن يرن.صوت محبب يأتي من الطرف الآخر يقول، “فاليري، كيف أنت يا جميلتي.”
ما هذه العادة التي لا يقول الناس فيها من هم حين يتكلمون على الهاتف.شيء مقرف حقاً.هل يعتقدون أن هناك جهاز فيديو هاتفي مزروع في الجانب الأيسر من دماغي؟”
“ليس لدي جهاز فيديو هاتفي مزروع في الجانب الأيسر من دماغي”، أقول،” من المتكلم؟”
“يا لك من مهرجة!” إنها كاثرين.(احدى صديقات أمي.) اردت أن أتمنى لك حظاً سعيداً وأن أواسي أمك، المسكينة.لابد أنها مكسورة الخاطر، بنتان في الجيش…”
“لا ليست حزينة، ليس هناك من هو أسعد منها، أعني الليلة بإمكانها أن تواري حياتها كأم شابة، إذا كنت تردين أن تريها فستكون في أحد النوادي منتصف الليل.أخيراً تتخلص منا.ثمانية عشر عاماً، تلك فترة أكثر من كافية لكي تعرفي أولادك.”
أسمع ضحكة لا تخلو من حرج، رداً على ماقلته.أمي تنظر إلي بشزر.أعطيها سماعة الهاتف بدون إكتراث وأغلق علي باب غرفتي.سأحول أي أحد آخر يتمني لى حظاً سعيداً إلى صوص السباكتي.
“شلومو ارتيزي” يغني لي، يقول لي أنه جندي وأن على الا أبكي، أنا تلك البنت الصغيرة.فجأة أفكر بأن كل، أعني كل الأغاني، تدور حول الجنود، عن الجنود الفتيان، ليست عن الجنديات.كأني أبحث عن سبب إضافي لكأبتي، هذا هو:امضين سنتين في الجيش، أيتها الفتيات، لكن بالله عليكن، لا تتذمرن.مهما كان ما ستفعلونه، لا تظهرن ذلك في أية أغنية!
انها السادسة والنصف.
حينما تركني، نبذني، دمرني “جين-ديفيد” أدركت بأن بالإمكان الغرق ولكن من غير أن أموت.أفتح كتاباً كيفما إتفق، أقرأ جملة دون أن أعرف مالذي جرى قبلها، ثم أعود وأقرأها في السياق ما يجعلني أشعر وكأني ألتقي بصديق قديم، صديق يعطيني الثقة.شيء لا يصدق.
ومضى، هكذا، مع معاني كثيرة مخبأة.أعود إلى البيت أعاني من أفضع نوبة إرهاق دون أي سبب.ذلك هو أفضل ما يكون.ما أعنيه هو أن ذلك النوع من قلق ما قبل الولادة، دون تفسير هو الأكثر عمقاً، الأكثر منطقية، الوحيد الذي يمكن أن يكون حقيقياً.إنه ينبع من عمق المشكلة الحقيقي.
يرن الهاتف، يرن ثانية، ومرة أخرى.أقفز في كل مرة ولكن أمي لا تبدي إهتماماً بأن ترد.جدتي، عمتي، خالي، أختي كلهم يتصلون ويمطروني بكلمات التشجيع، وكأني رياضي عظيم قبيل دخوله مباراة حاسمة، كأني محكوم قبيل أن يمضي لتنفيذ عقوبته.كم هم لطفاء.لكني بإنتظار إتصال آخر.ليس بنفس القناعة الآن، ولكني لا أزال بنفس الأمل.
الساعة حوالي السابعة الآن وأنا على إستعداد لكي أنفجر بالبكاء.لدي تلك العقدة التي في حلقي، ها هي على وشك الإنفجار.يرن جهاز الإنتركم، ذلك قد يكون أبي تذكر بأن على أن اؤى إلى الفراش مبكراً لكي أنهض صباحاً وأنا بأتم إنتعاش وراحة ويقظة، ولذلك جاء لكي يعمل البيتزا التي سأكلها دون أية شهية، حزينة ومنطوية.
“نعم.”
أسمع جلبة غير مفهومة، ثم كورساً.
“نحن.”
“هم؟نعم أنهم هم.في تلك الأصوات المتمازجة أعرف صوت “راحيل”، “يوليا” و”فريدي”.يطلعون السلم بسرعة، وها هم هنا وأيديهم ممتدة بصواني وهدايا يقبلوني ويعانقوني.
“إذن، هل ظننت أننا نسيناك؟”، تسألني “راحيل”: مع إبتسامة تأمرية.
“لا، لا ، إطلاقاً…”
“كاذبة”، تطلقها “يوليا”، علي بينما تضربني برفق على أنفي.
“أنت مقنعة بقدر ما “بنيشيو” مقنع.”
“لا، صدقوني، لقد خمنت أنكم ستفاجؤني!كنت أقرأ كتاباً وأنتظر قدومكم….”
لا وقت لدي لكي أتمم جملتي قبل أن أنفجر بالبكاء.لم يكن أمراً موفقاً، ولكن لم أستطع أن أمسك زمام نفسي، لقد جاء الأمر عفوياً.يعانقوني ويأخذوني لأجلس على المقعد.
“إنها عاطفية جداً”، تقول “إيلينا”، التي كانت هناك أيضاً.
“لا تقلقي، فقد جئت بما هو مطلوب”، يقول “إيلان” وهو يلوح بغيتاره.
“هيا، دعوا الحفلة تبدأ!” يصرخ “فريدي” وهو يفرغ الصواني المليئة بالمعجنات المطعمة بالجبنة وبالبيتزا والحلويات الشهية.
“كنت أعمل طيلة النهار، مع مساعدتي”، يضيف واضعاً يديه بحنان حول عنقي “راحيل” و”يوليا”.ومضة ضياء.أمي تلتقط صورة.حسناً فعلت، كانوا رائعين، الثلاثة، عيونهم تلمع بإبتساماتهم وصداقتهم وبالسرور الذي يبدوه في إعداد هذه المفاجأة لي.على حين غرة، أجد نفسي أتنفس براحة أكثر.أكلنا، شربنا، تحدثنا عما يعتريني من شعور، أنا البنت الأولى في المجموعة التي تلتحق بالجيش.
“أنا خائفة”، أقول،”أنا مرعوبة حتى الموت.لا أستطيع الثبات لدقيقة.لا أطيق الإنتظار إلى يوم الغد، حتى أرى مالذي يريدون أن يفعلوه بي.”
“لن تعرفي الكثير”، يخبرني “فريدي”، “ستعرفين فقط القاعدة التي ستتدربين فيها، ومن هن البنات اللواتي سيكونن معك في نفس الخيمة.دورات التدريب، وخاصة للبنات، هي بداية، مجرد مقدمة.الكثير من الأشياء تجري هناك ولكن معظمها لا علاقة له بما سيجري بعد ذلك.
“خذي الاشياء كما هي”، يقول “إيلان”.”على أي حال، ليس بإمكانك أن تتخذي اي قرار.هم من سيختار مالذي ستفعلين ولمن ستنتسبين.ستكونين واحدة من بين آخرين، ستكونين مجرد فرد في الجيش.”
“دعها وشأنها”، تتدخل “راحيل”.أنتم تزعجونها بحكمكم الدنيوية الرخيصة!”
“يا إلهي، كأنه الأمس يوم خطوت لأول مرة نحو المدرسة”، تتمتم “يوليا”، تنظر بعينين مغشيتين.”لم تكوني تتكلمين كلمة عبرية واحدة، وحاولتي أن تتفاهمي بالانكليزية، غير أن لكنتك الفرنسية دعت الجميع يضحكون، لذلك لم يكن يصغي إليك أحد.كنت تبدين أجنبية جداً، ضائعة جداً…، والآن تتكلمين مثلنا، وتحبين نفس الموسيقى التي نسمعها، وتلتحقين بنفس الجيش مثلنا…”
نسترجع ساعات النقاش تلك، حين كنا نصوب مسيرة العالم، حين كنا نتجادل بشدة لأننا كنا نحمل أفكاراً سياسية متباينة.أحزاب القمامة، أحزاب البراعة، أفلام هوليود العاطفية، أفلام “ودي ألن”، المسلسلات الامريكية التي كنا نشاهدها دون أن نترك أي حلقة منها، حفلات “شلومو أرتيزي”، النميمة الفضيعة التي نتبادلها كل يومين أو في الأمسيات على الهاتف، تحت مسمع الوالدين اللذين كانا يفكران بجدية إقامة جمعية لإلغاء نداءات الساعات الثلاثة.إرتياد النوادي في بئر سبع، أو تل أبيب، أول مرة شربنا فيها “التكويلا”، أول مرة (تعرفون ما أعني) حسب الترتيب:أنا، ثم “راحيل” وبعد ذلك، أخيراً “يوليا” مع ألماني كان متطوعاً في “كيبوتز” قضى فيه أسبوعين.ليالي السكر تلك، الحزينة، السعيدة، المليئة بالفلسفة، الكتب التي بدأنا كتابتها على أمل أن يقر بنا يوماً ما كروائيات، شابات لامعات (“يوليا” وأنا)، الكتب التي ذرفنا دموعاً فوقها، الأشياء التي كانت تجمع الأولاد والبنات سوية، الأشياء التي كانت تفرقهم، هل الصداقة ممكنة بين ولد وبنت؟ (أنا وفريدي)، البكلوريا، التي لم نستلم نتيجتها بعد، والتي لا نبدي بها أي إهتمام هذا المساء، الحب الخالد الذي لا يدوم إلا أياماً قليلة، الرحلة إلى “إيلات” والبحر الأحمر، درجة الحرارة 40بالظل، “راحيل” تدهن نفسها بمرهم “فاكتور-90” المقاوم للشمس، أما أنا و”يوليا” فندهن أنفسنا بمرهم “فاكتور-4” كل ثلاثة ساعات، كي نمنح أنفسنا لوناً برونزيا خفيفا، في المساء ينضج الجلد، وتصبح أي لمسة به مؤلمة، نظرات “راحيل” المبدئية.التعبيرات القليلة الفرنسية والروسية التي تعلمناها طوال السنين:”كاك ديلا”، “خرشو”، “يا هاتشو دامواي”، يا تبيا ليبلو”، “سباكيون نوتش”،”باجولستا”، “شتو تي هوتشيتش!” “كتو تا كويا”، “بريفيت؟” “كومن سافو”، “سا فا بين”، “جيتيم”، “مون أمو”.”أو ايرا تو فوندرا كوند تو فودرا”. “جي فوا لا في تين روزن”، الأسئلة، الأجوبة، الشكوك، المعلمون السخفاء، والرائعون.حياتنا، سنوات الصبا التي تتنفح تحت أعيننا ونحن نمر بتجربة المشاعر غير المألوفة، شيء جميل ولكن حزين يثقل على قلوبنا، لأول مرة ينتابنا شعور هائل بالحنين.
“ماذا لو فتحت هداياك؟، تقترح “راحيل”، وعيناها مثلنا جميعاً، تحتفظ بدموعها، لكنها ليست من ذلك النوع الذي يستلم بسهولة لكل تلك العواطف.
يشكلون حلقة حولي، يراقبون ردة فعلي والتي أنا على يقين أنهم تنبؤا بها.
أصدقائي الأبعد مثل “إيلان” و”إيلانا” أختاروا أشياء كلاسيكية، كريم الحمام بطعم الكرز، أقراط وطاقم تجميل.”راحيل”، “يوليا” و “فريدي” إشتركوا لكي يقدموا لي شيئاً خاصاً جداً، أو مفاجأة.
شريط أغاني لـ”داني روباس” (أصبح يشكل تهديداً لـ”شلمو ارتزي” وفي مقدمة العشرة الذين في القمة.)، بضعة أشعار لـ”يوناتان غيفن”، الأكثر حساسية وسخرية بين شعرائنا وصحيفنا وكتابنا، ومطوية على سبيل السخرية تحتوي على أشياء من أجل البقاء صفت بترتيب بحيت ينبغي علي أن أفتحها بنسق معين: مع كل واحدة منها هناك ملاحظة تفسيرية:
رزمة واقي ذكري للحالات العاطفية الطارئة.
رزمتان من مناديل ورقية لمساءات الإحباط الشديدة.
شمع إزالة الشعر للحالات المستعجلة.
أسبرين لمعالجة الرأس المتصلبة.
مصباح يدوي لرؤية نهاية النفق.
قميص كتب عليه “من أجل العطلة” لكي يمنحني “أحلاماً سعيدة”.
انف المهرج، لكي أضحك على الأقل مرة واحدة يومياً حين أنظر إلي وجهي بالمرآة.
25بطاقة تلفون للإتصال بهم عند منتصف الليل، لكي أقول لهم …”
البوم تصاوير صغير “مع أفضل صورنا” لكي لا أنسى أن لي أصدقاء سيكونون دائماً هنا.
أقول لكل منهم شكراً، أقبلهم جميعاً، وبرصانة أمنح كل واحد فيهم وساماً لأفضل الأصدقاء في العالم.يبدأ “إيلان” بالعزف على غيتاره ويغني أغنية لـ” للروسي “فلادمير فيسوتسكي”.ثم نغني جميعاً بالعبرية بينما تأخذ امي صوراً لهم من جميع الزوايا.يغمرني شعور رائع.غداً لم يعد في الحسبان.
****

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *